ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 108299
تحميل: 4442


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108299 / تحميل: 4442
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يغضب البشر؟، فأتيتُ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول الله، إنّ قريشاً تقول: تكتب عن رسول الله، وإنّما هو بشر يغضب كما يغضب البشر، قال: فأومأ لي شفتيه فقال: «والذي نفسي بيده ما يخرج ممّا بينهما إلاّ حقّ فاكتبْ».

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد أصل في نُسخ الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يخرّجاه(1) .

قال: ولهذا الحديث شاهد قد اتّفقا على إخراجه على سبيل الاختصار، عن همام بن منبّه، عن أبي هريرة أنّه قال: ليس أحد من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر حديثاً منّي إلاّ عبد الله بن عمرو، فإنّه يكتب وكنت لا أكتب(2) .

فأمّا حديث الشاهد:

فحدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، أنبأ محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني عبد الرحمان بن سلمان، عن عقيل بن خالد، عن عمرو ابن شعيب: أنّ شعيباً حدّثه، ومجاهداً أن عبد الله بن عمرو حدّثهم: أنّه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: «نعم»، قلت: عند الغضب وعند الرضا؟ قال: «نعم، إنّه لا ينبغي لي أن أقول إلاّ حقًّا»(3) .

وأخرج الحاكم بسنده عن عمرو بن العاص: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن كتَم

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 1: 186/357، ووافقه الذهبي في التلخيص.

(2) نفسه.

(3) نفسه 187/ 358.

١٤١

عِلماً ألْجَمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار»(1) .

وبسنده عن عبد الله بن بريدة قال: قال عليّعليه‌السلام : تذاكروا الحديث، فإنّكم إلاّ تفعلوا يندرس(2) .

وكذلك بسنده عن أبي يحيى الحماني، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال عبد الله تذاكروا الحديث، فإنّ ذِكر الحديث حياتُه(3) .

وعن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: ما كلّ الحديث سمعنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان يحدّثنا أصحابنا وكنّا مشتغلين في رعاية الإبل(4) .

وعن فُضَيل بن عِياض، عن الأعمش، عن عبيد الله بن عبد الله، عن سعيد ابن جُبير، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «تسمعون، ويُسمع منكم، ويُسمع من الذين يسمعون منكم»(5) .

وذكر مثله بسند آخر عن جرير، عن الأعمش عن(6) قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وليس له علّة، ولم يخرّجاه، وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن مسعود، وثابت بن قيس بن شمّاس، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وابن جريج عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول

____________________

(1) نفسه 182/ 346.

(2) نفسه 173/ 324.

(3) المستدرك على الصحيحين ح 325.

(4) نفسه ح 326. قال الذهبيّ في التلخيص: هذه الأحاديث صحاح.

(5) نفسه 174/ 326.

(6) نفسه، ح 327.

١٤٢

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قيّدوا العلم» قلت: وما تقييده؟ قال: «كتابته»(1) .

وبسند عن عبد الله الأنصاريّ، حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس: أنّه كان يقول لبنيه: قيّدوا العلم بالكتاب(2) .

فائدة

لقد كان فعل أبي بكر بحرق أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ منعه من التحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: «فمن سألكم فقولوا: ...» مخالفاً للقرآن الكريم الذي يأمر بطاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (3) ، ولا تختلف السنّة عن القرآن في الحجيّة، وما الحديث إلاّ مفسّراً للقرآن وشارحاً لمراده، فما جاء من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّه وحيٌ، إمّا بلفظه وهو القرآن الكريم لأنّه مُعجِز، أو أحكام وبيان بلفظ وكلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فكيف يُؤخذ نصف الوحي ويُهمل نصفه الآخر؟!

إنّ القرآن الكريم عدا كونه معجزة النبيّ، ففيه أحكام وعبادات ذُكرت إجمالاً نجدُ تفصيلها في أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته ...

أخرج الحاكم بسنده عن الحسن قال: بينما عمران بن حصين يحدّث عن سُنّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال له رجل: يا أبا نجيد، حدّثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك يقرأون القرآن، أكنتَ محدّثي عن الصلاة وما فيها وحدودها، أكنت

____________________

(1) نفسه 188/ 362.

(2) نفسه، ح 361.

(3) الحشر: 7.

١٤٣

محدّثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ ولكن قد شهدتُ وغبتَ أنت، ثمّ قال: فرض علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الزكاة كذا وكذا، وقال الرجل: أحييتني أحياك الله.

قال الحسن: فما مات ذاك الرجل حتّى صار من فقهاء المسلمين(1) .

