تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى27%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79263 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

على حقيقتها ـ ومن أوتى ذلك عرف الفرق بين وعد الرّحمن ووعد الشيطان ، وعضّ على الأول بالنواجذ وطرح الثاني وراءه ظهريا.

وقد فسر حبر الأمة عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في القرآن أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بأسراره وحكمه ، ومن فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات ـ لا يكون وعد الشيطان له الفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له من البذل والإنفاق.

والآية الكريمة رافعة شأن الحكمة بأوسع مالها من المعاني ، وهادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له.

( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) أي ومن يوفقه الله لهذا النوع النافع من العلم ، ويرشده إلى هداية العقل ، ووجيهه الوجهة الصحيحة ـ فقد هدى إلى خيرى الدنيا والآخرة ، فهو يسخر القوى التي خلقها الله له من سمع وبصر وشعور ووجدان في النافع من الأشياء ، ويعدّها لتنفيذ ما يرغب فيه ، ثم بعدئذ يفوض الأمر إلى بارئه الذي فطره وسوّاه ، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه ، وبهذا لا يستسلم لوساوس الشيطان ، ولا يقض مضجعه ما يجده من مكدرات الحياة وآلامها ، ولا ما تسوقه إليه من محنها وأرزائها ، اعتقادا منه أن كل شىء بقضاء الله وقدره ، وبهذا يستريح باله ، وتهدأ ثائرته ، ويجد في قلبه بردا وسلاما لمزعجات الليالى والأيام.

( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به ، ويجعل الإرادة مصرفة له ، خاضعة لمشيئته ، إلا ذوو العقول السليمة ، والنفوس التي تغوص في بحر الحقائق ، وتستخرج منها ما هو نافع في هذه الحياة ، وبه سعادتها ، وتجعله سلما ترقى به في معارج الفلاح لتصل به إلى خير العقبى ـ حشرنا الله في زمرة أولئك

٤١

( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) )

تفسير المفردات

النذر في اللغة : العزم على التزام شىء خاص فعلا أو تركا. وفي الشرع التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تعالى حكم النفقة والبذل في سبيله ـ عمم الحكم هنا في كل نفقة ، سواء أكانت في طاعة أم في معصية ، وبين أن الله عليم بها ومجاز عليها.

إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فعلينا أن نختار لأنفسنا أفضل ما نحب أن يعلمه ربنا عنا.

الإيضاح

( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) في خير أو شر ، صادرة عن إخلاص أو عن رياء ، أتبعت بمنّ أو أذى أو لم تتبع بذلك ، سرا كانت أو علانية.

( أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ) فى طاعة أو في معصبة فهو قسمان :

(١) نذر قربة وبرّ ، وهو ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى كأن ينذر بذل مقدار معين من المال ، أو صلاة نافلة ، كقوله إن شفى الله مريضى فلله علىّ أن أتصدق بكذا.

(٢) نذر لجاج وغضب ، وهو ما يقصد به حث النفس على شىء أو منعها عنه ، كقولك إن كلمت فلانا فعلىّ كذا.

٤٢

واتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالأول ، وهو مخير في الثاني بين الوفاء بما التزمه ، وكفارة يمين.

وكل هذا إن كان النذر في طاعة ، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة ، فإن نذر فعل معصية جرم عليه فعله ، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «النذر نذران ، فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى ، وفيه الوفاء ، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ، ولا وفاء فيه ، ويكفره ما كفر اليمين».

ومن نذر مباحا فعله ، لأن فسخ العزائم من ضعف الإرادة ، ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذرت أن تضرب بالدّف وتغنى يوم قدومه بالوفاء.

( فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ ) ويجازى عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهذا ترغيب وترهيب ، ووعد ووعيد.

( وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) أي وما للذين ظلموا أنفسهم ولم يزكوها من رذيلة البخل ، أو من رذيلة المن والأذى ، وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الأمة بترك الإنفاق في مصالحها العامة ـ من أنصار لهم ينصرونهم يوم الجزاء ، فيدفعون عنهم بجاههم أو بمالهم ، وهذا كقوله : «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ».

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لأولئك الباخلين بمالهم من المسلمين على المصالح العامة التي فيها خير للأمة ، وفيها سعادتها وعزها ، فالمال هو قطب الرحى ، وعليه تدور مصالح الأمم في هذا العصر عصر المال ، ومن ثم تدهورت الأمم الإسلامية وصارت في أخريات الأمم مدنية ورقيّا وحضارة وتقدما ، وفشا الجهل بين أفرادها ، وأصبحت في فقر مدقع ، وقد كان في مكنتهم أن ينشلوها من وهدتها ، ويرفعوها من الحضيض الذي وصلت إليه يبذل شيء من المال الذي يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم ، والفضل الكبير ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

٤٣

( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) )

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن الله يعلم ما تنفقون ويجازيكم عليه إن خيرا وإن شرا ـ بيّن هنا سبيل إعطاء الصدقات ، وما يتبع في ذلك من السر والعلانية ، وأيهما الأفضل.

الإيضاح

( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) أي إن تظهروا الصدقات فنعم عملا إظهارها ، لما فيه من الأسوة الحسنة ، فيقتدى بالمتصدق كثير من الناس ، ولأن الصدقة من شعائر الإسلام التي لو أخفيت لتوهم منعها.

( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) أي وإن تعطوها الفقراء خفية فهو أفضل ، لما في ذلك من البعد عن شبهة الرياء ، ولما دلت عليه الآثار والأحاديث ، أخرج أحمد عن أبي أمامة «أن أباذر قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال : صدقة سرّ إلى فقير ، أو جهد من مقلّ ثم قرأ الآية». وروى الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» وروى البخاري : إن من السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم القيامة ، إذ لا ظل إلا ظله «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقة السر في التطوع نفضل على علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا ، وهكذا الحكم في جميع الفرائض والتطوع.

وقال أكثر العلماء : إن أفضلية السر على العلانية إنما هى في التطوع

٤٤

لا في الفريضة ، فإن إظهارها أفضل لإظهار شعيرة من شعائر الدين ، وقوة الدين بإظهار شعائره ، ولما في ذلك من القدوة الحسنة ، ولأن احتمال الرياء بعيد في أداء الفرائض ، بل قالوا أيضا : إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته ولو كانت تطوعا.

والمخلص في صدقته لا يعسر عليه حين الصدقة في المصالح العامة ـ أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء ، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والاقتداء ، بأن يرسل حوالة مالية لجمعية خيرية ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لرئيسها أو أمين صندوقها فحسب ، وقد جرت عادة الجميعات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بلسان أعضائها أو بلسان الجرائد والمجلات ونحوها ، وذلك أوسع طرق الشهرة وأبعدها مدى في عصرنا.

