ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 108398
تحميل: 4443


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108398 / تحميل: 4443
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأعلمنا بحديثه(1) .

عن عائشة أنّها دعت أبا هريرة فقالت له: يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنّك تحدّث بها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل سمعتَ إلاّ ما سمعنا وهل رأيت إلاّ ما رأينا؟ قال: يا اُمّاه، إنّه كان يشغلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المرآة والمكحلة والتصنّع لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّي ما كان يشغلني عنه شيء(2) .

رابعاً: عمرُ يحبس الصحابة لئلاّ ينشروا الحديث

ومن الوسائل التي اتّبعها لمنع حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه حبس جماعة من كبار الصحابة مصرّحاً بأنّ السبب في ذلك هو روايتهم الأحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا حبسهم لمنعهم من الرواية.

وهذه بعض الآثار في ذلك:

1 - إنّ عمر بن الخطّاب حبس بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيهم: ابن مسعود، وأبو الدرداء، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! قال ابن البري: يعني منعهم الحديث، إذ لم يكن لعمر حَبْس(3) .

2 - شعبة، عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه: أنّ عمر بن الخطّاب قال لابن

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 67: 347، مسند أحمد 2: 200 رقم 4453، وعنه في البداية والنهاية 8: 115، المستدرك على الصحيحين 3: 584/6167، التلخيص، طبقات ابن سعد 4: 247.

(2) تاريخ مدينة دمشق 67: 353، المستدرك على الصحيحين 3: 582/ 6160، التلخيص، سير أعلام النبلاء 2: 604، البداية والنهاية 8: 116.

(3) المحدّث الفاصل: 553 رقم 744، الإلماع 217.

٢٢١

مسعود، ولأبي الدرداء، ولأبي ذرّ: ما هذا الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وأحسبه حبسهم بالمدينة حتّى أُصيب.

قال الحالكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في التلخيص(1) .

3 - قال الذهبيّ: إنّ عمر حبس ثلاثةً: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: لقد أكثرتم الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

4 - قال عبد الرحمان بن عوف: ما ماتَ عمر بن الخطّاب، حتّى بعث إلى أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجمعهم من الآفاق: عبد الله - بن مسعود - وحُذيفة، وأبا الدرداء، وأباذرّ، وعُقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفْشيتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الآفاق؟!

قالوا: تَنْهانا؟!

قال: لا، أقيموا عندي، لا والله، لا تُفارقوني ما عشتُ، فنحنُ أعملُ، نأخذ عنكم ونردّ عليكم.

فما فارقوه حتّى مات(3) .

ورواه ابن عساكر، وأضاف: وما خرج ابن مسعود إلى الكوفة ببيعة عثمان

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 1: 193 رقم 374 وبذيله التلخيص.

(2) تذكرة الحفّاظ 1: 7.

(3) كنز العمّال 1: 239 (طبعة الهند).

٢٢٢

إلاّ من حبس عمر في هذا السبب(1) .

عثمان ورواية الحديث

اقتفى عثمان بن عفّان سيرة سلَفه: أبي بكر، وعمر، في المنع من الحديث.

قال محمود بن لبيد: سمعتُ عثمان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحدٍ يروي حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يُسمع به في عهد أبي بكر، ولا عهد عمر(2) .

وهذا يدلُّ على أنّ الممنوع في عهد عثمان، هو الممنوع في عهد أبي بكر وعمر.

وقد تعرّض أبو هريرة إلى تهديد عثمان بسبب رواية الحديث، فقال له: ما هذا الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد أكثرتَ، لَتنْتهِينَّ أو لألحقنّك بجبال دَوْس(3) .

وقبل الانتقال إلى سياسة معاوية وبني أُميّة وولاتهم وشيعتهم، مع الحديث النبويّ الشريف، في إخفاء وإيخاف! إخفاء للحديث، وإيخاف لمـَن يحمل الحديث ويتحدّث به خصوصاً ما فيه من فضائل أهل البيتعليهم‌السلام . وعمدوا إلى شراء الذِمم لتزوير التاريخ ووضع أحاديث مكذوبة في الفضائل؛ عاملهم الله بعدله. فقبل هذا الباب، رأينا أن نتكلّم عن مسألة تمسّك بها كلّ مَن منع من الحديث، تلك هي: الخوف من اختلاط القرآن بغيره! والخوف من الاشتباه،

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق 17: 101.