وإنّ فعله هذا مخالف لسنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا كان القرآن مبهماً له كما هو شأن آية الكلالة، والعمّة! فإنّ حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة في هذا الأمر لا يحتاج إلى بيان، وجوابهصلى‌الله‌عليه‌وآله «اكتب» للّذين سألوه يفهمها الصغير والكبير، إلاّ أن يقول أبوبكر لم أكن حاضراً حينما سأله كلّ أولئك! ولا بلغني أيضاً عنهم، وحتّى لو بلغني فقد قدّمت المعذرة وقلت إنّي خفت الخلاف وإن بلغني من ثقة فأحرقتها!

والأحاديث والروايات الواردة بلفظ «قيّدوا العلم بالكتاب» فتقييده بالكتاب، أي كتابته، لا يختلف فيه أحد، والعلم هنا واضح: هو السُنّة والحديث فكيف يحرقها؟!

وقد جرت سنّة البشر في تتبّع آثار الناس العاديّين وحفظ أقوالهم اعتزازاً بها فيكتبونها لئلاّ تضيع؛ فهل يجوز أن تُترك أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل تُحرق؟!

واعتذار أبي بكر بأنّه أحرق الأحاديث خوف الخلاف تحوّطاً، فقد سمعها من ثقات ولكن لا يدري هل سجّلها على مثل ما حدّثه الثّقة، وفي قول: مخافةَ أن يكونَ كتبَ شيئاً لم يحفظه جيّداً؛ قد نسفه أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابة حديثه ومارسه الصحابة في حياته، وحديث عمران بن حصين مع الرجل الذي طلب

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 1: 192/ 372.

١٤٤

منه أن يحدّثه بالقرآن، فحدّثه بالسُنّة - وقد مضى - مصداق صادع عن اجتراء أبي بكر إثماً عظيماً في حرقه أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه إن لم يكن الأدب واللّياقة حكماً في احترام أثر الرسول؛ فإن الله تعالى أمرنا بطاعته وليس لنا الخيرة بعد قضاء الله ورسوله؛( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) .

وقد أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابة حديثه، فإن قلت: بل أقرّ، فتقريره وأمره وفعله وقوله سُنّة. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قيّدوا العلم». فلمّا سُئل ما تقييده؟ قال: «كتابته». فهذا أمر صريح بالكتابة، ولكن كتابة ماذا وأيّ علم؟ إنّها أحاديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يُنكر ذلك عاقل!

وحديث ابن عبّاس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «تسمعون، ويُسمع منكم ويُسمع من الذين يسمع منكم». حثّ من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على التحرّز في حفظ حديثه ونقله بأمانة وممّا يعين على ذلك كتابته ز ولم يقل لهم إن أنا متُّ كفاكم كتاب الله!!، فما مستند أبي بكر في قوله: «بيننا وبينكم كتاب الله؟!»، الذي يذكّرنا بقول عمر بن الخطّاب ليلة الرزيّة - سنذكرها - لما اعترض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة الكتاب، فرفع عمر صوته: «حسبُنا كتاب الله» ولما كثر اللّغط طردهم رسول الله من رحمة الله فراحوا إلى حلبة الصراع في سقيفة بني ساعدة ولم يبق مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ عليّعليه‌السلام يمرّضه مسنده إلى صدره ورسول الله يسرّه حتّى فاضت نفسه الزكيّة بين سَحْر ونَحْر عليّعليه‌السلام .

ولقد تنبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيكون بعده من الحيلولة دون حديثه الشريف

____________________

(1) الأحزاب: 36.

١٤٥

والتذرّع في ذلك بكتاب الله المجيد وقطع الطريق أمام أولئك بقوله: «إنّما حرّم رسول الله كما حرّم الله»، وذلك أنّ رسول الله لا ينطق عن الهوى؛ إن هو إلاّ وحيٌ يوحى، قرآناً أو حديثاً. وهذه بعض الأحاديث في ذلك:

أحاديث الأريكة

بسندٍ عن المِقدام بن مَعْدِ يَكرِبَ الكنديِّ؛ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يُوشِكُ الرجلُ منكم مُتّكِئاً على أريكته يُحدَّث من حديثي فيقولُ: بيننا وبينكم كتابُ الله عزّ وجلّ. فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه. وما وجدنا فيه من حرامٍ حرّمناه. ألاَ وإِنّ ما حرّمَ رسولُ الله مثلُ ما حرّمَ اللهُ»(1) .