وقد فهم من قوله (الفقراء) ولم يقل فقراءكم أعنى المسلمين ـ أن صدقة التطوع تعطى للمسلم والكافر والبر والفاجر ، لأن الله كتب الرحمة والإحسان في كل شىء فقد ورد في الصحيحين : «فى كل ذى كبد حرّى أجر» أي في جميع الأحياء وتمنع الزكاة التي هى أحد أركان الإسلام عن الكافر. ومثلها زكاة الفطر.

كما فهم من التصريح به أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه ، إذ يدعى الغنىّ الفقر ، ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس ، فعلينا أن نجزى ونعطى الفقراء حقا لا مدعى الفقر.

( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم ، لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب.

( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي فما تفعلونه في صدقاتكم من الإسرار والإعلان ، فالله خبير به ، عليم بأمره ، ومجازيكم عليه ، وفي هذا ترغيب في إعطاء الصدقات سرا.

٤٥

وقد روى أنه لما نزل قوله( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) الآية قالوا يا رسول الله : أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت الآية( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ... ) إلى آخرها.

( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) )

تفسير المفردات

الهدى ضربان : هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة ، وهو على الله تعالى ، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو على النبي صلى الله عليه وسلم ، وابتغاء وجه الله طلب مرضاته ، أحصروا منعوا وحبسوا في طاعته لغزو أو تعلم علم ، ضربا في الأرض أي سيرا فيها للكسب والتجارة ، والتعفف إظهار العفة وهى ترك الطلب ومنع النفس مما تريد ، والسيما العلامة التي يعرف بها الشيء ، وإلحافا أي إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم ، بين هنا أنه لا ينبغى التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره ، لأن الصدقة لسد خلّته ، ولا دخل لها بإيمانه ، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما ، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود

٤٦

أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.

وأخرج ابن جرير وغيره أن ناسا من الأنصار لهم صهر وقرابة من المشركين ، كانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ، ويريدونهم أن يسلموا فنزلت الآية.

وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدّقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ) الآية.

الإيضاح

( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ) أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين ، إن أنت إلا بشير ونذير ، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهى عن الرذائل كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث.

( وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم ، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن ، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ) أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم فى الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم ، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون ، ثم سرى شرهم إلى غيرهم ، فتختل نظم المجتمع ، ويفقد الأمن فى الأمة.

وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم ، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء ، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.

( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة

٤٧

عند المنفق عليه ، وإنما تنفقون لوجه الله ، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقّا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزّاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته ، وهذا كقوله : «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ».

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا ، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقىّ أنفسكم ، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان ، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته ـ لا يضيع عليكم ما تنفقون ، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا.

وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم ، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته ، وتقوم به سنته في صلاح البشر.

ثم بين أحق الناس بالصدقة فقال :

( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ) أي اجعلوا ما تنفقون للذين ذكر الله صفاتهم الخمس التي هى من أجلّ الأوصاف قدرا :

(١) الإحصار في سبيل الله ، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله ، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها ، وحبسوا أنفسهم لها ، وتجب نفقتهم في بيت المال ، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية فى العصر الحديث ، فإن حبس الشخص نفسه في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد وطلب العلم ، وكان يستطيع الكسب في أوقات فراغه لم يحلّ له الأخذ من الصدقة.

(٢) العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو ، وهذا هو المقصود بقوله :( لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ ) .

٤٨

(٣) التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدى الناس ، فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :( يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) .

(٤) أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف ، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع ، ولا برثاثة في الثياب ، فربّ سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رثّ الثياب ، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا ، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه ، وحسن بزّة فتحكم عليه في لحن قوله ، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس ، وهذا ما أشار إليه بقوله :( تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ) .

(٥) ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية ، وقد يكون المعنى ـ أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس».

والسؤال محرم لغير ضرورة ، روى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تحلّ الصدقة لغنىّ ولا لذى مرّة سوىّ» والمرة بكسر الميم القوة ، والسوىّ هو السليم الأعضاء ، والمراد به القادر على الكسب.

وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال : ما يغدّيه أو يعشّيه».

٤٩

وروى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا ، فليستقلّ منه أو ليستكثر».

وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدّق منه ويستغنى به عن الناس ، خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه».

فمن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل ـ لا يعطي شيئا ، فقد رأى عمر رضى الله عنه سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر فيه فإذا هو خبز ، فأمر أن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة.

وقد روى أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفة وهم أربعمائة من فقراء المهاجرين رصدوا أنفسهم لحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله ، ولم يكن لأكثرهم مأوى ، لذلك كانوا يقيمون في صفّة المسجد (موضع منه مظلّ) وقد هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها ، فهم محصورون في سبيل الله بهذه الهجرة ، ومحصورون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن.

وقد كان حفظه حينئذ من أفضل العبادات على الإطلاق ، لأنهم ما كانوا يحفظونه إلا للفهم والاهتداء والعمل به ، وحفظ الدين بحفظه ، وكانوا يحفظون بيان النبي صلى الله عليه وسلم له بسنته القولية وسنته العملية.

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوما على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : «أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائى».

ولا يحل لأهل التكايا ومشايخ الطرق أن يأكلوا أموال الناس ، لأنهم لم ينقطعوا لتعلم علم ولا غزو في سبيل الله ، بل قصارى أمر الأولين أن يأكلوا الصدقات والأوقاف ليعبدوا الله في هذه التكايا ، فهى لهم كالأديار للنصاري وهم فيها كالرهبان ، وإن كان بعضهم قد يتزوج.

٥٠

وكذلك مشايخ الطرق الذين ينزلون بجماعتهم بلدا بعد آخر ، ويكلفون من يستضيفونه الذبائح والشيء الكثير من الطعام ، ثم لا يخرجون إلا مثقلين بالمال والهدايا ، بل قد يسلبون وينهبون باسم الدين وفي معرض الكرامات ، فهؤلاء الأوغاد يشبهون أنفسهم بأهل الصفة ، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل ـ أصلا في الكتاب والسنة «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا».

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) فلا يخفى عليه حسن النية والإخلاص له فى العمل ، ولا تحرى النفع به وإيتاؤه أحق الناس به ، فهو يجازى عليه بحسب هذا.

