تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى18%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79278 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم ـ كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام ، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى ، إذ هو مطيع لله ، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها ، خاشع له بقلب متذلل ، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.

( وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم ، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.

وصفوة القول ـ إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه ـ لم يكن على ملة أحد منهم ، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية ، مسلما لله ، مخلصا له.

ثم أكد ما سلف بقوله :

( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) معه : أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ـ هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين ، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين ، وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء ، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.

وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان ، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله.

ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال :

( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) بالنصرة والتأييد ، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم ، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم ، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

١٨١

( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) )

تفسير المفردات

ودّ الشيء : أحبه ، طائفة : أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء ، والآيات هنا ما يدل على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلبسون : أي تخلطون ، وجه النهار : أي أوّله تقول : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار ، آمن له : صدّقه وسلّم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف «وما أنت بمؤمن لنا» والفضل : الزيادة ، والمراد به هنا النبوة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم ، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان ، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.

١٨٢

ذكر هنا شأنا آخر لهم ، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين ، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين ، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك ، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.

أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون ، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس ، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين ، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ».

روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.

الإيضاح

( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم ، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.

( وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال ، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية ، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات الدالة على نبوته ، فهم يعبثون بعقولهم ، ويفسدون فطرتهم باختيارهم( وَما يَشْعُرُونَ ) أي وما يفطنون إلى سوء حالهم ، وأنهم ألغوا عقولهم ، فلم تفكر فى الحجج التي آتاها الله لنبيه ، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم.

وفي نفى الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

١٨٣

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ ) أي لأى سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟.

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون ، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده ، والبشارة بنبىّ من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة ، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى «يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ »( وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي وتكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل ، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

( وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدىّ بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض ، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم ـ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ـ إلى قوله واسع عليم.

ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا : لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه ، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب ، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول ، بل هم قد فعلوا ذلك.

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : صلّت يهود مع محمد صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه

١٨٤

وليس بالغريب منهم أن يلجأوا إلى مثل هذه الحيلة ، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه ، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد صلى الله عليه وسلم عند ما دعاه إلى الإسلام : هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا).

وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء ، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين ، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها ، ويكون ذلك وازعا لهم.

وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

( وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم ، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف ، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن ، وما يصدر من سواهم قبيح.

وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا ، وهم الذين أسلموا منهم ، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه ، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.

( قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ) أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته ، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه ، ومن يهد الله فلا مضلّ له ، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير ، بل يحبط تدبيرهم له.

( أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) هذا من كلام اليهود ، وجملة( قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ) اعتراضية بينه وبين ما سبقه.

والمعنى ـ لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

١٨٥

وتلخيص المراد ـ لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبىّ من غير بنى إسرائيل ، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.

وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبى من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبى صلى الله عليه وسلم لا اعتقادا ، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.

وصفوة القول ـ ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) أي قل لهم : إن الرسالة فضل من الله ومنة ، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق ، فيعطيه من هو له أهل.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء.

( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته ، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بنى إسرائيل ، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا ، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه ، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه ، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ

١٨٦

بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

تفسير المفردات

تأمنه ، من أمنته بمعنى ائتمنته ، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا ، والمراد بالقنطار العدد الكثير ، وبالدينار العدد القليل ، والأميون : هم العرب ، والسبيل : المؤاخذة والذنب ، وبلى كلمة تقع جوابا عن نفى سابق لتثبته ، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك ، وإذا كان الالتزام من طرفين يقال عاهد فلان فلانا عهدا ، ويشترون : أي يستبدلون ، والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون ، والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة ، والثمن القليل : هو العوض الذي يأخذونه أو الرّشا ، وجعل قليلا لأن كل ما يفوّت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل ، ولا خلاق لهم : أي لا نصيب لهم ، ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم ، ولا ينظر إليهم : أي يسخط عليهم ويستهين بهم ، ولا يزكيهم : أي لا يثنى عليهم

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين ، ليرجعوا عن دينهم ، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها ، زعما منهم أنهم شعب الله المختار ، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر ، ولا إلى أمة أخرى.

١٨٧

أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات ، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل ، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.

الإيضاح

( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم ، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بنى إسرائيل.

والخلاصة ـ إن أهل الكتاب طائفتان :

(١) طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشىّ ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه.

(٢) طائفة أخرى تخون الأمانة ، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة.

ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشى دينارا فجحده.

ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال :

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب.

وخلاصة هذا ـ إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له ، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله ، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه ، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.

روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

١٨٨

فرد الله عليهم بقوله :

( وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه ، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين ، ولا أكل أموالهم بالباطل ، وهم يعلمون ذلك حق العلم ، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجأوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا ، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأى والهوى ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم ، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون.

روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : «لما نزلت( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلى قوله( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب أعداء الله ، ما من شىء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمىّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

( بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) أي بلى عليكم في الأميين سبيل ، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات ، فمن أقرضك مالا إلى أجل ، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شىء وجب عليك الوفاء به ، وأداء الحق له فى حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي ، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته ، بل العبرة عندهم بالمعاهد ، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له ، ولا يجب الوفاء لغيره.

والعهد ضربان :

(١) عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.

(٢) عهد الله تعالى ، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.

واليهود لم يفوا بشىء منهما ، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم

١٨٩

واتبعوا النور الذي أنزل معه ، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر ـ محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة.

وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود ، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه ، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله.

وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأى من اليهود ليسوا على حظ من التقوى ، وهى الدعامة الأساسية في كل دين قويم.

( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون ، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم : لنؤمننّ به ولننصرنّه ـ ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا ـ أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها ، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة ، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم.

قال القفال : هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ا ه.