«يوشك» من أفعال المقاربة، والأريكة رمز للحكم والحاكميّة، والاتّكاء: الاستيلاء والاستقواء ...؛ وكلّ ذلك تحقّق في أبي بكر ثمّ عمر ومَن استنّ بسنّتهما في المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأبوبكر صار إلى الأريكة «الحكم» في سقيفة بني ساعدة ...، وكانت الأحاديث فيها تبيان وتفصيل للعبادات، وفيها الكثير من الحديث عن منزلة عليّ أميرالمؤمنين وأنّه الوصيّ وقتاله كفر وأنّه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة هارون من موسىعليهما‌السلام ، وأنّه بابُ مدينة علم النبيّ وأحبُّ الخلق إليه

____________________

(1) مسند أحمد 4/ 131، سنن أبي داود (كتاب السنّة) باب (5) لزوم السنّة (4/ 200، ح 4604)، سنن ابن ماجة 1/ 6، ح 12، سنن الدارمي (1/ 117 ح 592)، سنن البيهقي (9/ 331) دلائل النبوّة له (1/251)، صحيح ابن حبّان (1/147) سنن الترمذي، كتاب العلم (2/ 110)، الحازمي في: الاعتبار (7)، الخطيب في (الكفاية 39 - 40) و (الفقيه والمتفقّه 1/ 88)؛ المستدرك على الصحيحين 1/ 191/ 371).

١٤٦

والذي لم يكفر طرفة عين وأسبق الناس إلى الإسلام ...، هذه وغيرها من الخصائص التي تليق بالحاكم والحاكميّة؛ فضلاً عن حديث القرطاس. وهو من دلائل النبوّة، إذ لو لم يبادر أبوبكر فيحرق أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول: «بيننا وبينكم كتاب الله، ويتبعه عمر فيشدّد ويحرق الأحاديث ويحبس الصحابة لئلاّ يخرجوا إلى الآفاق فيحدّثوا، وكذلك عثمان الذي بلغت به الجرأة بتسيير فضلاء الصحابة المعارضين لسياسته إلى الشام ليجدوا فيها مَن هو أعظم جرأة على الله ورسوله ذلك هو معاوية الذي هتك حُرمتهم وكان أكثر نكيراً على رواة الحديث على ما سنرى.

لفتُ نظر

ومهما قدّم البعض من ذرائع لفعل أبي بكر أو عمر ...؛ فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حذّر من فعل هؤلاء بتستّرهم بالقرآن الكريم، فقطع الطريق عليهم بقوله: «أَلاَ وإنّ ما حرّم رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مِثلُ ما حرّم الله». فالقرآن وحيٌ بلفظه ومعناه، والحديث وحيٌ بمعناه ولفظُه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد ذكرنا أنّ الحديث مفسّر للقرآن شارح لمراده؛ فالسنّة امتدادٌ للقرآن وتطبيق عمليّ لمؤدّاه واتّباعها اتّباع للقرآن.

وعقد الدارميّ باباً ترجمه: «باب أنّ السُنّة قاضية على كتاب الله» نقل فيه

١٤٧

عن ابن أبي كثير شيخ الأوزاعي(1) قوله: «السُنّة قاضيةُ على القرآن، وليس القرآنُ بقاضٍ على السُنّة»(2) .

ونقل عن مكحول قوله: القرآن أحوج إلى السنّة، من السنّة إلى القرآن(3) .

قول الدارميّ، وقول مكحول؛ ذلك أنّ القرآن الكريم كما ذكرنا جاء معجزاً في أصله مبنيًّا على الإعجاز البلاغيّ في إثبات رسالة الإسلام وما فيه من أحكام وعقيدة جاءت مجملةً كلّف الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلها.

وقد جاء مَن قال لعمران بن الحصين: ما هذه الأحاديث التي تحدّثوناها وتركتم القرآن؟ لا تحدّثونا إلاّ بالقرآن!

فقال عمران: أرأيتَ لو وُكّلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطوافَ بالبيت سبعاً، والطوافَ بالصفا والمروة؟

وبطريق آخر أضاف: والموقف بعرفة؟ ورمي الجمار، كذا، واليد من أين تُقطع؟ أمن هاهنا؟ أم هاهنا؟ أهاهنا؟ ووضع يده على مفصل الكفّ، ووضع يده عند المرفق، ووضع يده عند المنكب.

____________________

(1) يحيى بن أبي كثير الطائيّ، مولاهم. قال عليّ ابن المديني، عن سفيان بن عُيينه، قال: قال أيّوب: ما أعلمـُ أحداً بعد الزُّهري أعلم بحديث أهل المدينة من يحيى بن أبي كثير. (المعرفة والتاريخ للفَسَوي 1/ 621).

قال شُعبة: يحيى بن أبي كثير أحسن حديثاً من الزُّهري. (الجرح والتعديل 9/ الترجمة 599) وقال العِجليّ: ثقةٌ، كان يُعدُّ من أصحاب الحديث. (ثقاته 475/ الترجمة 1823).

(2) سنن الدارمي (1/ 117) الباب 49 ح 594.

(3) الكفاية في علوم الرواية، للخطيب البغداديّ: 47.

