تفسير ست سور

تفسير ست سور0%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله حبيب الله الشريف الكاشانيّ (قدس سره)
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 53305
تحميل: 3700

توضيحات:

تفسير ست سور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53305 / تحميل: 3700
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أبعد، ومؤنّث أيضا هي أنّ التجارة أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله [من اللهو] بدليل أنّ المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو، ولأنّها أكثر نفعا من اللهو، ولأنّها كانت أصلا واللهو تبعا، لأنّهم كانوا يضربون بالطبل عند قدومها(١) . انتهى.

والحاصل : أنّ اهتمامهم بالتجارة كان أكثر من اهتمامهم باللهو، ولذا خصّت بردّ الضمير إليها، بل في ذلك إيماء إلى أنّ اللهو ليس ممّا يعتدّ به، ويعتني بذكره، بل المقصود الأصليّ هو التجارة.

وكيف كان ففي «تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ رحمه الله» قال : كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يصلّي بالناس يوم الجمعة ودخلت ميرة وبين يديها قوم يضربون بالدفوف والملاهي، فترك الناس الصلاة ومرّوا ينظرون إليهم، فأنزل الله قوله :( وَإِذا رَأَوْا ) (٢) إلى آخره.

والميرة بكسر «الميم» وسكون «الياء» : طعام يمتاره الإنسان، أي : يجلبه من بلد إلى بلد، يقال : مار القوم : إذا أتاهم بالطعام. ومنه قوله تعالى :( وَنَمِيرُ أَهْلَنا ) (٣) .

وفي الحديث : سمّي أمير المؤمنين عليه السلام لأنّه يميرهم العلم(٤) .

والمراد أنّ هذا الاسم كان في الأصل حكاية عن قوله عليه السلام :

__________________

(١) مشكلات العلوم : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٦٧.

(٣) يوسف : ٦٥.

(٤) الكافي ١ : ٤١٢.

٢٨١

أمير المؤمنين، أي أنا أطعمهم بالعلم. فـ «أمير» صيغة متكلّم من «مار، يمير» كباع يبيع.

وفي «الكشّاف» : روي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبيّ صلّى الله عليه وآله يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليه، خشوا أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلّا يسير ـ قيل : ثمانية، وأحد عشر، وإثنا عشر، وأربعون ـ فقال عليه السلام : والّذي نفس محمّد بيده! لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد بـ «اللهو»(١) .

وعن قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرّات في كلّ مقدم عير(٢) . انتهى.

وفي رواية جابر بن عبد الله : أقبلت عير ونحن نصلّي مع رسول الله فانفضّ الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم، فنزلت الآية(٣) .

وفي «تفسير البيضاويّ» : والترديد أي بين اللهو والتجارة بكلمة «أو» للدلالة على أنّ منهم من انفضّ بمجرّد سماع الطبل ورؤيته(٤) . انتهى.

قوله «قائما» أي على المنبر حال الخطبة والوعظ، ويستفاد منه وجوب القيام في هذه الخطبة واشتراطه فيها، قال العلّامة في التذكرة : الثالث ـ أي من شروط الخطبة ـ : قيام الخطيب حال خطبته عند علمائنا أجمع. وبه قال الشافعيّ، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله خطب قائما، فيجب متابعته، ولقول

__________________

(١ و ٢) الكشّاف ٤ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧.

(٣) بحار الأنوار ٢٢ : ٥٩.

(٤) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٤٩٣.

٢٨٢

الصادق عليه السلام : أوّل من خطب وهو جالس معاوية ؛ استأذن الناس في ذلك لوجع كان بركبتيه. إلى أن قال : لو خطب جالسا مع القدرة بطلت صلاته لفوات شرط الخطبة(١) . انتهى.

والواجب فيها خطبتان وادّعى على ذلك العلّامة رحمه الله الإجماع، قال : ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يخطب خطبتين، ولأنهما أقيما مقام ركعتين، فالإخلال بإحداهما منهما إخلال بركعة(٢) . انتهى.