(2) طبقات ابن سعد 3: 40، مسند أحمد 1: 2/363.

(3) المحدّث الفاصل: 554، رقم 746، السنّة قبل التدوين: 459، أضواء على السنّة، لأبي ريّة: 54.

٢٢٣

والخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره. حتّى أنّنا نجد الناقص «يزيد» يكتب إلى أبيه معاوية: قد نُشر في مِصْري حديث، فقد تركوا القرآن! فتوعّد معاوية صاحب الكتاب أشد الوعيد.

وقد تكلّمنا عن هذه الدعوى فأثبتنا بُطلانها! ذلك أنّ كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسدّدٌ بالوحي ولا ينطق عن هوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى، وأنّ السيرة ترجمان للقرآن وتفصيل له وفي السيرة ما ليس في القرآن، فإذا اُلغي كلّ ذلك؛ ماذا بقي من الإسلام؟!

وحان أن نقف عند ذريعتهم بالدفاع عن القرآن من أن يشوبه شيء، لنرَ صدقهم في ذلك.

إنّ القرآن الكريم، ولو لا العناية وتكفّل الله تعالى بحفظه لوجدنا قرآناً غير الذي بين أيدينا، ذلك: أنّ أولئك الرجال الذين هتكوا حرمة السنّة، جاؤوا بقراءاتٍ شاذّة، وأبدلوا حروف بعض الكلمات، وأضافوا كلماتٍ إلى بعض الآيات، وزعموا سقوط آيات كثيرة من القرآن الكريم؛ في حين ادّعوا انّ سورتين ليستا منه!!

فلو أخذت الأُمّة الإسلاميّة بأقوال ذلك السلف الرافض لحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لوجدت قرآناً يصحّ تسميته: «مصحف رافضة الحديث» ز

ويبرز عبد الله بن مسعود في طليعة هذه المجموعة، وقد أفاد من حديث نُسب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصالَ وجال!

بسندٍ عن عمر بن الخطّاب، قال: قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): «مَن أحبّ أن يقرأ

٢٢٤

القرآن غَضّاً، كما أُنزِل فَلْيقرأه على قراءة ابن أُمّ عَبْد»(1) . يعني بذلك عبد الله بن مسعود.

إنّ عبد الله بن مسعود، أحد الذين وافقوا عمرَ، بل كان أشدّهم متابعة له في منع الحديث؛ فكان هذا الحديث جزاءً، والذي سنجده بعيداً عن الواقع! ولذا لم يذكره الذهبيّ في «التلخيص».

وأمّا تصديق كلامنا، فهو سيرة ابن مسعود؛ إذ نجده يعظّم نفسه كثيراً، فيما يحطّ من منزلة صحابة، وحقّرهم! وذلك لمّا أرادوا أن يجمعوا المصحف الشريف على قراءة واحدة؛ فكان في نسخة ابن مسعود تصحيفُ كلمات كتبها على غير ما هي عليها الآن، وحذف من مصحفه الكثير، كان من جملة ما حذف سوراً بكاملها؟! فلماذا يكون هذا من صحابيّ مثل «عبد الله بن مسعود؟!».

إنّ عبد الله بن مسعود، لم يكن وحيداً في هذا الأمر، فإنّ سيّده في ذلك: عمر بن الخطّاب، وقد ماتَ ولم يجمع القرآن، أي لم يحفظه! أخرج البلاذريّ بسندٍ عن ابن سيرين قال: قُتل عمر ولم يجمع القرآن. قال رَوح: يعني أنّه لم يحفظه(2) . فلا ندري، لعدمِ حفظِه، أو لعلّةٍ أُخرى كان يقرأ نصوصاً ويزعم أنّها كانت من القرآن؟!

ذكر ابنُ إسحاق، عن عبد الرحمان بن عوف، قال: إنّ عمر بن الخطّاب، جلس على المنبر، فخطب فجاء في خطبته:

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 2: 247/2894.

(2) أنساب الأشراف 10: 349.

٢٢٥

«إنّ الله بعث محمّداً وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعُلِّمناها ووعيناها، ورجَمَ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورَجَمْنا بعده، فأخشى إن طالَ بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجِدُ الرجم في كتاب الله، فيضِلّوا بترك فريضة أنزلها الله ...؛ ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: «لا تَرْغَبُوا عن آبائِكمْ فإنّه كفْرٌ بِكمْ أن ترغبوا عن آبائكم»(1) .