١٤٨

ثمّ قال: اتّبعوا حديثنا ما حدّثناكم، وخذوا عنّا، وإلاّ والله ضللتم(1) .

وعن أيّوب السختياني، قال: إذا حدّثت الرجل بالسنّة، فقال: دعنا من هذا، وحدّثنا من القرآن؛ فاعلم أنّه ضالٌّ مضلٌّ(2) .

وأورد في كتابه (الفقيه والمتفقّه) أحاديث استدلّ بها على أنّ السنّة معتبرةٌ في عرض الكتاب الكريم(3) .

مزيدٌ من النصوص النبويّة في وجوب رواية الحديث

ذكرنا بعض أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جواز وأخرى وجوب كتابة حديثه الشريف، ونذكر بعضاً آخر:

بسندٍ عن زيد بن ثابت: «نَضَّرَ اللهُ امرأ سمِع مقالتي فبلّغها. فرُبّ حامِلِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ. ورُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أَفْقَهُ منه»(4) .

ومحمّد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالخِيف من مِنى(5) فقال: «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثمّ أدّاها إلى مَن لم يسمعها، فرُبّ حامل فقه لا فقه له، وربّ حامل فقه

____________________

(1) نفسه: 48.

(2) الكفاية في علوم الرواية، للخطيب البغداديّ: 49.

(3) الفقيه والمتفقّه، للخطيب (1/ 86 - 90).

(4) سنن ابن ماجة 1: 84/230، مسند أحمد 1: 437 و 4: 80.

(5) (الخيف من مِنى) الخِيف، الموضع المرتفع عن مجرى السيل المنحدر عن غلظ الجبل. ومسجد منى سمّي مسجد الخيف لأنّه في سفح جبلها.

١٤٩

إلى مَن هو أفْقه منه ...»(1) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من رغب عن سنّتي منّي»(2) وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن سُئل عن علمٍ فكتمه، ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة»(3) .

وقد روى حُذيفة بن اليمان، قال: دخلتُ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الذي قُبض فيه، فرأيته يتساند إلى عليّ، فأردتُ أن أُنَحّيه وأجلس مكانه، فقلت: يا أبا الحسن، ما أراك إلاّ تعبت في ليلتك هذه، فلو تنحّيْتَ، فأعَنْتُك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : دَعْهُ، فهو أحقّ بمكانه منك، اُدْنُ منّي يا حُذيفة، مَن أطعم مسكيناً لله عزّ وجلّ دخل الجنّة».

قال: قلتُ: يا رسول الله، أكتمُ أم أتحدّث؟!

قال: «بل تُحدّث به»(4) .

توجيهٌ غيرُ مقبول من الذهبيّ

بعد أن نقل الذهبيّ كلام أبي بكر في المنع من الحديث، عقّب على ذلك بقوله: إنّ مراد الصدّيق التثبُّتُ في الإخبار، والتحرّي، لا سدّ باب الرواية ولم يقُلْ «حسبُنا كتابُ الله» كما تقول الخوارج(5) .

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 1: 162/295.

(2) مسند أحمد (2/ 263 و 305 و 353 و 495).

(3) الفقيه والمتفقّه (1: 144).

(4) مختصر تاريخ دمشق 18: 295.

(5) تذكرة الحفّاظ 1/3.

١٥٠

وقول الذهبيّ، مع علمه غريب! فقوله: «إنّ مراده التَثبّت في الإخبار والتحرّي لا سدّ باب الرواية» لا دليل عليه ولا وجود له في النصّ، ولم ترد كلمة واحدة في هذا المعنى: التَثبّت والتحرّي، كأن يقول: لا تحدّثوا بكلّ ما تسمعون أو تروون. أو لا تحدّثوا بما لا تتثبّتون ويأمرهم بالاحتياط عن الخطأ والاشتباه.

وأمّا سدّ باب الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنع نقل الحديث عنه مطلقاً؛ هل أوضح بياناً ودلالةً على عموم المنع من جملة: «لا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً»؟

وقوله: «بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه» قرينة واضحة على أنّ مراده نَبْذُ السنّة مطلقاً، والاكتفاء بكتاب الله تعالى؛ لا سيّما إذا نظرنا إلى النهي الذي تقدّمها: «لا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً».

وأمّا قول الذهبيّ ولم يقل أبوبكر: «حسبنا كتاب الله كما تقول الخوارج». فمن البديهيّ: أنّ كلّ جملة يقولها إنسان تؤدّي هذا المعنى فهو يمنع الاستناد إلى الحديث ويكتفي بكتاب الله تعالى.

وكلام أبي بكر: «لا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً» وبعده: «بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»، يؤدّي نفس معنى: «حسبنا كتاب الله» تماماً!

