تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى18%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79265 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

للمعجزات لم يفهم ، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية ، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير ، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها ، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى ، وهكذا إلى ما لا نهاية ؛ فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة ـ كما يسميها الطبيعيون ـ لا حدّ لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا ، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر ـ هو من الاستعانة بهذه القواعد ؛ فالذى يتكلم في أوربا ويسمعه آخر فى مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك ، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله ، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسحروها لأغراضهم ، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات ، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة ، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوّله نهرا يجرى ، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية ، بعكس المعجزات فإنها من طراز آخر ، وهى مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة ، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

ولزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار ، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطى الإنسان بشىء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق ، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية.

أما المعجزة فهى أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق ، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة ، وهى خرق للسنة الطبيعية التي تقضى باحتراق الجسم متى وضع في النار.

وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به ، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه ، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار ، والفرق

١٦١

بين الاثنين ظاهر ، والقرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع.

والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية ، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن.

ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله ، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين ، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى (بالطبيعة) وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفى للآن شىء مدهش ، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين ، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا ما دامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين؟

وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود.

ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية فى ثقب فيها ، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه ، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين ، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول ، ولكنه إن رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد ، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها ، وإذا رأى يوما أن قطعة معدن صغيرة أصبحت أمام عينيه آلة صغيرة تزن الأشخاص ، أيقن أن للأولى صانعا ، وهذا هو معنى صنع الطير من الطين لأن هذا تمثيل لخلق سيدنا آدم الذي منه خلق العالم الإنسانى كله بالسنن (الطبيعية) الإلهية التي لا تبديل فيها.

وصفوة القول ـ أن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها ، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة ، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها بدون السنن العادية ، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله ؛ لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها ، ولا يدرك طريقة صنعها.

١٦٢

أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى (طبيعى) ولذلك هو يتكرر دائما فى الظروف نفسها على يد كل إنسان ، انتهى كلامه بتصرف.

( وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) أي وأخبركم بما تأكلونه من أنواع المآكل ، وما تخبئونه للغد في بيوتكم ، وقد كان يخبر الرجل بما أكل ، وبما سيأكل.

والفرق بين إخباره بالغيوب ، وإخبار المتنجمة والمتكهنة التي كثيرا ما تخبر بالشيء وتصيب ، أن المتنجم والمتكهن إنما ينبئ عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه ، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ، ومن سائر أنبيائه ورسله ، بل كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن بإعلام الله ابتداء من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه ، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيّه ، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدّعية علم ذلك.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي إن في ذلك لحجة على صدق رسالتى ، وموضعا للعبرة تتفكرون فيه فتعتبرون به أنى محق في قولى لكم إنى رسول من ربكم إليكم ، وتعلمون به أنى فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ، إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرين بتوحيده وبنبيه موسى وبالتوراة التي جاءكم بها.

( وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) أي وجئتكم مصدقا لما بين يدىّ من التوراة لا ناسخا لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها ، وهو الذي ذكره بقوله :( وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بنى إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم ، فأحلها عيسى كما قال تعالى : «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

١٦٣

( وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقى وصحة رسالتى بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك.

وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو :

( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة ، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه.

ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال :

( إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد ، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه ، ونظيره ما جاء في الحديث «قل آمنت بالله ثم استقم».

( هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوىّ الذي أجمع عليه الرسل قاطبة ، وهو الموصل إلى خيرى الدنيا والآخرة

( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

١٦٤

الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

تفسير المفردات

فى الأساس : أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر ، وما أحسسنا منه خيرا ، وهل تحس من فلان بخير ، وفي الكشاف أحس : علم علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، والأنصار : واحدهم نصير كالأشراف واحدهم شريف ، والحواريون : واحدهم حوارى ، وحوارىّ الرجل صفيّه وناصره ، ومسلمون : أي منقادون لما تريده منا ، والمكر تدبير خفى يفضى بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب ، وغلب استعماله في التدبير السيئ وإن كان يستعمل في الحسن والسيئ معا كما قال تعالى : «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ».

والداعي إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبّر له أفسد على الفاعل تدبيره لجهله ، فكانت حاجة المربي أو القوّام على غيره ماسة إلى الاحتيال عليه والمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول إليه ، والتوفى : أخذ الشيء وافيا تامّا ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى : «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » وتطهيره من الذين كفروا : براءته مما كانوا يرمونه به بتهمة أمه بالزنا.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام ، وكلامه الناس في المهد ، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بنى إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.

وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصدّ والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه ، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة ، وطوى

١٦٥

ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة ، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.

الإيضاح

( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ) أي فلما شعر من قومه بنى إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء ، فقد صح أنه لقى من اليهود شدائد كثيرة ، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى : ما أكل فلان البارحة ، وما ادخر فى بيته لغد؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم. وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم ، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض.

وفي هذا عبرة وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضى إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول ، ومن الداعي حسن بيان.

وحين رأى منهم ذلك :

( قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ ) أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ » أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرى ، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتى ، وينخلعون عما كانوا فيه ، وينصرفون إلى تأييد رسوله!

( قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) أي قال خاصة أصحابه وناصروه : نحن أنصار دين الله ، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذون بتعاليمك. والمنصرفون عن التقاليد السالفة.

وهذا النصر لا يستلزم القتال ، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه.

( آمَنَّا بِاللهِ ) هذا جار مجرى السبب في نصره ، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذبّ عن أوليائه ، ومحاربة أعدائه.

١٦٦

( وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أي مخلصون منقادون لأوامره.

وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبىّ وإن اختلف الأنبياء فى بعض صوره وأشكاله ، وأحكامه وأعماله.

وإنما طلبوا شهادته ، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة.

( رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ ) هذا تضرع إلى الله ، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم.

( وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ) أي وامتثلنا ما أتى به منك.

وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرّف لها في العمل ، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل ، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان ، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء ، فإذا حاول العمل به لم يحسنه ، ويتبين له أنه كان محطئا في دعوى العلم به.

( فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه.

( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) أي ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود ، بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه ، ورفع عليه السلام إلى السماء ، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.

( وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا ، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون ، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه ، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها ، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.

( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ) أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إلىّ.

١٦٧

وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله ، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم.

وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان :

(١) أن فيها تقديما وتأخيرا ، والأصل : إنى رافعك إلىّ ومتوفيك ، أي إنى رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك ـ وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان ، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله.

(٢) أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفى هو الإماتة العادية ، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه ، فالروح هى حقيقة الإنسان ، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير ، والإنسان إنسان لأن روحه هى هى.

والمعنى ـ إنى مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندى كما قال في إدريس عليه السلام «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ».

وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي ، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر ، ولا يوجد هنا واحد منهما ، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه ، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها ، والتمسك بقشورها دون لبابها.

ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة. ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام ، ويقفهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها ، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوى يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين ، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد.

١٦٨

فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية ، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.

وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها ، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار ، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة لذلك.

( وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي ومنجوك مما كانوا يريدونه بك من الشر ، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.

( وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله ، وصدقوك في قولك «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدك فوق الذين مكروا بك من اليهود وكذبوك ، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهداك.

وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهى فضلهم عليهم في حسن الأخلاق ، وكمال الآداب ، والقرب من الحق ، والبعد من الباطل ، وإما فوقية دنيوية وهى كونهم أصحاب السيادة عليهم.

وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك ، فلا يرى ملك يهودى ، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى ، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه ، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم ، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.

( إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) أي إن هذا السموّ في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم ما دامت السموات والأرض ، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء.

( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) أي ثم مصيركم إلىّ يوم البعث ، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين ، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه ، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به.

١٦٩

وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين.

ثم بين جزاء المحقّ والمبطل وكيفيته فقال :

( فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك فى الدنيا.

( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) أي وأما الذين صدّقوك وأقروا بنبوّتك وبما جئتهم به من الحق ، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به ، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي ـ فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص.

ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال :

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له ، أو وضع شيئا في غير موضعه ، فكيف بظلم عباده له ، فهو يجازيه بما يستحق.

وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله ، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله( ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها ، وزكريا وابنه يحيى ، وما قصّ من أمر الحوار بين واليهود من بنى إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل.

وهى من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة ، وأسرار الاجتماع البشرى.

وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران ، ويهود بنى إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئنهم به من الحق.

١٧٠

( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) )

تفسير المفردات

المثل : الحال الغريبة والشأن البديع ، والامتراء : الشكّ ، والبهلة (بالضم والفتح) اللعنة والدعاء ، يقال ماله بهله الله : أي لعنه ، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء ، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته : أي يدعوه ، والقصص : تتبع الأثر ، ومنه قوله تعالى : «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » أي تتبعى أثره ثم استعمل في الكلام والحديث ، لأن القاصّ يتبع المعاني ليوردها ، والعزيز : أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد ، والحكيم : ذو الحكمة التي لا يساميه فيها أحد

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به ، وكفر بعض قومه به ، ورميهم أمه بالزنا ، وإيمان بعض آخر به.

أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به ، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا ، بل افتتن به افتتانا ، لكونه ولد من غير أب ، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه ، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها ، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود ، والمفتونين به من النصارى.

١٧١

فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه ، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت ، والإنكار إن صح الإنكار.

وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا ، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.

والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد ، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها ، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة ، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة ، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.

وهكذا شأن خلق عيسى ، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.

وقد روى في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول ، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.

الإيضاح

( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك ، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال :

( خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.

وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم ، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم ـ مما لا ينبغى أن يكون ولا يسلمه العقل.

١٧٢

( ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله : «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ».

ثم أكد صدق هذا القصص فقال :

( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق ، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله ، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار.

( فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به.

وتوجيه هذا النهى للنبى صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين :

(١) أنه إذا سمع صلى الله عليه وسلم مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.

(٢) أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء ، إذ أنه صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟

وخلاصة ذلك ـ دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق ، والتنزه عن الشك فيه.

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت.

( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) أي فقل لهم : أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء.

وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة ، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم ـ إيذان بكمال أمنه صلى الله عليه وسلم وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه ، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.

وقد ورد من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

١٧٣

أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه ، فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ، ولا عقّبنا من بعدنا أبدا ، فقالا له نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا ، فقال قم يا أبا عبيدة ، فلما قام قال : هذا أمين هذه الأمة.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس «أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله (قل تعالوا) الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام ، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبنى قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة ، فصالحوه على ألف حلة فى صفر وألف في رجب ودراهم».

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال : إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم.

وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبى بكر وولده وبعمر وولده ، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم ، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.

وفي الآية عبرة لمن ادّكر ، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية ؛ وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها ، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى ، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.

١٧٤

وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين ، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشئون الاجتماعية ، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس ؛ كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل ، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة ، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن ، وضعفت آدابهن ، وصرن كالدواجن في البيوت ، أو السوائم في الصحراء ، وساءت تربية البنين والبنات ، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات ، وعم الأسر والعشائر ، والشعوب والقبائل.

وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة ، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية ، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شىء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات.

وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعى الذي لا ندرى ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخص عنه من نفع للإسلام والمسلمين.

( إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله ، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.

( وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ) الذي خلق كل شىء وليس كمثله شىء.

وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.

( وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد ، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته ، أو ندّا له فى ربوبيته ، وما الولد إلا نسخة من الوالد ، فهو يساويه في جنسه ونوعه ، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.

( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك ، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها ، ولم يجيبوك إلى المباهلة ، فإن الله عليم بحال

١٧٥

المفسدين في الدين ونياتهم ، وأغراضهم الفاسدة ، فيجازيهم بخبيث سرائرهم ، وسىء أعمالهم.

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) )

تفسير المفردات

أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى ، تعالوا : أي أقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه ، وسواء : أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض ، والإله : هو المعبود الذي يدعى حين الشدائد ، ويقصد عند الحاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية ، والربّ : هو السيد المربى الذي يطاع فيما يأمر وينهى ، ويراد به هنا ماله حق التشريع من تحريم وتحليل ، مسلمون : أي منقادون لله مخلصون له ، تحاجون : أي تجادلون ، والحنيف : المائل عن العقائد الزائفة ، والمسلم : هو الموحد المخلص المطيع له.

١٧٦

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام ، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا ، وبذلك انقطعت حججهم ، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح ، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شىء مما يخاف عاقبته.

دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.

الإيضاح

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ) أي قل : يا أهل الكتاب هلمّوا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم ، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.

ثم بين هذه الكلمة فقال :

( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم ، ولا نشرك به شيئا سواه ، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله.

وقد حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله ـ ألا نعبد إلا الله ـ ووحدانية الربوبية في قوله ـ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ـ.

وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان ، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد ، وجاء به موسى ، فقد ورد في التوراة قول الله له (إن الربّ إلهك ، لا يكن لك آلهة أخرى أمامى ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، ولا صورة ما مما في السماء من فوق ، ومما

١٧٧

فى الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ) وكذلك جاء عيسى بمثل هذا ، ففى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وجاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذا «اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ».

وخلاصة المعنى ـ أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له ، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلمّ بنا نتفق على إقامة هذه الأصول ، ونرفض الشبهات التي تعرض لها ، فإذا جاءكم عن المسيح شىء فيه (ابن لله) أوّلناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء ، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد ، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه ، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.