وعن المِسْوَر بن مَخْرَمة، قال: لقي عمرُ بن الخطّاب عبد الرّحمان بن عَوْف، فقال: أليس كنّا نقرأ: «قاتلوهم في آخر الأمر كما قاتلتموهم في أوّل الأمر؟!». قال: بلى، ذلك إذا كان الأمراء بني أُميّة والوزراء بني مخزوم(2) .

وعن أُبَيّ بن كعب أنّه كان يقرأ( إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ - ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام؟! -فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ ) (3) الآية.

فبلغ عمر، فاشتدّ عليه، فبعث إليه وهو يهنأ ناقة له فدخل عليه فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال: مَن يقرأ منكم سورة الفتح، فقرأ زيد قراءتنا اليوم فغلظ له عمر؟!

فقال له أُبَيّ: أأتكلّم؟ فقال: تكلّم. فقال: لقد علمتَ أنّي كنتُ أُدخل على النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ويُقرئني وأنتم بالباب، فإن أحببتَ أن أقرئ الناس على ما أقرأني

____________________

(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 4: 308.

(2) الغارات 2: 572.

(3) الفتح: 26.

٢٢٦

أقرأتُ وإلاّ لم أُقرئ حرفاً ما حييت. قال: بل أقرئ الناس(1) !

وقفة تأمّل: لم نعلّق على الآيات المزعومات السابقات. أمّا هنا فإنّ أُبَيّ لما افترى على كتاب الله العزيز فأضاف سبع كلمات إلى الآية، وبلغ ذلك عمر ابن الخطّاب، غضب ودعا ناساً فيهم زيد بن ثابت، فلمّا قرأها زيد على النحو الصحيح، غضب عمرُ على زيد!!

فلم يسلم من غضب عمر، لا أبَيّ، ولا زيد، مع الفارق الكبير بينهما! إلاّ أنّ المفارقة الأكبر حينما تحدّى أُبَيُّ عمرَ بن الخطّاب، فرجع عمر وأجاز قراءة أُبَيّ!!

ابن مسعود: تعرّفنا على منهج عبد الله بن مسعود المتشدّد في منع الحديث وبخاصّة الحديث الذي فيه فضيلة من فضائل أهل البيتعليهم‌السلام . وأمّا منهجه مع القرآن الكريم وقرّاءه فغريبٌ للغاية!

ابن مسعود يحذف المعوّذتين: ذكر ابن شبّة (ت 262 هـ) بسنده، قال: حدّثنا أبو عاصم قال: حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمان بن يزيد قال: رأيتُ ابن مسعود يَحُكّ المعوّذتين من المصحف، ويقول: لا يحلّ قراءة ما ليس منه(2) .

وأيضاً ابن شبّة: حدّثنا عبد الأَعلى قال: حدّثنا هشام، عن محمّد: أنّ أُبَيّ ابن كعب كتبهنّ في مصحفه خَمْسَهُنّ، أُمّ الكتاب، والمعوّذتين، والسورتين

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 2: 289/ 2891. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه. قال في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.

(2) تاريخ المدينة المنوّرة، لابن شبّة 3: 1010 - 1011.

٢٢٧

(ظاهراً: قل هو الله أحد، وقل يا أيّها الكافرون)، وكتب ابنُ عفّان فاتحة الكتاب، والمعوّذتين، وترك السّورَتَيْن(1) .

وبسند عن ابن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جدّه قال: كنتُ عند عمر بن الخطّاب، فقرأ رجلٌ من سورة يوسف «عَتَّا حين» فقال عمر: مَن أقرأك هكذا؟ قال: ابن مسعود. فكتب عمر إلى ابن مسعود: أما بعد، فإنّ الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش، وجعله بلسانٍ عربيٍّ مُبِين، فأقْرِئِ الناسَ بلغةِ قريش ولا تُقرئهم بلغة هُذيل والسلام(2) .

قد يُقال: لا نغفر لابن مسعود حذفه خمس سور، أو ثلاثاً، أو سورتين من القرآن، مع إعلانه تكفير من قرأ شيئاً ممّا حذف!! وأمّا «عتّى حِين»، فهي قراءة لهجيّة خاصّة بهُذَيْل، وابن مسعود من هُذَيْل؛ إلاّ أنّ ذلك لا يشفع له وإنّما الواجب عليه أن ينتقل من لهجته الخاصّة إلى اللسان الذي نزل به الوحي «عليه‌السلام »، شأنه في ذلك شأن المعلّم المقتدر دائماً، فكيف بعامّة الناس وتعدّد القراءات ممّا يجعل كلاًّ يتمسّك بقراءته وربّما كفّر بعضهم الآخر بذلك، وقد حصل وسنرى!

