تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى27%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79264 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

تفسير المفردات

القرية : الضيعة ، والمصر : الجامع ، وقد أبهم الله القرية فلم يذكر مكانها ولا المارّ عليها ، بل اقتصر على موضع العبرة ، وما به تقوم الحجة ولم يعن بما فوق ذلك حتى لا يشغل القارئ أو السامع به ، ومن ثم اختلف المفسرون فيها ؛ فمن قائل إنها بيت المقدس وإن المار عليها هو عزير بن شرخيا ، ومن قائل هى دير هرقل على شط دجلة والمار هو أرميا من سبط هارون عليه السلام ، وخاوية : أي ساقطة من خوى البيت إذا سقط ، والعروش : واحدها عرش وهو سقف البيت وكل ما هيئ ليستظل به ، والمراد منه أن العروش سقطت أوّلا ثم سقطت الحيطان عليها ، وأنى : بمعنى كيف ، والحياة هنا العمران ، والموت : الخراب ، وأماته : أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا مثل ما حدث لأهل الكهف ، والبعث : الإرسال من بعثت الناقة إذا أطلقتها من مكانها ، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أوّلا حيا عاقلا مستعدا للنظر والاستدلال ، وقد دلت تجارب الأطباء في العصر الحديث على أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا لكنه يكون فاقد الحسّ والشعور ، وهو المسمى لديهم بالسبات وهو النوم المستغرق ويستعمله أهل الرياضيات في الهند ، فقد شوهد شاب قد نام نحو شهر ثم أصيب بدخل في عقله ، وآخرون ناموا أكثر من ذلك ، ومتى ثبت هذا فالذى يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة ، فهذا من الممكنات لا من المستحيلات وقد تواتر به النص فيجب التسليم به ، والتجارب التي

٢١

عملت تقرب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة ، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته ، ولم يتسنه : أي لم يتغير ولم يفسد ، من قولهم تسنه الشيء مرت عليه السنون والأعوام ، وآية : علامة دالة على قدرة الله ، وننشزها : أي نرفعها من الأرض ونردها إلى أماكنها من الجسد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر محاجة إبراهيم لذلك الكافر وإلزامه الحجة ، بإثباته أن لهذا الكون إلها قادرا على كل شىء ، واحدا لا شريك له في الملك والتدبير ، ذكر هنا ما يدل على إثبات البعث والنشور ، ويرشد إلى هداية الله للمؤمنين ، وإخراجهم من ظلمات الشبه إلى نور اليقين ، ولا غرابة في وقوع الشبهة للمؤمن ثم طلبه المخرج منها بالدليل والبرهان ، فيهديه الله بما له من الولاية والسلطان على نفسه ، ويخرجه من الحيرة التي تعرض له إلى الطمأنينة التي تثلج قلبه وتملؤه بردا ويقينا.

الإيضاح

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) أي أرأيت مثل الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها ، أي ما رأيت مثله فتعجب منه ، لأن حاله بلغت من الغرابة حدّا لا يرى لها مثل.

( قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ) أي قال : كيف يعمر الله هذه القرية بعد حرابها؟ ومراده بذلك استبعاد عمرانها بالبناء والسكان بعد أن خربت وتفرّق أهلها.

( فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) أي فجعله الله فاقد الحسّ والحركة دون أن تفارق الروح البدن ، ثم أعاده إلى ما كان عليه أوّلا.

( قالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى

٢٢

طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي قال له بعد مبعثه كم يوما لبثت يا عزير؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم بناء على ظنه وتخمينه ، فقال له : ما لبثت هذا المقدار؟ بل لبثت مدة متطاولة. ومع ذلك لم يلحق طعامك وشرابك تغيّر مما تجرى العادة بمثله حين مرور الزمان وتطاول الأعوام.

والقصد من السؤال إظهار عجزة عن الإحاطة بشئونه تعالى ، وليطّلع أثناء ذلك على بدائع قدرته بإبقاء الغذاء الذي لم يتسارع إليه الفساد مع مضى الزمن الطويل ، وليعلمه أن إحياءه كان بعد مدى طويل ، وبذا يزول من نفسه الاستبعاد الذي خطر على باله أولا.

( وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ ) كيف نخرت عظامه ، وتقطعت أوصاله وتمزقت ، ليستبين لك طول لبثك ، وتطمئن بذلك نفسك.

( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك وإحياء حمارك ، وحفظ ما معك من الطعام والشراب ، ليزيل تعجبك ، ونريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك ، ولنجعلك آية للناس.

أما كونه آية له فواضح ، وأما كونه آية للناس فلأن علمهم بموته مائة عام ثم بحياته بعد ذلك يكون من أكبر الآيات التي يهتدى بها من يشاهدها ، إلى كمال قدرة الله وعظيم سلطانه.

وبعد أن أراه الآية التي تكون حجة على من رآها في قوله :( فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ ) نبهه إلى الدليل الذي يحتج به على إمكان البعث في كل مكان وزمان ، وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فقال :

( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً ) أي إن القادر على أن يكسو هذه العظام لحما ويمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم حى ـ قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية ، وكذلك القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى آلاف السنين ، فبعض أفعاله تعالى يشبه بعضا.

٢٣

وخلاصة ذلك ـ إننا كما أطلعناك على بعض آياتنا الخاصة الدالة على قدرتنا على البعث ، نهديك إلى الآية الكبرى الدالة على كيفية التكوين ، وبمثل هذا يحتج القرآن في مثل قوله : «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » وفي قوله : «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ » وفي قوله : «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ».

( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي فلما ظهر له إحياء الميت عيانا قال : أعلم علما يقينيّا مؤيدا بآيات الله في نفسى وفي الآفاق ، أن الله على كل شىء من الأشياء التي من جملتها ما شاهدته ، قدير لا يستعصى عليه أمر.

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) )

تفسير المفردات

فصرهن : أي ضمهن ، سعيا : أي مسرعات طيرانا ومشيا ، وعزيز : أي غالب على أمره ، حكيم : أي لأنه جعل أمر الإعادة وفق حكمة التكوين.

المعنى الجملي

ذكر في هذه الآية مثالا آخر يدل على إثبات البعث ، وفيه دلالة على ولاية الله للمؤمنين ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وكرر المثل لإثبات البعث ، ولم يذكر إلا مثالا واحدا لإثبات الربوبية ، لأن منكرى البعث أكثر من منكرى الألوهية.

٢٤

الإيضاح

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ ) أي واذكر وقت قول إبراهيم لربه ، أرنى كيف يكون إحياء الموتى؟ وما وقع حينئذ من عجيب صنعه تعالى لتقف على هدايته تعالى للمؤمنين وولايته لهم.

وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات لأمرين :

(١) أن إيجاب ذكر الوقت يستلزم ذكر ما وقع فيه.

(٢) أن ذكر الوقت يشتمل على ما فيه بالتفصيل ، فإذا استحضر كان كل ما فيه حاضرا لا يشذ عنه شىء.

وصرح بذكر إبراهيم دون الذي مرّ على القرية ، لأن في سؤاله من الأدب مع الله والثناء عليه ما ليس في سؤال ذاك ، فالصورة في الأول صورة الإقرار مع طلب الزيادة فى العلم ، والصورة في الثاني صورة الإنكار.

وبدأ سؤاله بكلمة (رب) المفيدة لعنايته تعالى بعبيده ، وتربيته لعقولهم وأرواحهم استعطافا وثناء على الله أمام الدعاء.

وخلاصة المعنى ـ يا رب أرنى بعيني كيفية إحيائك للموتى.

( قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ) أي قال : ألم تعلم ذلك وتؤمن يأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته؟ قال بلى علمت ذلك وصدقت بالخبر ، ولكن تاقت نفسى للخبر والوقوف على كيفية هذا السر ليطمئن قلبى بالعيان بعد خبر الوحى.

وفي قوله تعالى لإبراهيم : «أولم تؤمن» وهو العليم بإيمانه ويقينه ـ تنبيه وإرشاد إلى ما ينبغى أن يقف عنده الإنسان ولا يعدوه ، فإن الإيمان بهذا السر الإلهى والتسليم فيه لخبر الوحى ، هو غاية ما يطلب من البشر ، ولو كان وراء ذلك سبيل آخر لبينه الله تعالى.

٢٥

وفي إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين ، ومنع لهم عن التذكر في كيفية الخلق والتكوين ، فإن هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه.

وليس في سؤال إبراهيم ما يشعر بالشك ، فالإنسان قد جبل على طلب المزيد في العلم والرغبة في الوقوف على أسرار الخليقة ، وأكمل الناس علما أشدهم رغبة في طلب الوقوف على المجهولات.

فطلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية ، لا طلب للطمأنينة بالبعث إذ قد عرفه بالوحى والدليل.

وإنا الآن لا نؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينيا ولا نعرف كيفيتها ، ونودّ لو نعرفها ، فهذا الأثير (التلغراف اللاسلكى) ينقل أخبار العالم في لحظة ، ولا نعرف كيفية ذلك ، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية ، والقارات البعيدة ، ومثله أصوات المذياع (الراديو) التي تنشر في جميع أقطار العالم بكل اللغات ، وتسمع في أرجاء المعمورة ، ولا يعرف كثير من الناس كيف تصل إليهم.

ثم بين سبحانه أنه أجابه إلى ما طلب.

( قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي إن إبراهيم بعد أن طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى ـ أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير ، فيقطعهنّ أجزاء ، ثم يفرقها على عدة جبال بحضرته وأرضه ، ثم يدعوها فتجيبه مسرعة ـ والطير أشد الحيوان نفورا من الإنسان غالبا ـ وقد فعل إبراهيم ذلك.

قال المرحوم النطاسي عبد العزيز باشا إسماعيل في رسالته (الإسلام والطب الحديث) أثناء كلامه في المعجزات التي وقعت على أيدى الأنبياء ليتجلى لك ما ربما غاب عن فكرك ، وندّ عن بالك ، وتفهم ذلك حقّ الفهم قال :

المعجزات كلها من صنع الله مباشرة ، ومعناها سنة جديدة ، بخلاف ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونموّ الحيوان والنبات ، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد

٢٦

ونظم وضعها الله لا تتغير ، وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس ، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لتعوّدنا إياه ، ولكن إن أتي الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان ، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحدث المعجزات إلا على أيدى الأنبياء ، لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين ، فهى أشد على من يكون واسطة فيها ، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

وصفوة القول ـ إن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها ، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة ، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية ، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله ، لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها ، ولا يدرك طريق صنعها ، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى طبيعى ، ولذلك هو يتكرر في الظروف نفسها على يد كل إنسان ـ هذا كلامه باختصار.

( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ

٢٧

عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

تفسير المفردات

سبيل الله : ما يوصل إلى مرضاته تعالى ، الحبة : واحدة الحب ، وهو ما يزرع ليقتات به ، المنّ : أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن إليه ويظهر به تفضله عليه ، والأذى : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه كأن يقول له : إنى قد أعطيتك فما شكرت ، قول معروف : أي كلام حسن وردّ جميل على السائل كأن يقول له : رزقك الله ، أو عد إلىّ مرة أخرى أو نحو ذلك ، ومغفرة : أي ستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره مما يثقل على النفوس احتماله ، وخير : أي أنفع وأكثر فائدة ، رئاء الناس : أي مراءاة لهم لأجل أن يروه فيحمدوه ، ولا يقصد ابتغاء رضوان الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين وترقية شأن الأمة بالقيام بما يصلح شؤنها ، فمثله : أي فصفته ، وصفوان : أي حجر أملس ، والوابل : المطر الشديد ، والصلد : الأملس الذي ليس عليه شىء من الغبار ، ويقال فلان لا يقدر على درهم : أي لا يجده ولا يملكه.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذى مر على قرية ، ولإبراهيم صلوات الله عليه ، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفّون فيها أجورهم بغير حساب ، فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة ، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله ـ ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة ، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك ، ثم ذكر أن المنّ والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء ، وضرب لهذا مثل الصفوان.

٢٨

الإيضاح

( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) أي مثل الذين ينفقون المال يبتغون به رضا الله وحسن مثوبته كمن يزرع حبة فى أرض مغلة فتنبت سبع سنابل : أي تخرج ساقا تتشعب منه سبع شعب في كل سنبلة منها مائة حبة كما يرى في كثير من الحب كالذرة والدّخن.

وقد عنى بتطبيق هذا المثل علميا بعض أعضاء الجمعية الزراعية بمصر في مزارع القمح التي لها في التفتيش النموذجى وفي غيره ، فهدتهم التجارب إلى أن الحبة الواحدة لا تنبت سنبلة واحدة بل أكثر ، وقد وصلت أحيانا إلى أربعين ، وأحيانا إلى ست وخمسين ، وأحيانا إلى سبعين ، كما دلتهم أيضا على أن السنبلة الواحدة تغل أحيانا ستين حبة أو أكثر ، وقد عثر في عام (١٩٤٢ م) أحد مفتشى الجمعية على سنبلة أنبتت سبعا ومائة حبه وعرض نتيجة بحثه على الإخصائيين من رجال الجمعية وغيرهم في حفل جامع ، ورأوا تلك السنبلة وعدوها عدّا ، فاتفقت كلمتهم على صدق ما عدّ ورأى ، وشكروه على جهوده الموفقة ـ والزمان كفيل بتأييد قضايا الكتاب الكريم مهما طال عليها الأمد وكلما تقدم العلم ظهر صدق ما أخبر به.

وخلاصة ذلك ـ إن المنفق في إرضاء ربه وإعلاء دينه كمثل أبرك بذر زرع فى أخصب أرض ، فنما نموّا حسنا فجاءت غلته سبعمائة ضعف.

( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) فيزيده زيادة لا حصر لها.

أخرج ابن ماجه عن علىّ وأبي الدرداء كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك ، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم» ثم تلا هذه الآية.

وعن معاذ بن جبل أن الغزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.

٢٩

( وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) أي إنه تعالى لا ينحصر فضله ، ولا يحد عطاؤه ، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة كالمنفقين في إعلاء شأن الحق ، وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد ، حتى إذا ما ظهرت آثار ذلك في قوة ملتهم وسعادة أمتهم جنوا من ذلك أجلّ الفوائد وعاد ذلك عليهم بالخير الوفير.

ولنعتبر بما نراه في الأمم العزيزة الجانب التي ينفق أفرادها في إعلاء شأنها بنشر العلوم والمعارف وتأليف الجماعات الخيرية التي تقوم بها المصالح العامة ، ولنوازن بين هؤلاء وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة ، نر صعاليك الأولين ذوى عزة ومنعة لا يجاريهم فيها ثراة الآخرين.

هذا وإن الناس بمقتضى الفطرة يقتدى بعضهم ببعض ، فمن بذل شيئا في سبيل المصلحة العامة كان قدوة لمن يبذل بعده ، فالناس يتأسى بعضهم ببعض من حيث لا يشعرون.

