تفسير ست سور

تفسير ست سور0%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله حبيب الله الشريف الكاشانيّ (قدس سره)
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 52251
تحميل: 3534

توضيحات:

تفسير ست سور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52251 / تحميل: 3534
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟ قال : قلت : فلم سمّي الأمّيّ؟ قال : نسب إلى مكّة، وذلك قول الله( لِتُنْذِرَ ) إلى آخره. فامّ القرى مكّة، فقيل أمّيّ لذلك(١) .

ورواه أيضا عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن سعد بن عبد الله(٢) إلى آخره.

وهذه الأخبار تؤيّد الوجه الأخير.

ويمكن حملها على أنّه صلّى الله عليه وآله كان قادرا على الكتابة والقراءة، ولكنّهما لم يصدرا عنه صلّى الله عليه وآله بحسب الظاهر لمصلحة، فإنّ جعل النبوّة في الأمّيّ الّذي لم يقرأ ولم يكتب أبعد من توهّم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم الّتي تلاها، والكتب الّتي قرأها، وأقرب إلى العلم بأنّ ما يخبرهم به من أخبار الأمم الماضية في السنين الخالية على وفق ما في كتبهم ليس إلّا بالوحي، كما صرّح به الطبرسيّ رحمه الله(٣) .

وصرّح أيضا بأنّ في جعل النبوّة في الأمّيّ موافقته لما تقدّمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة(٤) . ويوافقه ما في «الكشّاف» من أنّه جاء في حديث شعياء إنّي أبعث أعمى في عميان وأمّيّا في أمّيّين(٥) . فتأمّل.

ومن المحتمل أن يكون صلّى الله عليه وآله قبل بعثه أمّيّا لم يعرف

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٢٢٦.

(٢) علل الشرائع ١ : ١٢٥.

(٣ و ٤) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٥) الكشّاف ٤ : ٥٢٩.

٢٢١

الكتابة والقراءة كما قال :( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) (١) ولكنّه عرّفهما بعده بالوحي وتعليم الله، فافهم ولا تغفل.

وفي «تفسير القمّيّ رحمه الله» قال : الأمّيّون الّذين ليس معهم كتاب. قال : فحدّثني أبي عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ ) إلى آخره قال : كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بعث إليهم رسولا، فنسبهم الله إلى الأمّيّين(٢) . وهذا وجه رابع في الأمّيّين، فتأمّل.

والبعث يستعمل في معان كثيرة إلّا أنّ المراد منه في المقام الإرسال كما في قوله تعالى :( بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) (٣) ويمكن الفرق بينهما بأنّ في البعث نوعا من الزجر والشدّة على المبعوث عليه كما في قوله :( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ ) (٤) إلى آخره فليتأمّل.

والتنكير في «رسولا» محتمل للتعظيم والتفخيم كما في قول الشاعر :

له حاجب عن كلّ أمر يشينه

وجوه في الفرق بين الرسول والنبيّ :

وإنّما قال «رسولا» ولم يقل «نبيّا» لأنّه أمدح وأشرف، حيث إنّ كلّ

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٦٦.

(٣) النحل : ٣٦.

(٤) الإسراء : ٥.

٢٢٢

رسول نبيّ ولا عكس، وقد ذكر جماعة أنّ الرسول : الّذي معه كتاب من الأنبياء، والنبيّ : الّذي ينبئ عن الله ؛ وإن لم يكن له كتاب.

قال نور الدين الجزائريّ : وأورد عليه أنّ «لوطا» و «إسماعيل» و «أيّوب» و «هارون» كانوا مرسلين كما ورد في التنزيل ولم يكونوا أصحاب كتب مستقلّة.

وقد يفرّق بينهما بأنّ الرسول : من بعثه الله بشريعة جديدة ناسخة، والنبيّ صلّى الله عليه وآله : من بعثه لتقرير شريعة سابقة، وفي بعض الأخبار : أنّه سئل عن عدد الأنبياء، فقال : أربعة وعشرون ألفا، فقيل : فكم الرسول منهم؟ فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر. فتدبّر.

وربّما يفرّق بينهما بأنّ الرسول من يأتيه الملك عيانا ومشافهة، والنبيّ : من يأتيه في منامه، ويدلّ عليه بعض الأخبار، فتأمّل.