وإذا قال قائل: إنّ قراءة ابن مسعود لا بأس بها ولا تضرّ لأنّها مجرّد قراءة من القراءات؛ وجوابنا موجزاً: شتّان بين عتّى، التي هي من العُتوّ، الظاهرة في الطغيان والإصرار على المعاصي والمروق عن أمر الله تعالى، وأمثال ذلك. وأمّا: حتّى، فهي تأتي حرفاً جارًّا يدلّ على الانتهاء أو تأتي حرف عطف بمعنى الواو،

____________________

(1) نفسه 3: 1009.

(2) نفسه: 1010.

٢٢٨

أو حرف ابتداء.

فالأنسب للآية هو المـُثبت في لفظ الوحي المبين، لا في لفظ عبد الله بن مسعود، وهو( حَتّى‏ حِينٍ ) (1) .

أحبّ السُّوَر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

وجدنا عبد الله بن مسعود يناضل شديداً في إنكار أن تكون المعوّذتان من القرآن، ويكفّر من يقول إنّهما منه! بل ويُنكر سُوَراً أُخرى؛ فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤكّد على عظمة المعوّذتين، حتّى أنّه لمّا سُئِل عن سُوَرٍ أُخرى، صرف الكلام إلى المعوّذتين وبيّن حبّه لهما، وكأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أُنبأ بما سيكون من بعض الصحابة من العدوان على القرآن، فكما حصّن السنّة، كذلك حصّن القرآن الذي تكفّل الله تعالى أن تمتد إليه يدُ عابث في التحدّي البلاغيّ، إلاّ أنّهم قدّموا وأخّروا في سوره - كما سنرى - وكذبوا في إنكار سور، وأدخلوا كلماتٍ في مصاحفهم ذهبت مع ذهابهم وحفظ الله تعالى كتابه، وهو العزيز القدير.

ابنُ شبّة: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن قيس، عن عُقبة بن عامر، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أُنزل عليَّ آيات لم ترَ مثلهنّ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ ) إلى آخر السورة، و( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ) إلى آخر السورة(2) .

وأخرج بسندٍ آخر عن أبي عمران عن عُقبة بن عامر، قال: تعلّقتُ بقدمِ

____________________

(1) يوسف: 35.

(2) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1011.

٢٢٩

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلتُ: يا رسولَ الله أقْرِئْني سورة هود، وسورة يوسف. فقال: يا عُقبة إنّك لَنْ تقرأ سورةً هي أحبُّ إلى الله وأبلغ عنده من( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ) (1) .

قال: حدّثنا أحمد بن عيسى قال: حدّثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرنا خيرةُ بإسناده؛ مثله - أي مثل الذي قبله - قال: وكان أبو عمران لا يتركها: لا يزال يقرأُها في صلاة المغرب(2) .

وبسندٍ آخر عن عُقبة بن عامر قال: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أُعلّمك يا عُقبة سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس. قال: فاقرأ:( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ) و( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ ) فلمّا أُقيمت الصلاة تقدّم فقرأ بهما، فلمّا سلّم مرّ بي فقال: كيف رأيت يا علقمة، اقرأ بهما كلّما نِمْتَ وقَمْتَ(3) .

وبسندٍ عن عُقبة بن عامر قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ألاَ أُعلّمك سُوَراً ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلهنّ؟( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ ) و ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ) و ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (4) .

وبسندٍ عن ابن عبّاس الجهنيّ، قال: قال لي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن عبّاس ألا أدلّك ما أفضل ما يتعوّذُ به المـُتعوّذُون؟» قال: بلى يا رسول الله. قال:( قُلْ أَعُوذُ

____________________

(1) نفسه.

(2) نفسه.

(3) نفسه: 1012.

(4) نفسه: 1012 - 1013.

٢٣٠

بِرَبّ الْفَلَقِ ) و( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ ) هاتين السورتين(1) .