ويستفاد أيضا من الآية حرمة انفضاض من حضر في المسجد وتفرّقهم قبل إتمامهم الصلاة واستماعهم للخطبة، لأنّ الله تعالى ذمّهم على هذا العمل.

وفروع صلاة الجمعة كثيرة، إلّا أنّ اشتراطنا في مشروعيّتها حضور الإمام المعصوم عليه السلام قد كفانا تجشّم مؤنة بيان هذه الفروع، وعلى من لا يشترطه، الرجوع إلى كتب الفقه.

والدليل على قوله تعالى( وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) أنّ كلّ رزق ينتفع به العبد ولو من غير الله فأصله من الله، وإنّما الغير واسطة لوصوله إلى العبد، والرزق مقسوم من عنده تعالى لا يزيده قيام حريص، ولا ينقصه قعود مخمل، وقد قال الله تعالى :( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ ) (٣) .

وفي مواعظ النبيّ صلّى الله عليه وآله في حجّة الوداع : ألا وإنّ الروح

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٤ : ٧٠.

(٢) تذكرة الفقهاء ٤ : ٦٢.

(٣) الزخرف : ٣٢.

٢٨٣

الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، [فإنّ الله] قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسّمها حراما، فمن اتّقى وصبر أتاه رزق الله، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه قرصص به من رزقه الحلال، وحوسب به يوم القيامة(١) . انتهى.

وهذا ممّا يدلّ على صحّة تفسير المعتزلة للرزق بأنّه كلّ ما صحّ انتفاع الحيوان به بالتغذّي أو غيره، وليس لأحد منعه منه، وعلى بطلان قول الأشاعرة بأنّه كلّ ما انتفع به وإن كان حراما، فالحقّ أنّ الرزق المقسوم لا يكون إلّا حلالا.

نعم في حديث عمر بن قرّة : أي عدوّ الله، لقد رزقك الله طيّبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله(٢) إلى آخره. فتأمّل.

خاتمة : قال الكفعميّ رحمه الله في «مصباحه» : من أدمن قراءتها أي سورة الجمعة ـ ليلا ونهارا، صباحا ومساء أمن من وسوسة الشيطان(٣) . انتهى.

وروى مرسلا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : من قرأها أعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة، ومن يأتيها في أمصار المسلمين(٤) .

__________________

(١) عدّة الداعي : ٨٣.

(٢) بحار الأنوار ٥ : ١٥٠.

(٣) مصباح الكفعميّ : ٤٥٧.

(٤) مصباح الكفعميّ : ٤٤٧.

٢٨٤

قال رحمه الله : وعن الصادق عليه السلام : من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة والأعلى وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنما يعمل بعمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنّة(١) . انتهى.

ورواه أيضا الصدوق رحمه الله في «ثواب الأعمال»(٢) والطبرسيّ رحمه الله في «مجمع البيان»(٣) .

تمّ الكتاب بيد مصنّفه

__________________

(١) مصباح الكفعميّ : ٤٤٧.

(٢) ثواب الأعمال : ١١٨.

(٣) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٧.

٢٨٥
٢٨٦

تفسير

سورة الملك

٢٨٧
٢٨٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[المقدّمة]

حامدا مسبّحا لمن بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير، ومصلّيا على رسوله البشير النذير، وعلى آله العارفين بموارد التأويل ومصادر التفسير.

أمّا بعد، فيقول العبد الضعيف ابن علي مدد حبيب الله الشريف : إنّ هذه العجالة(١) تفسير موجز لسورة «الملك» الّتي من قرأها تنجيه وتقيه من عذاب القبر ؛ فلذا سمّيت «بالمنجية» و «الواقية» أيضا.

وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال : إنّ سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية، شفعت لرجل، فأخرجته يوم القيامة من النار، وأدخلته الجنّة، وهي سورة تبارك(٢) .

وهذا الحديث يعضد ما عليه أكثر القرّاء من أنّ آياتها ثلاثون، ويردّ ما ذهب إليه إسماعيل المكّيّ والمدنيّ الأخير(٣) ـ وهو إسماعيل بن جعفر من قرّاء المدينة ـ من أنّ عدد هذه السورة بحسب الآيات إحدى وثلاثون، فزعم

__________________

(١) العجالة : ما تعجّلته من كلّ شيء، ما حضر من الطعام، ما يعجّل للضيف منه. المنجد في اللغة.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٦.