وربّما يفرّق بينهما بأنّ الرسول من يجب عليه التبليغ إلى الخلق ؛ بخلاف النبيّ، فإنّه قد يكون نبيّا على نفسه خاصّة، ومن هنا قيل : إنّ للرسول يدين يد يأخذ بها عن الله، ويد يعطي بها الخلق ؛ بخلاف النبيّ، فإنّ يده آخذة. وهذا هو الفرق بين الرسالة والنبوّة، فتأمّل.

وقيل : إنّ النبيّ والرسول كالجار والمجرور ؛ إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

وقيل : إنّهما مترادفان، فتأمّل.

وكيف كان فلا شكّ في استعمال كلّ منهما في الآخر وأمد حيّة الرسول وأشرفيّته.

٢٢٣

وكلمة «من» في «منهم» للتبعيض، وفيه دلالة على أنّه صلّى الله عليه وآله كان من الأمّيّين.

ومحلّ قوله «يتلو» في قوله :( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) النصب لكونه صفة لـ «رسولا» بعد الصفة، أو لكونه حالا منه، والحال لا يأتي من النكرة إلّا إذا كانت مخصّصة بوصف كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى :( وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ ) (١) ، إن لم نجعل «مصدّقا» حالا من الضمير المستقرّ في الجار والمجرور، وكذلك في المقام وكما في قول الشاعر :

نجّيت يا ربّ نوحا واستجبت له

في فلك ما خر في اليمّ مشحونا

أو بإضافة كما في قوله :( أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) (٢) أو مسبوقة بنفي أو نهي أو استفهام.

والتلاوة : القراءة، والفرق بينهما على ما حكي عن «الراغب»، أنّ التلاوة تختصّ باتّباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، أو ما يتوهّم فيه ذلك، وهي أخصّ من القراءة، فكلّ تلاوة قراءة ولا عكس(٣) .

فقوله :( إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ) (٤) فهذا بالقراءة، وقوله :( يَتْلُونَهُ حَقَ

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) فصّلت : ١٠.

(٣) المفردات : ١٦٧.

(٤) الأنفال : ٣١، الأحقاف : ٧.

٢٢٤

تِلاوَتِهِ ) (١) المراد به الاتّباع بالعلم والعمل، وإنّما استعمل التلاوة في قوله تعالى :( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) (٢) لمـــّـا كان بزعم الشياطين إنّما يتلونه من كتب الله.

وقد يقال : إنّ القراءة هي جمع الحروف، والتلاوة اتّباعها.

قال الطبرسيّ رحمه الله : أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام والحجج والأحكام(٣) إلى آخره. انتهى.

وفيه أيضا إشعار بأخصّيّة التلاوة، ويؤيّده العرف، فإنّه لا يقال لمن يقرأ كتب الحكايات والخرافات : إنّه يتلوها، فالمراد بالآيات، الكلمات الحقّة المنزّلة من السماء، ويمكن التعميم في الآيات بحيث تشمل التدوينيّة والتكوينيّة من الآفاقيّة والأنفسيّة، فتأمّل.

والمراد «بالتزكية» التطهّر من الكفر والشرك والذنوب والصفات الرذيلة والأخلاق الغير المحمودة الّتي وضعت لمعالجتها كتب الأخلاق، وقد قال صلّى الله عليه وآله : إنّي بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق(٤) .

قال النيسابوريّ : لأنّ الإرشاد يتمّ بأمرين بالتخلية والتحلية، فكما يجب على المعلّم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلّم بها، يجب عليه التحذير عن سمات النقصان ليتحرّز عنها، وذلك بنحو ما يفعله النبيّ صلّى الله عليه وآله من التلاوة وتعليم الكتاب من الوعد والإيعاد والتذكير

__________________

(١) البقرة : ١٢١.

(٢) البقرة : ١٠٢.

(٣) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٤) مكارم الأخلاق : ٨.

٢٢٥

والتسبّب بأمور الدنيا ليقوّي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح إلى آخره.

وفي سورة «البقرة» :( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (١) وفيها أيضا حكاية عن دعاء إبراهيم عليه السلام :( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٢) وفي سورة «آل عمران» :( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٣) .