وصفوة القول ـ إن الله توعد الناكثين للعهد ، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم ، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة ، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.

١٩٠

ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر ، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات ، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.

فالوفاء بها آية الدين البينة ، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران ، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض ، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.

والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة النفاق فقال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أوتمن خان».

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضى الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».

فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود ، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا ، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط ، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.

أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيىّ بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها ، وأخذوا على ذلك الرّشا.

وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال : «كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها ، فقدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألك بينة؟ قلت لا ، فقال لليهودى احلف ، فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالى ، فأنزل الله( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ) الآية».

قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك ، والعمدة فى ذلك ما ثبت في الصحيح.

١٩١

( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) )

تفسير المفردات

لىّ اللسان بالكتاب : فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس ، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي ، لكنهم لوّوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده ، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا.

المعنى الجملي

بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب ، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة ، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.

روى عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا الإيذاء له والإغراء به ، غيّروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.

الإيضاح

( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ ) أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما ، يفتلون ألسنتهم

١٩٢

بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله ، ولكنه من عند أنفسهم.

وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام ، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت.

وجاء في سورة النساء قوله تعالى : «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ » فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته.

وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها.

ثم أكد ما سبق بقوله :

( وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) أي إنهم كاذبون فيما يقولون ، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما ، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه ، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين.

وليس ذلك بالغريب عليهم ، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب ، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة ، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم (أمة محمد بخير).

فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا ، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين ، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

١٩٣

( وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أنهم كاذبون ، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.

( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) )

تفسير المفردات

البشر : الإنسان ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو جمعا ، والحكم : الحكمة وهى فقه الكتاب ومعرفة أسراره ، وذلك يستلزم العمل به ، والعباد : واحدهم عبد بمعنى عابد ، والعبيد : جمع لعبد بمعنى مملوك ، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله ، والربانيين واحدهم ربانى وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب ، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهى إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته ، روى أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس : اليوم مات ربّانى هذه الأمة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد

١٩٤

دعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل نصرانى من أهل نجران : أو ذاك تريد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرنى فأنزل الله الآية.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : بلغني «أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال لا ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله (ما كان لبشر) الآيتين».

الإيضاح

( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ) أي لا ينبغى لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه ، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة ، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله ، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به ، ويحثهم على معرفة شرائع دينه ، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته ، ومعلمى الناس الكتاب.

ومعنى قوله من دون الله : أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة ، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده ، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ».

ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله ، بل وإن أمرهم بعبادة الله.

ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء ، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله ، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده ، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة ، ومن ثم قال تعالى : «فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ

١٩٥

الْخالِصُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ » الآية.

فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا ، ويقول صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه ، وفي رواية : فأنا منه برىء ، هو للذى عمله» رواه مسلم وغيره.

وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد : من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه أحمد.

( وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه ، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهى تعليم الكتاب ودراسته ، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله ، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا ، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.

( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ) أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ومثال ذلك أن تقول : ما كان لمحمد أن أكرمه ، ثم يهيننى ويستخفّ بي ، وقد نقل عن مشركى العرب عبادة الملائكة «وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله» فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له والنهى عن عبادة غيره ، ومن ثم قال :

( أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ ) أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود

١٩٦

للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له ، إذ لو فعل ذلك لكفر ، ونزعت منه النبوة والإيمان ، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله ، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة ، وأرواحا طيبة ، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.

وأثر عن على كرم الله وجهه أنه قال : قصم ظهرى رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسّك ، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه ، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع».

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) )

تفسير المفردات

الميثاق : العهد المؤكد الموثّق ، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة ، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ، وأخذتم : أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى : «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ » والإصر : العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.

١٩٧

المعنى الجملي

سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم ، وإظهارا لعنادهم ، ودحضا لمزاعمهم ، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبى من العرب.

وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها ، وهى أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة ، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم ، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا ، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.

الإيضاح

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة ، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد ، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبى آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول ، إذ المقصود تصديق دعوته ، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.

فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شىء من شريعة الأول وجب التسليم له ، وإلا صدّقه في الأصول التي هى واحدة في كل دين ، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية ، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين ، فمثل هذا قد يأتى فى الشريعة الواحدة ، ففى كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام ، وآخر

١٩٨

بإطعام الطعام ، وما سبب هذا إلا حال الشخصين ، فكل منهما أدى ما سهل عليه.

ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.

وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم ، وفي حال البلاد فى اليسر والرخاء ، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات ، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى ، والقوانين صارمة في واحدة ، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة.

وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع ، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.

أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شىء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام ، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل ، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء ، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.

وصفوة القول ـ إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى ـ أنه إذا جاء نبى بعده ، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره.

وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.

( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ ) أي قال الله تعالى للنبيين : أأقررتم بالإيمان والنصر له ، وقبلتم العهد على ذلك؟

١٩٩

( قالُوا أَقْرَرْنا ، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) أي قالوا أقررنا بذلك ، قال الله تعالى : ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم ، لا يعزب عن على شىء.

وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل ، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة ، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.

( فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة ، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان ، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره ، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون ، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، خارجون عن ميثاق الله ناقصون لعهده ، وليسوا من الدين الحق في شىء.

وبعد أن بين أن دين الله واحد ، وأن رسله متفقون فيه ـ ذكر حال منكرى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فقال :

( أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة فى السر والعلن ، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السموات والأرض ، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره؟

وصفوة القول ـ إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له ، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك ، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.

( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق ، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق.

وفي هذا وعيد وتهديد لهم.

٢٠٠

روى أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام :«إنّ الحسين دخل على أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه فلمّا رأى ما به بكى، فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما صنع بك، فقال الحسن عليه‌السلام : إنّ الذي اُوتي إليَّ سمّ اُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنّهم من اُمّة جدّنا محمّد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة، وتمطر السّماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» (١) .