والفضل الأكبر للسابقين الأولين في عمل الخير ، فهم الذين يضعون الأسس لعمل الخير ، فهم الفائزون برضوان الله ، ولهم أجرهم وأجر من اقتدى بهم

أخرج الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

ثم بين ثواب الإنفاق في الآخرة بعد بيان منافعه في الدنيا فقال :

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي إن الذين يبذلون أموالهم يبتغون بذلك مرضاة ربهم ، ولا يتبعون ذلك بمنهم على من

أحسنوا إليهم ولا بإيذائهم ، لهم عند ربهم ثواب لا يقدر قدره ، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس وتفزعهم الأهوال ، ولا هم يحزنون حين يحزن الباخلون الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله ، إذ هم أهل السكينة والاطمئنان والسرور الدائم.

٣٠

والحكمة في تعليق هذا الثواب على ترك المنّ والأذى ، أن الإنفاق في سبيل الله يراد به وجه الله وطلب رضاه ، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه لأنه لا يد له قبله ، ولا صنيعة له عنده ، تستحق ـ إن لم يكافئه عليها ـ المن والأذى فعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه.

ثم وضع سبحانه دستورا لحسن المعاملة بين الناس فقال :

( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً ) أي كلام حسن وردّ جميل على السائل ، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى ، لأنه وإن خيّب رجاءه فقد أفرح قلبه وهوّن عليه ذل السؤال ، وهذا القول تارة يتوجه إلى السائل إن كانت الصدقة عليه ، وتارة أخرى يتوجه إلى المصلحة العامة ، كما إذا احتيج لجمع المال لدفع عدوّ مهاجم أو بناء مستشفى أو مدرسة أو نحو ذلك من أعمال الخير والبر ولم يكن لدى المرء مال ، فعليه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث العاملين على العمل ، وينشطهم إليه ، ويبعث عزيمة الباذلين على الزيادة في البذل ، أما الصدقة التي يتبعها أذى فهى مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء ، ومن آذى فقد بغّض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم ، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء.

ومن الخير للأمة أن يظهر أفرادها في مظهر المتعاونين كما قال : «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى » وذلك مما يعزز مقامها ، ويحفظ كرامتها ، ويجعلها مهيبة في أعين الناس أجمعين.

وخلاصة المعنى ـ إن مقابلة المحتاج بكلام يسره وهيئة ترضيه ، خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة ، ولا فارق بين أن يكون المحتاج فردا أو جماعة ، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه ، وإظهار استهجانه ، وتشكيك الناس في فائدته ، لا توازى إحسان القول فى ذلك العمل الذي تطلب المساعدة له ، والإغضاء عن التقصير الذي ربما يقع من

٣١

العاملين فيه ، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك أجدى لها من شىء من المال تعطيه مع مقالة السوء وفعل الأذى.

وقد قررت هذه الآية مبدأ عامّا في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقد دلت على أن الخير لا يكون طريقا إلى الشر ، وعلى أن الأعمال الصالحة يجب أن تكون خالية من الشوائب التي تفسدها وتذهب بفائدتها كلها أو بعضها ، وعلى أن من عجز عن نوع من أنواع البرّ فعليه أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدى إلى مثل غايته ، فمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤذى ، فعليه أن يجبر قلب الفقير بقول المعروف.

( وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) أي والله غنى عن صدقة عباده ، فلا يأمرهم ببذل المال لحاجة إليه ، بل ليطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية ، ليكونوا أعزاء ، بعضهم لبعض ناصر ومعين.

فهو غنى عن صدقة يتبعها منّ أو أذى ، لأنه لا يقبل إلا الطيبات ، حليم لا يعجل بعقوبة من يمنّ أو يؤذي.

وفي هذه الجملة سلوة للفقراء ، وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغنى الحليم ، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم ، وعدم تعجيل العقوبة على كفرهم بنعمته تعالى ، إذ من وهبهم المال فإنه يوشك أن يسلبه منهم.

وبعد أن أبان سبحانه فيما سلف أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على الإنفاق في سبيله ـ أقبل يخاطب عباده المؤمنين وينهاهم نهيا لا هوادة فيه عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى فقال :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) أي إن المن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها ، وهو تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة للأفراد ، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتها

٣٢

إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة ـ إذ أن كل عمل لا يؤدى إلى الغاية منه فقد حبط وبطل كأن لم يكن ، فما بالك إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها؟.

ونحو ذلك ما يقال : إن صلاة المرائى باطلة ، على معنى أن الغرض منها وهو توجه القلب إلى الله واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه لم يحصل ، لأن قلب المرائى إنما يتوجه إلى من يرائيه لا إلى ذى العظمة والجبروت ، والملك والملكوت.

وفي ذلك مبالغة أيّما مبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين اللتين قد أولع الناس بهما ؛ فالنفوس مغرمة بذكر ما يصدر منها من الإحسان تمدحا وتفاخرا ، وذلك طريق إلى المن والإيذاء ، ولا سيما إذا آنس المتصدق تقصيرا في شكر الناس له على صدقته ، أو احتقارا لها ، فهو حينئذ لا يكاد يملك نفسه عن المنّ والأذى.

( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) أي لا تبطلوا صدقاتكم بإحدى هاتين الرذيلتين فتكونوا مشبهين من ينفق ماله مرائيا الناس : أي لأجل أن يروه فيحمدوه ، لا لابتغاء مرضاة الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين ، وترقية شأن الأمة بما يصلح شئونها ، وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا.

والخلاصة ـ إن كلا من المرائى وذى المن والأذى أتى بعمل غير مقبول ولا صحيح بل هو باطل ومردود عليه.

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ) أي إن صفة عمل المنافق المرائى كصفة تراب على حجر أملس نزل عليه ماء مطر شديد ، فأزاله وترك الحجر صلدا نقيا لا تراب عليه.

والوجه المشترك بينهما ، أن الناس يرون أن لهؤلاء المرائين أعمالا كما يرى التراب على الصفوان ، فإذا جاء يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله وذهب ، لأنه لم يكن لله ، كما يذهب الوابل من المطر ما كان على الصفوان ، فيتركه أملس لا شىء عليه

٣٣

( لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) أي إنهم لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثمرة لا في الدنيا ولا في الأخرى ، أما في الدنيا فلأن المنان المؤذى بغيض إلى الناس ، كالبخيل الممسك ، والمرائي لا يخفى على الناس فعله.

ثوب الزياء يشفّ عما تحته

فاذا اكتسيت به فإنك عار

وأما في الآخرة فلأن المنّ والأذى كالرياء مناف للإخلاص ، ولا أجر عند الله إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرّون تزكية نفوسهم وإصلاح أحوالهم.

( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) إلى ما فيه خيرهم ورشادهم ، فإن الإيمان هو الذي يهدى قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها ، والاحتراس من الإتيان بما يذهب فائدتها.

وفي هذا تعريض بأن كلا من الرياء والمنّ والأذى من صفات الكافرين التي ينبغى للمؤمنين أن يتجنبوها.

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) )

تفسير المفردات

ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضوانه ، وتثبيتا من أنفسهم أي لتمكين أنفسهم فى مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها عند بذلها بحيث لا ينازعها فيه زلزال البخل

٣٤

ولا اضطراب الحرص ، والجنة : البستان ، والربوة المكان المرتفع من الأرض ، وأشجار الربى أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وفعل الشمس فيها ، وآتت أكلها : أي أعطت صاحبها أكلها ، والاكل كل ما يؤكل والمراد هنا الثمر ، وضعف الشيء مثله ، والطلّ المطر الخفيف ، والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها إلى السماء حاملة الغبار فتكون كهيئة العمود ، والنار أي السموم الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمنّ والأذى ، ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، قفّى على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم ، فبضدها تتبين الأشياء.

