تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى18%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79270 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أما القول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا بالربا الفاحش الذي يساوى رأس المال أو يزيد عليه ، فإنه لا يصح إلا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة.

ولقد كان الشعب العبراني الذي يعيش والشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت ، وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقى للكلمة.

أما تخصيصها بالربا الفاحش فهو اصطلاح أوربي حادث ، يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع.

وبعد ، فإنا لا نطيل الوقوف عند هذا النص الانتقالى ، لأن الذي يعنى رجل القانون فى تطبيق الشرائع إنما هو دورها الأخير ، وقد بينا أن الدور الأخير في موضوعنا إنما تمثله الآيات التي تلوناها آنفا من سورة البقرة ، كما رأينا أن الشريعة القرآنية تتجه كلها منذ البداية إلى استنكار كل تعويض يطلب من المقترض أفلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلى الفقير في أبرز موضع من قانونها والتي تحث على إنظار المعسر أو على ترك الدين له ـ تعود فتأخذ منه بالشمال ما منعته باليمين ، إذ تأذن للغنىّ بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟.

إلى جانب هذه النصوص القرآنية تجد في بيان السنة النبوية ما هو أكثر تفصيلا وأشد صرامة ، فإن الرسول صلوات الله عليه لم يكتف بتحريم الربا على آكله كما ورد فى القرآن الكريم ، ولم يكتف بجعل المعطى والآخذ والكاتب سواء في اللعن والإجرام ، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع والملابسات جعلها حمى محرما تحريم الوسائل الممهدة إلى الحرمة الأصلية.

والطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيهما على مراتب متفاوتة

٦١

فى تدرج حكيم يتنقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلى الحظر الكلى ، مارّا بكل المراتب المتوسطة بينهما ا ه ببعض تصرف.

الإيضاح

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) يقال لمن يتصرف في شىء من مال غيره ، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف ، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول.

والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون ، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته ، ضريت نفوسهم بجمعه ، وجعلوه مقصودا لذاته ، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى ، فخرجت نفوسهم عن حدّ الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم فى أعمالهم ؛ فالمولعون بأعمال (البورصة) والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك فى الأعمال ، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة. والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جنّ.

وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث ، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.

وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا : «إياك والذنوب التي لا تغفر ، الغلول ـ الخيانة في مغنم وغيره ـ فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط».

وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب ، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع ، فورد القرآن على ما يعتقدون ، وكذلك يعتقدون أن الجنى يمسّ الإنسان

٦٢

فيختلط عقله ، ويقولون رجل ممسوس : أي مسه الجن ، ورجل مجنون : إذا ضربته الجن ، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات.

فجاءت الآية وفق ما يعتقدون ، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه ، كما جاء قوله تعالى فى وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار «طلعها كأنّه رءوس الشّياطين» وما رأى أحد رءوس الشياطين ، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون.

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع ، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل ، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يردّ عليه بعد سنة عشرين درهما ، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.

تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا ، فقياسهم فاسد ، ومن ثم قال :

«وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ».

إذ في البيع ما يقتضى حله ، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه ـ ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا ، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه ، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشترى باختيارهما ، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر ، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.

( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله ـ فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم ، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.

٦٣

( وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) يحكم فيه بعدله ، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم ، وبلوغه الموعظة من ربه ، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة ، وترشد إلى أن ردّ ما أخذه من قبل النهى إلى أربابه من أفضل العزائم.

( وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم ، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم ، فهم أهل النار خالدين فيها.

والخلود هنا المكث الطويل ، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى.

ويرى بعضهم أنّ الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا ـ إيثار لحب المال أو اللذة به ، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه ، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله ، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».

فالذى يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعدّ من الكافرين المستحلين ، وإن أنكر ذلك بلسانه ، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا.

( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه ، فلا ينتفع به أحد من بعده ، ويضاعف ثواب الصدقات ، ويزيد المال الذي أخرجت منه.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل».

وقال العلماء : المراد بالمحق ما يلاقى المرابى من عداوة المحتاجين ، وبغض المعوزين وقد تفضى هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضارّ كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات ، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا ، فقد قام الفقراء يعادون

٦٤

الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم ، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام ، يعرف ذلك من راقب عبّاد المال وبلا أخبارهم. فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه ، بل عن أهله وولده ، حتى لقد يقصّر في حق نفسه تقصيرا يفضى إلى الخسران والذل والمهانة.

وقصارى ذلك ـ إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة ، ويصل بصاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان ، والحب الشديد للمال ، ومقت الناس له ، وكراهتهم إياه ، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصودة في هذه الحياة ، وهى أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس ، لكونه مصدر الخير لهم ، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال ، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع ، فكان كمن محق ماله وهلك.

وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله ، وقد تقدم إيضاح هذا.

( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) الكفّار هنا هو المتمادى في كفر ما أنعم الله به عليه من المال ، لأنه لا ينفق منه في سبيله ، ولا يواسى به المحتاجين من عباده ، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام ، فهو قد جعل المال آله لجذب ما في أيدى الناس إلى يده فاستغلّ إعسارهم ، وأخذ أقواتهم ، وامتص دماءهم.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي إن الذين صدّقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي ، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين ، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين ـ وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان ـ وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد إيمانه ، وحبه لربه ومراقبته له ، فتسهل عليه طاعته في كل شىء ، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر ـ وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات

٦٥

النفسية والبدنية ـ لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء ، ولا يحزنون على ما فات ، ولا يخافون مما هو آت.

وفي هذا تعريض بآكلى الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي ، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه.

وقد عهد في كلام العرب أن يقال : إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف.

وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه ، لا يعدّ من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار ، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين ، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به ، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه ، إذ مثل هذا لا يعتدّ به كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».

( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم ، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله ، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه.

وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها.

وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا ، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلى الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس.

وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه ، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم ، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.

٦٦

( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين ، فلكم رءوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء ، ولا تنقصون منها شيئا ، بل تأخذونها كاملة.

روى ابن جرير أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بنى المغيرة كانا شريكين في الجاهلية ، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بنى عمرو وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله( وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) .

وأخرج عن ابن جريج قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من ربا على الناس وما لهم من ربا عليهم فهو موضوع ، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها ، وكان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة ، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال : «إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب».

( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين.

روى أن بنى المغيرة قالوا لبنى عمرو بن عمير في القصة السالفة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.

( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) أصل نصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلّا أو بعضا ، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه.

وفي هذا حث على الصدقة ، والسماح للمدين المعسر ، لما فيه من التعاطف

٦٧

والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض ، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة ، كما يرشد إلى ذلك الحديث : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون ، وسامحوا إخوانكم ، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم.

وفي الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار ، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين.

ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هوّنت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال :

( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة ، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه.

والخلاصة ـ إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعدّ الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم ، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم ، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة.

( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) أي ثم يجازى كل امرئ بما عمل من خير أو شر.

( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم.

عن ابن عباس أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل أحدا وثمانين يوما.

٦٨

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) )

تفسير المفردات

تداينتم : داين بعضكم بعضا ، إلى أجل مسمى : أي موعد محدود بالأيام والشهور والسنة ونحوها مما يفيد العلم ، لا بالحصاد وقدوم الحاج مما فيه جهالة ، بالعدل

٦٩

أي بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين ، ولا يأب أي لا يمتنع ، كما علمه الله أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق ، وليملل أي وليلق على الكاتب ما يكتبه والإملال والإملاء بمعنى ، يقال أملّ على الكاتب وأملى عليه ، ولا يبخس أي ولا ينقص ، سفيها أي ضعيف الرأي لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله ، أو ضعيفا أي صبيا أو شيخا هرما ، أو لا يستطيع أن يملّ أي بأن كان جاهلا أو ألكن أو أخرس ، واستشهدوا شهيدين أي اطلبوا أن يشهد رجلان ، ترضون أي ترضون دينهم وعدالتهم ، أن تضل أي تخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها ، ولا تسأموا أي لا تملوا ولا تضجروا ، أقسط أي أعدل ، وأقوم أي وأعون على إقامتها على وجهها ، وأدنى أي أقرب ، ألا ترتابوا أي إلى انتفاء الريب في جنس الدين وقدره وأجله ، تديرونها أي تتعاطونها بالتعامل يدا بيد ، الجناح الإثم والذنب ولا يضارّ أي ولا يفعل الضرر بالمتعاملين بالامتناع عن الكتابة أو الشهادة أو بالتحريف أو الزيادة أو النقص ، فسوق أي خروج عن الطاعة ، والرهان واحدها رهن بمعنى مرهون.

المعنى الجملي

بعد أن رغب سبحانه في الصدقات والإنفاق في سبيله ، لما فيهما من الرحمة ثم أعقب ذلك بالنهى عن الربا لما فيه من القسوة ـ ذكر هنا ما يحفظ المال الحلال بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات ، وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد عليه ، إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة ، وينهى عن ترك الربا لا بدّ له من كسب ينّمى ماله ويحفظه من الضياع ، ليتسنى له القيام بما طلب الله وحث عليه.

وفي هذا دليل على أن المال ليس مبغوضا عند الله ، ولا مذموما في دين الله ، كيف وقد شرع الله لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه ،

٧٠

وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه باستعمال عقولنا ، وتوجيه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.

وكأنّ هذه الآية جاءت احتراسا مما عسى أن يقع في الأذهان من الكلام السابق ، إذ ربما فهم من المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله ، والتشديد في تحريم الربا ، أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما يظهر من نصوص بعض الأديان السابقة وكأنه يقول : إنا لا نأمركم بإضاعة المال ولا بترك تثميره ، وإنما نأمركم أن تكسبوه من الطريق الحلال ، وتنفقوا منه في وجوه البر والخير ، يرشد إلى هذا أن الله نهانا عن إيتاء المال للسفهاء خوفا من ضياعه بقوله : «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً » أي تقوم بها مصالحكم ومعايشكم.