وكتب ابن زياد إلى ابن سعد: إنّي لَم أجعل لك علّة في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا تمسي ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية. وكان يستحثّه على الحرب لست خلون من المحرم(٢) .

حشدت كتائبها على ابن محمّد

بـالطَّف حيث تذكَّرت آباءها

الله أكـبر يـا رواسي هذه الأ

رض البسيطة زايلي ارجاءها

يلقى ابن منتجع الصلاح كتائباً

عقد ابن منتجع السّفاح لواءها

ما كان أوقحها صبيحة قابلت

بـالبيض جبهته تريق دماءها

المشرعة

مـا بـلَّ أوجـهها الحيا ولو أنّه

قـطع الـصفا بلَّ الحيا ملساءها

مـن أيـن تـنجل أوجـهٌ اُمويّةٌ

سـكبت بـلذّات الفجور حياءها

قهرت بني الزهراء في سلطانها

واسـتأصلت بـصفاحها امراءها

مـلكت عليها الأمر حتّى حرَّمت

في الأرض مطرح جنبها وثواءها

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٧١ المجلس الثلاثون، وفي مطالب السؤول: إنّهم عشرون ألفاً. وفي هامش تذكرة الخواص: أنّهم مئة ألف. وفي تحفة الأزهار لابن شدقم: ثمانون ألفاً. وفي أسرار الشهادة / ٢٣٧: سنة آلاف فارس وألف ألف راجل. ولم يذكر أبو الفدا في تأريخه ٢ / ١٩٠: غير خروج ابن سعد في أربعة آلاف والحر في ألفين. وفي عمدة القارئ للعيني ٧ / ٦٥٦: كتاب المناقب كان جيش ابن زياد ألف فارس رئيسهم الحر، وعلى مقدمتهم الحصين بن نمير.

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠١، ومقتل محمّد بن أبي طالب.

٢٠١

ضـاقت بـها الدنيا فحيث توجَّهت

رأت الـحتوف امـامها ووراءهـا

فـاستوطأت ظـهر الحِمام وحوَّلت

لـلعزِّ عـن ظـهر الهوان وطاءها

طـلعت ثـنيّات الـحتوف بعصبة

كـان الـسيوف قضاءها ومضاءها

لـقلبوبها امـتحن الإلـه بـموقف

مـحضته فـيهِ صـبرها وبـلاءها

كـانت سـواعد آل بـيت محمّد

وسـيوف نـجدتها على من ساءها

كـره الـحمام لـقاءها فـي ضنكه

لـكـنْ أحــبَّ الله فـيه لـقاءها

فـثوت بـأفئدة صـواد لـم تـجد

ريـاً يـبلُّ سـوى الردى أحشاءها

وأراك تـنشىء يا غمام على الورى

ظـلا وتـروي مـن حياك ظماءها

وقـلـوب أبـناء الـنبي تـفطَّرت

عـطشاً بـقفر ارمـضت أشلاءها

وامضّ ما جرعت من الغصص التي

قـدحت بـجانحة الـهدى ايراءها

هـتك الـطغاة عـلى بـنات محمّد

حـجب الـنبوة خـدرها وخـباءها

فـتنازعت احـشاءها حرق الجوى

وتـجاذبت أيـدي الـعدوُّ رداءهـا

عـجـباً لـحلم الله وهـي بـعينه

بـرزت تـطيل عـويلها وبـكاءها

ويـرى مـن الـزفرات تجمع قلبها

بـيـد وتـدفع فـي يـد اعـداءها

مـا كـان اوجـعها لمهجة (أحمد)

وامـضَّ في كبد (البتولة) داءها(١)

وأنزل ابن سعد الخيل على الفرات فحموا الماء وحالوا بينه وبين سيّد الشهداء، ولَم يجد أصحاب الحسين طريقاً إلى الماء حتّى أضرّ بهم العطش، فأخذ الحسين فأساً وخطا وراء خيمة النّساء تسع عشرة خطوة نحو القبلة وحفر فنبعت له عين ماء عذب، فشربوا ثمّ غارت العين ولَم يرَ لها أثر، فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم غاية التضيّيق. فبعث في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ونزلوا على الشريعة(٢) ، وذلك قبل مقتل الحسين بثلاثة أيّام(٣) .

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد حيدر الحلّي رضوان الله عليه.

(٢) نفس المهموم للمحدث القمي / ١١٦، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٤، ومقتل العوالم / ٧٨.

(٣) الطبري ٦ / ٢٣٤، وإرشاد المفيد، ومقتل الخوارزمي الجزء الأول، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٢.

٢٠٢

اليوم السّابع

وفي اليوم السّابع اشتدّ الحصار على سيّد الشهداء ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود ونفد ما عندهم من الماء، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش. وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة وتضور ونشيج ومتطلّب للماء إلى متحر له بما يبلّ غلّته وكلّ ذلك بعين أبي علي والغيارى من آله والأكارم من صحبه، وماعسى أنْ يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة، لكن ساقي العطاشى لَم يتطامن على تحملّ تلك الحالة.

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبـصدر صعدته الفرات المفعم

ولَـو استقى نهر المجرّة لارتقى

وطـويـل ذابـله إلـيها سُـلَّم

لَـو سدَّ ذو القرنين دون وروده

نـسَفَته هـمَّته بـما هو أعظم

فـي كـفِّه اليسرى السّقاء يقلّه

وبـكفّه الـيُمنى الحسام المخذم

مـثل الـسّحابة للفواطم صوبه

فيصيب حاصبه العدو فيرجم(١)

هنا قيض أخاه العبّاس لهذه المهمّة، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إليه قبل المطلب، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية، وضمّ إليه عشرين راجلاً مع عشرين قربة، وقصدوا الفرات بالليل غير مبالين بمَن وُكِّل بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بأسد آل محمّد وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء، فصاح عمرو بن الحَجّاج: مَن الرجل؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال: اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع: لا والله، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى.

