تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى36%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79273 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المِسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرْخ المبارك، وزَعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعْر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها، اللّهمّ فأبقِها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة...) (١) .

مصاب الحسينعليه‌السلام في حياة أنبياء اللهعليهم‌السلام وأُممهم

١) - ونقل العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ... ) ، أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمةعليهم‌السلام ، فلقّنه جبرئيل:(قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلمّا ذُكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال:يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عَبرتي؟

قال جبرئيل:ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال:يا أخي، وما هي؟

قال:يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه! واقلّة ناصراه! حتى يحُول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يُجِبه أحدٌ إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف! فيُذبح ذبح الشاة من قَفاه! ويَنهب رَحلَه أعداؤه! وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٤٧٨ - ٤٨٠ المجلس ٨٧ رقم ٥، وكمال الدين: ٢: ٥٣٢ - ٥٣٥، باب ٤٨، رقم١.

(٢) البقرة: ٣٧.

٤١

المنّان)، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى)(١) .

٢) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول:(لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه‌السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبْش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل عليه‌السلام بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ وِلده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، مَن أحبّ خلقي إليك؟

فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي.

قال: فولدهُ أحبّ إليك أو ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فَذبحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح وَلدكَ بيدك في طاعتي؟

قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستقتل الحسينعليه‌السلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيمعليه‌السلام لذلك وتوجّع قلبه، وأقبلَ يبكي!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد فديتُ جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسينعليه‌السلام وقتله، وأوجبتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

____________________

(١) البحار: ٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤٤.

٤٢

فذلك قول الله عزّ وجلّ: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، ولا حول ولا قوّة لاّ بالله العليّ العظيم) (١) .

٣) - ونقل الشيخ قطب الدين الراوندي عن تاريخ محمّد النجّار، شيخ المحدّثين بالمدرسة المستنصرية بإسناد مرفوع إلى أنس بن مالك، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(لمّا أراد الله أن يهلك قوم نوح أوحى إليه أن شُقَّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدرِ ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت بها مئة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يُضيء الكوكب في أُفق السماء فتحيّر نوح، فأنطقَ الله المسمار بلسان طلِق ذلِق: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهبط جبرئيل، فقال له: يا جبرئيل، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟

فقال: هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبد الله، أَسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيمن.

ثمّ ضرب بيده على مسمار ثانٍ فأشرقَ وأنار!

فقال نوح: وما هذا المسمار؟

فقال: هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب، فأسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيسر في أوّلها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرقَ وأنار!

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١: ٢٠٩، باب ١٧ حديث رقم ١ / وعنه البحار: ٤٤: ٢٢٥، باب ٣٠، حديث رقم ٦ (وعن أمالي الصدوق أيضاً)، وقال العلاّمة المجلسي (ره) في ذيل هذا الخبر: (وأقول: ليس في الخبر أنّه فدى إسماعيل بالحسين، بل فيه أنّه فدى جزع إبراهيم على إسماعيل بجزعه على الحسينعليه‌السلام ، وظاهرٌ أنّ الفداء على هذا ليس على معناه، بل المراد التعويض، ولما كان أسفهُ على ما فات منه من ثواب الجزع على ابنه، عوّضه الله بما هو أجلّ وأشرف وأكثر ثواباً، وهو الجزع على الحسينعليه‌السلام ).

٤٣

فقال جبرئيل: هذا مسمار فاطمة فأسمِره إلى جانب مسمار أبيها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسن فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه، ثمّ ضرب إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه.

فقال نوح: يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟

فقال: هذا الدم.

فذكر قصّة الحسين عليه‌السلام وما تعمل الأمّة به، فلعن الله قاتله وظالمه وخاذله) (١) .

٤) - وروى الشيخ الصدوق (ره) بإسنادٍ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام قال:(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ موسى بن عمران سأل ربّه عزّ وجلّ فقال: يا ربّ، إنّ أخي هارون مات فاغفر له، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، لو سألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإنّي أنتقم له من قاتله) (٢) .

٥) - وروى الشيخ الصدوق (ره) في علل الشرائع بسندٍ إلى الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(إنّ إسماعيل الذي قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ،لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه مَلَك فقال:

____________________

(١) البحار: ٤٤: ٢٣٠، باب ٣٠، حديث رقم ١٢ عن الخرايج والجرايح، ولم نجده في الخرايج والجرايح المطبوع.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢: ٤٧، باب ٣١، حديث رقم ١٧٩ / والظاهر أنّ المراد بقاتل الحسينعليه‌السلام أعمّ وأوسع ممّن باشر قتله بذبحه، إذ يدخل في هذا العنوان الممهدِّون لقتله والآمرون بذلك، والذين اشتركوا في مواجهته وحصره وقتاله، ومَن أعان على ذلك، الراضون بذلك إلى قيام يوم الدين، هذا ما تؤكّده نصوص كثيرة متضافرة مأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام .

٤٤

إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمُري بما شئت، فقال: لي أُسوة بما يُصنع بالحسين عليه‌السلام ) (١) .

ورواه الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بتفاوت وبسند آخر إلى الإمام الصادقعليه‌السلام (٢) .

وروى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن بُرير بن معاوية العجليِّ قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يا بن رسول الله، أخبِرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ، أكان إسماعيل بن إبراهيمعليهما‌السلام ؟ فإنَّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم!

فقالعليه‌السلام :إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنَّ إبراهيم كان حجّة لله قائماً، صاحب شريعة، فإلى مَن أُرسل إسماعيل إذاً؟

قلت: فمَن كان جُعلتُ فداك؟

قالعليه‌السلام :ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ، بعثه الله إلى قومه فكذّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له عليهم، فوجّه إليه سطاطائيل مَلك العذاب، فقال له: يا إسماعيل، أنا سطاطائيل مَلَك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّ؛ لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئتَ، فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك، فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّد بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أمّته بالحسين بن علي عليهما‌السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين عليه‌السلام أنْ تُكِرَّهُ إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكِرَّني إلى الدنيا

____________________

(١) علل الشرائع: ٧٧، باب ٦٧، حديث رقم ٢، ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٢ - ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ١.