وإذا كبُر على الذهبيّ، أو أراد أن يوجّه أو قل: اجتهد فأخطأ في فهم كلام أبي بكر؛ فدعنا نستريح هنيهةً من «حسبنا»، ولنكتفِ بجملة: «بيننا وبينكم كتاب الله» التي قالها أبوبكر، وقبلها الذهبيّ، فنقول: إنّ هذه الجملة هي عينها التي

١٥١

قالها رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مجذّراً من صاحب الأريكة - أي الحُكم - الذي عهده قَرُبَ وأنّه يحذف حديث النبيّ ويمنع منه ويقول: «بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ» وقد ذكرناه مع مصادره.

وأمّا ذكر الذهبيّ للخوارج في هذا الموضع فعجيب منه! إذ لم نعهد من الخوارج ذكرهم جملة «حسبنا كتاب الله» وإنّما شعارهم «لا حُكمَ إلاّ لله» وأمّا جملة «حسبُنا كتاب الله» فهي معروفةٌ من كلام عمر أكثرهم تشدّداً في منع تدوين حديث رسول الله، وأسبقُهم إلى ذلك! فهو الذي منع من تقديم «القرطاس» إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليكتب لهم كتاباً لنْ يضلّوا بعده، ومضى على هذه السياسة بعد رحلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتشدّد بها وحبس الصحابة من الخروج إلى الأمصار خوفاً من نشر الحديث وكتب كتاباً بالمنع إلى الآفاق ...

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أراد وهو يُودّع أُمّته ويُودِعُها تَرِكَته:

الثَّقلين، كتاب الله وعترته الطّاهرة، وفي سعيٍ منه لتوكيد ما عهدَهُ إليهم سابقاً، أراد أن يكتب لهم كتاب هداية وعصمة، إلاّ أنّه جُوبه بمعارضةٍ شديدة اُطلقت فيها كلمة لا تنبغي في حقّ مسلم محترم، فكيف بالنبيّ؟!

عن عبد الله بن عبّاس، قال: لمّا احتُضر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال: «هَلُمّ أكتبْ لكم كتاباً لن تضِلّوا بعده». فقال عمر: إنّ النبيّ غَلَبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبُنا كتابُ الله واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم مَن يقول: قرِّبوا يكتب لكم رسولُ الله كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم مَن يقول ما قال عمر!! فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: قُوموا عنّي

١٥٢

فكان ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1) .

وليس الخبر بهذا اللفظ الذي هذّبته بعض الأقلام! ولكنّه كافٍ وبهذا اللفظ لتوضيح عمق المأساة! فإنّ ميّتاً من عَرَض المجتمع يتنادى ذَوُوه وأصدقاؤه وتقع جَلَبة ويُحمل نعشه إلى مثواه الأخير ظاهرة عليهم آثار الحزن والأسى لفقده؛ وهذا سيّد الخَلق طرًّا خاتم الأنبياء والرُّسل يعيش لحظاته الأخيرة مع أصحابه ويريد أن يُتمّ لهم نصيحته وهدايته لئلاّ يضلّوا من بعده فيتعرّضوا لغضب الله تعالى كما حدث لليهود والنصارى، إلاّ أنّ البعض منهم قدّم بين يَدَيْه وقطع كلامه، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه في القرآن الكريم؛ وخالف سنّته وهو حيٌّ يمارس وظيفته في التبليغ، فكيف يكون الأمر بعد وفاته؟! وكيف كانت المقاطعة والردّ؟ كان نابياً، فإنّ «غَلَبه الوجَع» تساوي «يَهْجُر» التي تعني: يَهذي - والعياذ بالله! كما أنّ حالة اللّغو واللغط والاختلاف الناتجة عن هذا التصرّف سوء أدب في حضرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نهى القرآن عن رفع الأصوات فوق صوت النبيّ وعن الجهر له بالسّوء؛ «وإنّ النبيّ ليهجر»، أو «غلبه الوجع» ما هو إلاّ جهر بالسُّوء ثمّ ماذا يعني قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم: «قوموا عنّي»؟ إنّه يعني أنّه ساخط وغير راض عنهم، ورضاه من رضى الله تعالى وسخطه من سخطه!

ثمّة سؤال: لماذا اعترض عمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة الكتاب؟ هل

____________________

(1) صحيح البخاري 1: 37، 5: 138، 8: 161، طبقات ابن سعد 2: 242، صحيح مسلم 12: 95، المصنّف، لعبد الرزّاق 5: 438 و 439 مسند أحمد 1: 336، دلائل النبوّة، للبيهقي 7: 181.