وصاح نافع بأصحابه: املأوا أسقيتكم. فشدّ عليهم أصحاب ابن الحَجّاج فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل وحاميهم ابن بجدتها المتربّي في حجر البسالة الحيدريّة أبو الفضل، فجاؤا بالماء. وليس في أعدائهم من تحدثه

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد جعفر الحلّي نوّر الله ضريحه.

٢٠٣

نفسه بالدنوّ منهم فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبلت غلة الحرائر والصبية الطيّبة من ذلك الماء(١) .

ولكن لا يفوتنا أنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أن تجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين رجالاً ونساءً وأطفالاً أو أنّهم ينيفون على المئتين، ومن المقطوع به أنّه لَم ترو أكبادهم إلاّ مرّة واحدة فسرعان أنْ عاد إليهم الظما، وإلى الله ورسوله المشتكى.

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فـساقي عـطاشي كربلاء أبو الفضل

عـلى أنّ الـناس فـي الـحشر قلبه

مـريع وهـذا بـالظلما قـلبه يـغلي

وقـفتُ عـلى مـاء الفرات ولَم أزل

أقـول لـه والـقول يـحسنه مـثلي

عـلامك تـجري لا جـريت لـوارد

وأدركـت يـوماً بعض عارك بالغسل

أمــا نـشـفت أكـبـاد آل محمّد

لـهـيباً ولا ابـتلَّت بـعلٍّ ولا نـهل

مـن الـحقّ أنْ تـذوي غصونك ذبّلا

أسـىً وحـياء مـن شـفاههِمُ الـذُبل

فـقال اسـتمع للقول إنْ كنت سامعاً

وكـنْ قـابلا عذري ولا تكثرنْ عذلي

ألا إنّ ذا دمـعي الـذي أنـت نـاظر

غـداى جـعلت الـنوح بعدهُمُ شغلي

بـرغـمي أرى مـائي يـلذ سـواهمُ

بـه وهـم صرعي على عطش حولي

جـزى الله عـنهم في المواساة عمَّهم

أبـا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لـقـد كـان سـيفاً صـاغه بـيمينه

عـليّ فـلم يـحتج شباه إلى الصقل

إذا عــدَّ ابـنـاء الـنـبيِّ محـمّد

رآه أخـاهـم مـن رآه بـلا فـضل

ولـم أرَ ظـامٍ(٢) حـوله الـماء قبله

ولَـم يـرو مـنه وهو ذو مهجة تغلي

ومـا خـطبه إلاّ الـوفاء وقـلَّ مـا

يـرى هـكذا خـلا وفـيّاً مـع الخلِّ

يـمـيناً بـيـمناك الـقطيعة والـتي

تـسمى شـمالاً وهـي جامعة الشمل

بـصبرك دون ابـن الـنبيِّ بـكربلا

عـلى الـهَول امر لا يحيط به عقلي

و وافــاك لا يـدري افـقدك راعـه

أم الـعرش غـالته الـمقادير بـالثل

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب. وعلى هذه الرواية يكون طلبهم للماء في السابع، ولعلّه هو المنشأ في تخصيص ذكر العبّاس بيوم السابع. وفي أمالي الصدوق / ٩٥، المجلس الثالث: أرسل الحسين بن علي ولده علياً الأكبر في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء.

(٢) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

٢٠٤

أخي كنتَ لي درعاً ونصلا كلاهما

فقدتُ فلا درعي لديَّ ولا نصلي(١)

غرور ابن سعد

وأرسل الحسين عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه.

فقال الحسين:«يابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟» قال عمر: أخاف أنْ تهدم داري. قال الحسين:«أنا أبنيها لك». فقال: أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي. قالعليه‌السلام :«أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز» (٢) ، ويروى أنّه قال لعمر:«أعطيك البغيبغة» ، وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلَم يبعها منه(٣) . فقال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل. ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول:«مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً». قال ابن سعد مستهزءاً: في الشعير كفاية(٤) .

وأول ما شاهده من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري، فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية الري، فادّعى ابن سعد ضياعه، فشدّد عليه باحضاره، فقال له ابن سعد: تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهن، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لَو نصحتها أبي سعداً كنت قد أديت حقّه. فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق، وددتُ أنّ في أنف كلّ

____________________________

(١) للشيخ محسن أبو الحب الحائريرحمه‌الله .

(٢) مقتل العوالم / ٧٨.

(٣) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣.

(٤) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٥.

٢٠٥

رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وإنّ الحسين لَم يُقتل(١) .

وكان من صنع المختار معه أنّه لمّا أعطاه الأمان، استأجر نساء يبكين على الحسين ويجلسن على باب دار عمر بن سعد، وكان هذا الفعل يلفت نظر المارّة إلى أنّ صاحب هذا الدار قاتل سيّد شباب أهل الجنّة، فضجر ابن سعد من ذلك وكلّم المختار في رفعهن عن باب داره، فقال المختار: ألا يستحقّ الحسين البكاء عليه(٢) .

ولمّا أراد أهل الكوفة أنْ يؤمّروا عليهم عمر بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية؛ لينظروا في أمرهم، جاءت نساء همدان وربيعة، إلى الجامع الأعظم صارخات يقلن: ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أنْ يتأمّر. فبكى النّاس وأعرضوا عنه(٣) .

افتراء ابن سعد

وافتعل ابن سعد علي أبي الضيم ما لَم يقله، وكتب إلى ابن زياد زعماً منه أنّ فيه صلاح الاُمّة وجمال النظام فقال في كتابه:

أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح(٤) .