روى أحمد والطبراني حديث عمرو بن العاص «نعمّا المال الصالح للمرء الصالح» وإنما يذم المال إذا استعبد صاحبه ، فبخل في إنفاقه ، واشتط في جمعه من الحلال والحرام ، روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم».

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) طلب الله إلى المؤمنين حفظا لديونهم التي تشمل القرض والسلم [ما فيه المبيع مؤجل والثمن عاجل] ويسميه العامة (الغاروقة) وبيع الأعيان إلى أجل معين ـ أن يكتبوها حتى إذا حل الأجل سهل عليهم أن يطلبوها ويقاضوا المدين للحصول عليها.

وقد تبين الله تعالى كيفية الكتابة ، ومن يتولاها فقال :

( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أي وليكن الكاتب الذي يكتب لكم الديون عادلا يساوى بين المتعاملين ، لا يميل إلى أحدهما فيزيده على حقه ، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه.

٧١

( وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ ) بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين ، إذ الكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا وقانونا ، وكان عادلا حسن السيرة ، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة.

وقدم صفة العدالة على صفة العلم ، لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغى أن يعلمه لكتابة الوثائق ، ولكن من كان عالما غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة ، وقلما رأينا فسادا من عدل ناقص العلم ، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة.

وفي ذكر هذه الشروط في الكاتب إرشاد من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصّنف من الكتاب القادرين على كتابة العقود الرسمية ، كما أن في ذكرها إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون الكاتب غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة خيفة أن يغالط أحدهما الآخر أو يغشّه.

وفي التعبير بقوله (ولا يأب) رمز إلى أن العالم بما فيه مصلحة الناس ، إذا دعى إلى القيام بعمل وجب عليه أن يلبّى الدعوة ، ومن ثم أمره الله بذلك أمرا صريحا فقال :

(فليكتب) وهذا الأمر بعد النهى عن الإباء كالتأكيد ، لأن الموضوع هامّ لتعلقه بحفظ الحقوق ، ولا سيما لدى الأميين الذين خوطبوا به أولا.

( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ) أي وليلق على الكاتب ما يكتبه المدين ليكون إملاله حجة عليه تحفظها الكتابة.

( وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) أي وليتق الذي عليه الحق الله في الإملال ، بأن يذكر ما عليه كاملا ، وفي هذا مبالغة في الحث على التقوى بالتذكير بجلائل النعم والترهيب من العقاب.

ثم نهاه أن يبخس من الحق شيئا تأكيدا لهذا فقال :

( وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ) إذ الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ، وعرضة

٧٢

للطمع ، وربما يستخفه طمعه إلى نقص شىء من الحق ، أو الإبهام في الإقرار الذي يملى على الكاتب تمهيدا للمجادلة والمماطلة.

( فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) أي فإن كان المدين ضعيف العقل أو صبيا أو هرما أو جاهلا أو ألكن أو أخرس ، فعلى من يتولى أموره ويقوم مقامه من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يمل بالعدل بلا زيادة ولا نقص.

( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) أي واطلبوا أن يشهد على المداينة رجلان من المؤمنين ممن حضرها ، وفي قوله من رجالكم دليل على اشتراط الإسلام في الشهادة كما اشترطوا العدالة بدليل قوله : «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ».

قال ابن القيم في إعلام الموقعين : البيّنة في الشرع أعم من الشهادة ، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بينة ، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى إذا تبين للحاكم الحق بها.

( فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) أي فإن لم يكونا أي من تستشهدونهما رجلين ، فليستشهد رجل وامرأتان.

( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء ، وإنما جىء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها ، ومن ثم فوّض الأمر فيها إلى رضى المستشهدين.

( أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ) أي حذر أن تضل إحداهما وتخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها ، فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادة الأخرى.

وخلاصة هذا ـ أنه لما كان كل منهما عرضة للخطأ والضلال : أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان قد وقع بالضبط ، احتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد حتى إذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة ، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى

٧٣

وتتم شهادتها ، وعلى القاضي أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى ، ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى ، وكثير من القضاة لا يعلمون بهذا جهلا منهم بما ينبغى أن يتبع في نحو هذا.

أما الرجلان فيفرق بينهما ، فإن قصر أحدهما أو نسى شيئا مما يبين الحق لا يعتد بشهادته ، وتكون شهادة الآخر وحده غير كافية ولا يعول عليها إن بينت الحق.

وهذه العبارة لبيان سر تشريع الحكم في اشتراط العدد في النساء ، إذ قد جرت العادة أن المرأة لا تشتغل بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات ، فتكون ذاكرتها ضعيفة فيها ، بخلاف الأمور المنزلية فإن ذاكرتها فيها أقوى من ذاكرة الرجل فقد جبل الإنسان على أن يقوى تذكره لما يهتم به ويعنى بشأنه ، واشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية لا يغير هذا الحكم. لأن الأحكام إنما تكون للأعم الأكثر ، وعدد هؤلاء قليل في كل أمة وجيل.

( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) أي ولا ينبغى للشهود أن يمتنعوا عن تحمل الشهادة ليؤدوها حين الحاجة.

روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم ، وقيل إن المراد لا يأبوا عن تحمل الشهادة ولا أدائها ، فالامتناع عن كل منهما محرم ، وهو فرض كفاية لا يجب على من دعى إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم مقامه.

( وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ) أي ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين ، قليلا كان أو كثيرا ، مبينين بذلك أجله المسمى.

وفي هذا دليل على أن الكتابة من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها ، وعلى أنها واجبة في القليل والكثير ، وعلى أنه لا ينبغى التهاون في الحقوق حتى لا يضيع شىء منها ، وهذا قاعدة من قواعدة الاقتصاد في العصر الحديث ، فكل المعاملات والمعاوضات لها دفاتر خاصة تذكر فيها مواقيتها ، والمحاكم تجعلها أدلة في الإثبات

٧٤

ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها ، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام ، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس ، وأثلج للقلب قال :

( ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ) أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين ، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها.

وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها.

وقوله : أدنى ألا ترتابوا ؛ أي إنه أقرب إلى نفى ارتياب بعضكم من بعض ، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها ، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتّاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات ـ وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود.

( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ) أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطى بأن يأخذ المشترى المبيع والبائع الثمن ، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك ، إذ لا يترتب عليه شىء من التنازع والتخاصم.

وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه ، وهذا منتهى الرقى المدني ، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعدة قرون ، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة.

( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة ، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد ، فاكتفى بالإشهاد.

أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود ، إذ هى مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.

٧٥

( وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) أصل يضارّ يضارر (بكسر الراء) وهذا نهى للكاتب أن يضر أحد المتعاملين بالتحريف أو التغيير بزيادة أو نقص ، وللشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة عما يطلب منهما ، ويؤيده قوله بعد( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) إذ التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم.

( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار ، فإن هذا الفعل خروج من طاعة الله إلى معصيته.

( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارين وحفظ أموالكم ، ولو لا هديه لكم لم تعلموا شيئا ، وهو العليم بكل شىء ، فإذا شرع شيئا من الأحكام فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه وهداه.

وجاء ختم الآية بهذه الموعظة الحسنة ليكون معينا على الامتثال لجميع ما تضمنته من الأحكام ـ وهذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحا وأبينها أحكاما ، وفيها مبالغة في التوصية بحفظ المال وصونه من الضياع ، ليتمكن المرء من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عما يوجب سخطه من التعامل بالربا وغيره ، ومن المواظبة على تقواه التي هى الوسيلة لكل فوز وفلاح.

ثم ذكر ما هو كالاستثناء من الأحكام السابقة فقال :

( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) أي وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة ، أولم تجدوا صحيفة ولا دواة ولا قرطاسا ، فاستوثقوا برهن تقبضونه.

وذكر السفر وعدم وجود الكاتب الذي يكتب وثيقة الدين ، بيان للعذر الذي رخص ترك الكتابة ووضع الرهن محله في التوثق لصاحب الدين لا لمنع أخذ الرهن فى غير ذلك ، فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة ليهودى بعشرين صاعا من شعير أخذها لأهله رواه البخاري ومسلم.

٧٦

وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغى أن يكون عدم وجود الكاتب مقيدا بحال السفر ، لا في مواطن الإقامة ، لأن الكتابة مفروضة على المؤمنين ، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل ، ولا سيما في فريضة أكدت كالكتابة.

( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين لحسن ظنه به ، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره ، فليؤدّ المدين دينه وليكن عند ظن الدائن به ، وليتق الله ربه فلا يتخوّن من الأمانة شيئا ، فقد يوسوس له الشيطان بأن لا حجة عليه ولا شهيد ، فالله خير الشاهدين وهو أولى أن يتقى ، وسمى الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان به.

والآيات السالفة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن هى الأصل ، والعزيمة للاحتياط في الديون ـ وهذه الآية رخصة أباحها الله لناحين الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهيد ، فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه فى مثل هذه الحال ، فالله لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلّته إذا هو ائتمنه.

ثم أكد وجوب الشهادة الذي استفيد من قوله :( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) بقوله :

( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) أي ولا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا دعا إليها الأمر ، ومن يفعل ذلك يكن مجترحا للإثم مرتكبا للذنب.

وسرّ هذا التأكيد أن الكتّاب والشهود هم الذين يعينون الناس على حفظ أموالهم ، فعليهم ألا يقصروا في ذلك ، كما على أرباب الأموال ألا يضاروهم ، فإن المصلحة مشتركة بين الجميع.