ولا يخفى ما في هذا من الترغيب في الإنفاق ، ولا سيما على مثل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) )

المعنى الجملي

بعد أن رغب سبحانه في الآيات السالفة في الإنفاق وبين فوائده للمنفقين والمنفق عليهم ، وللامة التي يتعاون أفرادها ويكفل أقوياؤها ضعفاءها ، وأغنياؤها فقراءها ، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة التي تجعل الأمة عزيزة الجانب محوطة بالكرامة فى أعين الأمم الأخرى ، كما بين آداب النفقة والمستحقين لها ، وأحق الناس بها إلى نحو من هذا.

بين هنا فضيلة الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال ومضاعفة الأجر على ذلك.

الإيضاح

المعنى ـ إن الذين ينفقون أموالهم في جميع الأزمنة وفي سائر الأحوال ، ولا يحجمون عن البذل إذا لاح لهم وجه الحاجة إلى ذلك ، لهم ثوابهم عند ربهم

٥١

فى خزائن فضله ، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله.

ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع فى قلوبهم ، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم ، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خلّه محتاج أو آسوا جراح مكلوم ، أو أشبعوا بطن جائع ، أو جهزوا جيشا يسدّون به ثغرة فتحها عدو ، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

وإنما قدم الليل على النهار ، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية ، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه ، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.

وقد روى أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ أنفق أربعين ألف دينار ، عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر ، وعشرة بالعلانية.

وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في علىّ كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما ، وبالنهار درهما ، وسرا درهما ، وعلانية درهما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حملك على هذا؟ قال : حملنى أن أستوجب على الله الذي وعدنى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن ذلك لك».

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)

٥٢

يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

تفسير المفردات

يأكلون : أي يأخذون ويتصرفون فيه بسائر أنواع التصرفات ، والربا لغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد ، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله ، والخبط : الضرب على غير اتساق ، يقال ناقة خبوط إذا وطئت الناس وضربت الأرض بقوائمها ، ويقال للرجل يتصرف في الأمور على غير هدى : هو يخبط خبط عشواء [العشواء الناقة الضعيفة البصر] والمسّ : الجنون ، يقال مسّ الرجل فهو ممسوس إذا جنّ ، والموعظة : العظة والزجر ، والمحق : نقص الشيء حالا بعد حال كمحاق القمر ، ويربى : يزيد ويضاعف ، لا يحب : أي لا يرتضى ، والكفار : المقيم على الكفر المعتاد له ، والأثيم : المنهمك في ارتكاب الآثام ، اتقوا الله : أي قوا أنفسكم عقابه ، وذروا : أي اتركوا ، فأذنوا : أي فاعلموا ، بحرب من الله : أي بغضب منه ، وحرب من رسوله بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره ، واعتباركم أعداء له في كل عصر ، لا تظلمون : أي لا تفعلون

٥٣

الظلم بغرمائكم بأخذ الزيادة ، ولا تظلمون بنقص شىء من رأس المال ، العسر : الإعسار ويكون بفقد المال أو كساد المتاع ، والنظرة : الانتظار ، والميسرة : اليسار والسعة.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة ، والمتصدق يعطى المال من غير عوض ابتغاء وجه الله ـ وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابى يأخذ المال بلا عوض يقابله.

وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل ، وفيم يكون؟ حتى نتفهمه حق الفهم ، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.

الربا ضربان : ربا النسيئة ، وربا الفضل

فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل ، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية ، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه ، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل ، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عنى دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم الله عزّ وجل في إسلامهم عنه ا ه.

والتعامل بهذا النوع من الكبائر ، وقد ورد في الحديث «لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده»

والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي ، أو أقة عنب مصرى بأقة وربع من عنب أزمير ، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين (الذهب والفضة) لما جاء فى الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب ، والورق بالورق

٥٤

(الفضة) والبرّ بالبرّ والتمر بالتمر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد».

والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.

أسرار تحريم الربا

زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب ، بلاد المدنية والحضارة ، ونهلوا من مناهل العلم هناك ، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هى مناط العزة والقوة في العصر الحديث ، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدى الأجانب إلا بتحريم الربا ، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش ، ومن كان منهم غنيّا لا يعطى ماله بالربا ، فمال الفقير يذهب ، ومال الغنى لا ينمو ، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كاداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.

وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت ، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص ، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكّمون الدين في شىء من أعمالهم ومكاسبهم ، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا ، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم ، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين ، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين؟ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك ، فلما ذا لانتقن سائر المكاسب لنعوّض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم ، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شىء؟.

وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا ، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم ، فالدين لم يكن عاثقا لهم عن الرقى ، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل ، والحث على الكسب كما قال تعالى : «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ » وقال : «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ».

٥٥

فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين ، وما سقطت بعد ما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك ، إلى أن صارت تجعل علة الرقى سببا فى الانحطاط ، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا ، ولا ذهب ملكنا ، وكان الدين وحده هو العاصم لنا.

فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام ، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم ، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس ، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر ، ثم قلدوا غيرهم فيها ، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث فى أكثر الأقطار ، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل ، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.

فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.

ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرّم الدين الربا فيما يلى :

(١) إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات ، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ، فيألف الكسل ، ويمقت العمل ، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل ، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم ، فلا يرأف بفقير ، ولا يشفق على بائس ، ولا يرحم مسكينا ، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد ، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات ، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم. ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.

(٢) إنه يؤدى إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات ، إذ هو ينزع

٥٦

عاطفة التراحم من القلوب ، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس ، ويحل القسوة محل الرحمة ، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه ، ومن جرّاء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية ، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال ، وأضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة ، والمرة بعد المرة.

ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم ، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه ، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود ، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيّا عنه بألا يحدّث أحدا بأنه اقترض منه ، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.

(٣) إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض ، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض ، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم «حرمة مال الإنسان كحرمة دمه».

ولا ينبغى اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يد المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل ، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة ، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن ، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.

(٤) إن عاقبته الخراب والدمار ، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم ، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا ، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».

والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه من الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها ، ويغريهم

٥٧

بالمزيد من الاستدانة ، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم ، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل ، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولى الدائنون قسرا على كل ما يملكون ، فيصبحون فقراء معدمين ، صدق الله( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) .

وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه فى مؤتمر القانون الإسلامى في شهر يوليو سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن فى معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال ، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة ، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.

فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم ، بل لم يحرّمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحى ، أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع ، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر ، وأن إثمه أكبر من نفعه ، والدرجة الثانية تحريم جزئى له ، والثالثة تحريمه التحريم الكلى القاطع.

فهل يطيب لكم أن تدرسوا معى المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا؟

إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التامّ على مسلكه في شأن الخمر ، لا في عدد مراحله فحسب ، بل حتى في أماكن نزول الوحى وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.