وهيهات أنْ يكون ذلك الأبي ومَن علَّم النّاس الصبر على المكاره وملاقاة الحتوف - طوع ابن مرجانة ومنقاداً لابن آكلة الأكباد! أليس هو القائل لأخيه الأطرف:«والله لا أعطي الدنيّة من نفسي» . ويقول لابن الحنفيّة:«لَو لَم يكن ملجأ لما بايعت يزيد» . وقال لزرارة بن صالح:«إنّي أعلم علماً يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي». وقال لجعفر بن

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٨.

(٢) العقد الفريد، باب نهضة المختار.

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٠٥، في أخبار يزيد.

(٤) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٥، وتهذيب التهذيب ٢ / ٢٥٣.

٢٠٦

سليمان الضبعي:«إنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» .

وآخر قوله يوم الطف:«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة من أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وإنّ حديث عقبة بن سمعان يفسّر الحال التي كان عليها أبو عبد اللهعليه‌السلام ، قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكّة ومنها إلى مكّة ومنها إلى العراق ولَم اُفارقه حتّى قُتل، وقد سمعت جميع كلامه فما سمعتُ منه ما يتذاكر فيه النّاس من أنْ يضع يده في يد يزيد ولا أنْ يسيره إلى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكّة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله، نعم سمعته يقول:«دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة» (١) .

طغيان الشمر

ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. وأراد أن يجيبه، فقام الشمر(٢) ، وقال: أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك؟ والله،

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٢٣٥.

(٢) في البداية لابن كثير ج ٨ ص ١٨٨ كان الحسين يحدث أصحابه في كربلا بما قاله جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كأني انظر إلى كلب ابقع يلغ في دماء أهل بيتي ولما رأى الشمر ابرص قال هو الذي يتولى قتلي! وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ابرص. وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ص ٤٤٩ كان شمر بن ذي الجوشن احد قتلة الحسينعليه‌السلام فليس للرواية بأصل ولما قيل له كيف اعنت على ابن فاطمة قال: ان امراءنا امرونا فلو خالفناهم كنا أشد من الحمر الشقاء قال الذهبي وهذا عذر قبيح فانما الطاعة في المعروف. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٠٣ وما بعدها. طبع مصر: كان شمر بن ذي الجوشن مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفين، وخرج من أصحاب معاوية (أدهم بن محرز) يطلب المبارزة فخرج اليه شمر بن ذي الجوشن واختلفا بضربتين، ضربه أدهم على جبينه فاسرع السيف حتى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع فيه شيئاً، فرجع الشمر الى عسكره يشرب الماء واخذ رمحاً وقال:

(إني زعيم لاخي بأهلة

بطعنة ان لم امت عاجلة

وضربة تحت الوغى فاصلة

شبيهة بالقتل أو قاتله)

فحمل على أدهم وهو ثابت فطعنه فوقع عن فرسه وحمله أصحابه فانصرف شمر...

وفي نفح الطيب للمقريزي ج ٢ ص ١٤٣ مطبعة ١ عيسى البابي مطبوعات دار المأمون ان الصميل بن حاتم بن الشمر بن ذي الجوشن كان رأس المضرية متحاملاً على اليمانية (وهذه العبارة واردة في طبعة بيروت ج ١ ص ٢٢٢ تحقيق محمد محيي الدين).

٢٠٧

لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن، فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد: أمّا بعد، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السّلامة ولا لتكون له عندي شفيعاً، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت، ولكن على قول قلته: لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بذلك(١) .

فلمّا جاء الشمر بالكتاب، قال له ابن سعد: ويلك لا قرب الله دارك، وقبّح الله ما جئت به، وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته وافسدت علينا أمراً رجونا أنْ يصلح، والله لا يستسلم حسين فانّ نفس أبيه بين جنبَيه.

فقال الشمر: أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر. قال له عمر: أنا أتولّي ذلك، ولا كرامة لك، ولكن كن أنت على الرجّالة(٢) .

____________________________

= وفي حاشية الكتاب، كان حاتم بن الشمر مع أبيه في الكوفة ولما قتل المختار شمر بن ذي الجوشن هرب ابنه الى قنسرين. وفي ص ١٤٥ ذكر ان الصميل كان والياً على سر قسطة ثم فارقها وتولى على طليطلة. وفي كتاب الحلة السيراء لابن الأبار ج ١ ص ٦٧ لما ظهر المختار بالكوفة فر الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي الى الشام بأهله وولده، فاقام بها في عز ومنعة، وقيل قتله المختار وفر ولده إلى ان خرج كلثوم بن عياض القشيري غازياً الى المغرب، فكان الصميل ممن ضرب عليه البعث في اشراف أهل الشام ودخل الأندلس في طاعة بلج بن بشر وهو الذي قام بأمر المضرية في الاندلس عندما أظهر أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي العصبية لليمانية ومات الصميل في سجن عبد الرحمن بن معاوية سنة ١٤٢ وكان شاعراً. وفي تاريخ علماء الاندلس لابن الفوطي ج ١ ص ٢٣٤ باب الشين، شمر بن ذي الجوشن الكلاعي من أهل الكوفة هو الذي قدم برأس الحسينعليه‌السلام على يزيد بن معاوية ولما ظهر المختار هرب بعياله منه ثم خرج كلثوم بن عياض غازياً المغرب ودخل الى الاندلس في طالعة بلج، وهو جد الصميل بن حاتم بن شمر القيسي صاحب الفهرى ا هـ والاصح ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال ٢٩٦ ان شمر بن ذي الجوشن قتله أصحاب المختار بالمذار وبعث برأسه الى محمد ابن الحنفية وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن ابرص وفي تاريخ الطبري ج ٧ ص ١٢٢ وكامل ابن الاثير ج ٤ ص ٩٢ حوادث سنة ٦٥ كان الشمر ابرص يرى بياض برصه على كشحه.

(١) ابن الأثير ٤ / ٢٣.

(٢) الطبري ٦ / ٢٣٦.