ونسب الإثم إلى القلب ، لأنه هو الذي يعى الوقائع ويدركها ويشهد بها ، فهو آلة الشعور والعقل ، فكتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه ، والإثم كما يكون بعمل الجوارح وحركات الأعضاء يكون بعمل القلب واللب ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً »

٧٧

فأسند إلى الفؤاد : أي القلب أو النفس أعمالا خاصة به ، كما أسند الباقي إلى السمع والبصر.

ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية والحسد.

والآية ترشد إلى أن الإنسان يعاقب على ترك المعروف كما يعاقب على فعل المنكر ، لأن الترك في الشهادة بكتمانها فعل للنفس تترتب عليه آثار تضرّ غيرها.

وكل من الكتابة والاستشهاد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين ، والكتابة أقوى من الشهادة ، والشهادة عون لها ، فالدائن يستوثق لماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه ، والمدين يستوثق لما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه ، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسى رجع إلى الكتاب فتذكّر واطمأن قلبه كما قال : «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ».

للكتابة الفضل الأكبر في حفظ الحقوق حين موت الشهيدين أو أحدهما ، لأنه لا حافظ لها حينئذ إلا هى ، فهى التي يرجع إليها ويعمل بها.

( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) )

المعنى الجملي

جاءت هذه الآية متممة لقوله : «وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ودليل عليه ، لأن كل شىء هوله ، وهو خالقه فهو العليم به ، ونحو الآية قوله : «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ».

وإذا كان كل شىء في السموات والأرض له ، فهو يعاقب من كتم الشهادة ، لأنه قد أتى إثما وارتكب جرما ، ثم زاد هذا المعنى توكيدا بما يعده من قوله :

٧٨

( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ ) إلى آخر الآية ، إذ كتمان الشهادة داخل في عموم ما في النفس فالله يحاسب عليه ، فإن شاء عفا عمن أجرم ، وإن شاء عاقبه وهو القدير دون سواه على ذلك.

الإيضاح

( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) أي كل ما فيها خلقا وملكا وتصرفا له لا شركة لغيره في شىء منهما فلا يعبد فيهما سواه ، ولا يعصى فيما يأمر وينهى ، وله أن يلزم من شاء بما شاء من التكاليف.

( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) أي وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل ، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة ، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان ؛ لأنه «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان ، وحركات الأبدان.

والمراد بقوله( ما فِي أَنْفُسِكُمْ ) الأشياء التي لها قرار في أنفسكم ، وعنها تصدر أعمالكم كالحقد والحسد ونحوهما ـ ذاك أن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون لها أثر في نفسه ولا ينتج منها فعل يكون مترتبا عليها ، لكنه إذا استرسل معها حسبت عليه عملا يجازى به ، لأنه مشى معها قدما باختياره ، وقد كان يستطيع مطاردتها وجهادها ، فالمظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه ، وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به ، ومقابلة ظلمه بما هو شر منه ، فيكون مؤاخذا عليه أبداه أو أخفاه.

وصفة الحسد تبعث في نفس الحاسد خواطر الانتقام من المحسود والسعى في إزالة نعمته ، وهذه الخواطر مما يحاسب الحاسد عليها أبداها أو أخفاها ـ وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشارع بجهادها ومقاومتها ، مما هو أثر لأخلاق وملكات وعزائم قوية تنشأ عنها أعمال هى آثار لها ، إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة.

٧٩

أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق ـ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ـ وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؟ فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ » الآية ، قال فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » إلى آخرها.

وقوله نسخها الله : أي أزال ما أخافهم من الآية الأولى وحوّله إلى وجه آخر.

وقد قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربّوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها ، وأثرت في قلوبهم عاداتها ، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدى الرسول ونور القرآن ، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى ، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عز وجل ، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها ، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة ، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به.

وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية ، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.

( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له ، وبعذب بعدله من يشاء أن يعذبه ، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل ، ومن العدل

٨٠

ابن عبّاس إلى الخوارج بالنهروان فرجع بعضهم إلى الطاعة(١) .

وحديث مناظرة ابن عبّاس مع الخوارج مذكور في آخر خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٤٨.

وقال الشهاب الخفاجي، المتوفّى سنة (١١٠٠) هـ: حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«تقتل عمّار الفئة الباغية» ، وقد قتله أصحاب معاوية وكان مع عليّعليه‌السلام بصفّين، وهو صريح في أنّ الخليفة هو عليّعليه‌السلام ، وأنّ معاوية مخطئ في اجتهاده. والباغية من البغي: وهو الخروج بغير حقّ على الإمام. وفي الحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إذا اختلف الناس، كان ابن سميّة مع الحقّ» . وابن سميّة: هو عمّار، كان مع عليعليه‌السلام . وهذا هو الذي ندين الله به، وهو أنّ علياً كرّم الله وجهه على الحقِّ، ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان(٢) .

وقال الشوكاني، المتوفى سنة (١٢٥٥) هـ: في حديث أبي سعيد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«تكون اُمّتي فرقتين، يخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحقّ» دلالة على أنّ علياًعليه‌السلام ومَن معه هم المحقّون، ومعاوية ومَن معه هم المبطلون(٣) .

وحكى أبو الثناء الآلوسي المفسّر عن بعض الحنابلة: التصريح بوجوب قتال الباغين؛ لأنّ علياًعليه‌السلام اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد، فهو إذاً أفضل من الجهاد. ثمّ ذكر ندم عبد الله بن عمر على تركه المشاركة مع عليعليه‌السلام في قتال الباغين، ولمْ يتعقّبه الآلوسي بشيء(٤) . وقال محمّد كرد علي: ما خالف علي في البراءة من قتلة عثمان، وقد كان قتلته من أكثر القبائل، وكانوا عدداً ضخماً لا طاقة لعليّ عليهم. ومن المتعذّر عليه أن يسلّمهم أو بعضهم؛ وهم عضده ولو كان يعرفهم بأعيانهم. وقد وقعت المسألة على غير رضاه، وليس من مصلحته أن يستهدف لغضب عشائر كثيرة تقوم بنصرته اليوم. وكان عليعليه‌السلام يحلف بالله أن بني اُميّة لو أرادوا منه أن يأتيهم بخمسين

____________________________

(١) تحفة المحتاج ٤ / ١١٠، ١١٢.

(٢) شرح الشفا ٢ / ١٦٦ ط سنة / ١٣٢٦.

(٣) نيل الاوطار للشوكاني ٧ / ١٣٨.

(٤) روح المعاني ٢٦ / ١٥١ ط مصر.

٨١

غلاماً من بني هاشم يحلفون بالله أنّه ما قتل عثمان ولا مالأ عليه(١) .

هذه نصوص علماء السنّة في أحقية عليعليه‌السلام بالخلافة من غيره، وأن الخارج عليه باغ يستحق القتال حتّى يثوب إلى الحقِّ؛ ولذا كان خيار الصحابة والتابعين معه، ومنهم اُويس القرني، فإنّه كان في الرجّالة يوم صفين(٢) .

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما وجدت في نفسي من شيءٍ؛ مثل ما وجدت أني لم اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى. وكان يحدّث بما أخبر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أبن سميّة عمّاراً تقتله الفئة الباغية، وأن البُغاة على الإمام عليعليه‌السلام هم: معاوية وأصحابه. ولمّا سئل عن المشاركة مع علي بن أبي طالب يوم صفين؛ اعتذر بما لا يجديه يوم فصل الخطاب، فقال: إني لم أضرب بالسيف، ولم أطعن بالرمح، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«أطع أباك» فأطعته(٣) .

هذا هو التمويه والخداع! كيف يسوّغ التذرع عن مخالفة الحقِّ بحمل كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على غير حقيقته؟ أتجوّز الشريعة حمل الحديث على وجوب طاعة الأب حتّى إذا استلزمت ترك الفرائض، أو ارتكاب المحرمات؟ كلا، إن طاعة الإمام الذي تمّت له البيعة، كانت مفروضة في أعناق المسلمين، لا مناص للامّة حينئذ إلا الخضوع له، ووجوب امتثال أمره فيما يدعوهم إليه. ولا طاعة للأبوين في قبال طاعة الإمامعليه‌السلام ؛ ولعل قوله تعالى:( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (٤) شامل لذلك، فإن المراد من الشرك المنهي عنه: الكناية عن ترك الإنقياد لله سبحانه، ويدخل فيه الإعراض عن طاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام الذي تمت له البيعة في أعناق المسلمين؛ ولذلك كانت عائشة تتم في سفرها إلى البصرة في قتال عليعليه‌السلام ، فإن القصر عندها إنما يكون في سفر طاعة(٥) .

إنّ الشريعة المقدسة أوجبت على إمام الاُمّة إقامة الحُجّة على كلِّ مَن عانده،

____________________________

(١) الاسلام والحضارة العربية ٢ / ٣٨٠.

(٢) عمدة القارئ للعيني ١١ / ٣٤٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) سورة لقمان / ١٥.

(٥) نيل الاوطار ٢ / ١٧٩ صلاة المسافر - باب من اجتاز في بلد فتزوّج فيها.

٨٢

وخرج عن طاعته، بتذكير آلاء الله تعالى المتتابعة على العباد مع ما هم عليه من التمرد والطغيان.

ثمّ يعرّفهم بأن الدنيا الزائلة لا تعود على المنهمك فيها إلا بالخسران، إذ لعل بالمواعظ القدسية، وتلاوة الآيات المحكمة، يستنير من أعمته الشهوات؛ فيبصر سبيل الرشاد، ويلمس الحقيقة الناصعة.