١٥٣

كان يُدرك ما سيكتبه؟

ورواية ابن عبّاس تؤكّد أنّه قال: أهْجَر. عن سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس قال: يومُ الخميس وما يوم الخميس! قال: اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعُه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً». فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبيّ أن يُتنازع - فقالوا: ما شأنه أهْجَرَ؟ استفهموه! فذهبوا يُعيدون عليه، فقال: دَعُوني، فما أنا خيرٌ ممّا تدعونني إليه. وأوصى بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفدَ بنحوٍ ممّا كنتُ أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: فنسيتُها.(1)

نعم، يومُ الخميس وما يوم الخميس؟! اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعُه، واشتدّ بقومٍ وَجْدُهم إلى أُمورٍ، فأساؤوا إلى نبيّهم بالقول الفاحش ذلك قولهم: ما شأنه؟!

أيليق هذا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ! أنكرةٌ هو؟ هلاّ تأدّبوا فخاطبوه بما يليق بمقامه العظيم إن لم تطاوعهم أنفسهم فيسارعوا مطيعين فيقدّموا القرطاس والقلم؛ فإن لم يفعلوا فعليهم أن، يقولوا: يا رسول الله، لو بيّنت لنا مرادك ...، مثلاً. ثمّ جاؤوا بها صلعاء لا توارها عمامة؛ تلك هي مقولتهم: أهْجَرَ؟ وهي شتيمة! ذكر ابن السّكّيت في كتابه «تهذيب الألفاظ باب رَفْعِك الصوتَ بالوقيعة في الرجل والشّتم له» قال: وأهْجَرَ إهْجَاراً، إذا قال القبيح(2) .

فهل يجوز على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول القبيح، فعند مَن تجد الأُمّة الحَسَن

____________________

(1) تاريخ الطبري 2: 436.

(2) تهذيب الألفاظ، لابن السكّيت: 264.

١٥٤

- إذن - لتأخذه منه فلا تضلّ؟ ومتى كان كتاب الهداية والعصمة من الضّلالة هُجْراً؟!

والرّاوي لم يُعيّن صاحب هذا الكلام المـُستهجَن، فقد استعمل لفظ الجماعة «فقالوا»!

ترى ماذا تعني كلمة «استفهموه» الواردة في الخبر، وماذا يعني أنّ القوم ما زالوا يعيدون سؤالاً ما على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ردعهم؟ أيّ سؤال هو؟ هل هو الوصيّة الثالثة التي سكت عنها ابن عبّاس عمداً؟! فلماذا سكت؟! أمّا هذا الاستدراك: «أو قال: فنَسيتُها» فهو ممّا لا يليق بمَنْ ابن عبّاس بكثير، فكيف بحَبْر الأُمّة؟!

غير أنّ المرويّ عن ابن عبّاس - كما في البخاريّ وطبقات ابن سعد، ذكرناه - ينصّ على أنّ صاحب القول هو عمر بن الخطّاب، وحسب تلك الرّواية وقول عمر فيها: «وعندكم القرآن فحسبُنا كتاب الله» يتّضح أنّ النبيّ قد اوصى باثنين متلازمَين، هما: كتاب الله وأهل بيته، وهو ما كان يُعيده على مسامعهم في أكثر من مناسبة.

وعن عمر بن الخطّاب قال: لمّا مرِض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «ادعوا لي بصحيفةٍ ودواة أكتب كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً» فقال النُّسوة من وراء السّتر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟! فقلت: إنّكنّ صواحبات يُوسف: إذا مَرِض رسول الله عَصَرْتُنّ أعينَكنّ، وإذا صحّ ركِبْتُنّ عُنُقَه! فقال رسول الله: «دَعوهُنّ، فإنّهنّ خيرٌ منكم»(1) .

____________________

(1) المعجم الأوسط، للطبراني 5: 288، كنز العمّال 5: 644، مجمع الزوائد 9: 34.