٢٠٨

الأمان

وصاح الشمر بأعلى صوته: أين بنو اُختنا(١) ؟ أين العبّاس وإخوته؟، فأعرضوا عنه، فقال الحسين:«أجيبوه ولَو كان فاسقاً» ، قالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني اُختي أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال العبّاس: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له(٢) ، وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء(٣) .

أيظنّ هذا الجلف الجافي أن يستهوي رجل الغيرة والحميّة إلى الخسف والهوان، فيستبدل أبو الفضل الظلمة بالنور، ويدع عَلَم النبوّة وينضوي إلى راية ابن ميسون؟! كلاّ.

ولمّا رجع العبّاس، قام إليه زهير بن القين وقال: اُحدّثك بحديث وعيته؟ قال: بلى، فقال: لمّا أراد أبوك أن يتزوّج، طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب - أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك. فقال العبّاس: أتشجّعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟! والله لأرينّك شيئاً ما رأيتَه(٤) ، فجدّل أبطالاً ونكس رايات في حالة لَم يكن من همّه القتال ولا مجالدة الأبطال، بل همّه إيصال الماء إلى عيال أخيه.

____________________________

(١) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٢٦١ و ٢٦٥ قال: أولاد كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر، أحد عشر ولداً منهم؛ كعب، والضباب. فمن ولد كعب بنو الوحيد الذين منهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد كانت تحت علي بن أبي طالب فولدت له محمداً الأصغر وعثمان وجعفر والعبّاس، وفي صفحة٢٧٠ ذكر بني الضباب فقال: منهم الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين واسم ذي الجوشن جميل بن الأعور عمرو بن معاوية وهو الضاب. ومن ولده الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ساد بالاندس وله بها عقب ونزالتهم بالخشيل من شوذر من عمل جيّان.

وفي العقد الفريد ٢ / ٨٣ عند ذكر مذحج قال: الضباب في بني الحارث بن كعب مفتوحة الضاد وفي بني عامر بن صعصعة مسكورة وحيث أنّ الشمر من بني عامر بن صعصعة يكون الضباب بكسر الضاد.

(٢) تذكرة الخواص / ١٤٢: حكاه عن جده أبي الفرج في المنتظم وإعلام الورى / ٢٨.

(٣) ابن نما / ٢٨.

(٤) أسرار الشهادة / ٣٨٧.

٢٠٩

يـمثل الـكرّار فـي كـرّاته

بل في المعاني الغرّ من صفاته

لـيس يـد الله سـوى أبـيه

وقــدرة الله تـجـلَّت فـيه

فـهو يـد الله وهـذا سـاعده

تـغنيك عـن إثـباته مشاهده

صـولته عـند النزال صولته

لولا الغلوُّ قلت جلت قدرته(١)

بنو أسد

واستأذن حبيب بن مظاهر من الحسين أنْ يأتي بني أسد وكانوا نزولاً بالقرب منهم فأذِن له، ولمّا أتاهم وانتسب لهم عرفوه، فطلب منهم نصرة ابن بنت رسول الله فإنّ معه شرف الدنيا والآخرة، فأجابه تسعون رجلاً، وخرج من الحي رجل أخبر ابن سعد بما صاروا إليه، فضمّ إلى الأزرق أربعمئة رجل وعارضوا النّفر في الطريق واقتتلوا، فقُتل جماعة من بني أسد وفرّ مَن سلِم منهم إلى الحي فارتحلوا جميعاً في جَوف الليل خوفاً من ابن سعد أنْ يبغتهم، ورجع حبيب إلى الحسين وأخبره، فقال:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم» (٢) .

اليوم التاسع

ونهض ابن سعد عشيّة الخميس لتسع خلون من المحرّم، ونادى في عسكره بالزحف نحو الحسين، وكانعليه‌السلام جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، وخفق برأسه فرأى رسول الله يقول: انّك صائر إلينا عن قريب. وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها: قد اقترب العدوّ منّا.

فقال لأخيه العبّاس:«اركب بنفسي أنت (٣) حتّى تلقاهم، واسألهم عمّا

____________________________

(١) للحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين الاصفهانيقدس‌سره .

(٢) البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب الحائري، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٣.

(٣) الطبري ٦ / ١٣٧، وروضة الواعظين / ١٥٧، والارشاد للمفيد، والبداية لابن كثير ٨ / ١٧٦.

غير خاف ما في هذه الكلمة الذهبية من مغزى دقيق، ترى الفكر يسف عن مداه وأنّى له أن يحلق إلى ذروة الحقيقة من ذات طاهرة تُفتدى بنفس الإمام علّة الكائنات والفيض الأقدس للممكنات. نعم، عرفها البصير الناقد بعد أنْ جربها بمحك النزاهة فوجدها مشبوبة بجنسها ثمّ أطلق عليها تلك الكلمة الغالية، ولا يعرف الفضل إلاّ أهله. ولا يذهب بك الوهم أيّها القارئ إلى القول بعدم الأهميّة في هذه الكلمة بعد قول الإمامعليه‌السلام في زيارة الشهداء من زيارة وارث: «بأبي أنتم واُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام في هذه الزيارة لَم يكن هو المخاطب لهم وانّما هوعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يخاطبهم بذلك، فإنّ الرواية تنصّ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الصادق في زيارة الحسين وأنْ يعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له: «يا صفوان، صم قبل خروجك ثلاثة أيّام - إلى أنْ قال -: ثمّ إذا أتيت الحائر فقُل: الله أكبر - ثمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال -: ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلَي علي بن الحسين وتوجّه إلى الشهداء وقُل: السّلام عليكم يا أولياء الله...» إلى آخرها. فالإمام الصادقعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّهعليه‌السلام كيف يقول لو أراد السّلام على الشهداء.

٢١٠

جاءهم وما الذي يريدون؟» ، فركب العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب، وسألهم عن ذلك قالوا: جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم النّزول على حكمه، أو ننازلكم الحرب.