ولقد سار أمير المؤمنينعليه‌السلام على هذه الخطّة التي سنّها قانون الإسلام في أيامه الثلاثة، بعد الهتاف بأصحابه ألا يتعدوا مقررات الشريعة، ومنها: عدم الأستعجال في القتال حتّى تكون الفرقة المقابلة لهم هي العادية بقتال المؤمنين؛ لتثبت الحُجّة على البادي بالظلم(١) .

وقد أكثر سلام الله عليه وعلى أبنائه المعصومين، من وعظ أهل الجمل وصفين والنهروان؛ كي لا يبقى لأحد عذر يوم نشر الصحف، وتُدحض حجة كلِّ مَن بلغته دعوته وأصر على الخلاف والعناد، فاستضاء بأنوار إرشاداته مَن هداه الله إلى الإيمان، وضلّ مَن ضلّ عن سبيل الحقِّ.

الحسين يوم الطفّ

وعلى هذه السنن مشى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يوم الطفّ، فلم يبدأ القوم بقتال مهما رأى من أعدائه التكاتف على الضلال، والمقابلة له بكلِّ ما لديهم من حول وطول حتّى منعوه وعياله وصحبه من الماء، الذي لم يزل صاحب الشريعةصلى‌الله‌عليه‌وآله يجاهر بأنّ الناس في الماء والكلأ شرع سواء؛ لأنّهعليه‌السلام أراد إقامة الحُجّة عليهم. فوقف في ذلك الملأ المغمور بالأضاليل، ونادى بحيث يعي الجماهير حُجّته، فعرَّفهم أولاً، خسارة هذه الدنيا الفانية لمَن تقلّب فيها، فلا تعود عليهم إلا بالخيبة. ثمّ تراجع ثانية إلى التعريف بمنزلته من نبيّ الإسلام، وشهادته له ولأخيه المجتبىعليهما‌السلام بأنهما سيّدا شباب أهل الجنة. وناهيك بشهادة مَن لا ينطق عن الهوى، وكان محبوّاً بالوحي الإلهي أنْ تؤخذ ميزاناً للتمييز بين الحقِّ والباطل. وفي الثالثة، عرَّفهم أنّه يؤدّي كلَّ ما لهم عنده من مال وحرمات. وفي الرابعة، نشر المصحف

____________________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٣٠٤ في وصاياهعليه‌السلام .

٨٣

الكريم على رأسه، ودعاهم إلى حُكمه. وحتّى إذا لم تجدِ هذه النصائح القيّمة فيهم، ووضح لديه إصرارهم على الغيِّ والعناد لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كشف السّتار عن الإباء العلوي، الذي انحنت عليه أضالعه، ورفع الحجاب عن الأنفة التي كان أبناء عليعليه‌السلام يتدارسونها ليلاً ونهاراً، وتلهج بباب أنديتهم، فقال صلوات الله عليه:«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة. يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر» .

كـيف يـلوي على الدنية جِيدا

لـسوى الله مـا لواه الخضوعُ

ولـديه جـأش أردُّ من الدرعِ

لـظمأى الـقنا وهـنَّ شروعُ

وبـه يـرجع الـحفاظ لصدرٍ

ضاقت الأرض وهي فيه تضيعُ

فـأبى أن يـعيش إلا عـزيزا

أو تجلّى الكفاح وهو صريعُ(١)

هذه وصايا الشريعة المطهّرة، وأحكامها الباتّة في الدعوة إلى الحقِّ، والنّهضة لسدِّ باب الباطل. وكما ألزمت جهاد المضلّين المشركين أباحت ترك الجهاد للصبي، والمقعد، والأعمى، والشيخ الكبير، والمرأة، والبالغ الذي لم يأذن له أبواه. لكن مشهد (الطفِّ) خرق ناموسها الأكبر، وجاز تلك المقررات جرياً على المصالح والأسرار التي قصرت عنها أحلام البشر، وقد تلقّاها أبيّ الضَيمعليه‌السلام من جدّه المنقذ الأكبر، وأبيه الوصي المقدَّم.

فالحسينعليه‌السلام لم يشرِّع سُنّة اُخرى في الجهاد، وإنّما هو درسٌ إلهيّ أثبته اللوح الأقدس في عالم الإبداع، محدد الظرف والمكان، تلقّاه الأمين جبرئيلعليه‌السلام وأفاضه على حبيب الله وصفيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأودعه صاحب الدعوة الإلهية عند ولده سيد الشهداءعليه‌السلام .

فكلُّ ما يُشاهَد في ذلك المشهد الدامي من الغرائب التي تنحسر عن الوصول إلى كنهها عقول الرجال؛ فهو ممّا آثر المولى سبحانه به وليّه وحجّته أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام .

____________________________

(١) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

٨٤

وعلى هذه السُّنن مشى شهيد الكوفة مسلم بن عقيل، المُميّز في العلم والعمل، ووفور العقل، والملكات القدسية، كما يقتضيها تأهّله للولاية والنّيابة عن الإمام الحُجّةعليه‌السلام . وقد كابد من شدّة الظمأ ما يجوِّز له شرب النجس، ولكن ابن عقيل كقمر الهاشميين رضيعا لبن واحد، وخريجا مدرسة الإمامة والعصمة، فحازا أرقى شهادة في الإخلاص بالمفاداة دون الدِّين الحنيف، من أئمّة معصومين جعلتهما القدوة في الأعمال الصالحة. فكما أنّ مسلماً لم يذق الماء حتّى لفظ نفسه الأخير، لم تسمح نفس أبي الفضل في الورود، حين زلزل الصفوف عن مراكزها حتّى ملك الماء وحده، وقد علم بعطش سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وحرائر المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصبية الفاطميّة. فلم تجوّز له الشريعة التي تلقّاها من أبيه الوصي، وأخويه الإمامين«إن قاما وإن قعدا» (١) على حدّ تعبير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الريَّ من ذلك المعين؛ تداركاً لنفس حجّة الوقت ولو في آن يسير. غير أنّ المحتوم عاقه عن بلوغ الاُمنية:

لـم يـذُق الـفرات اُسـوة بـه

مُـيـمماً بـمـائه نـحو الـخِبا

لـم يـرَ فـي الـدين يـبلّ غلّة

وصـنوه فـيه الـظّما قـد ألهبا

لــذاك قــد أسـنـده لـدينه

وعـن يـقينٍ فـيه لن يضطربا

هـذا مـن الـشرع يـرى فعلتَه

ومـن صـراط أحـمدٍ ما ارتكبا

ومـثله الـحسين لـمّا مـلك ال

مــاءَ فـقيل رحـله قـد نُـهبا

أمَّ الـخـيام نـافـضاً لـمـائه

إذ عـظم الأمـر به واعصوصبا

فـكـان لـلعبّاس فـيه اُسـوةٌ

إذ فاض شهماً غير مفلول الشبا(٢)

لقد نهض أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام بذلك الجمع النزر، المؤلّف من شيوخ وصبية ورضّع ونساء، مع العلم بأن مقابليه لا يرقبون فيه إلاً ولا ذمة. قادمين على استئصال شأفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله وذويه، لكن سياسة (شهيد الطفّ) - التي لا يُدرك مداها، وتنحسر العقول عن تفسير مغزاها - عرَّفت الأجيال الواقفين على هذه الملحمة - التي لم يأت الدهر بمثلها - بأعمال هؤلاء الجبابرة، الذين لم يُسلم أسلافهم حين أظهروه إلا فرقاً من سيف الإسلام.

وقد أصاب أبو عبد اللهعليه‌السلام

____________________________

(١) كشف الغمة للأربلي ص ١٥٩ في أحوال الحسينعليه‌السلام .

(٢) للحجة الميرز محمّد علي الغروي الأردوبادي.

٨٥

شاكلة الغرض يوم تقشّعت سحب الأوهام بأنوار نهضته الوضيئة، وهتاف حرمه الذي بلبل الأفكار، وأقلق الأدمغة حتّى راحت الأندية تلهج بما احتقبه هؤلاء الطغاة ومَن قبلهم، من الشنار والعار.

الرخصة في المفارقة

وعلى هذا النّهج القويم تكون مصارحة سيّد الشهداء بكلمته الثمينة، البعيدة المغزى، الحكيمة الأساس، المتضمنة تجويزه لأهل بيته وصحبته بمفارقته.

ونص ما يتحدث به المؤرخون عن ذلك؛ قولهعليه‌السلام لأهل بيته وصحبه عشيّة التاسع من المحرم:«إنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء غداً، وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً. وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإن القوم إنما يطلبوني، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» (١) . ما أجلّ مغزاك يا أبيَّ الضيم! وما أسمى ما ترمي إليه يا سيّد الشهداء! وما أحكم أقوالك وأفعالك يا روح النبوّة! بلى إنّ هذه الجملة الذهبيّة كتبت بأحرف نوريّة على جبهة الدهر: إنّ اُولئك الصفوة الميامين - الذين وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّهم سادة الشهداء، وأنّهم لم يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق(٢) - زبدة العالم، ونخبة الكون. وقد استضأنا من تلك الإشعاعات طوايا نيّاتهم؛ من الحزم والثبات، والإخلاص في المفاداة، والتضحية القدسيّة، وفي كلّ ذلك دروس راقية لمَن يريد اقتصاص أثر اُولئك الاُباة في الترفّع عن الدنايا، والموت تحت راية العزم، وعدم الخضوع للسّلطة الغاشمة، إمّا ظفر بالأمنية، أو فوز بالشهادة والسّعادة.

ولولا تلك الرخصة بالمفارقة الصادرة من أمين الشرع والشريعة، وتلك

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، الكامل في التاريخ ٤ / ٢٤، البداية و النهاية ٨ / ١٧٨ وقد ذكر اذنه بالمفارقة، وإصرار أصحابه وأهل بيته على المفاداة. ورواه الفضل بن شاذان النيسابوري في (اثبات الرجعة) عن أبي جعفرعليه‌السلام ، ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى، والفتّال النيسابوري في روضة الواعظين، وذكره الخوارزمي في المقتل ١ / ٢٤٦.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه / ٩٧٠ - ٩٩٩.