وقد كان اليهود موحدين ، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام ، وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله ، وسار النصارى على هذا المنوال ، وزادوا مسألة غفران الخطايا ، وهى مسألة كان لها أثر خطير فى المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس ، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهى فرقة (البر وتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.

روى عدى بن حاتم قال : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقى صليب من ذهب ، فقال يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » فقلت له : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم ، فقال : أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بأقوالهم؟ قال نعم ، فقال عليه السلام : هو ذاك».

١٧٨

( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله ، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرّمون ، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه ، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر ، ولا نحلّ إلا ما أحله الله ، ولا نحرّم إلا ما حرمه الله.

وفي هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير ، وإلا كان ذلك إشراكا فى الربوبية ، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ » وقوله «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ».

أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوّض الله أمرها إلى أولى الحل والعقد وهم رجال الشورى ، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به ، وعلى الرعية أن يقبلوه.

وهذه الآية هى الأساس والأصل الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فأنزل الله( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ) الآية».

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ) أي أيها اليهود والنصارى : لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدّعى كل منكم أنه على دينه؟.

(وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجلّه وتدّعى أنها على دينه).

١٧٩

وهو لم يكن على شىء من تقاليدكم ، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإلى هذا أشار بقوله :

( وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ) أي وما أنزلت التوراة على موسى ، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال ، وقد قالوا : إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة ، وبين موسى وعيسى حوالى ألف سنة. أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له؟.

وخلاصة ذلك ـ أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود ، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى ، فكيف كان إبراهيم على الحق ، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم ، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموها أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى ، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه؟.

وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه.

( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) من أمر عيسى عليه السلام ، وقد قامت عليكم الحجة ، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته ، ومنكم من فرّط وقال إنه دعىّ كذاب ، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ.

( فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ ) من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيّا ، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟.

( وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه ، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه ، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتم ، أو أدركتم علمه بالسماع.

ثم صرّح بما فهم من قبل تلويحا فقال :

( ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ) أي إن اليهود

١٨٠

والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم ـ كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام ، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى ، إذ هو مطيع لله ، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها ، خاشع له بقلب متذلل ، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.

( وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم ، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.

وصفوة القول ـ إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه ـ لم يكن على ملة أحد منهم ، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية ، مسلما لله ، مخلصا له.

ثم أكد ما سلف بقوله :

( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) معه : أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ـ هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين ، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين ، وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء ، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.

وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان ، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله.

ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال :

( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) بالنصرة والتأييد ، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم ، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم ، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

١٨١

( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) )

تفسير المفردات

ودّ الشيء : أحبه ، طائفة : أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء ، والآيات هنا ما يدل على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلبسون : أي تخلطون ، وجه النهار : أي أوّله تقول : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار ، آمن له : صدّقه وسلّم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف «وما أنت بمؤمن لنا» والفضل : الزيادة ، والمراد به هنا النبوة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم ، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان ، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.

١٨٢

ذكر هنا شأنا آخر لهم ، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين ، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين ، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك ، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.

أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون ، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس ، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين ، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ».

روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.

الإيضاح

( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم ، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.

( وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال ، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية ، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات الدالة على نبوته ، فهم يعبثون بعقولهم ، ويفسدون فطرتهم باختيارهم( وَما يَشْعُرُونَ ) أي وما يفطنون إلى سوء حالهم ، وأنهم ألغوا عقولهم ، فلم تفكر فى الحجج التي آتاها الله لنبيه ، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم.

وفي نفى الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

١٨٣

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ ) أي لأى سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟.

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون ، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده ، والبشارة بنبىّ من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة ، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى «يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ »( وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي وتكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل ، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

( وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدىّ بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض ، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم ـ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ـ إلى قوله واسع عليم.

ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا : لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه ، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب ، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول ، بل هم قد فعلوا ذلك.

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : صلّت يهود مع محمد صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه

١٨٤

وليس بالغريب منهم أن يلجأوا إلى مثل هذه الحيلة ، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه ، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد صلى الله عليه وسلم عند ما دعاه إلى الإسلام : هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا).

وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء ، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين ، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها ، ويكون ذلك وازعا لهم.

وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

( وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم ، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف ، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن ، وما يصدر من سواهم قبيح.

وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا ، وهم الذين أسلموا منهم ، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه ، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.

( قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ) أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته ، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه ، ومن يهد الله فلا مضلّ له ، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير ، بل يحبط تدبيرهم له.

( أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) هذا من كلام اليهود ، وجملة( قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ) اعتراضية بينه وبين ما سبقه.

والمعنى ـ لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

١٨٥

وتلخيص المراد ـ لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبىّ من غير بنى إسرائيل ، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.

وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبى من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبى صلى الله عليه وسلم لا اعتقادا ، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.

وصفوة القول ـ ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) أي قل لهم : إن الرسالة فضل من الله ومنة ، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق ، فيعطيه من هو له أهل.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء.

( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته ، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بنى إسرائيل ، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا ، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه ، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه ، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ

١٨٦

بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77))

تفسير المفردات

تأمنه ، من أمنته بمعنى ائتمنته ، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا ، والمراد بالقنطار العدد الكثير ، وبالدينار العدد القليل ، والأميون : هم العرب ، والسبيل : المؤاخذة والذنب ، وبلى كلمة تقع جوابا عن نفى سابق لتثبته ، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك ، وإذا كان الالتزام من طرفين يقال عاهد فلان فلانا عهدا ، ويشترون : أي يستبدلون ، والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون ، والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة ، والثمن القليل : هو العوض الذي يأخذونه أو الرّشا ، وجعل قليلا لأن كل ما يفوّت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل ، ولا خلاق لهم : أي لا نصيب لهم ، ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم ، ولا ينظر إليهم : أي يسخط عليهم ويستهين بهم ، ولا يزكيهم : أي لا يثنى عليهم

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين ، ليرجعوا عن دينهم ، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها ، زعما منهم أنهم شعب الله المختار ، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر ، ولا إلى أمة أخرى.

١٨٧

أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات ، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل ، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.

الإيضاح

( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم ، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بنى إسرائيل.

والخلاصة ـ إن أهل الكتاب طائفتان :

(1) طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشىّ ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه.

(2) طائفة أخرى تخون الأمانة ، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة.

ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشى دينارا فجحده.

ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال :

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب.

وخلاصة هذا ـ إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له ، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله ، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه ، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.

روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

١٨٨

فرد الله عليهم بقوله :

( وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه ، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين ، ولا أكل أموالهم بالباطل ، وهم يعلمون ذلك حق العلم ، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجأوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا ، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأى والهوى ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم ، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون.

روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : «لما نزلت( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلى قوله( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب أعداء الله ، ما من شىء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمىّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

( بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) أي بلى عليكم في الأميين سبيل ، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات ، فمن أقرضك مالا إلى أجل ، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شىء وجب عليك الوفاء به ، وأداء الحق له فى حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي ، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته ، بل العبرة عندهم بالمعاهد ، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له ، ولا يجب الوفاء لغيره.

والعهد ضربان :

(1) عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.

(2) عهد الله تعالى ، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.

واليهود لم يفوا بشىء منهما ، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم

١٨٩

واتبعوا النور الذي أنزل معه ، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر ـ محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة.

وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود ، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه ، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله.

وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأى من اليهود ليسوا على حظ من التقوى ، وهى الدعامة الأساسية في كل دين قويم.

( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون ، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم : لنؤمننّ به ولننصرنّه ـ ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا ـ أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها ، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة ، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم.

قال القفال : هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ا ه.

وصفوة القول ـ إن الله توعد الناكثين للعهد ، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم ، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة ، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.

١٩٠

ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر ، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات ، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.

فالوفاء بها آية الدين البينة ، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران ، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض ، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.

والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة النفاق فقال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أوتمن خان».

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضى الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».

فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود ، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا ، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط ، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.

أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيىّ بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها ، وأخذوا على ذلك الرّشا.

وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال : «كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها ، فقدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألك بينة؟ قلت لا ، فقال لليهودى احلف ، فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالى ، فأنزل الله( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ) الآية».

قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك ، والعمدة فى ذلك ما ثبت في الصحيح.

١٩١

( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) )

تفسير المفردات

لىّ اللسان بالكتاب : فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس ، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي ، لكنهم لوّوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده ، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا.

المعنى الجملي

بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب ، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة ، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.

روى عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا الإيذاء له والإغراء به ، غيّروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.

الإيضاح

( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ ) أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما ، يفتلون ألسنتهم

١٩٢

بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله ، ولكنه من عند أنفسهم.

وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام ، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت.