(٢) علل الشرائع: ٧٨، باب ٦٧، حديث رقم ٣. ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ٢.

٤٥

حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي، كما تُكِرُّ الحسين عليه‌السلام ، فوعدَ الله إسماعيل بن حزقيل ذلك فهو يُكَرّ مع الحسين عليه‌السلام ) (١) .

٦) - وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسندّ إلى سالم بن أبي جعدة قال: سمعت كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلاً من وِلْد محمّد رسول الله يُقتل، ولا يجفّ عرَق دوابّ أصحابه، حتّى يدخلوا الجنّة فيعانقوا الحور العِين.

فمرَّ بنا الحسنعليه‌السلام ، فقلنا: هو هذا؟

قال:(لا.

فمرَّ بنا الحسينعليه‌السلام فقلنا: هو هذا؟

قال:نعم) (٢) .

٧) - وروى الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بسندٍ إلى يحيى بن يمان، عن إمامٍ لبني سليم، عن أشياخ لهم قالوا: غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوباً:

أيرجو معشرٌ قتلوا حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

قالوا: فسألنا: منذ كم هذا في كنيستكم؟

فقالوا: قبل أن يُبعث نبيّكم بثلاثمئة عام)(٣) .

وقال الشيخ ابن نما (ره): (وحدّث عبد الرحمان بن مسلم، عن أبيه أنّه قال: غزونا بلاد الروم فأتينا كنيسة من كنائسهم قريبة من قسطنطينية وعليها شيء

____________________

(١) كامل الزيارات: ٦٣ - ٦٤، باب ١٩، حديث رقم ٣.

(٢) أمالي الصدوق: ١٢١ المجلس ٢٩، حديث رقم ٤.

(٣) أمالي الصدوق: ١١٣، المجلس ٢٧، حديث رقم ٦.

٤٦

مكتوب، فسألنا أُناساً من أهل الشام يقرأون بالرومية، فإذا هو مكتوب هذا البيت [ الشعر ].

وذكر أبو عمرو الزاهد في كتاب الياقوت قال: قال عبد الله بن الصفّار صاحب أبي حمزة الصوفي: غزونا غزاة وسبَينا سبياً، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى، فأكرمناه وأحسنّا إليه، فقال لنا: أخبَرَني أبي عن آبائه، أنّهم حضروا في بلاد الروم حضراً قبل أن يُبعث النبيّ العربي بثلاثمئة سنة، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند هذا البيت من الشعر:

أترجو عُصبة قَتَلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

والمسند كلام أولاد شيث)(١) .

الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ومصاب الحسينعليه‌السلام

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذكر ما يجري على الإمام الحسينعليه‌السلام من المصائب الفادحة، حزن واغتمّ وبكى وأبكى مَن حوله، منذ أن بشّرته الملائكة

____________________

(١) مثير الأحزان: ٩٦ - ٩٧ / وقال الشيخ ابن نما (ره) أيضاً: فروى النطنزي، عن جماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيّام الموسم إذا رجل يقول: اللّهم اغفر لي وأنا أعلم أنّك لا تغفر، فسألته عن السبب فقال: كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام، فنزلنا أوّل مرحلة رَحَلنا من كربلا على دير للنصارى، والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن نأكل إذا بكفّ على حائط الدير يكتب عليه بقلم حديد سطراً بدم:

أترجو أمّة قَتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فجزعنا جزعاً شديداً وأهوى بعضنا إلى الكفّ فغاب، فعاد أصحابي.

٤٧

بالحسينعليه‌السلام ، ثمّ منذ اليوم الأوّل من حياة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى آخر أيّامهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمأثور المرويّ في هذا الصدد كثير متنوّع، انتقينا منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً، هي:

١) - روى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(أتى جبرئيل رسول الله فقال له: السلام عليك يا محمّد، ألا أُبشرّك بغلام تقتله أمّتك من بعدك؟

فقال: لا حاجة لي فيه.

قال: فانتهض إلى السماء، ثمّ عاد إليه الثانية فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فانعرج إلى السماء، ثمّ انقضّ إليه الثالثة فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فقال: إنّ ربّك جاعل الوصيّة في عَقِبه.

فقال: نعم.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل على فاطمة، فقال لها: إنّ جبرئيل أتاني فبشّرني بغلام تقتله أمّتي من بعدي!

فقالت: لا حاجة لي فيه.

فقال لها: إنّ ربّي جاعل الوصيّة في عقِبه.

فقالت: نعم، إذاً.

قال:فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) لموضع إعلام جبرئيل إيّاها بقتله ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ) بأنّه مقتول، و ( وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) ؛ لأنّه مقتول) (١) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٣ / وانظر: حديث رقم ٤.

٤٨

٢) - وروى ابن قولويه (ره) أيضاً بسندٍ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(لمّا حَملت فاطمة بالحسين عليه‌السلام جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أمّتك من بعدك، فلمّا حملت فاطمة الحسين كرهت حمْله، وحين وضعتهُ كرهَت وضْعه).

ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غُلاماً فتكرهه؟! ولكنّها كرهته؛ لأنّها عَلمت أنّه سيُقتل).

قال:وفيه نزلت هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (١) )(٢) .

٣) - قال الشيخ ابن نما (ره): (وقد روي عن زوجة العبّاس بن عبد المطّلب وهي أمُّ الفضل (لبابة بنت الحارث)، قالت: رأيت في النوم قبل مولده كأنّ قطعة من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت ووضعت في حِجري، فقصصت الرؤيا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:(إن صَدَقت رؤياكِ فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليك لترضعيه (٣) .

فجرى الأمر على ذلك، فجئت به يوماً فوضعته في حِجره فبال، فقطرت منه قطرة على ثوبهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصتهُ فبكى.