٨٦

الكلمات التي أباحتها نفوسهم الطاهرة، لما أمكن للأجيال معرفة مبلغهم من العلم واليقين، وتفاضلهم في الملكات، وطموحهم إلى أبعد الغايات السامية، والثبات على المبدأ بإخلاص وبصيرة.

فسيّد الشهداء أراد بذلك اختبار نفوسهم - والإختبار من الحكيم العالم بما كان ويكون، لا يحطُّ من علمه ووقوفه على الخفايا بعد أن كانت الغاية الملحوظة له ثمينة، والمقصد سام. وهو الذي أشرنا إليه من التعريف بملكات أصحابه، وأهل بيتهعليهم‌السلام - ولا غرابة في هذا الإختيار بعد أن صدر مثله من (فاطر الأكوان) جلّ شأنه، الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً؛ فيأمر خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وهو لا يريده، مع العلم بطاعة رسوله الخليل، وثبات نبيّه إسماعيل، لولا المصلحة التي يعلمها ربّ العالمين وإن انحسرت عن إدراكها العقول.

وقصّة الأقرع، والأبرص، والأعمى تشهد بأنّ الله تعالى إنّما أراد بالإنعام عليهم؛ التعريف لمن يقف على قصّتهم بلزوم الشكر على الإنعام، وإنّ الكفران عاقبته الخسران(١) .

وأبو عبد اللهعليه‌السلام أراد بهذا الإختبار؛ تعريف الأجيال مبوّأ أهل بيته وصحبه من الشرف، والعزِّ، وطهارة أعراقهم، وخضوعهم لما فيه مرضاة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ العلم بمبلغ أي رجل في العالم من الطهارة، والثبات على المبدأ، والطاعة للأصلح المرضي للمولى تعالى، لا يحصل إلا بأقواله المشفوعة بالعمل الصحيح، أو بشهادة مَن له الوقوف على حركاته وسكناته. ولم يخفَ على كلّ أحد قصور التأريخ الذي بأيدينا، عن كثير من أعمال الرجال الصالحين، الذين بذلوا كلَّ ما لديهم من جاه وحرمات في سبيل تأييد الشريعة الحقّة، ولم يحمل التأريخ شيئاً من أعمال اُولئك الصفوة (شهداء كربلاء)؛ لنتشوَّف منه قداسة ضمائرهم، وخلوص نيّاتهم، وتزكية تفوسهم، غير ذلك المشهد الدامي. ولولا تلك الأقوال التي صارح بها أصحابُ الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، حينما أبدى لهم الرخصة في مفارقته، وأباح لهم تخليهم عنه مع القوم الذين تجمهروا عليه، لما عرفنا تفاضلهم في الملكات، وتفاوتهم في النظرات البعيدة الغور، والفضيلة التي لمْ يستوفها البشر.

____________________________

(١) صحيح البخاري كتاب الأنبياء - باب الأقرع والأبرص ٤ / ١٤٦ و فتح الباري ٦ / ٣٢٣ في هذا الباب.

٨٧

والعلم نور يقذفه الله تعالى في قلب مَن يشاء من عباده، مع التفاوت شدّةً وضعفاً.

فهذا مسلم بن عوسجة الأسدي، لم يكشف التأريخ عن أعماله الخالدة، ومزاياه الصالحة بقليل ولا كثير، غير كلمة شبث بن ربعي: أنّه غزا مع المسلمين (آذربيجان) وقتل ستّة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين. وما عسى أن يعرف منها القارئ إلا مدى ولائه الأكيد لخلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم تغيّره بتطوّر الزمن وملابسات الأحوال، ولكنّ قوله للحسينعليه‌السلام : أنحن نخليِّ عنك ولمّا نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقابلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك. أفادنا بصيرة بثبات الرجل على المبدأ في آخر مرحلة من مراحل الوجود، وأنّه لا يهمه في سبيل مرضاة الله تعالى ورسوله كلّ ما يلاقيه من آلام وجروح دامية. وقد شفّع هذا القول بالجهود في العمل حين استقبل السيوف والرماح بصدره ونحره، كما لم يقتنع بهذا حتّى أوصى حبيب بن مظاهر الأسدي - ذلك الذي استفاد علم المنايا والملاحم من أمير المؤمنينعليه‌السلام - بنصرة الحسينعليه‌السلام ؛ ولأنّه لا يعذر عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتقصير في حقّه وهو في آخر رمق من الحياة، وفاضت نفسه الغالية على هذه العقيدة والطاعة(١) .

وتابعه في إخلاص الولاء والمفاداة سعيد بن عبد الله الحنفي، إذ يقول: والله لا نخلِّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ أُذرَّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!.

فوقف دون أبي عبد اللهعليه‌السلام ، ونصح في الذّب عنه، ولمْ يقنعه ما أصابه من الجروح الدامية، حين استُهدف لأعداء الله تعالى دون الحسينعليه‌السلام وهو

____________________________

(١) يذكرني هذا التفاني دون ابن بنت المصطفى اعتذار سعد بن أبي وقّاص لمّا طلب منه أمير المؤمنينعليه‌السلام نصرته، فقال: إني أكره الخروج في هذه الحرب فاصيب مؤمناً إلا أن تعطيني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر!!. كتاب الجمل للشيخ المفيد / ٥٩ ط ٢.

٨٨

يصلّي الظهر في حومة الميدان حتّى استفهم من أبيِّ الضيم: أنّه أدّى أجر الرسالة، ووفي بما أوجبه الله عليه؛ فيموت جذلاً برضى الربِّ تعالى، أم هو التقصير فالخيبة والخسران؟ فطمأنه أبو عبد اللهعليه‌السلام بنيل السّعادة بالشهادة، ولقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قبله.

وما إن فرغ من خطابه حتّى قام زهير بن القين البجلي، يتلو على مسامع الأجيال تعاليم راقيةً في الدعوة إلى الدين، أعقبت له الخلود إلى الأبد. فيقول للحسينعليه‌السلام : والله لوددت أنّي قُتلت، ثمّ نُشرت، ثمّ قتلت حتّى اُقتل على هذه ألف مرّة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

لا شك قي قبول الطاعة من العبد لو كان ما يأتي به من الأعمال بلحاظ الربح يوم الخلود، ولكن هناك ما هو أبعد غوراً وأسمى قصداً، وهو طاعة أهل اليقين الذين لا يهمهم في أداء ما وجب عليهم؛ إلا كون المولى سبحانه أهلاً للعبادة.

وزهير هذا هو وعاء اليقين والإيمان الخالص، أقرأنا في هذا الموقف نظراته البعيدة، وعقائده الحقّة، وغاياته السّامية من حفظ شخص الإمامة الواجبة من قبل الله تعالى، والنّفوس العزيزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وإنّه لا يريد بعبادته لله تعالى في جهاد أعدائه، ثواب الآخرة، والمجازات على الجهود يوم تقسّم الاُجور على الصالحات، وإنّما أراد بهذه العبادة دفع اليد العادية عمّا يسوء شخص الرسالة الممتزجة بشخصيّة حُجّة الوقت على حدّ تعبير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها:

«حسين منّي، وأنا من حسين» (١) . فإنّ صاحب الشريعة لم يرد بهذا التعبير تعريف الاُمّة بكون شهيد الطفِّ بضعة منه؛ لما فيه من الركاكة التي يأباها كلام سيّد البلغاء، لإنّ كلّ ولد بضعة من أبيه فلا امتياز للحسينعليه‌السلام ، ولكنه أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الجملة الذهبيّة، الإشارة إلى ما ينوء به سيّد الشهداء من توطيد اُسس

____________________________

(١) رواه من الامامية السيد المرتضى في أماليه ١ / ١٥٧ المجلس الخامس عشر، وابن قولويه في كامل الزيارات / ٥٣. ومن أهل السنة الترمذي في جامعه في مناقب الحسينعليه‌السلام ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٧، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٤٩، وابن حجر في مجمع الزوائد ٩ / ١٨١، والهيثمي في الصواعق المحرقة / ١١٥ حديث ٢٣، والبخاري في الأدب المفرد، والمتقي الهندي في كنز العمال ٧ / ١٠٧ وغيرهم الكثير.

٨٩

الإسلام، وكسح أشواك الباطل عن صراط شريعة العدل، وتنبيه الاُمم على جرائم أعمال مَن يعبث بقداسة الدِّين. فكما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أول ناهض لنشر الدعوة الإلهيّة، يكون الحسين آخر ناهض لتثبيت دعامتها:

قـد أصبح الدينُ منه شاكياً سقماً

ومـا إلى أحدٍ غيرِ الحسين شكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا

إلا إذا دمـه فـي كـربلا سُفكا

ومـا سـمعنا عـليلاً لا دواء له

إلا بـنـفس مـداويه إذا هـلكا

بـقتله فـاح للإسلام نشرُ هدىً

فـكلّما ذكـرته المسلمون ذكا(١)

ولولا هذه المصارحة من (ابن القين)، لَما أمكننا استطلاع ما اختبأ بين جوانحه من الولاء الأكيد لِمَن وجبت لهم العصمة من المهيمن سبحانه، وقيّضهم أعلاماً لعباده وحفظة لشرعه، مع أنّ التاريخ لم يسجّل له غير الموالاة (لعثمان بن عفّان)، ومقت ابن الرسول الأطهرعليه‌السلام .

أمّا موقف عابس بن أبي شبيب الشاكري يوم البيعة لمسلم بن عقيل بالكوفة، ويوم الطفِّ، فيفسِّر فضله الكثير، وعقيدته الراسخة بمحبّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإنّه لا يهمّه في سبيل حفظ الإمامعليه‌السلام - ولو في بعض الأناة - إزهاق نفسه، وبذل كلِّ ما لديه من نفيس. فيقول لمسلم بن عقيل حينما شاهد تلك النفوس الخائنة متداكة على البيعة له: إني لا اُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم. ووالله إني اُحدثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه؛ والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا اُريد بذلك إلا ما عند الله(٢) .