الإيضاح

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ ) أي مثل المنفقين أموالهم ابتغاء رضوانه تعالى ، وتمكينا لأنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها حين البذل حتى يكون ذلك سجية لها ، كمثل جنة جيدة التربة ملتفة الشجر ، عظيمة الخصب ، تنبت كثيرا من الغلات ، نزل عليها مطر كثير فكان ثمرها مثلى ما كانت تغلّ ، وإن لم يصبها الوابل فطلّ ومطر خفيف يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها ، وهكذا كثير البر كثير الجود إن أصابه خير كثير أغدق ووسّع في الإنفاق ، وإن أصابه خير قليل أنفق بقدره ، فخيره دائم ، وبره لا ينقطع.

وإنما قال من أنفسهم أي بعض أنفسهم ، ولم يقل لأنفسهم ، لأن إنفاق المال وجه من وجوه التثبيت والطمأنينة ، وبذل الروح وجه آخر ، وكماله ببذل الروح

٣٥

والمال معا كما جاء في قوله سبحانه في سورة الحجرات «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ».

وقد هدانا الله بهذا إلى أن نقصد بأعمالنا طلب رضاه وتزكية نفوسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال ، فإن نحن فعلنا ذلك جوزينا خير الجزاء.

( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) فهو يجازى كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به ، وفي ذلك تحذير من الرياء الذي يظن صاحبه أنه يغشّ الناس بإظهاره خلاف ما يضمر.

فعليك أيها المنفق أن تخلص لربك الذي لا يخفى عليه ما تنطوى عليه سريرتك ، ثم ضرب مثلا لمن ينفق ماله ويتبعه بالمنّ والأذى فقال :

( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) أي هل يود الإنسان أن تكون له جنة معظم أشجارها الكرم والنخل ـ وهما أجلّ الأشجار وأكثرها نفعا ـ حاوية لأنواع أخرى من الثمرات ، تجرى فيها الأنهار فتسقيها ماء غدقا ، علّق بها آماله ، ورجا أن ينتفع بها عياله ، وقد أصابه الكبر وأقعده عن الكسب ، وله ذرية ضعفاء لا يستطيعون أن يقوموا بشأنه وشأنهم ، ولا مورد له غير هذه الجنة.

وبينا هو على تلك الحال إذا بجنته قد أصابها إعصار فأحرقها بما فيه من سموم النار وهو أحوج ما يكون إليها ، وبقي هو وأولاده حيارى لا يدرون ماذا هم فاعلون؟

وهكذا حال من يفعل الخير ويبذل المال ويحبط عمله بالرياء أو بالمنّ والأذى ، فإنه يأتى يوم القيامة وهو أشد ما يكون حاجة إلى ثواب ما بذل ، لكنه يجد إعصار الرياء والمنّ والأذى أبطل ما فعل من الخير وجعله هباء منثورا فأصبح يقلب كفيه نادما ولات ساعة مندم.

٣٦

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره ، والنخل بشجره ، لأن كل شىء فى النخل نافع للناس في شئون معايشهم ، سواء في ذلك ورقه وجذوعه وأليافه وعثا كيله فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغيرها.

والمراد بقوله( لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) مع كون الجنة من نخيل وعنب ـ المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها.

( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) أي مثل هذا البيان بضرب الأمثال التي بلغت الغاية في الوضوح ـ يبين الله لكم دلائل شريعته وأسرارها وفوائدها وغاياتها ، لتتفكروا فيها وتعتبروا بما اشتملت عليه من العبر ، فتضعوا نفقاتكم فى مواضعها ، وتقصدوا بها أن تكون خالصة لوجهه تعالى بدون رياء ولا أذى.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) )

تفسير المفردات

الطيب : هو الجيد المستطاب ، وضده الخبيث المستكره ، ولا تيمموا أي لا تقصدوا ، وتغمضوا أي تتساهلوا وتتسامحوا من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ، ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وحميد أي مستحق للحمد على نعمه العظام ...

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص لله فصد تزكية النفس والبعد عن الرياء ، وما يجب أن يتحلى به بعد البذل من البعد

٣٧

عن المنّ والأذى على أبلغ وجه وآكده ، وفيه الإرشاد إلى ما يختص بالباذل وبطرق البذل.

أشار هنا إلى ما ينبغى أن يعنى بشأنه في المال المبذول وهو أن يكون من جيد أمواله وأحبها إليه ليتم الإرشاد والنصح في وجوه البذل والنفقة في سبيل الله.

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) أي أنفقوا من جياد أموالكم المكسوبة من النقد وسلع التجارة والماشية ، ومما أخرجنا من الأرض من الحبوب والثمار وغيرها قال تعالى : «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ».

( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) أي ولا تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتخصّوه بالإنفاق منه.

وقد روى في سبب نزول الآية أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر (أي رديئه).

وروى من وجه آخر أن الرجل كان يعمد إلى التمر فيضرمه ، ثم يعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء ، وكما نهينا عن تعمد تخصيص الصدقة بالخبيث ، نهينا عن تكليف المتصدق بدفع الجيد من ماله فحسب ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم ، وإياك وكرائم أموالهم» فالواجب أخذ الوسط.

( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) أي كيف تقصدون الخبيث وتتصدقون به وحده ولستم ترضون مثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير العيب فيه ، ولن يرضى ذلك أحد لنفسه إلا وهو يرى أنه مغبون مغموص الحق ، ألا ترى أن الرديء لا يقبل هدية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدى ، لأن إهداءه

٣٨

يشعر بقلة الاحترام لمن أهدى إليه ، والذي يقبله مع الإغماض إنما يقبله لحاجته إليه ، أو لخوف الحق ، والله لا يحتاج فيغمض.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أي إن الله غنى عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لمنفعتكم ، فلا تتقربوا إليه بما لا يقبله لرداءته ، وهو المستحق للحمد على جلائل نعمائه ، ومن الحمد اللائق بجلاله تحرّى إنفاق الطيب مما أنعم به.

( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) )

تفسير المفردات

يعدكم أي يخوّفكم ، والفقر : سوء الحال وضيق ذات اليد ، ويأمركم أي يغريكم ، والمراد بالفحشاء هنا البخل ، والمغفرة الصفح عن الذنب ، والفضل الرزق والخلف ، والحكمة العلم النافع الذي يكون له الأثر في النفس ، فيوجه الإرادة إلى العمل بما تهوى مما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

المعنى الجملي

بعد أن أمرنا سبحانه بإنفاق الطيب من أموالنا ، ونهانا عن تيمم الخبيث منها وإعطائه صدقة ، أراد أن يبين أن أسباب هذا القصد الذي يفعله المتصدق ، وركونه إلى الرديء دون الجيد أن الشيطان يقول له : لا تنفق الجيد من أموالك حتى لا تكون عاقبة ذلك الفقر.

٣٩

الإيضاح

( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ) أي إن الشيطان يخوّف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل ، ويخيّل إليهم أن الإنفاق يذهب بالمال ، ولا بد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان ، وسمى ذلك التخويف وعدا [والوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر ، والشيطان لم يضف مجىء الفقر إليه] مبالغة فى الإخبار بتحقق وقوعه ، وكأن مجيئه بحسب إرادته وطوع مشيئته.

( وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ) أي إن الله وعدكم على لسان نبيكم ، وبما أودعه فى الفطر السليمة من حب الخير والرغبة في البر ـ مغفرة لكثير من خطاياكم ، وخلفا فى الدنيا من جاه عريض ، وصيت حسن بين الناس ، ومال أزيد مما أنفق ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ». روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» ومعنى الدعاء للمنفق بالخلف أن يسهل له أسباب الرزق ، ويرفع شأنه عند الناس ، والبخيل محروم من مثل هذا. ومعنى الدعاء على الممسك بالتلف أن يذهب ماله حيث لا يفيده.

( وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) أي إن الله واسع الرحمة والفضل ، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقون ، وهو عليم بما تنفقون ، فلا يضيع أجركم ، بل يجازيكم أحسن الجزاء

( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ) أي إنه تعالى يعطى الحكمة والعلم النافع المصرّف للإرادة لمن يشاء من عباده ، فيميز به الحقائق من الأوهام ، ويسهل عليه التفرقة بين الوسواس والإلهام

وآلة الحكمة العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها ، وفهم الأمور

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الإصباح في الشام :

وفي بيان ما جرى عليهعليه‌السلام وعلى بقية العترة من مصاعب في الشام ، وقد قيل له كيف أصبحت ، فقالعليه‌السلام : ( كيف حال من اصبح وقد قتل أبوه ، وقلّ ناصره ، وينظر الى حرم من حوله أسارى ، قد فقدوا الستر والغطاء ، وقد أعدموا الكافل والحمى فما تراني إلا أسيراً ذليلاً قد عدمت الناصر والكفيل ، قد كسيت أنا وأهل بيتي ثياب الأسى ، وقد حرمت علينا جديد العرى فإن تسأل فها أنا كما ترى ، قد شمتت فينا الأعداء ، ونترقب الموت صباحاً ومساءً ) ثم قالعليه‌السلام : ( قد أصبحت العرب تفتخر على العجم لأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، وأصبحت قريش تفتخر على سائر الناس لأن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، ونحن أهل بيته أصبحنا مقتولين مظلومين ، قد حلّت بنا الرزايا ، نساق سبايا ، ونجلب هدايا ، كأن حسبنا من أسقط الحسب ، ونسبنا من أرذل النسب كأن لم نكن على هام المجد رقينا ، وعلى بساطٍ جليلٍ سعينا ، وأصبح الملك ليزيد لعنه الله وجنوده ، وأصبحت بنو المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أدنى عبيده )(١)

تنصل يزيد من مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام

وعندما واجه السجادعليه‌السلام يزيد بتلك البلاغة والشجاعة ، أدرك يزيد انه خسر معركة القلوب بعد ان تغلب ظاهراً في معركة الأجساد فحاول تدارك ذلك عبر أمرين :

الأول : إلقاء مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام على عبيدالله بن زياد والي الكوفة والتنصل منها شخصياً فقال موجهاً خطابه للسجادعليه‌السلام : ( لعن الله ابن مرجانة أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيته إياها ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي ولكن قضى الله ما رأيت يا بني كاتبني بكل حاجة تكون لك وانه سيكون في قومك أمور فلا تدخل معهم في شيء )(٢) فسكت زين العابدينعليه‌السلام ولم يجبه بشيء .

الثاني : تطييب خاطر السجادعليه‌السلام مكراً وخداعاً عبر الإلحاح عليه إن كان له حاجة فقال الإمامعليه‌السلام في نهاية المطاف : ( أريد منك أن تريني وجه أبي وأن تعيد على النساء ما أخذ منهن ، ففيها مواريث الآباء والأمهات وإذا كنت تريد قتلي ، فأرسل مع العيال من يؤدي بهن الى المدينة ).

ــــــــــــــــ

(١) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ .

(٢) الكامل في التاريخ ج ٤ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

٦١

وتلك المطالب الثلاثة ، تدخل ضمن منهج الإدانة الذي استخدمه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في تعرية حكم بني امية :

١ ـ فالطلب برؤية أبيه الحسينعليه‌السلام هي إدانة واضحة لقاتليه فكيف يسمح الضمير الإسلامي لهؤلاء الفجار بقتل ابن بنت نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا زالوا يقرون بالإسلام ديناً وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبياً ؟ فهنا توجيه ضمني من السجادعليه‌السلام بانحراف النظام الأموي الظالم عن مبادئ الإسلام .

٢ ـ والطلب بإعادة ما أخذ من نساء آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهباً وسلباً ، هو إدانة ثانية لطريقتهم الوحشية بالتعامل مع ذرية الأنبياءعليه‌السلام ومواريثهم خصوصاً وان ما سلب من النساء كان من خصوصيات فاطمة الزهراءعليه‌السلام بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كمغزلها ومقنعتها وقلادتها وقميصها .

٣ ـ والطلب بإرسال مع من يؤدي بالنساء الى المدينة ، على افتراض قتل السجادعليه‌السلام صبراً ، فيه إدانة ثالثة للنظام السلياسي الأموي ، فكيف يقبل الضمير الإسلامي قتل مريض ألّمت به علّته ؟ ولو كان الأمر لهم لقتلوهعليه‌السلام ولكنهم كانوا دائماً يخشون لوم العرب على فعلتهم .

٦٢

وإذا كان زين العابدينعليه‌السلام يطالب بحق مهضوم ، فان يزيد أجابة بنفش درجة الظلم التي وضعها منهاجاً لحكمه ، فقال : ( أما وجه أبيك فلن تراه وأما ما أخذ منكم فيردّ إليكم وأما النسوة فلا يردهن غيرك ، وقد عفوت عن قتلك )(١) وهو بذلك قرر ثلاث حقائق :

١ ـ إمضاء قتل الحسينعليه‌السلام كسياسة معلنة للدولة الأموية وبذلك فلا ندم ولا اعتذار في ذلك من قبل يزيد .

٢ ـ الإقرار بعدم صحة سلب سبايا آل البيتعليه‌السلام وهو إقرار رسمي أموي بعدم صحة السبي لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنه كان قراراً شكلياً لم يترتب عليه أثر رجعي بمعاقبة المجرمين الذين ارتكبوه .

٣ ـ العفو عن قتل السجادعليه‌السلام وهو لم ينم عن تبدل في أخلاقية الخليفة الطاغية ، بل ان الظروف الإجتماعية التي خلقها مقتل الحسينعليه‌السلام وخطبة السجاد وزينبعليه‌السلام هما اللذان أثنيا يزيد عن قتلهعليه‌السلام .

وروي ان رأس الحسينعليه‌السلام أعيد لاحقاً فدفن بكربلاء مع جسده الشريفعليه‌السلام ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٥ .

٦٣

إلى المدينة ( صفر / ربيع أول سنة ٦١ هـ)

وعهد يزيد إلى النعمان بن بشير بمصاحبة ركب آل البيتعليه‌السلام ، وأمر بإخراجهم ليلاً خوفاً من الفتنة ، واضطراب الوضع وكان اختيار النعمان بن بشير لمصاحبة الركب له دلالات :

١ ـ انه سبق وإن كان والياً على الكوفة من قبل بني أمية قبل عبيد الله بن زياد فهو يعرف خلفيات الوضع السياسي والاجتماعي لواقعة الطف .

٢ ـ انه كان والياً مسالماً آثر عدم محاربة الحسينعليه‌السلام ، وأتهم على أثرها بالضعف ولذلك استبدل من قبل يزيد بن معاوية ، وبعبيد الله بن زياد .

وعندما سار الركب ، طلب السجادعليه‌السلام من المكلف على حراسته ان يعرج إلى كربلاء ليجددوا العهد مع الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه من الشهداء وكان ذلك في العشرين من صفر سنة ٦١ هـ ، أي بعد مضي أربعين يوماً من أحداث العاشر من محرم من نفس السنة .

وكان جابر بن عبدالله الأنصاري ، وهو من أواخر من بقي على قيد الحياة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد شدّ الرحال لزيارة الحسينعليه‌السلام فورد كربلاء في وقت مقارب لوصول السبايا ونترك

٦٤

الوصف لكتاب ( اللهوف في قتلى الطفوف ) ، فيقول عن ركب بني هاشمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنهم لما وصلوا الى كربلاء وجدوا جابر بن عبدالله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبلوا لزيارة قبور الحسينعليه‌السلام والشهداء من أهله وأصحابه فتلاقوا بالبكاء وأقاموا المأتم ، وأجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة على الفرات )(١) وكان مما قاله السجادعليه‌السلام لجابر : (يا جابر ، ها هنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا ، وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا ) .