فقال كالمغضَب:مهلاً يا أمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسل، وقد أوجعتِ ابني! قالت: فتركتهُ ومضيت لآتيه بماء، فجئت فوجدتهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي، فقلت: ممّن بكاؤك يا رسول الله؟ فقال:إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أمّتي تقتل ولدي هذا!) (٤) .

____________________

(١) سورة الأحقاف: ١٥.

(٢) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٢.

(٣) روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله:(ولم يرضع الحسين من فاطمة ولا من أُنثى، لكنّه كان يؤتى به النبيّ فيضع إبهامه في فيه فيمصُّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، فنبتَ لحم الحسين عليه‌السلام من لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودمه من دمه..) (راجع: كامل الزيارات: ٥٥، باب ١٦، حديث رقم ٤).

(٤) مثير الأحزان: ١٦ - ١٧.

٤٩

٤) - وأخرج الشيخ الطوسي (ره) بسند عن الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام قال:(حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعمية قالت: قبّلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، قالت: فلمّا ولدت الحسن عليه‌السلام جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا أسماء، هاتي ابني، قالت: فدَفعته إليه في خِرقة صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ ألاّ تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟!

ودعا بخرقة بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعليّعليه‌السلام : بمَ سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله، قال: وأنا ما كنت لأسبق ربّي عزّ وجلّ.

قال:فهبط جبرئيل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك، فسمِّ ابنك باسم ابن هارون، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل، وما اسم ابن هارون؟ قال جبرئيل: شُبّر، قال: وما شُبّر؟ قال: الحسن، قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام نفّستُها به، فجاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هلمّي ابني يا أسماء، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسنعليه‌السلام ، قالت: وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث! اللّهمّ العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك.

قالت: فلمّا كان يوم سابعه جاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمّي ابني.

فأتيتهُ به، ففعل به كما فعل بالحسن عليه‌السلام ، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رِجلاً، وحلقَ رأسه، وتصدّق بوزن الشَعر وَرِقاً (١) ،وخلّق رأسه بالخَلُوق (٢) ،

____________________

(١) الوَرِق: الفضّة.

(٢) الخَلُوق: ضرب من الطيّب، أعظم أجزائه الزعفران.

٥٠

وقال: إنّ الدّم من فعل الجاهليّة، قالت: ثمّ وضعه في حِجره، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيزٌ عليَّ، ثمّ بكى، فقلت: بأبي أنت وأمّي، فعلتَ في هذا اليوم وفي اليوم الأوّل، فما هو؟ فقال: أبكي على ابني هذا، تقتله فئة باغية كافرة من بني أميّة، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، اللّهمّ أَحبّهما، وأحبَّ مَن يُحبّهما، والعن مَن يبغضهما مِلء السماء والأرض) (١) .

٥) - وروى فرات الكوفي (ره) عن جعفر بن محمّد الفزاري معنعناً، عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال:(كان الحسين مع أُمّه تحمله، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء: يا أبتِ، أيّ شيء تقول؟

قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رِحالهم وتُربتهم.

قالت: يا أبه، وأين هذا الموضع الذي تصف؟

قال: موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمّة (الأئمة) يخرج عليهم شرار أمّتي، لو أنّ أحدهم شفع له مَن في السماوات والأرضين ما شفّعوا فيه، وهم المخلّدون في النار.

قالت: يا أبه، فيُقتلُ؟!

قال: نعم يا بنتاه، وما قُتل قتْلته أحدّ كان قبله، ويبكيه السماوات والأرضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٣٦٧ - ٣٦٨، المجلس ١٣، حديث ٧٨١ / ٣٢.

٥١

متنفّس، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوَم بحقّنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجَور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم، وكلُّ أهل دين يطلبون أئمّتهم، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا، وهم قوّام الأرض، وبهم ينزل الغيث.

فقالت فاطمة الزهراءعليها‌السلام : يا أبة، إنّا لله، وبكت.

فقال لها: يا بنتاه، إنّ أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا؛ بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قَتلة أهون من مِيتة، ومَن كُتب عليه القتل خرج إلى مضجعه، ومَن لم يُقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد، أمَا تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حَمَلة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟

أمَا ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيم النار، يأمر النار فتطيعه، يُخرج منها مَن يشاء ويترك مَن يشاء.

أمَا ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليكِ وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعْلُكِ قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله، فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعْلُك إذا أفلجت حجّته على الخلائق وأُمرت النار أن تطيعه؟

أمَا ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، ويأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكون مَن أتاه زائراً في ضمان الله، ويكون مَن أتاه: بمنزلة مَن حجّ إلى بيت الله واعتمر، ولم يخلُ من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإنْ بقي لم تزَل الحَفَظة تدعوا له ما بقي،

٥٢

ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا ؟

قالت: يا أبه، سلّمتُ، ورضيتُ، وتوكّلت على الله.

فمسحَ على قلبها ومسح عينيها، وقال: إنّي وبعلُكِ وأنتِ وابنَيك في مكان تقرّ عيناك ويفرح قلبك) (١) .

٦) - وروى الشيخ ابن نما (ره) قائلاً: (وعن عبد الله بن يحيى قال: دخلنا مع عليّعليه‌السلام إلى صِفّين، فلمّا حاذى نينوى نادى:(صبراً أبا عبد الله ، فقال:دخلتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تفيضان!

فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما لعينيك تفيضان؟ أغضَبكَ أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، فقال: هل لك أن أُشمّك من تُرتبه؟ قلت: نعم، فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب وأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا، واسم الأرض كربلاء.

فلمّا أتت عليه سنتان خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سفر، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه، فسُئل عن ذلك.

فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يُقال لها كربلاء يُقتل فيها وَلدي الحسين.

فقيل: ومَن يقتله؟

قال:رجل يقال له يزيد، كأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنّي أنظر على أقتاب المطايا وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه الله، فو الله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاّ خالف الله بين قلبه ولسانه، وعذّبه الله عذاباً أليماً) .