ولعلّ وجه تقديم التزكية الّتي هي عبارة عن رياضة النفس، وتصفية القلب عن الكدورات الشيطانيّة، وتنقيته عن أوساخ التعلّقات الدنيويّة، وتخليته عن أرجاس الحرص والطمع والبخل والحقد والحسد ونحوها من الأمراض القلبيّة، على تعليم الكتاب والحكمة في هذه الآية وأشباهها للإشارة إلى أنّ تعلّمهما لا يفيد بدونها، كيف والقلوب أوعية للعلوم والمعارف، فلا بدّ في تأثّرها بها من إفراغها عمّا لا يناسبها، ولا سيّما عن أضدادها ومنافياتها من الشهوات النفسانيّة، واللذّات الجسمانيّة.

وقد روي أنّه ليس العلم في السماء حتّى ينزل عليكم، ولا في الأرض

__________________

(١) البقرة : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) البقرة : ١٢٩.

(٣) آل عمران : ١٦٤.

٢٢٦

فينبت لكم، بل هو مكنون فيكم فتخلّقوا بأخلاق الله يظهر لكم.

وفي رواية : من أخلص لله أربعين صباحا فتح الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه(١) .

وفي اخرى : ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوما إلّا وهداه الله في الدنيا، وبصّره داءها، وأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه(٢) .

والحاصل : إنّ تزكية النفس مقدّمة لحصول العلم الحقيقيّ وقبول القلب لآثاره، والمراد بالعلم الحقيقيّ هو المعارف الحقّة، والأسرار الغيبيّة المكنونة الّتي لا يطّلع عليها إلّا الأوحديّ الّذي شرح الله صدره للإيمان، وهداه بنوره إلى الصراط المستقيم، وهذا العلم يسمّى بـ «علم المكاشفة»، وإليه أشار عليّ بن الحسين عليهما السلام فيما نسب إليه من شعره :

إنّي لأكتم من علمي جواهره

كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

فقد تقدّم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا

يا ربّ جوهر [قدس] لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولا ستحلّ رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

فإن قلت : إذا كان حصول العلم مرتّبا على التزكية فلم أخّرها في دعوة إبراهيم عليه السلام؟ قلت : أوّلا، إنّ «الواو» لا تدلّ على الترتيب، وإنّما ذكرنا ما ذكرناه من باب الاحتمال، ولعلّ وجه التقديم لمكان زيادة الاهتمام بالتزكية، كيف والغرض الأصليّ من تحصيل العلم هو العمل الّذي يحصل به

__________________

(١) جامع الأخبار : ٩٤.

(٢) الكافي ٢ : ١٦.

٢٢٧

التزكية، والغايات متقدّمة في الذهن، متأخرّة في الخارج ؛ كما في السرير وجلوس السلطان عليه، ولذا قد تتقدّم الغاية في مقام الذكر واللفظ نظرا إلى تقدّمها في الوجود الذهنيّ، وقد تؤخّر نظرا إلى الوجود الخارجيّ.

وثانيا : إنّ العلم المسبوق بالتزكية هو علم المكاشفة دون علم المعاملة المسمّى بالعلم الرسميّ، فإنّ غير المتذكّى أيضا يحصّله بالكسب والتعلّم كسائر المكاسب، وربّما يحصل له بعد تعلّمه والعمل به حظّ التزكية بعون الله وتوفيقه فتدبّر.

والمراد بـ( الْكِتابَ ) ظاهر القرآن وقشره وب( الْحِكْمَةَ ) حقائقه وبواطنه الّتي لا يعلمها إلّا الله والراسخون في العلم.

ويحتمل أن يراد بـ «الكتاب» الكتابة وعلم الخطّ كما يرشد إليه بعض الروايات المتقدّمة في تفسير «الأمّي» و «بالحكمة» قراءة القرآن، وقد أطلق تعالى «الحكيم» عليه في مواضع من التنزيل كما في قوله :( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) (١) وغيره لاشتماله على الحكمة كما لا يخفى، أو على المحكمات من الآيات.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» القرآن، وب «الحكمة» السنّة النبويّة بالمعنى الأعمّ.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» الفرائض والواجبات، وب «الحكمة» السنن والآداب.