وبعد أيام مضى الركب يسير حثيثاً الى المدينة ولما وصل الى أطرافها ، أمر زين العابدينعليه‌السلام بشير بن خزيم بدخول المدينة ونعي الحسينعليه‌السلام فدخل بشير مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ينادي :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدار

في مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وكانت تلك مقدمة مناسبة لدخولهعليه‌السلام إلى المدينة الباكية على فدح المصاب فقام خطيباً بالناس :

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ .

٦٥

(الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل اللرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظة ، الفادحة ، الجائحة .

أيها القوم ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبدالله الحسينعليه‌السلام وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية ما مثلها رزية .

أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله ، أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أية عين منكم تحبس دمعها ، أو تضن عن انهمالها ، فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون ، وأهل السماوات أجمعون ؟!

أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ، أم أي فؤاد لا يحنّ إليه ، أم أي سمعٍ يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ ؟!

أيها الناس ، أصبحنا مشردين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك وكابل من غير جرم أجرمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق والله لو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأفجعها ، وأكظمها وأفظعها ، وأمرّها وأفدحها ، فعنده نحتسب ما أصابنا ، فانه عزيز ذو انتقام ) .

المدينة بعد مقتل الحسينعليه‌السلام :

وصف ابن طاووس ( ـ ٦٦٤ هـ ) وضع المدينة بعد مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقال : ان زين العابدينعليه‌السلام رحل إلى المدينة بأهله وعياله ونظر إلى منازل قومه ورجاله فوجد تلك المنازل تنوح بلسان أحوالها ، وتبوح باعلال الدموع وإرسالها ، لفقد حماتها ، وتندب عليهم ندب الثواكل ، وتسأل عنهم أهل المناهل ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم واثكلاه ، وتقول يا قوم أعذروني على النياحة والوليل ، وساعدوني على المصاب الجليل ، فإن القوم الذين أندب لفراقهم وأحن إلى كرم أخلاقهم كانوا سمار ليلي ونهاري ، وأنوار ظلمي وأسحاري ، وأطناب شرفي وإفتخاري ، وأسباب قوتي وإنتصاري ، والخلف من شموسي وأقماري .

٦٦

كم ليلة شردوا باكرامهم وحشتي ، وشيدوا بأنعامهم حرمتي ، وأسمعوني مناجات أسحارهم ، وأمتعوني بإبداع أسرارهم ، وكم يوم عمروا آمالي بمحافلهم ، وعروا طبعي بفضائلهم ، وأورقوا عودي بماء عهودهم ، وأذهبوا نحوسي بماء سعودهم .

وكم غرسوالي من المناقب ، وحرسوا محلي من النوائب ، وكم أصبحت بها أشرف على المنازل والقصور ، وأميس في ثوب الجذل والسرور وكم اعتاشوا في شعابي من أموات الدهور وكم إنتاشوا على أعتابي من رفات المحذور .

فأقصدني فيهم منهم الحمام ، وحسدني عليهم حكم الأيام ، فأصبحوا غرباء بين الأعداء وغرضاً لسهام الإعتداء وأصبحت المكارم تقطع بقطع أناملهم ، والمناقب تشكو لفقد شمائلهم ، والمحاسن تزول بزوال أعضائهم ، والأحكام تنوح لوحشة أرجائهم .

فيا لله من ورع أريق دمه في تلك الحورب ، وكمال نكس علمه بتلك الخطوب ولئن عدمت مساعدة أهل العقول ، وخذلني عند المصائب جهل العقول ، فإن لي مسعداً من السنن الدارسة والأعلام الطامسة ، فإنها تندب كندبي ، وتجد مثل وجدي وكربي .

فلو سمعتم كيف ينوح عليهم لسان حال الصوات ، ويحن إليهم إنسان الخلوات ، وتشتاقهم طوية المكارم ، وترتاح إليهم أندية الأكارم ، وتبكيهم محاريب المساجد ، وتناديهم مآريب الفوائد ، لشجاكم سماع تلك الواعية النازلة ، وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشاملة بل لو رأيتم وحدتي وانكساري ، وخلو مجالسي وآثاري ، لرأيتم ما يوجع قلب الصبور ، ويهيج أحزان الصدور لقد شمت بي من كان يحسدني من الديار ، وظفرت بي أكف الأخطار فيا شوقاه إلى منزل سكنوه ، ومنهل أقاموا عنده واستوطنوه ليتني كنت إنساناً أفديهم حز السيوف ، وأدفع عنهم حر الحتوف ، وأشفي غيظي من السنان ، وأرد عنهم سهام العدوان ...

٦٧

ولقد أحسن ابن قتيبة (رض) وقد بكى على المنازل المشار إليها فقال(١) :

مررت على أبيات آل محمد

فلم أر أمثالها يوم حلت

لا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم بزعمي تخلت

ألا إن قتلى الطف من آل هاشم

أذلت رقاب المسلمين فذلت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

ألأم تر أن الشمس أضحت مريضة

لفقد حسين والبلاد إقشعرت

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١١٨ ـ ١٢١ .

٦٨

مواريث الإمامة

واستلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد دخوله المدينة ، مواريث الإمامة تقول المصادر التاريخية : ان الحسينعليه‌السلام لما سار إلى العراق استودع مواريث النبوة والإمامة التي تسلمها من أخيه الحسنعليه‌السلام ، عند أم سلمة ( أم المؤمنين ) وأمرها ان تدفعها الى ولده زين العابدينعليه‌السلام فلما رجع السجادعليه‌السلام إلى المدينة بعد واقعة كربلاء ، تسلم الوديعة من أم سلمة ( رضوان الله عليها )(١)

وفي حديث الإمام الصادقعليه‌السلام ان علياً بن الحسينعليه‌السلام لما انتهى إليه الأمر ، فتح الخاتم الرابع من الوصية المنزلة على جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأ فيها : ( يا علي اطرق واصمت )(٢)

فقامعليه‌السلام بما أمر من السكوت والاعتزال ، واختلى عن الاختلاط بالناس حتى ضرب له بيتاً من الشعر خارج المدينة(٣) ، تفرغاً فيه للعبادة والابتهال لله عز وجل ، وحفظاً لدماء شيعته لكنه استثمرعليه‌السلام الدعاء في تلك الفترة الحرجة من أجل تعريف الناس بخالقهم سبحانه ، وإرشادهم إلى طرق الإتصال به وبدينهم .

ــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي باب النص على السجاد ج ١ ص ٣٠٤ .

(٢) الغيبة للنعماني ص ٢٤ وأمالي الشيخ الطوسي ص ٢٨٢ .

(٣) فرحة الغري لابن طاووس ص ٣٣ طبعة النجف .

٦٩

وكانعليه‌السلام دائم الاتصال بعمته زينب الكبرى ، فكانتعليه‌السلام تتلقى منه الأحكام الإلهية وتفيضها على الشيعة ستراً على زين العابدين من عادية اعدائه(١)

ويروى ان الإمام الحسينعليه‌السلام كان مديناً لجماعة بمبلغ سبعين ألف دينار ، فأهتمّ السجادعليه‌السلام بذلك حتى قيل أنه أمتنع عن الطعام و الشراب حتى جمع المبلغ ودفعه إلى دائنيه ، وفاءً منهعليه‌السلام لتفريغ ذمة أبيهعليه‌السلام (٢)

روايات أخر :

وذكرت روايات أخرى بمعان وألفاظ مختلفة ، منها :

أ ـ سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن خاتم الحسين بن عليعليه‌السلام إلى من صار ؟ وذكر له أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ قالعليه‌السلام : ( ليس كما قالوا إن الحسينعليه‌السلام أوصى إلى ابنه علي بن الحسينعليه‌السلام ، وجعل خاتمه في أصبعه ، وفوّض إليه أمره ، كما فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفعله أمير المؤمنين بالحسنعليه‌السلام ، وفعله الحسن بالحسينعليه‌السلام ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبيعليه‌السلام بعد أبيه ، ومنه صار إليّ ، فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه ) .