نعم ، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا ، وكان أول موضع منها وحيا مكيّا والثلاثة الباقية مدنية ، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.

٥٨

ففى الآية المكية يقول الله جلت حكمته «وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله» هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله ، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا ، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية (١٦ ـ ٦٧) حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب ، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية ، وتنبيها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.

أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم ، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين ، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنصّ الصريح ، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهى يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن ، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر (٢ ـ ٢١٩) حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهى صريح ، وقد جاء هذا النهى بالفعل في المرحلة الثالثة ، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة (٤ ـ ٤٣).

وكذلك لم يجىء النهى الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة ، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة (٢ ـ ١٣٠) وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا ، بل ختم بها التشريع القرآنى كله على ما صح عن ابن عباس ، وفيها النهى الحاسم عن كل ما يزيد على رأس ما الدين حيث يقول الله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ،

٥٩

وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » (٢ ـ ٢٧٨ ـ ٢٨١).

هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التأريخي.

وإنكم لترون الآن أن الفئة التي تزعم أن الإسلام يفرق بين الربا الفاحش وغيره (وهى الفئة من المتعلمين الذين ليس لهم رسوخ قدم في علوم القرآن) لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور ، ولا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول حيث جعلت التشريع الإسلامى بعد أن تقدم إلى نهاية الطريق في إتمام مكارم الأخلاق يرجع على أعقابه ويتدلى إلى وضع غير كريم ، بل إنها قلبت الوضع التأريخي إذا اعتبرت النص الثالث مرحلة نهائية ، بينما هو لم يكن إلا خطوة انتقالية في التشريع لم يختلف فى ذلك محدّث ولا مفسّر ولا فقيه.

على أنا لو فرضنا المحال ووقفنا معهم عند هذا النص الثالث ، فهل نجد فيه ربحا لقضيتهم في التفرقة بين الربا الذي يقل عن رأس المال ، والربا الذي يزيد عليه أو يساويه؟ كلا ، فإنه قبل كل شىء لا دليل في الآية على أن كلمة الإضعاف شرط لا بد منه في التحريم ، إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية بذم نوع من الربا الفاحش الذي بلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية من غير قصد إلى تسويغ الأحوال المسكوت عنها التي تقلّ عنها في الشذوذ. ومن جهة أخرى فإن قواعد العربية تجعل كلمة «أضعافا» فى الآية وصفا للربا لا لرأس المال كما قد يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين ، ولو كان الأمر كما زعموا لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ ٦٠٠ خ من رأس المال. بينما لو طبقنا القاعدة العربية على وجهها لتغير المعنى تغيرا تاما بحيث لو افترضنا ربحا قدره واحد في الألف أو المليون لصار بذلك عملا محظورا غير مشروع بمقتضى النص الذي يتمسكون به.

٦٠

الإصباح في الشام :

وفي بيان ما جرى عليهعليه‌السلام وعلى بقية العترة من مصاعب في الشام ، وقد قيل له كيف أصبحت ، فقالعليه‌السلام : ( كيف حال من اصبح وقد قتل أبوه ، وقلّ ناصره ، وينظر الى حرم من حوله أسارى ، قد فقدوا الستر والغطاء ، وقد أعدموا الكافل والحمى فما تراني إلا أسيراً ذليلاً قد عدمت الناصر والكفيل ، قد كسيت أنا وأهل بيتي ثياب الأسى ، وقد حرمت علينا جديد العرى فإن تسأل فها أنا كما ترى ، قد شمتت فينا الأعداء ، ونترقب الموت صباحاً ومساءً ) ثم قالعليه‌السلام : ( قد أصبحت العرب تفتخر على العجم لأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، وأصبحت قريش تفتخر على سائر الناس لأن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، ونحن أهل بيته أصبحنا مقتولين مظلومين ، قد حلّت بنا الرزايا ، نساق سبايا ، ونجلب هدايا ، كأن حسبنا من أسقط الحسب ، ونسبنا من أرذل النسب كأن لم نكن على هام المجد رقينا ، وعلى بساطٍ جليلٍ سعينا ، وأصبح الملك ليزيد لعنه الله وجنوده ، وأصبحت بنو المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أدنى عبيده )(١)

تنصل يزيد من مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام

وعندما واجه السجادعليه‌السلام يزيد بتلك البلاغة والشجاعة ، أدرك يزيد انه خسر معركة القلوب بعد ان تغلب ظاهراً في معركة الأجساد فحاول تدارك ذلك عبر أمرين :

الأول : إلقاء مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام على عبيدالله بن زياد والي الكوفة والتنصل منها شخصياً فقال موجهاً خطابه للسجادعليه‌السلام : ( لعن الله ابن مرجانة أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيته إياها ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي ولكن قضى الله ما رأيت يا بني كاتبني بكل حاجة تكون لك وانه سيكون في قومك أمور فلا تدخل معهم في شيء )(٢) فسكت زين العابدينعليه‌السلام ولم يجبه بشيء .

الثاني : تطييب خاطر السجادعليه‌السلام مكراً وخداعاً عبر الإلحاح عليه إن كان له حاجة فقال الإمامعليه‌السلام في نهاية المطاف : ( أريد منك أن تريني وجه أبي وأن تعيد على النساء ما أخذ منهن ، ففيها مواريث الآباء والأمهات وإذا كنت تريد قتلي ، فأرسل مع العيال من يؤدي بهن الى المدينة ).

ــــــــــــــــ

(١) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ .

(٢) الكامل في التاريخ ج ٤ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

٦١

وتلك المطالب الثلاثة ، تدخل ضمن منهج الإدانة الذي استخدمه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في تعرية حكم بني امية :

١ ـ فالطلب برؤية أبيه الحسينعليه‌السلام هي إدانة واضحة لقاتليه فكيف يسمح الضمير الإسلامي لهؤلاء الفجار بقتل ابن بنت نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا زالوا يقرون بالإسلام ديناً وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبياً ؟ فهنا توجيه ضمني من السجادعليه‌السلام بانحراف النظام الأموي الظالم عن مبادئ الإسلام .

٢ ـ والطلب بإعادة ما أخذ من نساء آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهباً وسلباً ، هو إدانة ثانية لطريقتهم الوحشية بالتعامل مع ذرية الأنبياءعليه‌السلام ومواريثهم خصوصاً وان ما سلب من النساء كان من خصوصيات فاطمة الزهراءعليه‌السلام بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كمغزلها ومقنعتها وقلادتها وقميصها .