(٣) والمدنيّ الأوّل : يزيد بن القعقاع.

٢٨٩

أنّ قوله تعالى :( قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ) (١) آية مستقلّة لاجزء الآية ؛ أي قوله :( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا ) (٢) إلى آخره.

قال الطبرسيّ رحمه الله في أوائل مجمع البيان : والفائدة في معرفة ؛ آي القرآن أنّ القارئ إذا عدّها بأصابعه كان أكثر ثوابا، لأنّه قد شغل يده بالقرآن مع قلبه ولسانه، وبالحريّ أن تشهد له يوم القيامة، فإنّها مسؤولة، ولأنّ ذلك أقرب إلى التحفّظ، فإنّ القارئ لا يأمن السهو(٣) . انتهى.

وليعلم أنّ لفظ «السورة» يهمز ولا يهمز ؛ كما هو المشهور.

قال الحسن بن محمّد القمّيّ النيسابوريّ في تفسيره المسمّى بغرائب القرآن : وعليه ـ أي على ترك الهمز ـ القراءة، قال : والسورة اسم لآي جمعت وقرنت بعضها إلى بعض حتّى تمّت وكملت وبلغت في الطول المقدار الّذي أراد الله تعالى، ثمّ فصل بينها وبين سورة أخرى ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا تكون السورة إلّا معروف المبتدأ، ومعلوم المنتهى.

وقيل : اشتقاقها من سور البناء والمدينة، لأنّ السور يوضع بعضه فوق بعض حتّى ينتهي إلى الارتفاع الّذي يراد، فالقرآن أيضا وضع آية إلى جنب آية حتّى بلغت السورة في عدد الآي المبلغ الّذي أراد الله تعالى.

وقيل : سمّيت سورة، لأنّها وصفت بالعلوّ والرفعة ؛ كما أنّ سور المدينة سمّي سورا لارتفاعه. قال النابغة :

__________________

(١) الملك : ٩.

(٢) الملك : ٨.

(٣) مجمع البيان ١ : ٩.

٢٩٠

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

أي شرفا ورفعة.

وقيل : سمّيت سورة لإحاطتها بما فيها من الآيات ؛ كما أنّ سور المدينة محيط بمساكنها وأبنيتها.

وجمع سورة القرآن «سور» بفتح الواو ؛ مثل جملة وجمل، وجمع سور البناء «سور» بالسكون، مثل صوفة وصوف(١) . انتهى.

وإنّما سمّيت «الآية» آية لكونها علامة لصدق النبيّ صلّى الله عليه وآله ولإعجازه، أو عجيبة ممّن أتى بها دالّة على صدقه في دعواه ؛ أنّها من الله كاشفة عن مباينها كلام المخلوق.

وقيل : «الآية» بمعنى الجماعة من الحروف ؛ من قولهم : خرج القوم بآيتهم ؛ أي بجماعتهم بحيث لم يدعوا وراءهم أحدا.

وقد اختلف في وزنها أيضا ؛ فعن الخليل : أنّه «فعلة» محرّكة، فأصلها «آيية» قلبت «الياء» الأولى «ألفا» لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. وعن الفرّاء : إنّ أصلها «آيّة» بتشديد «الياء». وعن الكسائيّ : إنّ أصلها «آيية» على وزن «فاعلة» فحذفت إحدى الياءين للاستثقال.

وكيفما كان فربّما يجعل في أسماء هذه السورة تبارك كما في [سورة] «ص» و [سورة] «ق» لافتتاحها بهذه الكلمة. وفيه نظر، فإنّ الغرض من وضع الأعلام : التعيين، واشتراكها مع سورة «الفرقان» المفتتحة بها ينافيه، فتأمّل.

__________________

(١) غرائب القرآن ورغائب الفرقان ١ : ٢٨ ـ ٢٩.