__________________

(١) يس : ١ ـ ٢.

٢٢٨

وقيل : المراد بـ «الكتاب». وفي «مجمع البيان» «الكتاب» القرآن، و «الحكمة» الشرائع.

وقيل : إنّ الحكمة تعمّ الكتاب والسنّة وكلّ ما أراده الله، فإنّ الحكمة هي العلم الّذي يعمل عليه فيما يجتبى أو يجتنب من امور الدين والدنيا(١) . انتهى.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» أحكام الرسالة والنبوّة من العقائد الدينيّة وعلم الأخلاق النفسيّة وعلم الأعمال البدنيّة، وب «الحكمة» كمال القوّة العمّالة، فتأمّل.

ويستفاد من «تفسير النيشابوريّ» أنّ المراد بـ «الآيات» لفظ الفرقان المتلوّ عليهم، وب «الكتاب» معانيه وحقائقه، قال : وذلك أنّ التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف، ولأنّ لفظه ونظمه معجز، وفي تلاوته نوع عبادة ؛ ولا سيّما في الصلوات، إلّا أنّ الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. انتهى.

وب «الحكمة» الإصابة في القول والعمل جميعا، فلا يسمّى حكيما إلّا وقد اجتمع فيه الأمران، فيضع كلّ شيء موضعه، قال : ولهذا عبّر عنها ـ أي عن الحكمة ـ بعض الحكماء بأنّها التشبّه بالإله بقدر الطاقة البشريّة، ويناسبه قوله : «تخلّقوا بأخلاق الله»(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ١٢٩.

٢٢٩

وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتّباع له، وإليه ذهب الشافعيّ، وهي سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لأنّه ذكر تلاوة القرآن ثمّ تعليمه، ثمّ عطف عليه الحكمة فيكون شيئا خارجا عنهما، وليس ذلك إلّا سنة الرسول، فإنّ الدلائل العقليّة الدالّة على التوحيد والنبوّة وما يتلوهما مستقلّة بالفهم، فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلّا من الشرع أولى.

وقيل : هي الفصل بين الحقّ والباطل من الحكم.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» الآيات المحكمات، وب «الحكمة» المتشابهات.

وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح. انتهى كلامه.

وهو ملخّص ما ذكره الفخر الرازيّ في تفسيره، وفيه عند تفسير دعوة إبراهيم عليه السلام المذكورة في سورة «البقرة»، واعلم أنّه تعالى لمـــّـا طلب بعثة رسول منهم إليهم ذكر لذلك الرسول صفات أوّلها قوله :( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ) (١) وفيه وجهان :

الأوّل : أنّها الفرقان الّذي أنزل على محمّد صلّى الله عليه وآله لأنّ الّذي كان يتلوه عليهم ليس إلّا ذلك، فيجب حمله عليه.

الثاني : يجوز أن تكون «الآيات» هي الأعلام الدالّة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إيّاها عليهم أنّه كان يذكّرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها.

__________________

(١) البقرة : ١٢٩.

٢٣٠

وثانيها : قوله :( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ ) والمراد أنّه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلّمهم معاني الكتاب وحقائقه. إلى أن قال : والصفة الرابعة من صفات الرسول صلّى الله عليه وآله، قوله :( وَيُزَكِّيهِمْ ) واعلم أنّ كمال حال الإنسان في أمرين :

أحدهما أن يعرف الحقّ لذاته.

والثاني : أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخلّ بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهرا عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكيّا عنها(١) . انتهى.

وكلمة (إن) في قوله :( وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ ) إلخ ؛ ليست شرطيّة وصليّة كما ربّما يسبق إلى بعض الأذهان، بل هي مخفّفة من المثقّلة تهمل عن العمل لدخولها على الجملة الفعليّة، ويجوز حينئذ دخولها على المضارع الناسخ كما في قوله :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ ) (٢) والأكثر في ذلك دخولها على الماضي الناسخ كما في هذه الآية، وفي قوله :( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً ) (٣) وقوله :( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) (٤) وقوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (٥) وقوله :( وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) (٦) ، وقوله :( إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) (٧) .