٣ ـ والطلب بإرسال مع من يؤدي بالنساء الى المدينة ، على افتراض قتل السجادعليه‌السلام صبراً ، فيه إدانة ثالثة للنظام السلياسي الأموي ، فكيف يقبل الضمير الإسلامي قتل مريض ألّمت به علّته ؟ ولو كان الأمر لهم لقتلوهعليه‌السلام ولكنهم كانوا دائماً يخشون لوم العرب على فعلتهم .

٦٢

وإذا كان زين العابدينعليه‌السلام يطالب بحق مهضوم ، فان يزيد أجابة بنفش درجة الظلم التي وضعها منهاجاً لحكمه ، فقال : ( أما وجه أبيك فلن تراه وأما ما أخذ منكم فيردّ إليكم وأما النسوة فلا يردهن غيرك ، وقد عفوت عن قتلك )(١) وهو بذلك قرر ثلاث حقائق :

١ ـ إمضاء قتل الحسينعليه‌السلام كسياسة معلنة للدولة الأموية وبذلك فلا ندم ولا اعتذار في ذلك من قبل يزيد .

٢ ـ الإقرار بعدم صحة سلب سبايا آل البيتعليه‌السلام وهو إقرار رسمي أموي بعدم صحة السبي لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنه كان قراراً شكلياً لم يترتب عليه أثر رجعي بمعاقبة المجرمين الذين ارتكبوه .

٣ ـ العفو عن قتل السجادعليه‌السلام وهو لم ينم عن تبدل في أخلاقية الخليفة الطاغية ، بل ان الظروف الإجتماعية التي خلقها مقتل الحسينعليه‌السلام وخطبة السجاد وزينبعليه‌السلام هما اللذان أثنيا يزيد عن قتلهعليه‌السلام .

وروي ان رأس الحسينعليه‌السلام أعيد لاحقاً فدفن بكربلاء مع جسده الشريفعليه‌السلام ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٥ .

٦٣

إلى المدينة ( صفر / ربيع أول سنة ٦١ هـ)

وعهد يزيد إلى النعمان بن بشير بمصاحبة ركب آل البيتعليه‌السلام ، وأمر بإخراجهم ليلاً خوفاً من الفتنة ، واضطراب الوضع وكان اختيار النعمان بن بشير لمصاحبة الركب له دلالات :

١ ـ انه سبق وإن كان والياً على الكوفة من قبل بني أمية قبل عبيد الله بن زياد فهو يعرف خلفيات الوضع السياسي والاجتماعي لواقعة الطف .

٢ ـ انه كان والياً مسالماً آثر عدم محاربة الحسينعليه‌السلام ، وأتهم على أثرها بالضعف ولذلك استبدل من قبل يزيد بن معاوية ، وبعبيد الله بن زياد .

وعندما سار الركب ، طلب السجادعليه‌السلام من المكلف على حراسته ان يعرج إلى كربلاء ليجددوا العهد مع الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه من الشهداء وكان ذلك في العشرين من صفر سنة ٦١ هـ ، أي بعد مضي أربعين يوماً من أحداث العاشر من محرم من نفس السنة .

وكان جابر بن عبدالله الأنصاري ، وهو من أواخر من بقي على قيد الحياة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد شدّ الرحال لزيارة الحسينعليه‌السلام فورد كربلاء في وقت مقارب لوصول السبايا ونترك

٦٤

الوصف لكتاب ( اللهوف في قتلى الطفوف ) ، فيقول عن ركب بني هاشمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنهم لما وصلوا الى كربلاء وجدوا جابر بن عبدالله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبلوا لزيارة قبور الحسينعليه‌السلام والشهداء من أهله وأصحابه فتلاقوا بالبكاء وأقاموا المأتم ، وأجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة على الفرات )(١) وكان مما قاله السجادعليه‌السلام لجابر : (يا جابر ، ها هنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا ، وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا ) .

وبعد أيام مضى الركب يسير حثيثاً الى المدينة ولما وصل الى أطرافها ، أمر زين العابدينعليه‌السلام بشير بن خزيم بدخول المدينة ونعي الحسينعليه‌السلام فدخل بشير مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ينادي :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدار

في مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وكانت تلك مقدمة مناسبة لدخولهعليه‌السلام إلى المدينة الباكية على فدح المصاب فقام خطيباً بالناس :

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ .

٦٥

(الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل اللرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظة ، الفادحة ، الجائحة .

أيها القوم ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبدالله الحسينعليه‌السلام وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية ما مثلها رزية .

أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله ، أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أية عين منكم تحبس دمعها ، أو تضن عن انهمالها ، فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون ، وأهل السماوات أجمعون ؟!

أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ، أم أي فؤاد لا يحنّ إليه ، أم أي سمعٍ يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ ؟!

أيها الناس ، أصبحنا مشردين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك وكابل من غير جرم أجرمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق والله لو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأفجعها ، وأكظمها وأفظعها ، وأمرّها وأفدحها ، فعنده نحتسب ما أصابنا ، فانه عزيز ذو انتقام ) .

المدينة بعد مقتل الحسينعليه‌السلام :

وصف ابن طاووس ( ـ ٦٦٤ هـ ) وضع المدينة بعد مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقال : ان زين العابدينعليه‌السلام رحل إلى المدينة بأهله وعياله ونظر إلى منازل قومه ورجاله فوجد تلك المنازل تنوح بلسان أحوالها ، وتبوح باعلال الدموع وإرسالها ، لفقد حماتها ، وتندب عليهم ندب الثواكل ، وتسأل عنهم أهل المناهل ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم واثكلاه ، وتقول يا قوم أعذروني على النياحة والوليل ، وساعدوني على المصاب الجليل ، فإن القوم الذين أندب لفراقهم وأحن إلى كرم أخلاقهم كانوا سمار ليلي ونهاري ، وأنوار ظلمي وأسحاري ، وأطناب شرفي وإفتخاري ، وأسباب قوتي وإنتصاري ، والخلف من شموسي وأقماري .

٦٦

كم ليلة شردوا باكرامهم وحشتي ، وشيدوا بأنعامهم حرمتي ، وأسمعوني مناجات أسحارهم ، وأمتعوني بإبداع أسرارهم ، وكم يوم عمروا آمالي بمحافلهم ، وعروا طبعي بفضائلهم ، وأورقوا عودي بماء عهودهم ، وأذهبوا نحوسي بماء سعودهم .

وكم غرسوالي من المناقب ، وحرسوا محلي من النوائب ، وكم أصبحت بها أشرف على المنازل والقصور ، وأميس في ثوب الجذل والسرور وكم اعتاشوا في شعابي من أموات الدهور وكم إنتاشوا على أعتابي من رفات المحذور .