____________________

(١) تفسير فرات الكوفي: ٥٥ - ٥٦، وعنه البحار: ٤٤: ٢٦٤ - ٢٦٥، رقم ٢٢ / وانظر: كامل الزيارات: ٦٧ - ٦٨، باب ٢٢، رقم ٢.

٥٣

ثمّ رجع النبيّ من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين، وخطبَ ووعظ الناس، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ورسولك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيتي وأُرومتي، ومَن أُخلِّفهما في أمّتي، وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولَدي هذا مقتول بالسمّ، والآخر شهيد مضرّج بالدم، اللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله، واصلِهِ حرَّ نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال: فضجّ الناس بالبكاء والعويل.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أتبكون ولا تنصرونه؟! اللّهمّ فكن أنت له وليّاً وناصراً.

ثمّ قال: يا قوم، إنّي مخلّف فيكم الثِقلَين: كتاب الله، وعترتي وأُرومتي ومزاج مائي، وثمرة فؤادي، ومهجتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عليَّ الحوض، ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم عنه، أسألكم عن المودّة في القُربى، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتُم أهل بيتي وظلمتموهم.

ألا إنّه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمّة:

الأولى: راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة، فتقف عليَّ فأقول لهم: مَن أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمّتك، فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض، فلمّا أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية أخرى أشدّ سواداً من الأولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في الثقلين: كتاب الله، وعترتي؟

٥٤

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه، وأمّا الأصغر فمزّقناهم كل ممزّق! فأقول: إليكم عنّي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية تلمع وجوههم نوراً فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمّة محمّد المصطفى، ونحن بقيّة أهل الحق، حملنا كتاب ربّنا، وحلّلنا حلاله، وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد، ونصرناهم من كلّ ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم، فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين) (١) .

٧) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ابن عباس قال: (إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسنعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:(إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليمنى.

ثمّ أقبل الحسينعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.

ثمَّ أقبلت فاطمةعليها‌السلام ، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّة، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إليَّ يا أخي، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت! أَوَ ما فيهم مَن تُسَرُّ برؤيته؟!

____________________

(١) راجع: مثير الأحزان: ١٨ - ٢٠، وبحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٧ - ٢٤٩، وروى بعضه ابن أبي شيبة في مصنّفه: ١٥: ٩٨ رقم ١٩٢١٤، وأحمد في مسنده: ١: ٨٥.

٥٥

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليَّ منهم، وأمّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ... وأمّا الحسين فإنّه منّي، وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين، وحجّة الله على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأمّة، أمْرهُ أمري، وطاعته طاعتي، مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحَرَمي وقُربي فلا يُجار! فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمرهُ بالرحلة عن دار هجرتي، وأبشّره بالشهادة فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه أرض كرب وبلاء، وقتْلٍ وفَناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُمي بسهمٍ فخرّ عن فرَسه صريعاً، ثمّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً.

ثمّ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكى مَن حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول:اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي)، ثمّ دخل منزله) (١) .

٨) - (وروي عن عبد الله بن عبّاس (رض) أنّه قال: لما اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه، وقد ضمَّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، يسيل من عرَقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول:(ما لي وليزيد؟! لا بارك الله فيه، اللّهمَّ العن يزيد) .

ثمّ غشي عليه طويلاً، وأفاق وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول:(أمَا إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ) (٢) .

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ٩٩ - ١٠١، المجلس ٢٤، رقم ٢.

(٢) مثير الأحزان: ٢٢.

٥٦

أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام ومصاب الحسينعليه‌السلام

وكما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش مأتماً متواصلاً، ويكابد حزناً شديداً وجزعاً عظيماً ويبكي بكاءً مُرّاً، ويُبكي مَن حوله؛ لمَا سوف يُصيب الإمام الحسينعليه‌السلام من عظيم البلاء، كذلك كان أمير المؤمنينعليه‌السلام . وإنَّ المأثور عنهعليه‌السلام في ذلك لَكثير، لكنّنا لا يسعنا هنا أيضاً إلاّ أن ننتقي منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً:

١) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الأصبغ بن نباتة (ره) قال: (خرج علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ويده في يد ابنه الحسنعليه‌السلام وهو يقول:(خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا، وهو إمام كلّ مسلم، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي.

ألا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي، وسيّدهم ابني هذا، وهو إمام كلّ مؤمن، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنّه سيُظلَم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، أمَا إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة...) (١) .

٢) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسند عن جبلة المكيّة قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: (والله، لتَقتِلنّ هذه الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضَين منه، وليتّخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم ذلك بعهد عَهدهُ إليَّ مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولقد أخبرني أنّه:(يبكي عليه كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، وتبكي عليه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض،

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة: ١: ٢٥٩، باب ٢٤، رقم ٥، وعنه الراوندي في قصص الأنبياء: ٣٦٦ - ٣٦٧، رقم ٤٣٩، والطبرسي في إعلام الورى: ٣٧٧ - ٣٧٨.

٥٧

ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك، وحَملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً، ثمّ قال:وجَبَت لعنة الله على قَتلة الحسين عليه‌السلام كما وجبَت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر، وكما وجبَت على اليهود والنصارى والمجوس) .

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّعليهما‌السلام يوم بركة؟!.

فبكى ميثم، ثمّ قال: سيزعمون بحديث يضعونه أنّه اليوم الذي تاب الله فيه على آدمعليه‌السلام ، وإنّما تاب الله على آدمعليه‌السلام في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي قبِل الله فيه توبة داود، وإنّما قبِل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجوديّ، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل.

ثمّ قال ميثم: يا جبلة، اعلَمي أنّ الحسين بن عليّ سيّد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلة إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنّها دم عبيط فاعلَمي أنّ سيّدك الحسين قد قُتل.

قالت جبلة: فخرجتُ ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة! فصحتُ حينئذٍ وبكيتُ، وقلت: قد والله قُتل سيّدنا الحسين بن عليّعليه‌السلام )(١) .