فانصرف العبّاسعليه‌السلام يُخبر الحسين بذلك، ووقف أصحابه يعظون القوم. فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غداً، قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً. فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت. فقال زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتّق الله يا عزرة، فإنّي لك من النّاصحين، اُنشدك الله يا عزرة أنْ لا تكون ممَّن يعين أهل الضلالة على قتل النّفوس الزكيّة. ثمّ قال عزرة: يا زهير ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنتَ على غير رأيهم. قال زهير: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم، أما والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولا وعدته نصرتي ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدم عليه عدوّه، فرأيت أنْ أنصره وأن أكون من حزبه وأجعل نفسي دون نفسه؛ لما ضيّعتم من حقّ رسوله.

وأعلم العبّاس أخاه أباعبد الله بما عليه القوم فقالعليه‌السلام :«ارجع إليهم، واستمهلهم هذه العشيّة إلى غد، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو

٢١١

يعلم أنّي اُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

فرجع العبّاس واستمهلهم العشيّة. فتوقّف ابن سعد وسأل من النّاس فقال عمرو بن الحَجّاج: سبحان الله! لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليه. وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلَعمري ليستقبلك بالقتال غدوة. فقال ابن سعد: والله لو أعلم أنّه يفعل ما أخّرتهم العشية. ثمّ بعث إلى الحسين: إنّا أجّلناكم إلى غد، فإنْ استسلمتم سرحنا بكم إلى الأمير ابن زياد، وإنْ أبيتم فلسنا تاركيكم(١) .

ضـلّـت اُمـيّـة مـاتر

يـد غـداة مقترع النصول

رامـت تـسوق المصعب

الـهـدار مـستاق الـذليل

ويــروح طـوع يـمينها

قـود الـجنيب أبو الشبول

رامـت لـعمرو ابْن النبي

الـطُّهر مـمتنع الحصول

وتـيمَّمت قـصد الـمحال

فـما رعـت غير المحول

ورنـت على السغب السرا

ب بـأعين في المجد حول

وغـوى بـها جـهل بـها

والبغي من خلق الجهول(٢)

الضمائر الحرّة

وجمع الحسين أصحابه قرب المساء قبل مقتله بليلة(٣) فقال:«اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً (٤) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٣٣٧.

(٢) للكعبيرحمه‌الله .

(٣) اثبات الرجعة للفضل بن شاذان، هكذا عرفه وهو بالغيبة أنسب فانّه لو يوجد فيه من أخبار الرجعة إلا حديث واحد.

(٤) الطبري ٦ / ٢٣٨ - ٢٣٩، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٤.

٢١٢

وقد أخبرني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّي ساُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد.

ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري» (١) .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي وتابعه الهاشميّون.

والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذِنت لكم» . فقالوا: إذاً ما يقول النّاس، وما نقول لهم؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام؟! ولَمْ نرمِ معهم بسهم ولَمْ نطعن برمح ولَمْ نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل، ولكن نفيدك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك(٢) .

نـفوس أبـت إلاّ تراب أبيهم

فـهم بـين موتور لذاك وواتر

لقد ألفت أرواحهم حومة الوغى

كما أنست أقدامهم بالمنابر(٣)

وقال مسلم بن عوسجة: أنحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لَمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن عبدالله الحنفي: والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد

____________________________

(١) إثبات الرجعة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، والكامل ٤ / ٢٤، والإرشاد للمفيد، وإعلام الورى / ١٤١، وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٢.

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ١٧.

٢١٣

حفظنا غيبة رسوله فيك، أما و الله لو علمتُ أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة، لَما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال زهير بن القين: و الله وددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة، و إنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً فجزّاهم الحسين خيراً(١) .

وفي هذا الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي قد اُسِر ابنك بثغر الري فقال: ما اُحبّ أنْ يؤسر و أنا أبقى بعده حيّاً فقال له الحسين:«أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك»، قال: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. فقالعليه‌السلام :«إذاً اعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه» - وكان قيمتها ألف دينارـ(٢) .

وتـناديت لـلذبّ عنه عصبة

ورثـوا الـمعالي اشيباً وشبابا

مـن يـنتدبهم للكريهة ينتدب

مـنهم ضراغمة الاسود غضابا

خفّوا لداعي الحرب حين دعاهم

ورسوا بعرصة كربلاء هضابا

اسـد قد اتخذوا الصوارم حلية

وتـسربلوا حـلق الدروع ثيابا

تـخذت عيونهم القساطل كحلها

واكـفُّهم فـيض النجيع خضابا

يـتمايلون كـأنّما غـنى لـهم

وقـع الـظّبي وسـقاهم اكوابا

برقت سيوفهم فأمطرت الطّلي

بـدمائها والـنقع ثـار سحابا

وكـأنّهم مـستقبلون كـواعباً

مـسـتقبلين أسـنّـة وكـعابا

وجدوا الردى من دون آل محمّد

عـذباً وبعدهم الحياة عذابا(٣)

ولما عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفاداة دونه، أوقفهم على غامض القضاء فقال:«إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (٤)

____________________________

(١) إرشاد المفيد وتاريخ الطبري ج٦ ص٢٣٩.

(٢) اللهوف ص٥٣.

(٣) للعلامة السيد رضا الهنديرحمه‌الله .

(٤) نفس المهموم ص١٢٢.

٢١٤

حتّى القاسم وعبد الله الرضيع، إلاّ ولدي علياً زين العابدين؛ لأنّ الله لَمْ يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية» (١) .

فقالوا بأجمعهم الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أولا نرضى أنْ نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟، فدعا لهم بالخير(٢) ، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرّفهم منازلهم فيها(٣) ، وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، فإنّ سحرة فرعون لمّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم أراهم النّبي موسى منازلهم في الجنّة(٤) .