ففسّر بهذه الكلمة الموجزة نوايا القوم وخور عزائمهم، وأنّهم مجبولون على الغدر والنّفاق ومتابعة الأهواء، وأنّهم لم يرقهم المكاشفة في الميل عنه؛ لئلا يعود ذلك فتّاً في عضد البيعة الواهية، ومثاراً للإحن. فأجملوا القول وهم ينتظرون نواجم العاقبة، وإلا فلم لم يحصل لمسلم بن عقيل الواحد من هؤلاء الآلاف مَن يدلّه على الطريق يوم اظلمت عليه الآفاق، فلم يدرِ إلى أين يتوجّه؟!.

____________________________

(١) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيد جعفر الحلي طبعت في ديوانه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٩٠

ثمّ يقول ابن أبي شبيب للحسينعليه‌السلام يوم الطفِّ: ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ علي منك، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ عليَّ من نفسي لفعلت(١) .

بلى يابن أبي شبيب، إنّ الرجال المخلصين لله تعالى، المتفانين في خدمته لا يرون الوجود إلا متلاشي الأطراف، والبقاء الأبدي بنصرة الإمام علّة الكائنات ومدار الموجودات.

ثمّ يقوم نافع بن هلال فيقول: والله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، إنّا على نيّاتنا وبصائرنا؛ نوالي من والاك ونعادي من عاداك. ويتكلّم أصحابه بما يشبه ذلك.

ولمّا أذِنعليه‌السلام لأهل بيته بالإنصراف قالوا بأجمعهم بصوت واحد: أنفعل ذلك لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً، ثمّ التفت إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، قد أذِنتُ لكم» . فانطلقت ألسنتهم تعبّر عمّا أضمر في جوانحهم من النصرة للدِّين، والذبِّ عن شخص الإمام الحُجّةعليه‌السلام ، فقالوا: إذَن ما نقول للناس؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولمْ نرمِ معهم بسهم، ولمْ نطعن برمح، ولمْ نضرب بسيف؟ لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا؛ نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

إنّ هذه المفاداة في ذلك المأزق الحرج، الذي تقطّعت فيه خطوط المدد، وسدّ دونهم باب الورود المباح للحيوانات، تكشف عن بلوغهم أسمى صفات الكمال، وتجرّدهم عن عوارض الدنيا الفانية. ولو كانوا يحملون أقلّ شيء من الرغبة في البقاء والتبلغ في هذا الوجود؛ لاتّخذوا الإذن بالمفارقة ذريعة يتذرّعون بها يوم الحساب، ولكنّ هذه النّفوس التي فطرها ربّ العالمين من طينة القداسة، وامتزجت بنور اليقين لا ترغب في البقاء إلا أن تحقّ الحقّ، أو تبطل الباطل. وهل تستمرئ العيش وهي تعلم ما يلاقيه فلذة كبد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومهجة الإسلام من الجروح الدامية، والأوام المبرح؟:

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٤.

٩١

نـفوس أبـتْ إلا ترات أبيهُمُ

فـهم بـين موتور لذاك وواترِ

لقد ألفت أرواحُهمْ حومة الوغى

كما أنِست أقدامهم بالمنابرِ(١)

وفي هذا الحين اُنهيَ إلى محمّد بن بشير الحضرمي خبر أسر ابنه بثغر الرّي، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما اُحبّ أنْ يؤسر وأبقى بعده. فلمّا سمع الحسينعليه‌السلام هذا منه أذِن له بالمفارقة، وحلّ عقد البيعة؛ ليعمل في فكاك ابنه. فلمّا سمع ذلك من سيّد الشهداء ثارت به حمية الدين، وحفّزه الولاء الصادق إلى إظهار عقيدته الراسخة في التفاني دون شخص الإمامعليه‌السلام ، فقال: يا أبا عبد الله، أكلتني السّباع حياً إن فارقتك.

إنّ الإيمان الثابت، والطاعة لله تعالى وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يرفعان مَن تمكّنا فيه إلى أوج العظمة، وفوق مستوى الفضيلة. ولو كان ابن بشير متزلزل العقيدة؛ لاغتنم فرصة الإذْن بالإنصراف عذراً عند المولى سبحانه وعند الناس.

إنّ (الشهامة الحسينيّة) لم تترك لصاحبها منتدحاً دون المجاهرة بالإفراج عن العبد الأسود (جون مولى أبي ذر الغفاري)؛ لئلا يقيّده الحياء عن الفرار. ولكن سيّد الشهداءعليه‌السلام ، بعد أن عرف صبره، وثباته عند الهزاهز أراد بامتحانه؛ تعريف المتجمهرين عليه، ومَن يأتي من الاُمم نفسيّة هذا العبد الأسود، ومبلغ موقفه في الذبِّ عن الشريعة - التي تلاعبت بها أيدي الخائنين - مهما تفاقم الخطب، وتراكمت الأهوال. فأباح له حلَّ العهد والنّجاة بنفسه، فقال له:«يا جون، إنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقتنا» . فعندها تسابقت دموعه؛ خوفاً من عدم التوفيق لنيل السّعادة الخالدة، وقد مزجها بقوله الذي لمْ يزل رجع صداه في مسامع الأجيال، معرفاً بنجاح الصابر عند الهزاهز (وإنّما الراحة بعد العنا). فقال: أنا في الرخاء ألحَس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! إن ريحي لنتن، وحسبي لئيم، ولوني أسود فتنفس عليَّ بالجنة؛ ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ لوني. لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم(٢) .

ولولا هذه المصارحة من الحسينعليه‌السلام ، لما تسنّى لكلّ أحد الوقوف على

____________________________

(١) مثير الأحزان لابن نما / ٣٨.

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف / ٦١ ط صيدا.

٩٢

طهارة ضمير هذا العبد ونواياه الحسنة. وإنَّ ثباته على القتل، بعد الإفراج والإذن بالمفارقة يخبر عن عقيدة راسخة.

الخلاصة

إنّ حفظ شخص الإمامعليه‌السلام كحفظ شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مما يلزم به العقل والشرع، ولا يسع كلّ أحد التخلّف عنه وتركه ومَن يريد استئصاله، بل الواجب بذل النّفس والنّفيس دونه؛ ليدرأ بذلك العدوان عن نفس الإمام الذي هو حياة الوجود وبقاء الكون. كما يجب على الإمامعليه‌السلام الدعوة إلى نصرته والدفاع عنه، مع العلم بأنّ الموافق له قادم على إزهاق نفسه القدسيّة، وأنّه لا ندحة له عن دفع الموت، فيجوز له عدم إلزام أي أحد بالدفاع عنه؛ لخلوّه عن الفائدة.

والحسينعليه‌السلام كان عالماً بما يجري عليه من أعدائه، وعدٌ لا خلف فيه، وقضاء غير مردود، كما أنبأ اُمّ سلمة بقوله:«إنْ لمْ أخرج اليوم خرجتُ في غد، وإنْ لمْ أخرج في غد فبعد غد. وهل من الموت بُدّ! أتظنين أنّك تعلمين ما لمْ أعلمه؟» .

إذاً فلا يجب عليه إلزام الغير بالدفاع عنه. نعم، لا يسقط التكليف عمّن فقد العلم بالمقدّرات الإلهيّة من البشر في القيام بالدفاع عن شخص الإمام الحُجّة، ولا يُعذر مَن يبصر حصار القوم لمَن أهَّله الله تعالى خليفة على العباد، وقطعهم خطوط المدد عنه، وسدّ باب الورود عليه، فلم ينهض لردِّ العادية عنه؛ كي لا يخلص إليه ما يزهق نفسه القدسيّة. ولا يقبل الله تعالى حجّة مَن ينظر هذا الحال، ثمّ يتقاعس عن النّصرة وإنْ اعصوصب الأمر وتفاقم الخطب، أللهم إلا أنْ يأذن حُجّة الزمن بمفارقته، وتخليته مع أعدائه؛ لكونه العالم بالمصالح تعليماً من لدن حكيم عليم، تعالى شأنه. وحينئذ لا يلزم العقل، ولا الشرع بالبقاء معه والدفاع عنه، ولا يكون مَن يفارقه متعدياً على مقررات الشريعة، ويصحّ له العذر - يوم نشر الصحف - بترخيص الإمامعليه‌السلام في ترك نصرته. ولا يكون الإمام مجازفاً لو أباح للغير إفراده وأعداءه، وحلّ عقدة العهد، بعد التسليم بأنّه لا يتخطّى المصالح الواقعيّة قيد شعرة. هذا ما يقتضيه تكليف الإمام وأمّا تكليف المأذون بالإنصراف، فإنّه إذا لم يشاهد استغاثة الإمام واستنصاره، فلا تبعة عليه ولا مسؤوليّة. وأمّا مع مشاهدته حيرة الإمام، وتتابع استغاثته، فلا يسوغ له ترك النّصرة؛ للقطع بأنّه في هذا الحال

٩٣

بحاجة ماسّة إلى الذبّ عنه، فلا يُقبل منه العذر يوم الحساب.

وإن كلمة أبي عبد اللهعليه‌السلام لعبيد الله بن الحرّ الجعفي، يوم اجتمع معه في قصر بني مقاتل لمّا استنصره فأبى عليه، قال له الحسينعليه‌السلام :«إنّي أنصحك إنْ استطعت أنْ لا تسمع واعيتنا وصراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل؛ فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلا أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم» ، تؤيّد ما سجّلناه من دحض حُجّة مَن يسمع استغاثة الإمام ثمّ لا ينصره. وأمّا مَن لمْ يسمع الواعية، وقد أباح له المفارقة، فهو معذور.