ــــــــــــــــ

(١) إكمال الدين للصدوق ص ٢٧٥ والغيبة للطوسي ص ١٤٨ .

(٢) سر السلسلة العلوية ص ٣٢ .

٧٠

قال محمد بن مسلم : فدخلت عليه يوم الجمعة وهو يصلي ، فلما فرغ من الصلاة مدّ إلي يده ، فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه : لا إله إلا الله عدّة للقاء الله فقال : هذا خاتم جدي أبي عبدالله الحسين بن عليعليه‌السلام (١)

ب ـ قال الإمام الباقرعليه‌السلام : إن الحسينعليه‌السلام لما حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة ووصية باطنة ، وكان علي بن الحسينعليه‌السلام مريضاً فلما تم شفاؤه دفعت فاطمة الكتاب الى أخيها علي بن الحسينعليه‌السلام ، ثم صار الكتاب إلينا فقلت : فما في ذلك الكتاب ؟ فقال : ( فيه والله جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا )(٢) وإذا صحت هذه الرواية سنداً ، فان الحفاظ على ذلك الكتاب في تلك الظروف الحرجة من أسر وترحل ، كان من أعظم كرامات أهل البيتعليه‌السلام .

وفي المدينة لم يكن حال الناس بأفضل من حال أهل الكوفة أو أهل الشام ومن أهل المدينة من يقف كإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، فيخاطب السجادعليه‌السلام على صيغة الاستفهام ، متشمتاً : من الغالب ؟ فيجيبه زين العابدينعليه‌السلام : ( إذا دخل وقت الصلاة فإذّن

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق ص ١٤٤ .

(٢) بصائر الدرجات ج ٣ باب ١٣ .

٧١

وأقم ، تعرف الغالب )(١) وظاهر مراد السجادعليه‌السلام ان آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقون منصورون ما بقي الدهر وبقيت الصلاة وبقي الإسلام وما كان خروج الإمام الحسينعليه‌السلام إلاّ لنصرة الدين وإحيائه ، في حين أمات بنو أمية شعائر الإسلام وعلى رأسها إقامة الصلاة واستبدلوها بعادات جاهلية كالفجور والفسوق والغناء وشرب الخمر .

السجاد الحزينعليه‌السلام

لا ينكر أحد من المؤرخين حزن السجادعليه‌السلام على مقتل أبيه الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه الذين ذبحوا عطشى على رمضاء كربلاء ، فكانت تخنقه العبرة عندما يتذكر مصرع أبيهعليه‌السلام وأهل بيته .

وهذا هو الذي دفع بعض العلماء المتقدمين إلى القول : روي عن مولانا زين العابدينعليه‌السلام ، وهو ذو الحلم الذي لا يبلغه الوصف ، انه كان كثير البكاء لتلك البلوى وعظيم البث والشكوى(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ الطوسي ص ٦٦ .

(٢) اللهوف لابن طاووس .

٧٢

وقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : إن زين العابدينعليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره وقائماً ليله فإذا حضر الإفطار وجاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول : كل يا مولاي فيقول : قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جائعاً ، قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبتل طعامه من دموعه ثم يمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل(١)

أقول : وربما كان ذكر أربعين سنة في لفظ الرواية من قبيل المبالغة اللفظية من قبل الراوي ، لأنهعليه‌السلام عاش بعد مقتل أبيه الحسينعليه‌السلام أربع وثلاثين سنة فقط .

ويروى أيضاً : أنه برز يوماً الى الصحراء فاتبعه أحد غلمانه فوجده قد سجد على حجارة خشنة باكياً شاهقاً وهو يقول لألف مرة : ( لا إله إلا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله تعبداً ورقاً لا إله إلا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً ) .

ثم رفع رأسه من سجوده بينما غمرت الدموع لحيثه ووجهه فقيل له : يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ ؟ فقالعليه‌السلام : ( ويحك إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، كان نبياً ابن نبي له أثنى عشر أبناً فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٢١ ـ ١٢٢ .

٧٣

الحزن واحدودب ظهره من الغم وذهب بصره من البكاء وابنه حي في دار الدنيا وأنا رأيت وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي )(١)

إلا ان بكاءه لم يكن ليمنعه من مواصله عمله الشرعي التكليفي في إمامة الأمة وإرشادها إلى طريق الخير والصلاح واصبح البكاء ـ من دون قصد ـ من وسائل التوعية الدينية .

واشتهرعليه‌السلام بوصف ( السجاد ) لكثرة سجوده لله حينما يرى تواتر نعمه وآلائه عليه فكانعليه‌السلام لا يذكر نعمة لله إلا سجد ، ولا يقرأ آية فيها سجدة إلا سجد ، ولا يدفع الله عنه سوءً إلا سجد ، ولا يفرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ، ولا يوفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد(٢)

وكأنك ترى أثر السجود في مواضع سجودهعليه‌السلام ولم يشتهر عن انسان غيره أن سجوده لله عزوجل قد أثر على جسده ، كما اشتهر عنهعليه‌السلام وكان يلقب أيضاً بذي الثفنات وهي آثار ناتئة تبرز في مواضع السجود ، وكان مشهوراً بوجودها على جبهته ولا شك ان السجود يقرّب العبد من مولاه ، والمخلوق من خالقه ،

ــــــــــــــــ

(١) الخصال للصدوق ص ٢٧٢ ح ١٥ .

(٢) في رواية للامام الباقرعليه‌السلام يصف أبيه السجادعليه‌السلام : معاني الأخبار للصدوق ص ٢٤ .

٧٤

وقد قال تعالى : ( واسجُد واقترب )(١) وهكذا زين العابدينعليه‌السلام قريباً من مولاه العظيم سبحانه وتعالى .

والمشهور في روايات الطريفين ان السجادعليه‌السلام كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة واذا افترضنا ان الركعة الواحدة تستغرق دقيقة واحدة ، فان اداء ألف ركعة يستغرق ألف دقيقة ، وهو ما يساوي سبعة عشر ساعة تقريباً في اليوم الواحد وهذا الوقت يستوعب كل كل يوم المرء وليله خصوصاً إذا ما علمنا بان على المكلّف تأدية واجباته العبادة الأخرى والقيام بما تمليه عليه وظيفته من حقوق الزوجية والأبوة والجيرة والقرابة وعيادة المرضى ، ودعوة عينيه للاسترخاء لمقدار من النوم .

وعبادتهعليه‌السلام كانت لا تنفك عن تلاوة القرآن ، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن الكريم(٢) ، وكان يرشد الأمة بتفسير القرآن(٣) وكانعليه‌السلام يردد : ( عليك بالقرآن ، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ،

ــــــــــــــــ

 (١) سورة العلق : الآية ١٩ .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٧ .

(٣) الاحتجاج ص ٣١٢ ـ ٣١٩ .