٢٩١

إذا عرفت هذه الجملة فاستمع لما يتلى عليك من تفسير هذه السورة الشريفة،فنقول :

قال الله تبارك وتعالى :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وهذا تعليم للعباد، وإرشاد لهم إلى سنن السداد، ليكمل جلائل مقاصدهم، ويتمّ عظائم فوائدهم ؛ أي : قولوا يا عبادي! هذه الكلمات متوسّلين بها إلى نجح الكرامات، وتقدير القول في أمثال المقام ممّا لا بدّ منه ؛ كما لا يخفى.

وفضائل البسملة وأسرارها وخواصّها ممّا لا يعدّ ولا يحصى، بل المؤمن بتركها في مواردها يمحّص ويبتلى ؛ كما يشهد به قصّة عبد الله بن يحيى، فإنّه دخل على أمير المؤمنين عليه السلام وبين يديه كرسيّ فأمره بالجلوس، فجلس عليه، فمال به حتّى سقط على رأسه، فأوضح عن عظم رأسه وسال الدم، فأمر [أمير المؤمنين] عليه السلام بماء، فغسل عنه ذلك الدم، ثمّ قال : ادن منّي، فدنا منه، فوضع يده على موضحته وقد كان يجد [من] ألمها ما لا صبر له معه، ومسح يده عليها وتفل فيها [فما هو أن فعل ذلك] حتّى اندمل وصار كأنّه لم يصبه شيء قطّ.

ثمّ قال عليه السلام : يا عبد الله، الحمد لله الّذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم، لتسلم لهم طاعتهم، ويستحقّوا عليها ثوابها.

فقال عبد الله [بن يحيى] : يا أمير المؤمنين، [و] إنّا لا نجازى بذنوبنا إلّا في الدنيا؟

قال : نعم، أما سمعت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله : الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر، إنّ الله يطهّر شيعتنا من ذنوبهم في الدنيا بما يبتليهم

٢٩٢

من المحن، وبما يغفره لهم، فإنّ الله يقول :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (١) حتّى إذا وردوا(٢) القيامة توفّرت عليهم طاعاتهم وعباداتهم، وإنّ أعداء محمّد وأعداءنا يجازيهم على طاعة تكون منهم في الدنيا ـ وإن كان لا وزن لها، لأنّه لا إخلاص معها ـ حتّى إذا وافوا القيامة حملت عليهم ذنوبهم وبغضهم لمحمّد وآله وخيار أصحابه فقذفوا لذلك في النار.

ثمّ ذكر عليه السلام له قصّة الرجل الكافر الّذي اشتهى في مرضه السمكة في غير أوانها، والرجل المؤمن الّذي اشتهاها في أوانها(٣) .

فقال عبد الله : يا أمير المؤمنين، قد أفدتني وعلّمتني، فإن رأيت أن تعرّفني ذنبي الّذي امتحنت به في هذا المجلس ؛ حتّى لا أعود إلى مثله.

قال : تركك حين جلست أن تقول «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فجعل الله ذلك لسهوك عمّا ندبت إليه تمحيصا بما أصابك، أما علمت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله حدّثني عن الله، أنّه قال : كلّ أمر ذي بال لم يذكر اسم الله فيه فهو أبتر؟!

فقلت : بلى بأبي أنت وأمّي، لا أتركها بعدها.

قال : إذا تحظى بذلك وتسعد.

ثمّ قال عبد الله : يا أمير المؤمنين، ما تفسير( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ؟

قال عليه السلام : إنّ العبد إذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملا يقول «بسم الله»

__________________

(١) الشورى : ٣٠.

(٢) في المصدر : أوردوا.

(٣) انظر : بحار الأنوار ٩٢ : ٢٤٠.

٢٩٣

أي بهذا الاسم أعمل هذا العمل، فكلّ عمل يعمله يبتدئ(١) فيه بـ «اسم الله» فإنّه يبارك فيه(٢) . انتهى.

ويستفاد من آخر هذا الحديث رجحان تقدير متعلّق الباء الّتي من حروف الجرّ فعلا متأخّرا، وإن احتمل فيه وجوه أربعة :

أحدها : ما ذكر.

وثانيها : تقدير الفعل متقدّما ؛ أي أبدأ بسم الله ؛ كما في قوله :( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) (٣) .