١٥٥

حصحص الحقّ وثبت أنّ عمر هو الذي قدّم بين يدّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . ومع أنّه لم يذكر في هذه الرواية اعتراضه على رسول الله في كتابة الكتاب، إلاّ أنّ قول النّسوة: «ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟» بَيِّن الدلالة على هذا المعنى، وذلك بعد أن صلّ أسماعَهنّ لغَطُ الرِّجال واختلافهم على أثر الكلام الذي قاله عمر كما في الروايات السّابقة، فزجرتهم النساء على سوء سلوكهم هذا. ويؤيّد أنّ عمر هو صاحب الاعتراض على النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ رفعُ صوته من جديد ليُسمِع النّسوةَ مقالَته فيهنّ، إذ اللّغط الدائر بين الرِّجال ووجود السّتر بينهم وبين النّساء يقتضي مناداتهنّ بصوت عالٍ، وإلاّ لِمَ ردّ عليهنّ دون غيره من الحاضرين؟ وقوله: «إنّكنّ صواحبات يوسف ...» فيه تنقيص لهنّ، ومَن هنّ؟ إنّهن أمّهات المؤمنين، وحاضنة الرسول، والصّحابيّات المبايعات، والمعصومة الطّاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ووصف هؤلاء بالنّسوة اللاّتي شُغِفنَ بجمال يوسف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أراد بذلك: إنّكنّ ما كرات وأتباع لذّة!! وكلامه لم يتنقّص من النّساء وحسب، وإنّما تطاول به على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وانتهك حرمته إذ ذكره بصيغة الغائب النّكرة من غير ما ينبغي له من النعت بالنبوّة والرّسالة. «رَكِبتُنّ عُنُقَه» فيها ما فيها من المعاني السلبيّة والتجاوز على شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصفه بالشخص الضعيف أمام النساء - والعياذ بالله ...؛ ومن هنا جاء جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّهنّ خيرٌ منكم» في البُعد عن الاعتراض والتقديم بين يَدَي رسول الله، والاعتراض عمّا أراد، وإنّما على العكس اعترضن سبيل أُولئك الذين آذوا رسول الله بلَغْوِهِم وتنازعهم في أن يقدّموا أو لا يقدّموا القرطاس والقلم وكان زعيم جبهة الرافضين، بل لم يحفظ لنا

١٥٦

التاريخ اسماً بعينه إلاّ عمر بن الخطّاب.

«وخيرٌ منكم»، إذ لم يكنّ من أصحاب السقيفة؛ وما كان من الأحداث الساخنة بعد ذلك إلاّ امتداد لرزيّة الخَميس والحيلولة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابته الكتاب وما وقع في السقيفة وتمخّض عنها من أُمور منها: المنع من كتابة حديث رسول الله.

وطَرْدُ رسول الله إيّاهم إلاّ عليّاً، له من المعاني: أنّه طردهم من رحمة الله، وفي ذلك: لئلاّ يقول أحدهم إنّي تشرّفت بتمريض النبيّ وبدفنه كما تشرّفت بصحبته، فقطع عليهم الطريق بذلك. صحيح أنّ سوء الأدب الذي أبدوه يستوجب ذلك الطرد، ولكن نستجلي ضمناً هذا المعنى مثلما نستجلي أن لم تكن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذرّيّة إلاّ من خديجة رضي الله عنها ثمّ من فاطمة الزهراءعليها‌السلام بينما حُرِمت زوجاته حتّى اللاّتي في عُمر الصِّبا فالشباب من الحمل، وإلاّ لكان الويلُ لأُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الحمل! ثمّ كان من حكمة الله تعالى: أن حرّم الزواج من زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعلهنّ بمنزلة أُمّهات المؤمنين.

وفي الصحابة مَن هم أنقياء الثوب إلاّ أنّ الفتنة عمّت، ومنهم مَن كان بعيداً عن الحدث، فأفرد عليّاًعليه‌السلام يناجيه ويختصّه وهذه ليست أوّل مرّة يفرده فيناجيه، إلاّ أنّ هذه الليلة لها خصوصيّة فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر عهده من الدنيا، فكان لعليّعليه‌السلام شرف الانفراد برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهما شيء والناس شيء آخر، هما الرسالة والناس خليط بين بعيد عن ساحة الأحداث وبين مصطرع في سقيفة بني ساعدة من أجل (الأريكة) فصدق مَن لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى، مضى

١٥٧

اُولئك في مهمّتهم من أجل الأريكة، ومضى عليّ في مهمّته بعد أن سمع توجيهات الوحي على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتولّى غُسل النبيّ وتكفينه ...، فيما حُرِم اُولئك من كلّ هذا.

فرسول الله يخطّط لعليّ السبق في كلّ شيء: السبق في الإسلام، والسبق في الفداء، والسبق في الصحبة (إلى الطّائف فلم يصحبه غير عليّ) وبعد مبيته على فراش النبيّ وأدائه ودائع النّاس التي كانت عنده التحق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان النبيّ قد افترق عن أبي بكر لمّا وصل إلى قُباء ولم يدخل المدينة، فنزل أبوبكر على خارجة بن زيد، فيما نزل النبيّ على كُلثوم بن هِدْم، فلمّا التحق به عليّعليه‌السلام ، دخلا المدينة(1) .

ولقد جَرَت أحاديث ومحاورات بين ابن عبّاس وعمر بن الخطّاب - بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - أقرّ فيها عمرُ أنّه الذي منع النبيَّ من كتابة الكتاب؛ من ذلك: قال عمر لابن عبّاس: هل بقي في نَفْس عليّ شيء من أمر الخلافة؟ فقال ابن عبّاس: نعم. قال عمر: ولقد أراد رسولُ الله في مرضه أن يُصرِّح باسمِه فمنعتُه من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام(2) .