فالضحّاك بن عبد الله المشرقي لا يُعذر يوم الحساب؛ لأنّ استنصار الحسينعليه‌السلام في مسامعه، ويراه مكثوراً، فالواجب عليه الدفاع إلى آخر نفس يلفظه. وهذا الرجل جاء إلى الحسينعليه‌السلام قبل اشتباك الحرب، وقال له: إني اُقاتل معك ما رأيت معك مقاتلاً، فإذا لم أرَ أحداً، فأنا في حلّ؟. فقال له الحسينعليه‌السلام :«نعم» . فخبّأ فرسه في بعض الأبنية لمّا رأى خيل أصحاب الحسينعليه‌السلام تُعقر، وصار يقاتل راجلاً. ولمّا بقي الحسينعليه‌السلام وحده قال له الضحّاك: إني على الشرط؟، قال:«نعم، أنت في حلٍّ إن قدرت على النجاة» . فأخرج فرسه من الفسطاط وركبها وغار على القوم فأفرجوا له، وتبعه خمسة عشر رجلاً، فانتهى إلى (شفية)(١) ، ولحقه القوم وعرفه أيوب بن مشرح الخيواني، وكثيّر بن عبد الله الشعبي، وقيس بن عبد الله الصائدي، وقالوا لإخوانهم: هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه، فنجا منهم(٢) .

وقول الحسينعليه‌السلام :«أنت في حلٍّ» لا يكون عذراً له يوم الحساب؛ لأنّ أبا عبد اللهعليه‌السلام لا يسعه أنْ يقول له: إصبر على القتل، وهو يعرف مقام الإصرار على الذهاب. والمولى سبحانه لا يعذره يوم الحشر؛ لأنّه يسمع استنصار (أبيِّ الضيم)، ومَن يسمع الاستغاثة ولا ينصره، أكبّه الله على وجهه في النّار.

بقاء الشريعة بالحسين

لقد كانت نهضة الحسينعليه‌السلام الجزء الأخير من العلّة التامّة لاستحكام عروش

____________________________

(١) قرية قريبة من شاطئ الفرات.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

٩٤

الدِّين؛ حيث إنّها فرّقت بين دعوة الحقِّ والباطل، وميّزت أحد الفريقين عن الآخر حتّى قيل: إنّ الإسلام بدؤه محمديّ وبقاءه حسينيّ؛ ولذلك لمْ يجد أئمّة الهدى وسيلة لنشر أمرهم في الإصلاح، ونفوذ كلمتهم في إحياء شرع جدّهم الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة، لمّا اشتملت عليه من فجائع تفطر الصخر الأصم، ويشيب لها فود الطفل، ويذوب الفؤاد. فطفقواعليهم‌السلام يحثّون الاُمّة على تأييدها، والقيام بذكر ما لاقاه شهيد الإصلاح من القسوة والإضطهاد، وإعلام الاُمّة بما حدث في تلكم المشاهد الدمويّة من مظلوميّة الحسين وأهله وذويهعليه‌السلام ؛ لأنّهم صلوات الله عليهم علموا أن في إظهار مظلوميّته مجلبة للعواطف، واسترقاقاً للأفئدة. فبطبع الحال، يتحرّى السامع لتلكم الفجائع الوقوف على مكانة هذا المضطهد، وأسباب ما ارتُكب منه من أعمال قاسية.

وطبعاً يعلم أن سبط النبوّة إمام عدل لم يرضخ للدنايا، ولم يصخ إلى دعوة المبطلين، وأن إمامته موروثة له من جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبيه (الوصي)عليه‌السلام ، وأنّ من ناواه لا يملك من منصّة الخلافة موضع قدمه، وكذا كلّ مَن حذا حذوه وذهب على شاكلته.

وإذا عرف السّامع هذا، وعلِم أنّ الحقَّ كلَّه في جانب الحسين ومن خلفه من أئمّة الدِّينعليهم‌السلام ، لمْ تدع له عقليته إلا السّير معهم، واعتناق طريقتهم المثلى؛ وبذلك تتوطد اُسس السّلام والوئام.

لقد أقعدت السّلطة الغاشمة من بني اُميّة وبني العبّاس أهل البيتعليهم‌السلام في دورهم، وأوصدت عليهم أبواب الإجتماع بشيعتهم، فلاقوا منهم ضروب الأذى والتنكيل؛ فآثروا العزلة على الخروج بالسّيف في وجه دعاة الباطل، مع ما يشاهدونه من تمادي اُولئك في الطغيان، وظلم شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأبنائه، وتتبعهم تحت كلّ حجر ومدر، وإبادتهم العلويين من جديد الأرض. وكان بمرأى منهم بناء المنصور والرشيد الإسطوانات على ذريّة فاطمةعليها‌السلام ، ظلماً وعدوانا(١) .

ولكن لم يفُتْهم الجهاد الأكبر بتحريض شيعتهم على عقد المحافل(٢) لذكر

____________________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ / ١٠٢.

(٢) عقد المحافل للتذكير بتلك الفاجعة المؤلمة لا يقتصر فيه على ذكرها في البيوت فقط، فإنه خلاف إطلاق الأخبار. ففي أمالي الصدوق ص ١٣١ عن الرضاعليه‌السلام : «مَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى، لم تبك عينه يوم تعمي العيون». وفي قرب الإسناد ص ٢٦ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه». وفي كامل الزيارات ص ١٠٠ عن أبي هارون المكفوف عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وفيه:

٩٥

حادثة الطفِّ الخالدة وتواصل الإستياء؛ لِما هنالك من فجائع ومصائب، وإسبال الدموع لكارثتها المؤلمة. وأكثروا من بيان فضل ذلك إلى حدٍّ بعيد؛ لأنّهم علموا أنّ هذا هو العامل القوي في إبقاء الرابطة الدينيّة، التي لأجلها لاقى أمير المؤمنينعليه‌السلام ما لاقاه، وأصاب ولده الحسنعليه‌السلام ما أصابه. ومصاب الحسينعليه‌السلام يدكدك الجبال الرواسي.

فكان أهل البيتعليهم‌السلام يتحرون أساليب مختلفة من البيان، توجب توجيه النّفوس نحو التذكارات الحسينيّة؛ لِما لها من العلاقة التامّة لحفظ المذهب عن الإندراس، فعبّروا عنها بالعموم تارة، وبالخصوص اُخرى. يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :«رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكرا في أمرنا، فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما. وما اجتمع إثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم احياءنا، وخير النّاس من بعدنا مَن ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا» (١) .

ويقولعليه‌السلام للفضيل بن يسار:«تجلسون وتحدثون؟» قال: نعم، جعلت فداك. قالعليه‌السلام :«إنّ تلك المجالس اُحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا» (٢) . ويقولعليه‌السلام أيضاً«مَن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (٣) .

فالأئمّةعليهم‌السلام أرادوا بهذا النّحو من البيان حمل الاُمّة على الإعتقاد بإمامتهم، وما أوجبه المولى سبحانه من عصمتهم، وما أهّلهم له من الفضائل والفواضل، وأنّ الدعوة إليهم ملازمة لاعتقاد خلافتهم دون من اغتصب ذلك المنصب الإلهي.

إنّ التذكارات الحسينيّة على اختلاف صورها؛ من عقد العزاء والمآتم(٤)

____________________________

= «مَن ذُكر الحسينعليه‌السلام عنده، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناج الذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنة». وهذه الأخبار ونظائرها الكثير تحث بعمومها على كل وسيلة يتذكر بها مصاب الحسين، أو مصاب أهل البيتعليهم‌السلام ، سواء في ذلك عقد المأتم، أو بذل المال لأجله، أو نظم الشعر، أو كتابة تلك الفوادح أو تدوينها أو إنشاد ما جرى عليهم، أو تصوير تلك الفاجعة أمام الناس بكل مظهر من مظاهره، فإن الجامع لهذه الانحاء قولهعليه‌السلام «مَن ذكّر بمصابنا».

(١) أمالي الشيخ الطوسي / ٢٢٤.

(٢) قرب الإسناد / ٣٦.

(٣) أمالي الشيخ الصدوق / ١٣١.

(٤) في مصباح المجتهد ص ٧٧٢، وكامل الزيارات ص ١٧٤ عن مالك الجهني: إن الامام الباقرعليه‌السلام كان يقول في يوم عاشوراء «... ثمّ ليندب الحسين عليه‌السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره - ممّن لا يتّقيه - بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة باظهار الجزع عليه، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسينعليه‌السلام ، وأنا الضامن على الله لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفي ألف حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله والأئمة الراشدينعليهم‌السلام ».بتصرّف .

٩٦

واللطم(١) في الدور والشوارع أوجبت تقدّم الطائفة، وكان عمل الشبيه أوضح المصاديق والحجج على القساوة التي جاء بها الاُمويّون ولفيفهم من تلاوة الشعر. وإنّ ذكر المصاب؛ لتسرب ذلك بوضوح إلى أدمغة الأطفال والعامّة، الذين لا يفهمون ما يشتمل عليه القريض والكتب من دقائق الحادثة، هو أحكم وآكد في تأثّر النّفوس، واحتدام القلوب في حفظ الروابط المذهبيّة بين الأئمّةعليهم‌السلام ومواليهم، وله نصيب وافر في رسوخ العقيدة.

ولقد قلّد الشيعة في تمثيل فاجعة الطفِّ غيرهم من الهنود وبعض فرق الإسلام، وهم في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة(٢) .