فأقصدني فيهم منهم الحمام ، وحسدني عليهم حكم الأيام ، فأصبحوا غرباء بين الأعداء وغرضاً لسهام الإعتداء وأصبحت المكارم تقطع بقطع أناملهم ، والمناقب تشكو لفقد شمائلهم ، والمحاسن تزول بزوال أعضائهم ، والأحكام تنوح لوحشة أرجائهم .

فيا لله من ورع أريق دمه في تلك الحورب ، وكمال نكس علمه بتلك الخطوب ولئن عدمت مساعدة أهل العقول ، وخذلني عند المصائب جهل العقول ، فإن لي مسعداً من السنن الدارسة والأعلام الطامسة ، فإنها تندب كندبي ، وتجد مثل وجدي وكربي .

فلو سمعتم كيف ينوح عليهم لسان حال الصوات ، ويحن إليهم إنسان الخلوات ، وتشتاقهم طوية المكارم ، وترتاح إليهم أندية الأكارم ، وتبكيهم محاريب المساجد ، وتناديهم مآريب الفوائد ، لشجاكم سماع تلك الواعية النازلة ، وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشاملة بل لو رأيتم وحدتي وانكساري ، وخلو مجالسي وآثاري ، لرأيتم ما يوجع قلب الصبور ، ويهيج أحزان الصدور لقد شمت بي من كان يحسدني من الديار ، وظفرت بي أكف الأخطار فيا شوقاه إلى منزل سكنوه ، ومنهل أقاموا عنده واستوطنوه ليتني كنت إنساناً أفديهم حز السيوف ، وأدفع عنهم حر الحتوف ، وأشفي غيظي من السنان ، وأرد عنهم سهام العدوان ...

٦٧

ولقد أحسن ابن قتيبة (رض) وقد بكى على المنازل المشار إليها فقال(١) :

مررت على أبيات آل محمد

فلم أر أمثالها يوم حلت

لا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم بزعمي تخلت

ألا إن قتلى الطف من آل هاشم

أذلت رقاب المسلمين فذلت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

ألأم تر أن الشمس أضحت مريضة

لفقد حسين والبلاد إقشعرت

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١١٨ ـ ١٢١ .

٦٨

مواريث الإمامة

واستلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد دخوله المدينة ، مواريث الإمامة تقول المصادر التاريخية : ان الحسينعليه‌السلام لما سار إلى العراق استودع مواريث النبوة والإمامة التي تسلمها من أخيه الحسنعليه‌السلام ، عند أم سلمة ( أم المؤمنين ) وأمرها ان تدفعها الى ولده زين العابدينعليه‌السلام فلما رجع السجادعليه‌السلام إلى المدينة بعد واقعة كربلاء ، تسلم الوديعة من أم سلمة ( رضوان الله عليها )(١)

وفي حديث الإمام الصادقعليه‌السلام ان علياً بن الحسينعليه‌السلام لما انتهى إليه الأمر ، فتح الخاتم الرابع من الوصية المنزلة على جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأ فيها : ( يا علي اطرق واصمت )(٢)

فقامعليه‌السلام بما أمر من السكوت والاعتزال ، واختلى عن الاختلاط بالناس حتى ضرب له بيتاً من الشعر خارج المدينة(٣) ، تفرغاً فيه للعبادة والابتهال لله عز وجل ، وحفظاً لدماء شيعته لكنه استثمرعليه‌السلام الدعاء في تلك الفترة الحرجة من أجل تعريف الناس بخالقهم سبحانه ، وإرشادهم إلى طرق الإتصال به وبدينهم .

ــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي باب النص على السجاد ج ١ ص ٣٠٤ .

(٢) الغيبة للنعماني ص ٢٤ وأمالي الشيخ الطوسي ص ٢٨٢ .

(٣) فرحة الغري لابن طاووس ص ٣٣ طبعة النجف .

٦٩

وكانعليه‌السلام دائم الاتصال بعمته زينب الكبرى ، فكانتعليه‌السلام تتلقى منه الأحكام الإلهية وتفيضها على الشيعة ستراً على زين العابدين من عادية اعدائه(١)

ويروى ان الإمام الحسينعليه‌السلام كان مديناً لجماعة بمبلغ سبعين ألف دينار ، فأهتمّ السجادعليه‌السلام بذلك حتى قيل أنه أمتنع عن الطعام و الشراب حتى جمع المبلغ ودفعه إلى دائنيه ، وفاءً منهعليه‌السلام لتفريغ ذمة أبيهعليه‌السلام (٢)

روايات أخر :

وذكرت روايات أخرى بمعان وألفاظ مختلفة ، منها :

أ ـ سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن خاتم الحسين بن عليعليه‌السلام إلى من صار ؟ وذكر له أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ قالعليه‌السلام : ( ليس كما قالوا إن الحسينعليه‌السلام أوصى إلى ابنه علي بن الحسينعليه‌السلام ، وجعل خاتمه في أصبعه ، وفوّض إليه أمره ، كما فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفعله أمير المؤمنين بالحسنعليه‌السلام ، وفعله الحسن بالحسينعليه‌السلام ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبيعليه‌السلام بعد أبيه ، ومنه صار إليّ ، فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه ) .

ــــــــــــــــ

(١) إكمال الدين للصدوق ص ٢٧٥ والغيبة للطوسي ص ١٤٨ .

(٢) سر السلسلة العلوية ص ٣٢ .

٧٠

قال محمد بن مسلم : فدخلت عليه يوم الجمعة وهو يصلي ، فلما فرغ من الصلاة مدّ إلي يده ، فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه : لا إله إلا الله عدّة للقاء الله فقال : هذا خاتم جدي أبي عبدالله الحسين بن عليعليه‌السلام (١)

ب ـ قال الإمام الباقرعليه‌السلام : إن الحسينعليه‌السلام لما حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة ووصية باطنة ، وكان علي بن الحسينعليه‌السلام مريضاً فلما تم شفاؤه دفعت فاطمة الكتاب الى أخيها علي بن الحسينعليه‌السلام ، ثم صار الكتاب إلينا فقلت : فما في ذلك الكتاب ؟ فقال : ( فيه والله جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا )(٢) وإذا صحت هذه الرواية سنداً ، فان الحفاظ على ذلك الكتاب في تلك الظروف الحرجة من أسر وترحل ، كان من أعظم كرامات أهل البيتعليه‌السلام .

وفي المدينة لم يكن حال الناس بأفضل من حال أهل الكوفة أو أهل الشام ومن أهل المدينة من يقف كإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، فيخاطب السجادعليه‌السلام على صيغة الاستفهام ، متشمتاً : من الغالب ؟ فيجيبه زين العابدينعليه‌السلام : ( إذا دخل وقت الصلاة فإذّن

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق ص ١٤٤ .