إنّ الله تعالى أعلم بمواطن الحيطة على الإسلام فيوحي بها إلى نبيِّه، ومن ذلك التبليغ بإمامة عليّ وخلافته في كلّ مَوْطن، ومنه المهرجان الكبير يوم عيد غدير خُمّ، وفي مرضه لمّا أراد أن يكتب كتاباً فمنعه عمر. ولكنْ ما الذي وجده

____________________

(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 2: 138.

(2) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 12: 21.

١٥٨

عمر من نقصٍ في عليّ فتخوّف منه على مستقبل الإسلام، وهو الذي سلّم عليه بالإمارة يوم خُمّ؟! فهلاّ عابه يومئذٍ؟!

أم أنّه ندم على ما كان منه من التسليم على عليّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام بالإمرة بقوله: بَخٍ بَخٍ لك يا ابنَ أبي طالب! أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، قالها على رؤوس الأشهاد يوم غدير خُمٍّ، والآن يعلم أنّ رجالاً يأتمرون في الخفاء على إزواء الخلافة عن عليّعليه‌السلام وكتبوا بذلك عهداً، فتخوّف فشل الخطّة؟!

إنّ ما ذهبنا إليه لم يكن كلاماً يُقال جُزافاً، فالّذي يقدِّم بين يدي الله ورسوله، وهو أمرٌ منهيٌ عنه في القرآن إذ لا يجوز له إلاّ التسليم لأمرِ الله سبحانه وأمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يعترض. وكيف كان الاعتراض؟ بتلك الصورة القاسية وهتك حرمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلمّا طرده النبيّ ومَن معه صاروا إلى «السقيفة» ودخل في صراع مرير تمهيداً لـ «الأريكة» التي حذّر رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منها ومن صاحبها الذي يوشك أن يُعلن صاحبها المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وها هو يمنع ورسول الله موجود بين المسلمين؛ فكيف سيكون الأمر بعدك يا رسول الله صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك الطيّبين الطّاهرين؟! هذا ما سنراه. ولكن: كلمة عجلى، إنّ حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتضمّن أحكاماً وعبادات وسُنن ...، فهل المنع يهدف ويقصد مثل هذه الأحاديث؟ قطعاً لا. فما بقي إلاّ الوصيّة والخلافة وهو الأمر الذي أقرّ به عمر وأنّه الذي حمله على منع النبيّ من كتابة الكتاب والتصريح باسم عليّعليه‌السلام خليفة من بعده؛ وقد مرّ ذِكرُ ذلك. ثمّ صارت سنّةً لأصحاب الأريكة ممّن هم وشيكوا عهدٍ برسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وامتدّت ليلقفها معاوية ومن جاء

١٥٩

بعده من الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وعلى لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يكتفِ بمنع الحديث في فضائل عليّ وأهل البيتعليهم‌السلام ، وإنّما امتدّت يدُ النّصب لوضع الأحاديث المكذوبة للنيلِ من أمير المؤمنين وتفضيل أعدائه! وسنّ سنّته البغيضة في لعن الإمام عليّ عقب كلّ صلاة، فعاشت الشام بعيدة عن روح الإسلام تجهل مَن هو عليّ؟! وفضائل أهل البيت، أُمويّة ناصبيّة أجيالاً طويلة لا يمكن أن تنمحي آثارها. فإذا جاء ابن تَيمِيه بإرثهِ الخارجيّ وسوء تربيته وضياع نسبه وتأثير محيطه وبيئته الأولى: حرّان، ليحطّ رحاله في بيئته الجديدة؛ كان أشدّ من معاوية على عليّ وأهل البيتعليهم‌السلام في المنع من الحديث! وكان معاوية أكثر إنصافاً من ابن تَيمِيه؛ ذلك أنّ معاوية إذا أُحْصِر في الحِجَاج أقرّ لأبي الحسنعليه‌السلام فضله، أمّا ابن تَيمِيه فقد عاهد الشيطان إلاّ شنّ الغارة على أهل البيت بعد ما تجاوز حرمة الرسول والمـُرْسِل!!

وإذا كان مَن سبق معاوية اكتفوا بمنع حديث رسول الله وحبسوا الصحابة - على ما ستقف على معنى الحبس هنا - فإنّ معاوية قد أحلّ الحرام وانتهك حرمة كبار الصحابة لأجل ذلك وكان أكثر جرأةً وصراحة من غيره لمّا خطب فقال: «ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلُّوا ولا لتحجُّوا ولا لتزكُّوا، قد عرفتُ أنّكم تفعلون ذلك، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ...».

حديث رسول الله؛ وردّ عمر بلفظ آخر

ويأتي حديث رسول الله بلفظ مقارب لما ذكرناه سابقاً، وأمّا ردّ عمر

١٦٠