وثالثها : تقدير الاسم متأخّرا ؛ أي بسم الله ابتدائي ؛ كما في قوله تعالى :( بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) (٤) .

ورابعها : تقديره متقدّما ؛ أي ابتداء كلامي بسم الله، وقد يستدلّ على أولويّة التقديم بأنّ وجود واجب الوجود لذاته سابق على وجود غيره، والسابق في الذات يستحقّ السبق في الذكر، مع أنّ التقديم في الذكر أدخل في التعظيم. فتأمّل.

وحكي عن الجنيد ؛ أنّه قال : إنّ أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كلّ شيء سوى الله، فقال لهم : قولوا بسم الله ؛ أي تسمّوا بي ودعوا انتسابكم إلى آدم، ولعلّ مراده أنّه لا تفتخروا بانتسابكم إلى آدم عليه السلام وأنّكم أولاده، بل افتخروا بأنّكم عبادي وخلقي.

__________________

(١) في المصدر : كلّ أمر يبدأ.

(٢) تفسير الإمام : ٢٢.

(٣) العلق : ١.

(٤) هود : ٤١.

٢٩٤

ويستفاد منه، أنّ الباء متعلّقة بتسمّوا المضمر متأخّرا، والبسملة الّتي في أوائل السور آية مستقلّة وجزء منها ؛ باتّفاق أصحابنا الإماميّة، ومخالفونا مختلفون في ذلك. نعم، البسملة الثانية في سورة النمل جزء من الآية ؛ كما لا يخفى. وكذا في الفاتحة عند من يقف على «العالمين» دون «الرحيم».

والأكثرون على أنّ الاسم مشتقّ من السموّ ؛ وهو العلوّ والرفعة، لأنّ جمعه المكسّر على أسماء، وتصغيره على سميّ، ويدلّ عليه سائر تصاريفه. وذهب الكوفيّون إلى أنّ مبدأ اشتقاقه الوسم، والسمة بمعنى العلامة. وحسبك في ردّهم عدم جمعهم له على أوسام، وعدم تصغيره بوسيم، وكونه علامة للمسمّى ومعرّفا لا يقتضي اشتقاقه من الوسم، مع أنّ السموّ أيضا مناسب له.

قيل : لأنّ التسمية تنويه بالمسمّى، وإشادة بذكره.

وقيل : لأنّ الاسم معرّف، والمعرّف لكونه متقدّما على المعرّف، عال عليه.

ولكن روي عن الرضا عليه السلام أنّه قال في تفسير البسملة ؛ يعني : أسم نفسي بسمة من سمات الله [وهو العبوديّة. قال : فقلت : ما السمة؟ قال : العلامة](١) . فتأمّل.

والحقّ تغاير الاسم والمسمّى والتسمية مفهوما ومصداقا، فإنّ الاسم قد يكون موجودا، والمسمّى معدوما، بل ممتنعا ؛ كشريك الباري، وقد يعكس ؛ كما في الحقائق الّتي لم يوضع لها اسم. وقد يكون الاسم كثيرا

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٢٣٠.

٢٩٥

والمسمّى واحدا ؛ كما في الترادفات، وقد يعكس ؛ كما في الألفاظ المشتركة. وذيل الكلام في هذا المقام طويل، ولكنّه قليل الجدوى.

نعم، لو أريد بالاسم صفة الحقّ تعالى فالحقّ العينيّة ؛ كما فصّل في محلّه، والفرق بين التسمية والاسم أنّ التسمية هي تعيين اللفظ بإزاء المعنى المعيّن، فالاسم هو اللفظ المعيّن، والتسمية هي تعيينه، فالتغاير واضح ؛ كما لا يخفى، وقد بسطنا الكلام في ذلك في تفسير الفاتحة.

وقد يقال : إنّه لا معنى للاستعانة بالاسم، وإنّما هو حرف وصوت، وكلاهما مخلوق، فلا يستعان به، فلا بدّ من القول بزيادة لفظ الاسم ؛ كما في قوله :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ) (١) ، وقوله :( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ) (٢) وقول الشاعر :

إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما(٣)

وفيه نظر من وجوه لا تخفى.