__________________

(١) التفسير الكبير ٤ : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) القلم : ٥١.

(٣) البقرة : ١٤٣.

(٤) الإسراء : ٧٣.

(٥) الإسراء : ١٠٨.

(٦) الأعراف : ١٠٢.

(٧) الصافّات : ٥٦.

٢٣١

قال ابن هشام : وحيث وجدت «إن» وبعدها «اللام» المفتوحة كما في هذه الأمثلة فاحكم بأنّ أصلها التشديد.

وتسمّى هذه «اللام» بالفارقة، لأنّها مع إفادة زيادتها التأكيد للنسبة تفيد الفرق بين «إن» المخفّفة والنافية، وقد يقال إنّها لام الابتداء تدخله في خبر الناسخ، قيل : فإنّها كانت مختصّة بالدخول على المبتدأ والخبر في الأصل، فلمّا خفّفت وضعف شبهها بالفعل جاز دخولها على الفعل لئلّا تفارق محلّها بالكلّيّة.

قال في الكشّاف : و «إن» في( وَإِنْ كانُوا ) هي المخفّفة من الثقيلة و «اللام» دليل عليها، أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه(١) . انتهى.

وقد يقال : إنّ «إن» في الآية وأمثالها نافية، و «اللام» بعدها بمعنى إلّا، ولذا فسّر الطبرسيّ رحمه الله هذه الجملة بقوله : ومعناه وما كانوا من قبل بعثه إليهم إلّا في عدول عن الحقّ، وذهاب عن الدين بيّن ظاهر(٢) . انتهى.

وهذا إنّما يصحّ على مذهب الكوفيّين حيث زعموا أنّ «إنّ» لا تخفّف، وأنّه إذا قيل : «إن زيد لمنطلق» فـ «إن» فيه نافية و «اللام» بمعنى إلّا.

قال ابن هشام : ويردّه أنّ منهم من يعملها مع التخفيف، حكى سيبويه : إن عمرا لمنطلق.

وقرأ الحرميّان( وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) (٣) . انتهى.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٣٠.

(٢) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٣) هود : ١١١.

٢٣٢

والمراد بـ (الضلال المبين) أي الظاهر هو الشرك باتّخاذهم الأصنام آلهة، والعمل بقوانين الجاهليّة من الاقتسام بالأزلام وأكل النطيحة والموقوذة والمتردية ونحو ذلك، والجملة في محلّ الحال، والرابطة «الواو» والضمير، أي يتلو آياته عليهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، والحال أنّهم كانوا قبل ذلك ضالّين عن طريقة الحقّ لا يهتدون إليه سبيلا، فامتنّ الله عليهم بهذه المنّة العظيمة حيث كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها ؛ كما صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه.

و( آخَرِينَ ) في قوله تعالى :( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لمـــّـا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إمّا عطف على( الْأُمِّيِّينَ ) فيكون في محلّ الجرّ، أي بعثه في الأمّيّين الموجودين في عهده صلّى الله عليه وآله وفي الّذين سيوجدون بعدهم، وفيه ما لا يخفى، نعم لو عدّى «البعث» بـ «على» أو بـ «إلى» لاستقام المعنى في هذا العطف، وإمّا على الضمير المنصوب في( يُعَلِّمُهُمُ ) أي يعلّم الموجودين منهم بالدعوة الشفاهيّة وغير الموجودين بالدعوة العامّة الّتي تصل إليهم بالوسائط، كما قال :( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (١) .

و «آخرين» بفتح «الخاء» جمع آخر كذلك، وإنّما جمع على «الواو» أو «الياء» و «النون» لأنّه وصف حيث إنّه في الأصل أفعل للتفضيل كأفضل، ومعناه على ما صرّح به الرضيّ رحمه الله أشدّ تأخّرا، قال في البحث عن غير المنصرف : وأمّا الأخر فإنّه جمع أخرى الّتي هي مؤنّث آخر، وهو أفعل التفضيل بشهادة الصرف ؛ نحو : آخر، آخران، آخرون وأواخر وأخرى

__________________

(١) الأنعام : ١٩.