(٢) بصائر الدرجات ج ٣ باب ١٣ .

٧١

وأقم ، تعرف الغالب )(١) وظاهر مراد السجادعليه‌السلام ان آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقون منصورون ما بقي الدهر وبقيت الصلاة وبقي الإسلام وما كان خروج الإمام الحسينعليه‌السلام إلاّ لنصرة الدين وإحيائه ، في حين أمات بنو أمية شعائر الإسلام وعلى رأسها إقامة الصلاة واستبدلوها بعادات جاهلية كالفجور والفسوق والغناء وشرب الخمر .

السجاد الحزينعليه‌السلام

لا ينكر أحد من المؤرخين حزن السجادعليه‌السلام على مقتل أبيه الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه الذين ذبحوا عطشى على رمضاء كربلاء ، فكانت تخنقه العبرة عندما يتذكر مصرع أبيهعليه‌السلام وأهل بيته .

وهذا هو الذي دفع بعض العلماء المتقدمين إلى القول : روي عن مولانا زين العابدينعليه‌السلام ، وهو ذو الحلم الذي لا يبلغه الوصف ، انه كان كثير البكاء لتلك البلوى وعظيم البث والشكوى(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ الطوسي ص ٦٦ .

(٢) اللهوف لابن طاووس .

٧٢

وقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : إن زين العابدينعليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره وقائماً ليله فإذا حضر الإفطار وجاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول : كل يا مولاي فيقول : قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جائعاً ، قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبتل طعامه من دموعه ثم يمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل(١)

أقول : وربما كان ذكر أربعين سنة في لفظ الرواية من قبيل المبالغة اللفظية من قبل الراوي ، لأنهعليه‌السلام عاش بعد مقتل أبيه الحسينعليه‌السلام أربع وثلاثين سنة فقط .

ويروى أيضاً : أنه برز يوماً الى الصحراء فاتبعه أحد غلمانه فوجده قد سجد على حجارة خشنة باكياً شاهقاً وهو يقول لألف مرة : ( لا إله إلا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله تعبداً ورقاً لا إله إلا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً ) .

ثم رفع رأسه من سجوده بينما غمرت الدموع لحيثه ووجهه فقيل له : يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ ؟ فقالعليه‌السلام : ( ويحك إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، كان نبياً ابن نبي له أثنى عشر أبناً فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٢١ ـ ١٢٢ .

٧٣

الحزن واحدودب ظهره من الغم وذهب بصره من البكاء وابنه حي في دار الدنيا وأنا رأيت وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي )(١)

إلا ان بكاءه لم يكن ليمنعه من مواصله عمله الشرعي التكليفي في إمامة الأمة وإرشادها إلى طريق الخير والصلاح واصبح البكاء ـ من دون قصد ـ من وسائل التوعية الدينية .

واشتهرعليه‌السلام بوصف ( السجاد ) لكثرة سجوده لله حينما يرى تواتر نعمه وآلائه عليه فكانعليه‌السلام لا يذكر نعمة لله إلا سجد ، ولا يقرأ آية فيها سجدة إلا سجد ، ولا يدفع الله عنه سوءً إلا سجد ، ولا يفرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ، ولا يوفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد(٢)

وكأنك ترى أثر السجود في مواضع سجودهعليه‌السلام ولم يشتهر عن انسان غيره أن سجوده لله عزوجل قد أثر على جسده ، كما اشتهر عنهعليه‌السلام وكان يلقب أيضاً بذي الثفنات وهي آثار ناتئة تبرز في مواضع السجود ، وكان مشهوراً بوجودها على جبهته ولا شك ان السجود يقرّب العبد من مولاه ، والمخلوق من خالقه ،

ــــــــــــــــ

(١) الخصال للصدوق ص ٢٧٢ ح ١٥ .

(٢) في رواية للامام الباقرعليه‌السلام يصف أبيه السجادعليه‌السلام : معاني الأخبار للصدوق ص ٢٤ .

٧٤

وقد قال تعالى : ( واسجُد واقترب )(١) وهكذا زين العابدينعليه‌السلام قريباً من مولاه العظيم سبحانه وتعالى .

والمشهور في روايات الطريفين ان السجادعليه‌السلام كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة واذا افترضنا ان الركعة الواحدة تستغرق دقيقة واحدة ، فان اداء ألف ركعة يستغرق ألف دقيقة ، وهو ما يساوي سبعة عشر ساعة تقريباً في اليوم الواحد وهذا الوقت يستوعب كل كل يوم المرء وليله خصوصاً إذا ما علمنا بان على المكلّف تأدية واجباته العبادة الأخرى والقيام بما تمليه عليه وظيفته من حقوق الزوجية والأبوة والجيرة والقرابة وعيادة المرضى ، ودعوة عينيه للاسترخاء لمقدار من النوم .

وعبادتهعليه‌السلام كانت لا تنفك عن تلاوة القرآن ، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن الكريم(٢) ، وكان يرشد الأمة بتفسير القرآن(٣) وكانعليه‌السلام يردد : ( عليك بالقرآن ، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ،

ــــــــــــــــ

 (١) سورة العلق : الآية ١٩ .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٧ .

(٣) الاحتجاج ص ٣١٢ ـ ٣١٩ .

٧٥

وكان والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان قد أرسل وفداً من وجهائها إلى يزيد الخليفة الأموي ، فيهم : عبدالله بن حنظلة ، وعبدالله بن أبي عمرو ، والمنذر بن الزبير وغيرهم وكان الهدف من ذلك هو تثبيت ميولهم نحو الخلافة الأموية عبر النيل من هدايا السلطان ، إلاّ انهم رجعوا ـ على الرغم من كل ما أغدق عليهم من جوائز وهدايا ـ وهم ناقمون على يزيد لما شاهدوا من استهتاره وفسقه ومجونه وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، وتعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الحراب(١)

قال عبدالله بن حنظلة : ( والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنه رجل ينكح الأمهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت فيه بلاءً حسناً )(٢) ) ويقول المنذر بن الزبير : ( ان يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي ، أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله أنه ليسكر حتى يدع الصلاة )(٣)

والغريب في ذلك ان قتل الحسينعليه‌السلام بتلك الفظاعة والوحشية لم يكن ليحرك عواطفهم ، ولكن رحلة واحدة إلى الشام أطلعتهم على فجور يزيد وفسقه ! فخلعوا بيعته بعد رجوعهم وولّوا عليهم عبدالله بن حنظلة ، وعبدالله بن مطيع ، وطردوا عامل يزيد على المدينة .