٣) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسندٍ عن ابن عبّاس قال:

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١١٠ - ١١١، المجلس ٢٧، رقم ١، وعلل الشرايع: ١: ٢٢٧ - ٢٢٨.

٥٨

(كنت مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في خروجه (في خرجته) إلى صِفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات قال بأعلى صوته:(يا بن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقالعليه‌السلام :لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيَته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً، وهو يقول:أوه أوه! ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم!

ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأوّل، إلاّ أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه، فقال:يا بن عبّاس، فقلت: ها أنا ذا؟

فقال:ألا أُحدّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رَقدَتي؟

فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أمير المؤمنين.

قال:رأيت كأنّي برجال قد نزلوا من السماء، معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سُخَيلي وفرْخي ومُضغتي ومخّي قد غرق فيه يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آلَ الرسول! فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة! ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِر فقد أقرّ الله به عينك يوم القيامة يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، ثمّ انتبهتُ!

وهكذا والذي نفس عليٍّ بيده، لقد حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يُدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من وِلدي ووِلد فاطمة، وإنّها لفي السماوات معروفة تُذكر أرض كرب وبلاء، كما تُذكر بقعة الحرَمَين، وبقعة بيت المقدس.

٥٩

ثمّ قال:يا بن عبّاس، اُطلب لي حولها بعْر الظباء، فو الله ما كذبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران!

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي.

فقال عليّعليه‌السلام :صدق الله ورسوله، ثمّ قامعليه‌السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال:هي هي بعينها! أتعلُم يا بن عبّاس ما هذا الأبعار؟

هذه قد شمّها عيسى بن مريمعليه‌السلام ، وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريّون معه فبكى وبكى الحواريّون، وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى!

فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟!

قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟

قالوا: لا.

قال: هذه أرض يُقتل فيها فرْخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول: إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تُربة الفرخ المبارك.

وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب؛ لمكان حشيشها، اللّهمَّ فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.

قال:فبقيَت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كرب وبلاء، ثمّ قال بأعلى صوته:يا ربّ عيسى بن مريم، لا تُبارك في قَتَلَتِه، والمُعين عليه، والخاذل له.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

أن يجازى المسيء بقدر إساءته ، والمحسن على قدر إحسانه ، ومن الفضل أن يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعافها أو يزيد ، ولا يضاعف السيئة.

والذنب المغفور هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس وليس كما يزعم الجاهلون أن الأمور فوضى والكيل جزاف ، فيقيمون على الذنوب ويصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة ـ اقرأ قوله تعالى في دعاء الملائكة للمؤمنين «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».

ومحاسبة الله لعباده أن يريهم أعمالهم الظاهرة والباطنة ، ويسألهم لم فعلوها؟ ثم إن شاء غفر وإن شاء عذب ، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له فالله يغفرها له ، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها ، وهو المختار يفعل ما يشاء.

ولا يخفى ما في الآية من الإنذار والتخويف ، وليس فيها قطع بمغفرة ذنب وإن كان صغيرا ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية أنه قال : أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف ، فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.

( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا

٨١

رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

تفسير المفردات

لا نفرق بين أحد من رسله : أي إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء لا يفضل بعضهم بعضا ، سمعنا : أي سماع تدبر وفهم ، والتكليف : الإلزام بما فيه كلفة ، والوسع :

ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر ، والاكتساب يفيد الجد في العمل ، والمؤاخذة المعاقبة لأن من يراد عقابه يؤخذ بالقهر ، ما لا طاقة لنا به : أي ما لا قدرة لنا عليه ويشقّ علينا فعله ، والإصر : العبء الثقيل يأصر صاحبه ويحبسه مكانه ، إذ لا يطيق حمله لثقله ، والمراد به التكاليف الشاقة ، مولانا : أي مالكنا ومتولى أمورنا.

المعنى الجملي

افتتح سبحانه هذه السورة ببيان أن القرآن لا ريب فيه ، وأنه هدى للمتقين ، وبين صفات هؤلاء وأصول الإيمان التي أخذوا بها ، ثم ذكر خبر الكافرين والمرتابين ، ثم أرشد فيها إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق ، وحاجّ الضالين من الأمم السالفة ولا سيما اليهود ، فإنه قد بلغ في حجاجهم مبلغا ليس بعده زيادة لمستزيد ـ وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول صلوات الله عليه وللمؤمنين ، ثم لقنهم من الدعاء ما يرضيه ، ثم ذكر تمام خضوعهم وإخباتهم إلى ربهم الذي رباهم وخلقهم في أحسن تقويم ، وميزهم بالفطر السليمة والخلق الكامل ، وطهر نفوسهم وزكاها من الأدناس والأرجاس حتى وصلوا إلى طريق السعادة ، وفازوا بخيرى الدارين ، وهذا منتهى الكمال الإنساني ، وغاية ما تصبو إليه نفوس البشر.

٨٢

الإيضاح

( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) أي صدّق الرسول بما جاء به الوحى من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان ، وتخلّق به كما قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن ، وكذلك المؤمنون من أصحابه.

وقد كان من أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وعلت هممهم فأتوا بالعجب العاجب من فتح البلاد والشعوب وسياستها سياسة عدل وحكمة مما شهد لهم به أعدى أعدائهم ، وسجله لهم التاريخ في سجلّ الدول العظيمة الرقىّ والتقدم حين كان الناس في ظلام دامس ، وحين كانت أرقى الأمم في تلك العصور تسوس رعاياها بالخسف والعسف ، فأنقذها مما ترسف فيه من قيود الاستعباد وجعلها تتنفس في جوّ من الحرية لم تر مثله ـ وكفى بالله شهيدا لهم.

( كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته ، وتمام حكمته في نظام خليقته ، وبوجود الملائكة وسفارتهم بين الله والرسل ينزلون بوحيه على قلوب أنبيائه ، أما البحث عن ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم فمما لم يأذن به الله.

وآمن كل منهم إجمالا فيما أجمله القرآن وتفصيلا فيما فصله ـ بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها هداية للبشر بحسب ما فصل في قوله : «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ » الآية.

( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) أي ويقولون إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء كثر قوم الرسول أو قلوا ، والتفضيل الذي جاء في قوله تعالى : «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ » إنما هو في مزايا أخرى فوق الرسالة.

وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

٨٣

( وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) أي وقالوا بلّغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم ، وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد ، وهذا مما يبعث النفس إلى العمل به إلا إذا عرض لها مانع يمنعها منه.

والمخلصون في إيمانهم يحاسبون أنفسهم على ما يقع منهم من تقصير تأتى به العوارض الطارئة ، ويأبون إلا الكمال ، ومن ثم كان من شأنهم أن يقولوا :

( غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) أي استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة ، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقى في مراتب الكمال.

وإنما يكون ذلك بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة ، وبهذا يمّحى أثر الذنب من النفس في الدنيا ، فترجع إلى الله في الآخرة نقيّة زكية.

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) أي لا يكلف الله عباده إلا ما يطيقون ، ويتيسر لهم فضلا منه ورحمة ، وهو كقوله : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » وهذا إخبار من الله بعد تلقيهم تكاليفه بالطاعة والقبول بآثار فضله ورحمته لهم ، إذ كلفهم ما يتسنى لهم فعله ، ولا يصعب عليهم عمله.

وفيه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير ، وبتيسير ما ربما يفهم من الآية السالفة( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) من المشقة والتعسير.

( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) أي لها خير ما كسبته لنفسها من قول أو فعل ، وعليها ضرّ ما جدّت فيه من شر.

وأضيف الاكتساب إلى الشر لبيان أن النفس مجبولة على فعل الخير ، وتفعل الشر بالتكلف والتأسى ، إذ الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان ، ولا يحتاج إلى مشقة فى فعله بل يجد لذة في عمله ، كما يشعر بالميل إلى عبادة الله ، لأن شكر المنعم مغروس فى طبعه.

٨٤

وأما الشر فإنه يعرض للنفس لأسباب ليست من طبيعتها ، ولا من مقتضى فطرتها ولا يخفى عليها إذ ذاك أنها

ممقوتة في نظر الناس ، وأنها مهينة في قرارة نفوسهم.

فالطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه وهو يشعر بقبحه ، وهكذا شأنه عند اجتراح كل شر ، فتراه يشعر بقبحه ، ويجد بين جوانحه وازعا يقول له :

لا تفعل ، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه.

والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس ، والعبارة الجامعة له أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

والخلاصة ـ إن للنفس ثواب ما كسبت من الخير ، وعليها عقاب ما اجترحت من الشر.

وفي هذا ترغيب في عمل الخير ، والمحافظة على أداء الواجبات الدينية ، فإن اختصاص نفع الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله ، وتحذير له من الإخلال به لأن مضرة ذلك تحيق به لا بغيره ، واقتصار مضرة الفعل بفاعله من أشد الزواجر عن مباشرته.

وبعد أن بين سبحانه حال المؤمنين في السمع والطاعة ، وطلبهم المغفرة مما يتّهمون به نفوسهم من التقصير ، وذكر فضله على عباده في عدم تكليفهم ما لا يطيقون ـ علمهم ما يدعون به ربهم فقال :

( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) علمنا سبحانه أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تفضلا منه ، وإحسانا علينا ، إذ كان ينبغى العناية والاحتياط والتذكر ، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان ، أو يقل وقوعها منا ، فيكون ذنبنا جديرا بالعفو والمغفرة.

ذاك أن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء ، وترك إجالة الفكر فيه ، ليستقر في النفس ، ومن ثم ينسى الإنسان ما لا يهمّه ويحفظ ما يهمه ، ويؤاخذ الناس

٨٥

بعضهم بعضا بالنسيان ، ولا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى ، فإنه إن لم يفعل ما يأمره به نسيانا رماه بالإهمال والتقصير وآخذه على ذلك.

وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروّى ، ومن ثم أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الشيء خطأ ، فإذا رمى امرؤ صيدا فأخطأ وأصاب إنسانا فقتله أوخذ به في الشريعة والقوانين الوضعية.

وبهذا تعلم أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة ، وجرى عليه العرف في المعاملات والقوانين ، ولو لم يكن كل منهما مقصرا ما جاز هذا وما حسن ، وكذلك يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ.

والخلاصة ـ أن المراد من الآية أن الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما إذا وقع الإنسان فيهما بعد بذل الجهد والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة ، ثم لجأ إلى الدعاء الذي يقوى في النفس خشية الله ورجاء فضله ، فيكون هذا الإقبال نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير.

وما رواه ابن ماجه والبيهقي في السنن عن ابن عباس مرفوعا «إن الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فهو وعد من الله بالتجاوز عنها يوم القيامة رحمة منه وفضلا.

( رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) أي ربنا لا تكلفنا ما يشق علينا فعله ، كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبنى إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس ، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو من ذلك.

وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه لا يكلفنا ما يشقّ علينا كما صرح بذلك في قوله : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » وامتنان علينا وإعلام لنا بأنه كان يجوز

٨٦

أن يحمل علينا الإصر ، فيجب علينا أن نشكره لذلك ، فنحن ندعوه استشعارا للنعمة والشكر عليها.

( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) من العقوبات أو من البلايا والمحن ، ولا ما يشق علينا من الأحكام ، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله والنهوض به ، حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرّطين في دينهم.

( وَاعْفُ عَنَّا ) أي امح آثار ذنوبنا فلا تعاقبنا عليها.

( وَارْحَمْنا ) بتوفيقك إيانا للسير على سنتك التي جعلتها وسيلة لسعادة الدارين.

وهذه الجمل الثلاث نتائج لما قبلها من الجمل التي افتتحت بلفظ( رَبَّنا ) فاعف عنا مقابل لقوله( لا تُؤاخِذْنا ) واغفر لنا مقابل لقوله( وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ) وارحمنا مقابل لقوله( وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة.