وفي حديث أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال لأصحابه:«أبشروا بالجنّة، فوالله إنّا نمكث ماشاء الله بعد ما يجري علينا ثمّ يخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم في السّلاسل والأغلال وأنواع العذاب» فقيل له: من قائمكم يابن رسول الله؟ قال:«السّابع من ولد ابني محمّد بن علي الباقر وهو الحُجّة ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي، ابني وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً» (٥) .

ليلة عاشوراء

كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت على أهل بيت الرسالة، حُفّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر وقد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني اُميّة وأتباعهم كلّ الوسائل الحيويّة وهناك ولولة النساء وصارخ الاطفال من العطش المبرح والهم المدلهم.

إذاً فما حال رجال المجد من الأصحاب وسروات الشرف من بني هاشم

____________________________

(١) أسرار الشهادة.

(٢) نفس المهموم / ١٢٢.

(٣) الخرايج للراوندي.

(٤) أخبار الزمان للمسعودي / ٢٤٧.

(٥) إثبات الرجعة.

٢١٥

بين هذه الكوارث، فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفساً تعالج الحياة والحرب في غد؟!

نعم كانت ضراغمة آل عبد المطّلب والصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة وأثبت جأش، فرحين بما يلاقونه من نعيم وحبور، وكلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً بين ابتسامة ومداعبة إلى فرح ونشاط.

ومذ أخذت في نينوى منهم النوى

ولاح بـها لـلغدر بعض العلائم

غـدا ضـاحكا هذا وذا متبسّماً

سـروراً وما ثغر المنون بباسم

هازل برير عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لا قون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددتُ أنّهم مالوا علينا السّاعة(١) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك. قال حبيب: وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور(٢) .

تجري الطلاقة في بهاء وجوههم

أنْ قـطبت فـرقاً وجوه كماتها

وتـطلّعت بـدجى الـقتام أهلَّة

لـكن ظـهور الخيل من هالاتها

فتدافعت مشي النزيف إلى الردى

حتّى كـأنَّ الموت من نشواتها

وتـعانقت هي والسّيوف وبعد ذا

ملكت عناق الحور في جنّاتها(٣)

فكأنّهم نشطوا من عقال، بين مباشرة للعبادة، وتأهّب للقتال، لهم دوي كدويّ النّحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي: مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسينعليه‌السلام يقرأ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ) (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٢) رجال الكشي / ٥٣، طبعة الهند.

(٣) للعلامة السيّد محمّد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

(٤) سورة آل عمران / ١٧٨ - ١٧٩.

٢١٦

فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.

قال له برير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين؟! هلمّ إلينا وتُب من ذنوبك العظام، فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون.

فقال الرجل مستهزئاً: وأنا على ذلك من الشاهدين(١) .

ويقال: أنّه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(٢) حين رأوهم متبتّلين متهجدين عليهم سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى.

قال علي بن الحسين:«سمعتُ أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها يقول، وهو يصلح سيفه:

يا دهر اُفٍّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

مِنْ صاحب وطالب قتيل

والـدهر لا يقنع بالبديل

وانّـما الأمر إلى الجليل

وكـلّ حـيٍّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، ففهمتُها وعرفتُ ما أراد وخنقتني العبرة، ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب لمّا سمعتْ ذلك وثبتْ تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه وقالت: وآثكلاه! ليتَ الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليٌ وأخي الحسن (٣) ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فعزّاها الحسين وصبَّرها وفيما قال: يا اُختاه تعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السّماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اُسوة حسنة.

فقالت عليها‌السلام : افتغصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠، الطبعة الاُولى.

(٢) اللهوف، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٧، طبعة النجف، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٠.

(٣) تايخ الطبري ٤ / ٢٤٠، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٤، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٣٨، الفصل الحادي عشر، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٤٥، طبعة ايران.

(٤) اللهوف.

٢١٧

وبكت النّسوة معها ولطمن الخدود، وصاحت اُمّ كلثوم: وآ محمداه! وآ علياه! وآ اُمّاه! وآ حسيناه! وآ ضيعتنا بعدك!

فقال الحسين: يا اُختاه يا اُمّ كلثوم، يا فاطمة، يا رباب، انظرْنَ اذا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً» (١) ثمّ إنّ الحسين أوصى اُخته زينب بأخذ الأحكام من علي بن الحسينعليه‌السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه. وبذلك يحدِّث أحمد بن إبراهيم قال: دخلتُ على حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا، اُخت أبي الحسن العسكريعليه‌السلام سنة ٢٨٢ بالمدينة، وكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها، فسمّت من تأتمّ بهم، وقالت: فلان بن الحسن. قلت: معاينةً أو خبراً؟ قالت: خبر عن أبي محمّدعليه‌السلام كتب به إلى اُمّه. قلت لها: أقتدي بمَن وصيّته إلى امرأة؟! قالت: اقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام فإنّه أوصى إلى اُخته زينب في الظاهر، فكان ما يخرج من علي بن الحسينعليه‌السلام من علم ينسب إلى زينب؛ ستراً على علي بن الحسينعليه‌السلام . ثمّ قالت: إنّكم قوم أخبار، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه في الحياة « اكمال الدين للصدوق » ص ٢٧٥ باب ٤٩ طبع حجر أول.

ثمّ إنّهعليه‌السلام أمر أصحابه أنْ يقاربوا البيوت بعضها من بعض؛ ليستقبلوا القوم من وجه واحد. وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقى عليه النّار إذا قاتلهم العدو؛ كيلا تقتحمه الخيل، فيكون القتال من وجه واحد(٢) .

وخرجعليه‌السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال: يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الحسين:«إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون» . ثمّ رجععليه‌السلام وهو قابض على يد نافع ويقول:«هي هي والله، وعد لا خلف فيه».

ثمّ قال له:«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟»

____________________________

(١) الإرشاد.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠.

٢١٨