٢٣٣

أخريان أخريات، وآخر مثل الأفضل الأفضلان الأفضلون والأفاضل والفضليّ والفضليان والفضليات والفضل، فمعنى آخر في الأصل أشدّ تأخّرا، وكان في الأصل معنى جاء زيد ورجل آخر، رجل أشدّ تأخّرا من زيد في معنى من المعاني، ثمّ نقل إلى معنى غير، فمعنى رجل آخر رجل غير زيد.

ولا يستعمل إلّا فيما هو من جنس المذكور أوّلا، فلا يقال جاء زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى، إلى أن قال : ولمّا خرج آخر وسائر تصاريفه عن معنى التفضيل استعملت من دون لوازم أفضل التفضيل، أعني «من» و «الإضافة» و «اللام» إلى آخره. انتهى.

وذكر أبو البقاء في كلّيّاته : إنّ معنى آخر في الأصل أشدّ تأخّرا في الذكر، ثمّ أجري مجرى غيره.

وأمّا الآخر بكسر «الخاء» كالضارب فهو ضدّ الأوّل، ومنه قوله :( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (١) فمؤنّثه الآخرة كالضاربة، وقد نظم ذلك أبو البقاء بقوله :

مقابل الأوّل قل آخر

كفاعل تأنيثه الآخره

وآخر أفعل تأنيثه

أخرى فهاك درّة فاخره

والمراد بالآخرين في الآية : تابعي الصحابة وتابعي التابعين، إلى يوم القيامة ؛ على ما قيل.

وكلمة (لما) الداخلة على المضارع تجزمه وتنفيه وتقلبه ماضيا ككلمة «لم» ولكنّها تفارقها في أنّ منفيها مستمرّ النفي إلى الحال، وفي أنّ منفيها لا يكون إلّا قريبا من الحال، وأنّ منفيها متوقّع الثبوت كما في قوله :

__________________

(١) الحديد : ٣.

٢٣٤

( بَلْ لمـــّـا يَذُوقُوا عَذابِ ) (١) وقوله :( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (٢) فاللّحوق المنفي في الآية متوقّع الثبوت، والظاهر أنّ المراد به اللحوق في الإيمان، وأنّ الضمير المجرور في( مِنْهُمْ ) راجع إلى( الْأُمِّيِّينَ ) فلا دلالة في الآية على لحوق غيرهم، فالأولى إرجاعه إلى الناس كافّة، لاشتراكهم معهم في الدعوة، ولزوم الإجابة.

ويؤيّده : ما روي من أنّه لمـــّـا نزلت هذه الآية قيل : من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على كتف سلمان ثمّ قال : لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء(٣) .

وفي رواية : لنالته رجال من هؤلاء(٤) .

ومن هنا قيل : إنّ المراد «بالآخرين» الّذين يأتون بعدهم إلى يوم القيامة.

وعن الباقر عليه السلام : هم الأعاجم ومن لا يتكلّم بلغة العرب(٥) .

وقد يقال : إنّ المراد بهم الخصّيصون من امّته الّذين يأتون من بعده يؤمنون بالغيب، وهم الّذين كان الرسول صلّى الله عليه وآله يتشوّق إليهم، كما روي في بعض كتب العرفان مرسلا : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله رأى يوما أبا ذرّ يمشي فقال : «مسكين أبو ذر يمشي وحده وهو في السماء فرد، وأبو ذر في الأرض فرد كمن فرد الفرد».

__________________

(١) ص : ٨.

(٢) الحجرات : ١٤.

(٣) تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : ١٢٠.

(٤) بحار الأنوار ١٦ : ٣١٠.

(٥) نفس المصدر.