( أَنْتَ مَوْلانا ) أي أنت مالكنا ومتولى أمورنا ، فأنت الذي منحتنا الهداية ، وأيدتنا بالتوفيق والعناية.

( فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) بإقامة الحجة عليهم والغلبة حين قتالهم ، والأول أشد أثرا وأقوى فعلا ، فإنه نصر على الروح والعقل ، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب.

وما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألسنتنا وتتحرك به شفاهنا فحسب ، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التي هى طريق الاستجابة ، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه ، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان ، مع مخالفة أحكام الشريعة ، وتجافى السنن التي سنها الله ، فهو بدعائه كالساخر من ربه ، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان.

٨٧

ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته ، وتنكبنا سنته في خليقته ، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا فلم يستجب لنا دعاء ، وكنا نحن الجانين على أنفسنا ، المستحقين لهذا الخذلان.

فإذا اتخذ المسلمون العدّة وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه ، وساروا على السنن التي هدى إليها البشر ، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم ، فقد ورد في الأثر : إن هذه الأمة لا تغلب من قلة.

وفّقنا الله إلى العمل بسنته ، والسير وفق شريعته ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

خلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة

(١) دعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم.

(٢) عدم اتخاذ أنداد له.

(٣) ذكر الوحى والرسالة ، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده ، وتحدى الناس كافة بالإتيان بمثله

(٤) ذكر أسّ الدين وهو توحيد الله.

(٥) إباحة الأكل من جميع الطيبات.

(٦) ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأحكام الصيام ، والحج والعمرة ، وأحكام القتال والقصاص.

(٧) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله.

(٨) تحريم الخمر والميسر.

(٩) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.

(١٠) أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة.

(١١) تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه.

(١٢) أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك.

٨٨

(١٣) وجوب أداء الأمانة.

(١٤) تحريم كتمان الشهادة.

(١٥) خاتمة ذلك كله ، الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به.

وعلى الجملة فقد فصلت فيها الأحكام ، وضربت الأمثال ، وأقيمت الحجج ، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه ، ومن ثم سميت فسطاط القرآن.

سورة آل عمران

هذه السورة مدنية ، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادّين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور :

(١) إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به ـ فقد ذكر فى الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك ، وفي الثانية طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ، ويقولون كل من عند ربنا.

(٢) إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم ، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى ، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.

(٣) إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب ، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى ، وفي الثانية عكس هذا ، لأن النصارى متأخرون فى الوجود عن اليهود ، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.

(٤) إن في آخر كل منهما دعاء ، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدى الدعوة ومحاربى أهلها ، ورفع التكليف بما لا يطاق ، وهذا

٨٩

مما يناسب بداءة الدين ، والدعاء في الثانية يرمى إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.

(٥) إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها ، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين ، وختمت هذه بقوله : «وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ».

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) )

٩٠

تفسير المفردات

( الم ) تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأى الذي عليه المعوّل أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هى حروف للتنبيه كألا ، ويا ، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعى العناية بفهمه ، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال (ألف. لام. ميم) كما يقال (واحد. اثنان.

ثلاثة) وتمد اللام والميم ، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر ، وفتحها وطرح الهمزة من (الله) للتخفيف والإله : هو المعبود ، والحي : ذو الحياة وهى صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة ، والقيوم : القائم على كل شىء بكلاءته وحفظه ، ونزّل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم ، وعبر عن الوحى مرة بالتنزيل ، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحى أعلى من الموحى إليه ، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شكّ فيه ، ما بين يديه هى الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين ، والتوراة : كلمة عبرية معناها الشريعة ، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها ، وهى : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر اللاويين ، وسفر العدد ، وسفر تثنية الاشتراع ، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق ، وهى كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بنى إسرائيل وملوكهم قبل المسيح ، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل ، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه ، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة ، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهى كتب مختصرة فى سيرة المسيح عليه السلام وشىء من تاريخه وتعاليمه ، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة ، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس

٩١

ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا ، والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام ، والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل ، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا ألا ترى إلى قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ » والانتقام من النقمة وهى السطوة والتسلط ، يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ، والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها ، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف ، والأرحام واحدها رحم وهى مستودع الجنين من المرأة ، والمحكم من أحكم الشيء بمعنى وثّقه وأتقنه ، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء ، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا ، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس ، والزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة ، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه ، والراسخون في العلم : هم المتفقهون فى الدين ، ومن لدنك : أي من عندك ، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه ، وجمع الناس حشرهم للحساب والجزاء ، لا ريب فيه : أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحقّ.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا ، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حىّ لا يموت ، وأن عيسى يأتى

٩٢

عليه الفناء؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شىء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذّى كما يغذى الصبى ، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا ، فأنزل الله «الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » إلى آخر تلك الآيات.

ووجه الرد عليهم فيها ـ أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفى عقيدة التثليث بادئ ذى بدء ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيّا قيوما : أي قامت به السموات والأرض وهى قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده ، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده ، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبى مثلهم ، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل ، وعيسى لم يكن واهبا للعقول ، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شىء ليردّ على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات ، فإن الإله لا يخفى عليه شىء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك ، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب ، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية ، فالمخلوق عبد كيفما خلق ، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء ، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه ، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.

ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين ، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه ، وهو الأصل الذي دعى الناس إلى تدبر معانيه والعمل به ،

٩٣

وإليه يرجع في فهم المتشابه ، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته ، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد ، وفرقة يقولون آمنا به ونفوّض علمه إلى ربنا ، وقد دعوه ألا يضلّهم بعد الهداية ، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة.

الإيضاح

( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي.

( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ) أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه

( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين ، فإنه أثبت الوحى وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم ، وهذا تصديق جملى لأصل الوحى إليهم ، لا تصديق تفصيلى لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمى إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا ، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به ، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه ، بل ما ثبت منها صحته فقط.

( وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ) أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس ، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال : «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه ، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك ، ففى سفر التثنية (فعند ما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها ـ أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا : خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ،

٩٤

ليكون هناك شاهدا عليكم ، لأنى عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ، ويصيبكم الشر في آخر الأيام ، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم ـ إلى أن قال لهم : وجّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم ، لكى توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هى حياتكم ، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها).

وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بنى إسرائيل نبى مثله بعد.

(فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت ، بل كتبا كغيرهما بعده).

إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة ، والقرآن يثبت ذلك ، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة ، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده ، وعلى غيره من الأخبار ، وهذا كاف في الاحتجاج على بنى إسرائيل بإقامة التوراة ، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة ، وأسفارها كلها كتبت بعد السّبى يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها ، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هى أصل دينهم ، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ؛ ولا نعلم ماذا كان أمرها ، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرّب بختنصّر الهيكل ، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت ، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها ، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية ، ولكن من أين جمع

٩٥

عزرا تلك الكتب بعد فقدها؟ وعلى أي شىء اعتمد في إصلاح غلطها؟ فإن قالوا إنه بالإلهام ؛ فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لاثقة بنقلهم ، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد.

وأنزل الله الإنجيل على عيسى ، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك ، فإن التوراة كتبت زمن نزولها ، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت ، ولكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم ، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح ، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان ، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم ، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله ، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة.

وخلاصة ذلك ـ إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه واتباعه حين يبعث ، فقد اشتملتا على البشارة به والحث على طاعته ـ ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه.

( وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ) أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل ، وجاء في آية أخرى «الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان» والميزان هو العدل.

فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل ، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس.

وقصارى ذلك ـ إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزّل من عند الله وما قام به العدل فهو حكم منزّل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطى للعقل والعدل ـ الفرقان والميزان ـ كما أنه سبحانه هو المنزّل للكتاب ، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) أي إن الذين كفروا بآيات الله

٩٦

الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل ، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك ـ لهم عذاب شديد بما يلقى الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم ـ وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية.

( وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) أي إن الله بعزته ينفذ سنته ، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.

( إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه ، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه ، ولا حال الكافر ، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان ، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

وفي التعبير بعدم خفاء شىء عليه ـ إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.

( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ) أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النّطف إلى العلق إلى المضغ ، ومن ذكورة وأنوثة ، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك ، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما ، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة ، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق.

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير ، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته ، الحكيم المنزّه عن العبث ، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة ، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل «ليس في الإمكان أبدع مما كان».

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة ، بعيد من الاحتمال والاشتباه ، ومتشابه وهو ضربان :

٩٧

(١) ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش.

(٢) ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة.

وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله : «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ » وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه ، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته ، ووصفه بالمتشابه في قوله : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً » بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا فى الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال : «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً » وقوله : «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً » أي إن ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل ، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه.

( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفّرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروىّ ، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم ، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه ، فهو من جنسه ، وجنسه لا يتجزأ فهو هو ، ومعنى ابتغاء تأويله ـ أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم ، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد ، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم ، والقرآن ملىء بالرد عليهم من نحو قوله : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ».

( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان :

٩٨

(١) رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة ، وجعل قوله : والراسخون فى العلم كلام مستأنف ، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ، واستدلوا على ذلك بأمور منها :

(ا) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.

(ب) أن قوله( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.

وهذا رأى كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبىّ بن كعب وعائشة.

(٢) ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ (العلم) ويجعل قوله :( يَقُولُونَ آمَنَّا ) كلام مستأنف ، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون ـ وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة ، وكان ابن عباس يقول : أنا من الراسخين في العلم ، أنا أعلم تأويله.

وردّوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة ، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه ، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما ينفق مع فهم المحكم ، وبأن قولهم( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) لا ينافى العلم ، فإنهم لرسوخهم فى العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون ، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجب ، فإن الجاهل في اضطراب دائم ، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك.

ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة ـ ضرورى لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها ، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك ، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن ، ولا يعلم تأويل ذلك : أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء ، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحس والعقل ، ولا يستشرفون بأنظارهم إلى معرفة حقيقة

٩٩

ما يخبر به الرسل من عالم الغيب ، إذ هم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه ، إنما سبيله التسليم ، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا ، فالوقف في مثل هذا لازم على لفظ الجلالة (الله).

أما النوع الأول من المتشابه وهو الألفاظ التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها من صفاته تعالى وصفات أنبيائه كقوله «وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ » فمثل هذا يمنع الدليل العقلي والدليل النقلى حمله على ظاهره ، ومثل هذا هو الذي يأتى فيه الخلاف في علم الراسخين بتأويله ؛ فالذين نفوا عنهم علمهم به جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتفويض والتسليم ـ هى تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كلّ حكمه كما تقدم ، والذين أثبتوا لهم علمه يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله وأنبيائه إلى أم الكتاب وهو المحكم ، ويأخذون منه ما يمكنهم من فهم المتشابه.

وعلى هذا فتخصيص الراسخين بهذا العلم لبيان أن غيرهم يمتنع عليه الخوض فيه ، ولا يجوز لهم التهجم عليه.

وقد يخطر على البال سؤال وهو : لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون فى العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يتساوى في فهمه جميع الناس ، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية لوقوع اللبس في فهمه ، وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟

أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها :

(١) إن في إنزال المتشابه امتحانا لقلوبنا في التصديق به ، إذ لو كان ما جاء فى الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه لأحد ، لما كان في الإيمان به شىء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله.

(٢) إن في وجوده في القرآن حافزا لعقول المؤمنين إلى النظر فيه كيلا تضعف وتموت ، إذ السهل الجلى لا عمل للعقل فيه ، وإذا لم يجد العقل مجالا للبحث مات ، والدين أعز شىء على الإنسان ، فإذا ضعف عقله في فهمه ضعف في كل شىء ، ومن ثم قال والراسخون في العلم ، ولم يقل والراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل ، فمن رحمته

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218