ومن أسمائه الحسنى، كلمة «الله» وهو علم لذاته المستجمع لجميع الصفات الكماليّة، فإن كان الواضع هو الله فلا إشكال، وإلّا فلا يشترط في الوضع الإدراك الكلّيّ التامّ للموضوع له، وممّا يدلّ على كونه اسما للذات وقوعه موصوفا لسائر الأسماء، لا صفة، ومنها «الرحمن» و «الرحيم»، والأوّل اسم خاصّ بصفة عامّة، أمّا الأوّل، فلأنّه لا يطلق على غير الله، وأمّا الثاني، فإنّ هذه الرحمة تشمل المؤمن والكافر. والثاني اسم عامّ بصفة خاصّة، أمّا

__________________

(١) الرحمن : ٧٨.

(٢) الأعلى : ١.

(٣) تكملة البيت : ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر. والبيت للشاعر لبيد.

٢٩٦

الأوّل فلإطلاقه على الله وعلى غيره، وأمّا الثاني فلاختصاص هذه الرحمة بالمؤمنين ؛ كما قال :( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) (١) .

وفي البسملة أسرار عجيبة، وخصائص غريبة، وأبحاث كثيرة ؛ قد طوينا الكشح عن شرحها، مخافة الإطالة.

( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) أي تعالى الله وتعاظم في أسمائه وصفاته وأفعاله عن كلّ شيء، فلا لأحد أن يعرفه حقّ معرفته، أو يصفه حقّ صفته، أو كثرت خيراته وتزايدت فيوضاته على كلّ مخلوق بحسب استعداده وقابليّته ؛ كما قال :( فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) (٢) من البركة، وهي زيادة الخير وكثرته ونماؤه.

ومنه قوله صلّى الله عليه وآله : بورك لأمّتي في سبتها وخميسها(٣) .

وفي سورة الإسراء :( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) (٤) أي بكثرة النعم من كلّ جنس.

وقوله صلّى الله عليه وآله : تسحّروا، فإنّ في السحور بركة(٥) . أي زيادة القوّة على الصوم، وقيل ؛ أي زيادة في العمر.

أو تقدّس وجلّ بما لم يزل عليه من الصفات، ولا يزال كذلك، فلا

__________________

(١) الأحزاب : ٤٣.

(٢) الرعد : ١٧.

(٣) بحار الأنوار ٥٩ : ٣٦.

(٤) الإسراء : ١.

(٥) بحار الأنوار ٦٢ : ٢٩٢، إلّا أنّه ليس فيه كلمة «في»، وأيضا : طبّ النبيّ : ٢٢، وعوالي اللئالي ١ : ١٠٤.

٢٩٧

يشاركه فيها غيره، أو قام بكلّ بركة، وجاء بكلّ بركة، من بروك الطائر على الماء ؛ أي ثبوته ووقوفه عليه، ومنه «البركة» بكسر الباء وسكون الراء للمكان الّذي يثبت فيه الماء، ويعدّ لإقامة الماء فيه، ويقال : برك البعير : إذا ناخ في موضعه فلزمه.

قال أبو البقاء : البركة : النماء والزيادة ؛ حسّيّة كانت أو معنويّة، وثبوت الخير الإلهيّ في الشيء ودوامه، ونسبتها إلى الله تعالى على المعنى الثاني ـ إلى أن قال ـ : وبارك على محمّد صلّى الله عليه وآله : أدم ما أعطيته من الشرف والكرامة انتهى، فتأمّل.

وإلى بعض ما ذكرناه يرجع ما قيل في تفسيره بأنّه تقديس الذات والصفات عن الإدراك، وما قيل في معناه ؛ أي تعالى الله عن الأشباه ؛ إذ لا شبيه له في الأزل، وتقدّس عن الأضداد ؛ إذ لم يكن له ضدّ إلى أبد الأبد.