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٨٠ والحراب : اللصوص .

(٢) طبقات ابن سعد .

(٣) تأريخ الطبري ج ٤ ص ٣٦٨ .

٧٦

فبعث يزيد جيشاً قوياً في العدّة والعدد بقيادة مسلم بن عقبة المري ، فالتقى الفريقان في ( الحرة ) واقتتلا في حرب طاحنة وقتل عبدالهل بن حنظلة مع أولاده ، وانتصر جيش الشام على جيش المدينة ، بعد ان قتل من أبناء الأنصار والمهاجرين والوجوه ما لا يحصى .

ويمكننا إدراك صورة الواقعة من خلال الأمور التالية :

١ ـ لم يشارك الإمام السجادعليه‌السلام في معركة الحرة ، ولم يمل إلى طرف عبدالله بن حنظلة أو عبدالله بن مطيع ومع ان عدداً من رجال بني هاشم قد قتل في هذه الحرب ، إلاّ ان الموقف العلني للإمام زين العابدينعليه‌السلام كان عدم المشاركة بالسيف في هذه المرحلة فقد كان له وسائل أخرى أمضى من السيف في مواجهة حكم بني أمية الظالم .

٢ ـ عندما طرد أهل المدينة والي يزيد ، هرب مروان وبنو أمية الى الشام ، وتركو عيالهم في المدينة فالتمس مروان بن الحكم رفيقه عبد الله بن عمر لرعاية عياله إلاّ ان عبدالله بن عمر أبى عليه ولم يوافق فكلم الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام فوافق على ذلك ، وبقيت عيال مروان بن الحكم في رعاية السجادعليه‌السلام حتى انتهاء المعركة وهذا في غاية الخلق الديني ، لأن مروان كان عدواً صريحاً لأهل البيتعليه‌السلام وهو الذي هدد الحسينعليه‌السلام عندما دعي لمبايعة يزيد بن معاوية في رجب سنة ٦٠ هـ .

٣ ـ أرسل يزيد تعليمات بل أوامر واضحة إلى ( مسلم بن عقبة ) للقضاء على ثورة المدينة : ( أدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليهم فأبحها [ أي المدينة ] ثلاثاً [ أي ثلاثة أيام ] فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند )(١) وأمره أن يجهز على جريحهم ويقتل مدبرهم(٢)

دافع الناس عن مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستشهد أغلب المدافعين عنها بمن فيهم عبدالله بن حنظلة وعدد من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأباح مسلم بن عقبة ، الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة ، المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد وقتل خلقاً من أشرافها وقرّاتها ، وانتهب أموالاً كثيرة منها وجاءته امرأة فقالت : أنا مولاتك وابني في الأسارى ، فقال : عجّلوه لها ، فضرب عنقه ، وقال :

أعطوها رأسه ، ووقعوا على النساء حتى قيل إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج .

ــــــــــــــــ

 (١) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٨٤ .

(٢) التنبيه والاشراف ص ٢٦٣ طبعة مصر .

٧٧

قال المدائني ، عن هشام بن حسان : ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد واقعة الحرّة من غير زوج وروي عن الزهري أنه قال : كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ، ووجوه الموالي ممن لا أعرف من حرّ وعبدٍ وغيرهم عشرة آلاف(١)

ثم نصب لمسلم بن عقبة كرسيّ ، وجيء بالاسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كل واحد منهم أن يبايع ويقول : إنّني عبد مملوك ليزيد بن معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء(٢)

ومن كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدّ لله سبحانه وتعالى ، كان مصيره القتل(٣)

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته أمّ سلمة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع محمد بن حذيفة العدوي ، فطلب إليهما أن يبايعها ،

ــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ج ٨ ص ٢٢٠ .

(٢) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٩٣ و٤٩٥ .

(٣) الكامل في التأريخ ج ٤ ص ١١٨ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٧٠ .

٧٨

فقالا : نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فقال مسلم : لا والله لا أقيلكم هذا أبداً ، فقدمهما فضرب أعناقهما(١)

٤ ـ عندما بلغهعليه‌السلام توجه جيش يزيد إلى المدينة ، لاذ السجادعليه‌السلام بقبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يدعو هذا الدعاء : ( رب كم من نعمة أنعمت بها عليّ ، قلّ لك عندها شكري وكم بلية ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري فيا من قل عند نعمه شكري فلم يحرمني ، وقلّ عند بلائه صبري فلم يخذلني يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ويا ذا النعماء التي لا تحصى ابداً صلي على محمد وآله ، وادفع عني شره ، فاني ادرأ بك في نحره ، واستعيذ بك من شره )(٢)

فجاؤا بهعليه‌السلام الى مسلم بن عقبة وكان سباباً بذيئاً يعشق سفك الدماء لكنه لما رآه ، أخذته هيبة السجادعليه‌السلام وأرتعد وقام له وأقعده إلى جانبه ، ثم قال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحدٍ ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه ، ثم انصرف عنه .

وكان السجادعليه‌السلام يحرك شفتيه ، في محضر مسلم بن عقبة ، بهذا الدعاء : اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن(٣) ، ربّ العرش العظيم ، رب محمدٍ وآله الطاهرين ،

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري ج٥ ص ٤٩٢ .

(٢) الإرشاد للمفيد .

(٣) وما أقللن : أي وما حملن .

٧٩

أعوذ بك من شرّه ، وادرأ بك في نحره ، أسألك ان تؤتيني خيره ، وتكفيني شره (١) .

وعندما خرج السجادعليه‌السلام منه ، انبرت حاشية مسلم بن عقبة تسأله : رأيناك تسب زين العابدين وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته فقال : ما كان لرأيٍ مني ، لقد ملئ قلبي منه رعباً(٢)

٥ ـ وكان مسلم بن عقبة قد تجاوز التسعين من عمره وقت إباحته المدينة ، فكان قريباً من حتفه ، وقد هلك بعيد واقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة المكرمة لمهاجمتها والقضاء على ثورتها بقيادة عبدالله بن الزبير وعندما لقى مسلم بن عقبة حتفه في الطريق ، تسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الأموي ، ففرض حصاراً على مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها(٣)

وفي الوقت الذي كانت فيه مكة تحت الحصار ، مات يزيد بن معاوية في ربيع الأول سنة ٦٤ هـ ، وهو في سن الثامنة والثلاثين من عمره بعد ان قضى ثلاث سنوات وبضعة أشهر في الحكم .

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية الخامسة ص ٨٠ دعاء ٢٧ في إستدفاع شر الأعداء .

(٢) مروج الذهب ج ٢ ص ٩٦ .

(٣) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٩٨ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218