وجاء في سورة النساء قوله تعالى : «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ » فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته.

وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها.

ثم أكد ما سبق بقوله :

( وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) أي إنهم كاذبون فيما يقولون ، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما ، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه ، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين.

وليس ذلك بالغريب عليهم ، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب ، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة ، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم (أمة محمد بخير).

فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا ، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين ، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

١٩٣

( وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أنهم كاذبون ، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.

( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) )

تفسير المفردات

البشر : الإنسان ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو جمعا ، والحكم : الحكمة وهى فقه الكتاب ومعرفة أسراره ، وذلك يستلزم العمل به ، والعباد : واحدهم عبد بمعنى عابد ، والعبيد : جمع لعبد بمعنى مملوك ، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله ، والربانيين واحدهم ربانى وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب ، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهى إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته ، روى أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس : اليوم مات ربّانى هذه الأمة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد

١٩٤

دعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل نصرانى من أهل نجران : أو ذاك تريد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرنى فأنزل الله الآية.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : بلغني «أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال لا ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله (ما كان لبشر) الآيتين».

الإيضاح

( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ) أي لا ينبغى لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه ، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة ، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله ، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به ، ويحثهم على معرفة شرائع دينه ، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته ، ومعلمى الناس الكتاب.

ومعنى قوله من دون الله : أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة ، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده ، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ».

ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله ، بل وإن أمرهم بعبادة الله.

ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء ، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله ، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده ، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة ، ومن ثم قال تعالى : «فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ

١٩٥

الْخالِصُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ » الآية.

فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا ، ويقول صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه ، وفي رواية : فأنا منه برىء ، هو للذى عمله» رواه مسلم وغيره.

وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد : من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه أحمد.

( وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه ، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهى تعليم الكتاب ودراسته ، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله ، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا ، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.

( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ) أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ومثال ذلك أن تقول : ما كان لمحمد أن أكرمه ، ثم يهيننى ويستخفّ بي ، وقد نقل عن مشركى العرب عبادة الملائكة «وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله» فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له والنهى عن عبادة غيره ، ومن ثم قال :

( أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ ) أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود

١٩٦

للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له ، إذ لو فعل ذلك لكفر ، ونزعت منه النبوة والإيمان ، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله ، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة ، وأرواحا طيبة ، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.

وأثر عن على كرم الله وجهه أنه قال : قصم ظهرى رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسّك ، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه ، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع».

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) )

تفسير المفردات

الميثاق : العهد المؤكد الموثّق ، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة ، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ، وأخذتم : أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى : «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ » والإصر : العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.

١٩٧

المعنى الجملي

سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم ، وإظهارا لعنادهم ، ودحضا لمزاعمهم ، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبى من العرب.

وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها ، وهى أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة ، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم ، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا ، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.

الإيضاح

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة ، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد ، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبى آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول ، إذ المقصود تصديق دعوته ، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.

فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شىء من شريعة الأول وجب التسليم له ، وإلا صدّقه في الأصول التي هى واحدة في كل دين ، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية ، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين ، فمثل هذا قد يأتى فى الشريعة الواحدة ، ففى كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام ، وآخر

١٩٨

بإطعام الطعام ، وما سبب هذا إلا حال الشخصين ، فكل منهما أدى ما سهل عليه.

ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.

وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم ، وفي حال البلاد فى اليسر والرخاء ، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات ، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى ، والقوانين صارمة في واحدة ، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة.

وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع ، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.

أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شىء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام ، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل ، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء ، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.

وصفوة القول ـ إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى ـ أنه إذا جاء نبى بعده ، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره.

وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.

( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ ) أي قال الله تعالى للنبيين : أأقررتم بالإيمان والنصر له ، وقبلتم العهد على ذلك؟

١٩٩

( قالُوا أَقْرَرْنا ، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) أي قالوا أقررنا بذلك ، قال الله تعالى : ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم ، لا يعزب عن على شىء.

وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل ، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة ، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.

( فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة ، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان ، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره ، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون ، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، خارجون عن ميثاق الله ناقصون لعهده ، وليسوا من الدين الحق في شىء.

وبعد أن بين أن دين الله واحد ، وأن رسله متفقون فيه ـ ذكر حال منكرى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فقال :

( أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة فى السر والعلن ، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السموات والأرض ، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره؟

وصفوة القول ـ إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له ، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك ، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.

( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق ، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق.

وفي هذا وعيد وتهديد لهم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218