فكان لفت الأنظار نحو هذه التذكارات، والإعتناق بها أمسّ في إحياء أمر المعصومينعليه‌السلام ، المحبوب لديهم التحدّث والتذاكر فيه. ولعلّ جملة من هذه الفوائد لا تفهم الاُمّة منها النكتة المهمّة، بل غاية ما يتصوّرون من فائدة عملهم، هو الثواب عليه في الآخرة فقط، ولكنّ الواقف على أسرار أهل البيتعليهم‌السلام ، والمستشرف لمغازي أقوالهم وأفعالهم يتجلّى له ما ألمعوا إليه من هذه النّوادي والمجتمعات، وحثّوا شيعتهم عليه بمزيد لطفهم وواسع علمهم.

البكاء على الحسين

من تلك الفوائد، ما ورد من الحثِّ الكثير البالغ حدِّ التواتر على البكاء لما أصاب سيّد الشهداءعليه‌السلام حتّى جاء في ثواب مَن خرج من عينه كجناح ذبابة، أنّه يطفئ حَرّ جهنّم. فإنّ الغرض ليس إلا أنّ الدمعة لا تفاض إلا عند انفعال النّفس، وتأثّرها ممّا يصيبها، أو يصيب مَن تمتُّ به بنحو من أسباب الصلة. ولا

____________________________

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ / ٢٨٣ عن الصادقعليه‌السلام أنه قال: «ولقد شققن الفاطميات الجيوب، ولطمن الخدود على الحسين بن علي، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب». وذكره الشهيد في كتابه (الذكرى)، في البحث الرابع من المطلب الثالث من أحكام الأموات.

(٢) ذكر الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه (الإسلام والمسلمون)، الذي نشرت جريدة (الحبل المتين) منه فصلاً بالفارسية في العدد ٢٨ من سنتها ١٧: إن التمثيل والشبيه تداولا بين الشيعة من زمن الصفوية، الذين نالوا السلطة بقوّة المذهب؛ بفضل مساعدة علمائهم الروحانيين.

٩٧

شكّ إنّا نرى النّفس عند تأثّرها بذلك تكون متأثّرة بشيء آخر، وهو العداء والبغض لكلّ مَن أوقع الفوادح والآلام. فالأئمّة، حيث إنّهم أعرف النّاس بمقتضيات الأحوال والملابسات التي تؤكّد دعوتهم، كانوا يتحرّون التوصّل إلى أغراضهم بكلّ صورة، وكان من الوسائل التي توجب انحراف الاُمّة عن أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم بالبكاء على مصاب الحسينعليه‌السلام ؛ لِما فيه من استلزام تذكّر تلك القساوة انفعال النفس وانقباضها عمّا لا يلائم خطّتهم، وهذا هو المغزى لقول الحسينعليه‌السلام :«أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر» (١) . فالمؤمن حيث يمتُّ إلى الحسينعليه‌السلام بالولاء والمشايعة، كان ذلك موجباً لتأثّر نفسه، واحتدام قلبه على كلّ مَن يوجّه إليه الأضرار والأخطار، ويشتدّ هذا التأثّر عند تناهي تلك الفوادح.

وكيف كان، فإنّ سيّد الشهداءعليه‌السلام لمْ يقصد بـ«أنا قتيل العبرة» خصوص التعريف بأنّ قتله كان لأجل أنْ يُبكى عليه؛ فيستحقّ به الأجر في الآخرة، بحيث لا يكون هناك أثر آخر يترتّب عليه قتله سوى البكاء عليه. كيف؟ وهنالك آثار اُخرى، أهمّها: إحياء شريعة الحقِّ، وتقويم ما اعوجّ من علم الهداية، ونشر الإصلاح بين الاُمّة، وتعريف الملأ ما عليه اُمراء الجَور من السّير وراء المطامع.

ولكنّ الوجه في هذه الإضافة هو تأكّد الصلة بين ذكر مقتله، وبين البكاء عليه، فإنّ لوعة المصاب به لا تطفأ، ومضض الإستياء له لا تنفد؛ لاجتماع الكوارث عليه، وملاقاته لها بصدر رحيب، وصبر تعجبت منه ملائكة السّماء. فأول ما يتأثر به السّامع لها أنْ تستدر دموعه، فلا يذكر الحسينعليه‌السلام إلا والعبرة تسبق الذكر، أضف إلى ذلك المودّة الكامنة له في قلوب أحبّائه؛ بحيث إذا انضمّت إلى تلك، كانت أدعى لتأكّد الصلة بين ذكره، وبين البكاء عليه. فمن هنا استحقّ إضافة القتل إليه، فقال:«أنا قتيل العبرة» .

وعلى هذا سار العرب في كلامهم، فإنّهم إذا رأوا بين الإنسان، وبين بعض حالاته وصفاته صلة أكيدة، أضافوه إلى ذلك الحال، فقالوا: (مضر الحمراء)، و (ربيعة الخيل)، و (زيد النّار)، و (صبية النّار)، و (مُسمّة الأزواج)؛ فإنّ ربيعة ومضر لم يتخلّيا عن

____________________________

(١) كامل الزيارات / ١٠٨.

٩٨

كلّ صفة حميدة سوى اللواء والخيل، ولا زيد ابن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام لم يتّصف بشيءٍ حسن، أو قبيح إلا حرقه دور بني العبّاس بالبصرة، ولا أنّ أولاد ابن أبي معيط لم يحصلوا على نعت من نعوت الإنسانيّة إلا النّار، التي أضافها لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وكان كافراً، فقال: ي محمّد، مَن للصبية؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«لهم النّار» . ولا أنّ جعدة بنت الأشعث لم تتصف بالرذائل إلا السمّ، الذي ناولته أب محمّد الحسن السّبطعليه‌السلام ، ولكن لمّا كانت هذه الآثار هي الظاهرة بين النّاس؛ قيل لمضر: (الحمراء)، ولربيعة (الخيل)، ولزيد (النّار)، ولجعدة (مُسمّة الأزواج).

فقول الحسينعليه‌السلام :«أنا قتيل العبرة» ، وقول الصادقعليه‌السلام :«بأبي قتيل العبرة» من هذا القبيل، وهو ما ذكرناه من تأكّد الصلة بين ذكر مقتله، وبين استدرار الدموع.

التباكي

لقد راق أئمّة الهدىعليهم‌السلام أنْ تبقى تلك الذكريات الخالدة مدى الدهر، تتحدّث بها الأجيال المتعاقبة؛ علماً منهم ببقاء الدِّين غضّاً طرياً، ما دامت الاُمّة تتذاكر تلك الفاجعة العظمى. ولم يقتصروا على لازمها، وهو البكاء حتّى رغّبوا إلى التباكي، وهو: التشبيه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع. فيقول الإمام الصادق:«من تباكى، فله الجنة» (١) .

ومعلوم أنّ التباكي إنّما يتصوّر فيمن تتعسّر عليه الدمعة، لكنّه لم يفقد التأثّر لأجل المصاب، كما يشاهد في كثير من النّاس. فالتأثّر النّفساني بتصوّر ما ورد على المحبوب من آلام وفوادح، يستلزم قهراً النفرة عمّن أورد ذلك العدوان.

وفي الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قرأ آخر الزمر: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) (٢) على جماعة من الأنصار، فبكوا إلا شاباً منهم، قال: لم تقطر من عيني قطرة، وإنّي تباكيت. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَن تباكى، فله الجنة» (٣) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٨٦، المجلس التاسع والعشرون.

(٢) سورة الزمر / ٧١.

(٣) كنز العمال ١ / ١٤٧.

٩٩

وروى جرير عنه، أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«إنّي قارئ علكيم ( ألهاكم التكاثر ) ، مَن بكى فله الجنة، ومَن تباكى فله الجنة» (١) .

وحدّث أبو ذر الغفاري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال:«إذا استطاع أحدكم أن يبكي، فليبكِ، ومَن لم يستطع، فليستشعر قلبه الحزن وليتباكَ، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله» (٢) .

وهذه الأحاديث تدلّنا على أنّ التباكي منبعث عن حزن القلب، وتأثّر النّفس كالبكاء، لكن في باب الرهبة منه سبحانه وتعالى يكون الحزن والتأثّر؛ لأجل تصوّر ما يترتّب على مخالفة المولى من الخزي في الآخرة، فيتباعد عنه، ويعمل ما يقرّبه من المولى زلفة. وفي باب تذكّر مصائب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يستوجب بغض مَن ناوأهم، وأوقع بهم، وأساء إليهم.

ولعلّ ما أشرنا إليه، هو مراد الشيخ محمّد عبده، فإنّه قال: التباكي: تكلّف البكاء لا عن رياء(٣) . ويقول الشريف الجرجاني: باب التفاعل أكثره إظهار صفة غير موجودة، كالتغافل والتجاهل والتواجد. وقد أنكره قوم؛ لِما فيه من التكلّف والتصنّع، وأجازه قوم لِمن يقصد به تحصيل الصفة. والأصل فيه، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إن لمْ تبكوا فتباكَوا» ، أراد به: التباكي ممّن هو مستعدّ للبكاء، لا تباكي الغافل اللاهي(٤) .

فالباكي والمتباكي مشتركان في احتراق القلب، وتأثّر النّفس؛ لأجل تصوّر ما ورد من الظلم على أهل البيتعليه‌السلام ، ومشتركان في لازمه، وهو النفرة والتباعد عن كلّ مَن دفعهم عن مقامهم. ومَن لا يفقه مغازي كلام المعصومينعليهم‌السلام ، يحكم بالرياء على المتباكي. وبعدما أوضحنا من السّر تعرف قيمة البلاغة وقدر البلغاء.

وكم لأهل البيتعليهم‌السلام من أسرار غامضة، لا يقف عليها إلا من

____________________________

(١) كنز العمال ١ / ١٤٨.

(٢) اللؤلؤ والمرجان للنوري ص ٤٧، ومجموعة شيخ ورام ص ٢٧٢.

(٣) تفسير المنار ٨ / ٣٠١.

(٤) التعريفات ص ٤٨.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218