وفي بعض كلمات الأكابر : تبارك كالكناية، والكناية كالإشارة، والإشارة لا يدركها إلّا الأكابر. وفي بعضها : أي هو المبارك ؛ أي بكسر الهاء على من انقطع إليه وكان له، وهذا الفعل إذا نسب إلى الذات فهو تنزيه له، ولذا نسب إلى الاسم ؛ كما في قوله :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ) (١) فهو تنزيه له والمبارك بفتح الراء : النفّاع ؛ كما في قوله :( وَجَعَلَنِي مُبارَكاً ) (٢) ؛ أي نفّاعا كثير الخير. ويقال للسائل : بورك فيك، يقصد به ردّ سؤاله، لا الدعاء له. وبه صرّح أبو البقاء في كلّيّاته.

__________________

(١) الرحمن : ٧٨.

(٢) مريم : ٣١.

٢٩٨

والليلة المباركة : ليلة القدر، لنزول القرآن فيها. وقيل : النصف من شعبان.

والشجرة المباركة : شجرة الزيتون، لأنّها كثيرة البركة والمنفعة ؛ يسرج دهنها، ويؤتدم به، ويوقد بحطبها، وهي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان.

والذكر المبارك : القرآن، لما فيه من زيادة البيان على الكتب السماويّة، ولأنّه لا ينسخ فيبقى إلى يوم القيامة، فيكثر الانتفاع به. وفي جعل المسند إليه موصولا تعظيم وإشارة إلى جهل المخاطبين بحقيقة ذاته، وأنّهم يعرفون أنّه تعالى مالك الملك، والمتصرّف فيه بما يشاء، فيؤتيه من يشاء، وينزعه ممّن يشاء ؛ كما قال :( قُلِ أللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) ، وقوله :( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) ؛ أي في قبضة قدرته الملك، فـ «الباء» بمعنى «في» كما في قوله :( وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٢) فالتعبير باليد كناية عن كمال القدرة وقوّتها، والأولى حمل الملك على جميع ما سوى الله من العوالم الإمكانيّة دون خصوص عالم الأجسام والطبائع ؛ أي مقابل عالم الملكوت، وهو عالم الأرواح جملة، وقد يطلق على عالم المثال خاصّة، ويقال على الأوّل : الملكوت العامّة، وعلى الثاني : الخاصّة.

وفي بعض العبارات : إنّ الملكوت هو عالم الملائكة خاصّة، وفي بعضها : إنّ ملكوت الشيء حقيقته المجرّدة اللطيفة، الغير المقيّدة بقيود

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) الزمر : ٦٧.

٢٩٩

كثيفة جسمانيّة، ومنه قوله تعالى :( بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) .

وقد يقال : عالم الملك والملكوت ويراد به عالم الشهادة والغيب، ولعلّ الاكتفاء بالملك في الآية لانطوائه على الملكوت، فالظاهر المحسوس من كلّ شيء هو الملك، وحقيقته الباطنيّة المنطوية فيه هي الملكوت، ولعلّه مراد من قال : كلّ شيء فيه معنى كلّ شيء. فتفطّن واصرف الذهن إليّ. فتأمّل.

وفي الكلّيّات : الملك بالكسر أعمّ من المال، يقال : ملك النكاح، وملك القصاص، وملك المتعة، فهو قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرّف، فخرج نحو الوكيل، كذا في فتح التقدير. وينبغي أن يقال : إلّا لمانع كالمحجور عليه، فإنّه مالك ولا قدرة له على التصرّف، والمبيع المنقول ملك للمشتري ولا قدرة له على بيعه قبل قبضه، وملك يميني أفصح من الكسر.

والملك بالضمّ : عبارة عن القدرة الحسّيّة العامّة لما يملك شرعا، ولما لا يملك.

وفي القاموس : بالضمّ معلوم، ويؤنّث، وبالفتح ككتف وأمير وصاحب : ذو الملك(٢) .

وقال الزجّاج : بالضمّ : السلطان والقدرة، وبالكسر : ما حوته اليد، وبالفتح : مصدر. وقيل : بالضمّ يعمّ التصرّف في ذوي العقول وغيرهم،

__________________

(١) يس : ٨٣ ؛ المؤمنون : ٨٨.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ٤٦٧ (ملك).

٣٠٠