٢٣٥

ثمّ قال : يا أبا ذرّ، إنّ الله جميل يحبّ الجمال، يا أبا ذرّ، أتدري ما غمّي وفكري وإلى أيّ شيء اشتياقي؟ فقال أصحابه : خبّرنا يا رسول الله بغمّك وفكرك، قال : وا شوقاه إلى لقاء إخواني ؛ يكونون من بعدي، شأنهم شأن الأنبياء، وهم عند الله بمنزلة الشهداء، يفرّون من الآباء والامّهات، والإخوة والأخوات، ابتغاء مرضاة الله، وهم يتركون المال، ويذلّون أنفسهم بالتواضع، لا يرغبون في الشهوات وفضول الدنيا، يجتمعون في بيت من بيوت الله مغمومين محزونين من حبّ الله، قلوبهم إلى الله، وروحهم من الله، وعلمهم لله، إذا مرض واحد منهم هو أفضل من عبادة سنة.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، [قال :] الواحد منهم يؤذيه قملة في ثيابه فله عند الله أجر سبعين حجّة وغزوة، وكان له أجر عتق أربعين رقبة من ولد إسماعيل، كلّ واحد منهم باثني عشر ألفا.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : الواحد منهم يذكر أهله ثمّ يغتمّ فيكتب له بكلّ نفس ألف ألف درجة.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : الواحد منهم يصلّي ركعتين في أصحابه أفضل عند الله من رجل يعبد الله تعالى في جبل لبنان مثل عمر نوح.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : الواحد منهم يسبّح الله تسبيحة خير له يوم القيامة من أن يصيّر معه جبال الدنيا ذهبا.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : نعم يا رسول الله، [قال :] نظرة ينظر إلى أحدهم أحبّ إلى الله من نظرة إلى بيت الله، ومن نظر إليه فكأنّما ينظر إلى

٢٣٦

الله، ومن سرّه فكأنّما سرّ الله، ومن أطعمه فكأنّما أطعم الله.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذر؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : يجلس إليهم قوم مصرّون مثقلون من الذنوب ؛ ما يقومون من عندهم حتّى ينظر الله إليهم ويغفر لهم ذنوبهم.

يا أبا ذرّ ضحكهم عبادة، ومزاحهم تسبيح، ونومهم صدقة، ينظر الله إليهم في كلّ يوم سبعين مرّة.

يا أبا ذرّ، إنّي إليهم مشتاق. ثمّ أطرق صلّى الله عليه وآله رأسه مليّا، ثمّ رفع رأسه وبكى حتّى هملت عيناه فقال : وا شوقاه إلى لقائهم؟

ويقول صلّى الله عليه وآله : أللّهمّ احفظهم وانصرهم على من خالفهم، وأقرّ عيني بهم يوم القيامة، ثمّ قرأ :( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) (٢) . انتهى.

وروى قريبا منه أحمد بن فهد الحلّيّ رحمه الله في كتابه المسمّى بـ «التحصين» إلّا أنّه قال : [قال] رسول الله : أتدرون ما غمّيّ، وفي أيّ شيء تفكّري، وفي أيّ شيء اشتياقي؟ قال أصحابه : لا يا رسول الله، ما علمنا هذه من أيّ شيء، أخبرنا بغمّك وتفكّرك وتشوّقك، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : أخبركم إن شاء الله.

ثمّ تنفّس الصعداء وقال : هاه شوقا إلى إخواني من بعدي، فقال أبو ذرّ : يا رسول الله، أو لسنا إخوانك؟ قال : لا، أنتم أصحابي، وإخواني يجيئون من

__________________

(١) يونس : ٦٢.

(٢) التحصين، لابن فهد : ٢٥.

٢٣٧

بعدي، شأنهم شأن الأنبياء، قوم يفرّون إلى آخره.

وقد ذكرناه بجملته في كتابنا المسمّى بـ «مفتاح السعادات».

وقوله :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إشارة إلى أنّ الّذي يمكّن رجلا أمّيّا يتيما لا مال له ولا عشيرة قويّة تنصره من هذا الأمر العظيم «أي الرسالة» حتّى ينقاد له في زمان يسير من الناس كثير مع عتوّهم وقوّتهم، لا يكون إلّا عزيزا لا يغلب، حكيما لا يناقش في تدبيره وحكمته، فهذا الرجل مؤيّد من عند الله، ومجتباه من جميع خلقه، وقد شهدت العقول الفطريّة السليمة بصدقه في رسالته، وقد أراد المشركون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره المشركون.

والمشار إليه «بذلك» في قوله( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) هو بعث الله النبيّ الأمّيّ بالنبوّة على الوجه المذكور، فضله وإحسانه يختصّ به من يشاء من عباده، فإنّه أعلم حيث يجعل رسالته.