هذا هو شأن السُّوَر القرآنية وعظمتها، وكلّ ما في القرآن عظيم، فهو نظمٌ واحد من لدُن مصدر مهيمن عظيم واحد هو الله تعالى، تحدّى ببلاغة كلّه الثَّقلين كلَّهم أن يأتوا بمثله، فعجزوا؛ فتحدّاهم أُخرى أن يأتوا بعشر سُوَرٍ مفتريات، فبُهتوا، وأخيراً تحدّاهم أن يأتوا بسُورةٍ واحدة من مثله: سواء من مثل سورة الإخلاص( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) ، أو سورة الفلق( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ) أو سورة الناس( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ ) ؛ وهي وغيرها سُوَرٌ حذفها عبد الله بن مسعود من مصحفه وحرّم على مَن يجعل المعوّذتين من القرآن، كما مرّ ذكره.

وبذا بطلت مقولة ترك الحديث لئلاّ ينشغل النّاس عن القرآن بغيره، ولئلاّ يدخل القرآن ما ليس منه ...، وهي أمور تحمّس لها عمر، وعاقب عليها جماة فصاروا أشدّ حماساً منهم: عبد الله بن مسعود، وعثمان بن عفّان، وجماعة نذكرهم. وأمّا معاوية! فلقد وجد في سياسة مَن سَلَفه فرصة لأَن يطلب بثارات الجاهليّة وأيّام بَدر وأُحد وحنين وغيرها.

وإذا أعجلتنا المواقف للكلام بشأن عبد الله بن مسعود، وبخاصّة بشأن القراءة، فبماذا يُجيبنا  ابن أُمّ عبد عن قوله:

«أقرأني رسولُ الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (إنّي أنا الرزّاقُ ذو القوّة المتين) [الذاريات: 58]. فهل هذه قراءة هُذَيل لتكون محلّ نقاش وحوار؛ مع رفض التعدّد في القراءة وبخاصّة الشاذّة كما مرّ. فكيف بنا وابن مسعود قد غير نصَّ ثلاثِ كلماتٍ من

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1013.

٢٣١

الآية؟!

وهذا هو نصّها في المصحف المتداول بين المسلمين:( إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ ) (1) ،(2) .

ويعترض طريقنا في البحث: أكان ابن مسعود معذوراً ...؟!

والجواب: لا! والدليل عليه تقريع عمر الشديد له وقد مرّ بنا، وكان ذلك في اللهجة. وهنا فقد تجرّأ فغيّر ثلاث كلمات في آية واحدة وليس ثَمّة أثر للّهجة في ذلك، وإنّما كان عامداً! فإنّ الذي يحذف سُوَراً كاملةً ويكفّر مَن يقرأها، جدير به أن يغيّر في آيةٍ، بل آيات. وإنّ نظرته الاستعلائيّة لنفسه على حساب الصحابة، وثأره من زيد بن ثابت لما أوكلت إليه مهمّة نسخ المصحف عوضاً عن بن مسعود أثارت الثاني، فجعلته يصرّح بأنّه غَلّ في المصحف، ودعا الآخرين أن يغلّوا؟!

ثورة ابن مسعود على زيد

عن الزهريّ، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله: أنّ ابن مسعود كَرِه أن وَلِي زيدُ نسخَ كتاب المصاحف، وقال: أي مَعْشر المسلمين أأعْزَل عن نسخ كتاب المصاحف فيوُلاّها رجلٌ، والله لقد أسلمتُ وإنّه لَفي صُلْب رجلٍ كافر! وعند ذلك قال عبد الله: يا أهل العراق غُلّوا المصاحف والقوا الله بها ...، وإنّي غالٌّ مصحفي،

____________________

(1) الذاريات: 58.

(2) المستدرك على الصحيحين 2: 255/2919 ولم يصحّحه، ولم يذكره الذهبيّ في التلخيص.

٢٣٢

فمَن استطاع أن يَغُلّ مصحفه فليفعل(1) .

صحابي! تُؤخذ منه وظيفة نسخ المصحف وتوكل إلى آخر؛ فتحمله سَوْرة غضبه أن يكلّم جمهور المسلمين عن هذه المصيبة العظمى مذكّراً بسابقته إلى الإسلام، فيما زيد ما زال في صلب أبيه الكافر!! متغافلاً عن «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وابن مسعود نفسه لم يكن مسلماً ثمّ هداه الله تعالى فدخل الإسلام.

وإذا حمله انفعاله النفسيّ أن يشنّ حرباً كلاميّة على زيد بن ثابت فكيف ساغ له أن يدعو إلى الغلّ في المصحف، والغِلّ الخيانة في كلّ شيء.