٧٥

وكان والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان قد أرسل وفداً من وجهائها إلى يزيد الخليفة الأموي ، فيهم : عبدالله بن حنظلة ، وعبدالله بن أبي عمرو ، والمنذر بن الزبير وغيرهم وكان الهدف من ذلك هو تثبيت ميولهم نحو الخلافة الأموية عبر النيل من هدايا السلطان ، إلاّ انهم رجعوا ـ على الرغم من كل ما أغدق عليهم من جوائز وهدايا ـ وهم ناقمون على يزيد لما شاهدوا من استهتاره وفسقه ومجونه وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، وتعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الحراب(١)

قال عبدالله بن حنظلة : ( والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنه رجل ينكح الأمهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت فيه بلاءً حسناً )(٢) ) ويقول المنذر بن الزبير : ( ان يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي ، أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله أنه ليسكر حتى يدع الصلاة )(٣)

والغريب في ذلك ان قتل الحسينعليه‌السلام بتلك الفظاعة والوحشية لم يكن ليحرك عواطفهم ، ولكن رحلة واحدة إلى الشام أطلعتهم على فجور يزيد وفسقه ! فخلعوا بيعته بعد رجوعهم وولّوا عليهم عبدالله بن حنظلة ، وعبدالله بن مطيع ، وطردوا عامل يزيد على المدينة .

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٨٠ والحراب : اللصوص .

(٢) طبقات ابن سعد .

(٣) تأريخ الطبري ج ٤ ص ٣٦٨ .

٧٦

فبعث يزيد جيشاً قوياً في العدّة والعدد بقيادة مسلم بن عقبة المري ، فالتقى الفريقان في ( الحرة ) واقتتلا في حرب طاحنة وقتل عبدالهل بن حنظلة مع أولاده ، وانتصر جيش الشام على جيش المدينة ، بعد ان قتل من أبناء الأنصار والمهاجرين والوجوه ما لا يحصى .

ويمكننا إدراك صورة الواقعة من خلال الأمور التالية :

١ ـ لم يشارك الإمام السجادعليه‌السلام في معركة الحرة ، ولم يمل إلى طرف عبدالله بن حنظلة أو عبدالله بن مطيع ومع ان عدداً من رجال بني هاشم قد قتل في هذه الحرب ، إلاّ ان الموقف العلني للإمام زين العابدينعليه‌السلام كان عدم المشاركة بالسيف في هذه المرحلة فقد كان له وسائل أخرى أمضى من السيف في مواجهة حكم بني أمية الظالم .

٢ ـ عندما طرد أهل المدينة والي يزيد ، هرب مروان وبنو أمية الى الشام ، وتركو عيالهم في المدينة فالتمس مروان بن الحكم رفيقه عبد الله بن عمر لرعاية عياله إلاّ ان عبدالله بن عمر أبى عليه ولم يوافق فكلم الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام فوافق على ذلك ، وبقيت عيال مروان بن الحكم في رعاية السجادعليه‌السلام حتى انتهاء المعركة وهذا في غاية الخلق الديني ، لأن مروان كان عدواً صريحاً لأهل البيتعليه‌السلام وهو الذي هدد الحسينعليه‌السلام عندما دعي لمبايعة يزيد بن معاوية في رجب سنة ٦٠ هـ .

٣ ـ أرسل يزيد تعليمات بل أوامر واضحة إلى ( مسلم بن عقبة ) للقضاء على ثورة المدينة : ( أدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليهم فأبحها [ أي المدينة ] ثلاثاً [ أي ثلاثة أيام ] فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند )(١) وأمره أن يجهز على جريحهم ويقتل مدبرهم(٢)

دافع الناس عن مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستشهد أغلب المدافعين عنها بمن فيهم عبدالله بن حنظلة وعدد من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأباح مسلم بن عقبة ، الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة ، المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد وقتل خلقاً من أشرافها وقرّاتها ، وانتهب أموالاً كثيرة منها وجاءته امرأة فقالت : أنا مولاتك وابني في الأسارى ، فقال : عجّلوه لها ، فضرب عنقه ، وقال :

أعطوها رأسه ، ووقعوا على النساء حتى قيل إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج .

ــــــــــــــــ

 (١) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٨٤ .

(٢) التنبيه والاشراف ص ٢٦٣ طبعة مصر .

٧٧

قال المدائني ، عن هشام بن حسان : ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد واقعة الحرّة من غير زوج وروي عن الزهري أنه قال : كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ، ووجوه الموالي ممن لا أعرف من حرّ وعبدٍ وغيرهم عشرة آلاف(١)

ثم نصب لمسلم بن عقبة كرسيّ ، وجيء بالاسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كل واحد منهم أن يبايع ويقول : إنّني عبد مملوك ليزيد بن معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء(٢)

ومن كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدّ لله سبحانه وتعالى ، كان مصيره القتل(٣)

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته أمّ سلمة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع محمد بن حذيفة العدوي ، فطلب إليهما أن يبايعها ،

ــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ج ٨ ص ٢٢٠ .

(٢) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٩٣ و٤٩٥ .

(٣) الكامل في التأريخ ج ٤ ص ١١٨ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٧٠ .

٧٨

فقالا : نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فقال مسلم : لا والله لا أقيلكم هذا أبداً ، فقدمهما فضرب أعناقهما(١)

٤ ـ عندما بلغهعليه‌السلام توجه جيش يزيد إلى المدينة ، لاذ السجادعليه‌السلام بقبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يدعو هذا الدعاء : ( رب كم من نعمة أنعمت بها عليّ ، قلّ لك عندها شكري وكم بلية ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري فيا من قل عند نعمه شكري فلم يحرمني ، وقلّ عند بلائه صبري فلم يخذلني يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ويا ذا النعماء التي لا تحصى ابداً صلي على محمد وآله ، وادفع عني شره ، فاني ادرأ بك في نحره ، واستعيذ بك من شره )(٢)

فجاؤا بهعليه‌السلام الى مسلم بن عقبة وكان سباباً بذيئاً يعشق سفك الدماء لكنه لما رآه ، أخذته هيبة السجادعليه‌السلام وأرتعد وقام له وأقعده إلى جانبه ، ثم قال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحدٍ ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه ، ثم انصرف عنه .

وكان السجادعليه‌السلام يحرك شفتيه ، في محضر مسلم بن عقبة ، بهذا الدعاء : اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن(٣) ، ربّ العرش العظيم ، رب محمدٍ وآله الطاهرين ،

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري ج٥ ص ٤٩٢ .

(٢) الإرشاد للمفيد .

(٣) وما أقللن : أي وما حملن .

٧٩

أعوذ بك من شرّه ، وادرأ بك في نحره ، أسألك ان تؤتيني خيره ، وتكفيني شره (١) .

وعندما خرج السجادعليه‌السلام منه ، انبرت حاشية مسلم بن عقبة تسأله : رأيناك تسب زين العابدين وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته فقال : ما كان لرأيٍ مني ، لقد ملئ قلبي منه رعباً(٢)

٥ ـ وكان مسلم بن عقبة قد تجاوز التسعين من عمره وقت إباحته المدينة ، فكان قريباً من حتفه ، وقد هلك بعيد واقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة المكرمة لمهاجمتها والقضاء على ثورتها بقيادة عبدالله بن الزبير وعندما لقى مسلم بن عقبة حتفه في الطريق ، تسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الأموي ، ففرض حصاراً على مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها(٣)

وفي الوقت الذي كانت فيه مكة تحت الحصار ، مات يزيد بن معاوية في ربيع الأول سنة ٦٤ هـ ، وهو في سن الثامنة والثلاثين من عمره بعد ان قضى ثلاث سنوات وبضعة أشهر في الحكم .

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية الخامسة ص ٨٠ دعاء ٢٧ في إستدفاع شر الأعداء .

(٢) مروج الذهب ج ٢ ص ٩٦ .

(٣) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٩٨ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218