ومن المحتمل أن يكون المراد من «الهداية» يسبّب هذا البعث، فإنّها من فضل الله على المؤمنين كما يدلّ عليه قوله( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً ) (١) إلى آخره.

وفي بعض القراءات لمن منّ الله على المؤمنين(٢) ولا ريب أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب من ألطاف الله على عباده، وقد صرّح المتكلّمون بوجوب اللطف ـ أي ما يقرّب إلى الطاعات ويبعّد عن المعاصي ـ على الله تعالى.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٤.

(٢) آل عمران : ١٦٤.

٢٣٨

قال بعضهم : ومن الألطاف بعث الأنبياء ونصب الأولياء للاحتياج إليهم في انتظام المعاش لحصول الاجتماع المضطرّ إليه في بقاء النوع ؛ المستلزم لوقوع الفساد من غلبة دواعي الحسّ، فيقع الهرج والمرج ولا ينحسم ذلك إلّا بقانون يفيد قطع المنازعات بشارع متأيّد بالآيات القاهرة، ليحصل الانقياد الموجب للانتظام. انتهى.

وخالف الأشعريّ فذهب إلى أنّ اللطف لا يجب على الله ؛ إذ العقل لا يحكم بوجوب شيء عليه، فما يصدر عنه تعالى من هذه الأفعال فهو على سبيل التفضّل، وظاهر الآية وإن كان يساعده إلّا أنّ في الكلام في الردّ عليه محلّا آخر.

ومعنى «يؤتيه» يعطيه، وعطيّته لا تكون إلّا لمن له قابليّة واستعداد، والله لا يعطي إلّا مع المصلحة، ولا مصلحة قطعا في إعطاء من لا يستعد، ولا تتعلّق مشيّته تعالى بإعطاء من لا يستحق العطيّة ومن لا تصلح له.

وفي «حقائق القرآن» بعد ذكر هذه الآية قال الحسين : جاد الجواد بجوده لغير علّة وتفضّل بالتفضيل ؛ وتمّمه بالمنن، وغشّاه بالنعم ؛ إذ يقول( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) فقطع بالمشيّة ومحق الأسباب فكان الكرم منه صرفا لا تمازجه العلل، ولا تكتسبه الحيل، جاد به في الدهور قبل إظهار الأمور إلى معرفته ومحبّته والاستقامة فيهما بنعت العبوديّة في مشاهدة الربوبيّة، يؤتي هذا الفضل من يشاء من عباده المصطفين في الأزل.

قال الجوزجانيّ : ذلك الفضل هو الأنس بالله ؛ إذا وجدوا نعمة الأنس نسوا كلّ نعمة دونه، وهو قوله( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) انتهى. فتأمّل.

٢٣٩

ومن المحتمل أن يكون المشار إليه بذلك هو التزكّي المفهوم من الكلام السابق، ويكشف عنه قوله تعالى في سورة «النور»( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (١) .

والظاهر أنّ المراد بكونه ذا الفضل العظيم أنّه لا ينقص من عطائه شيء وإن أعطى ما أعطى، فإنّ عنده خزائن كلّ شيء كما قال( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا ) (٢) إلى آخره، وفي الحديث : لو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعا ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، وكيف ينقص ملك أنا قيّمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني(٣) . انتهى.

ولعلّ النكتة في تعبير المسند إليه في قوله( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ) باسم الإشارة إلى البعيد تعظيم المشار إليه كما في قوله( الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) (٤) فنزل بعد الدرجة ورفعة المحلّ، منزلة بعد المسافة، ففيه إشارة إلى أنّ الرسالة منصب فوق جميع المناصب ؛ لا تناله يد كلّ أحد، ولا يدرك بالكسب لكونه موهبة عظيمة من عند الله، وقد أحسن من قال بالفارسية :

از رياضت كى توان الله شد

كى توان موسى كليم الله شد

قال التفتازانيّ : وقد يقصد به تعظيم المشير كقول الأمير لبعض حاضريه ذلك قال كذا. انتهى، فتأمل.

__________________

(١) النور : ٢١.

(٢) الحجر : ٢١.

(٣) الكافي ٢ : ٦٦.

(٤) البقرة : ١ ـ ٢.

٢٤٠