«وبسندٍ عن حمزة بن عبد الله قال: بلغني أنّه قيل لعبد الله بن مسعود: ما لكَ لا تقرأ على قراءة فلان؟ فقال: لقد قرأتُ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعين سورة فقال لي لقدْ أحسنت، وإنّ الذي يسألون أن أقرأ على قِراءته في صَلْب رَجْلٍ كافرٍ(2) .

الحِماني، قال: حدّثنا شريك، عن ابن إسحاق، عن أبي الأسود، قال: قيل لعبد الله: ألا تقرأ على قراءة زيد؟ قال: ما لي ولزيد ولقراءة زيد؛ لقد أخذتُ من في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعين سورة، وإنّ زيد بن ثابت لَيهوديٌّ له ذؤَابتان(3) .

إنّ ابن مسعود، كان يرى في نفسه أنّه أعلمـُ الصّحابة بكتاب الله؛ ولا ندري

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1005.

(2) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1006.

(3) نفسه: 1008. وانظر مسند أحمد 1: 389، 411، الاستيعاب 1: 373، شرح نهج البلاغة 3: 45 (من غير لفظ يهودي).

٢٣٣

لعلّ مَردّ ذلك إلى ما رواه عمر بن الخطّاب بأنْ يأخذوا القرآن بقراءة ابن أُمِّ عبد - أي ابن مسعود -؟!

بسندٍ عن شقيق بن وائل قال: لمّا شَقّ عثمان المصاحفَ بلغَ ذلك عبد الله بن مسعود فقال: قد عَلِم أصحابُ محمّد أنّي أعلمـُهم بكتابِ الله، وما أنا بخَيْرِهم، ولو أعلمـُ أحداً أعلمـَ بكتابِ الله منّي تُبَلّغُنيه الإبلُ لأتَيْتُه(1) .

هذه نظرة ابن مسعود الاستعلائيّة لنفسه، وتلك نظرته التحقيريّة لزيد. وقد علمنا من حال ابن مسعود ومصحفه ما لا حاجة لإعادة ذكره. كما ذكرنا حديث الغُلول، ونذكره هنا بصورة أُخرى:

بسندٍ عن حِمْيَر بن مالك، قال: لمّا أُمِرَ بالمصاحفِ أن تَغَيَّر ساء ذلك عبد الله بن مسعود فقال: مَن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفاً فليَفْعل؛ فإن من غلّ شيئاً جاء بما غَلّ يومَ القيامة، ثمّ قال: لقد قرأتُ القرآن من في رسول الله سبعين سورة، وزيد صبيّ، أفَأتركُ ما أخذتُ من في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ؟!

عجب ثمّ عجب لابن مسعود وهو يروي هذا الكلام! وقد غلّ في مصحفه فكتب بلهجة هذيل وليس بلفظ الوحي، وغيّر ثلاث كلمات في آية واحدة - مرّ بنا - وحذف من مصحفه سوراً كاملةً!!

وبسندٍ عن توبة بن أبي فاختة، عن أبيه قال ك بعث عثمان إلى عبد الله أن يدفع المصحف إليه. قال: ولِمَ؟ قال: لأنّه كتب القرآن على حَرْفِ زيدٍ. قال: أمَا

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1007.

(2) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1006.

٢٣٤

أن أُعطِيَه المصحف فلن أُعطِيَكُمُوه؛ ومن استطاع أن يغُلّ شيئاً فليفعل، والله لقد قرأتُ من في رسول الله صلى الله عليه (وآله) سبعين سورة، وإن زيداً لذو ذؤابتين يلعب بالمدينة(1) .

إن صدق ابن مسعود فيما ادّعاه، أفلم يكن حريّاً به أن يُعطيهم المصحف الذي سمعه من في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليطابقوه مع ما عندهم من مصحف، أم أنّ روح الأنانيّة استحوذت عليه؛ أم روح الاستعلاء التي أشرنا إليها منه قبل، أم النقصان والتلاعب بألفاظ القرآن جعلته في خشية من أن يطاله الحساب؟! وهو مع ذلك يتّهم الآخرين بالغلّ؟!

فإذا أعرضنا عن الحديث، وأخذنا بالقراءات الشاذّة التي سنذكر بعضاً آخر منها، وقرأنا الآيات مع إدخال ابن مسعود وتبديله بعض الكلمات ووقفنا مع المشكّكين القائلين بسقط الكثير منه - معاذ الله! -؛ تركنا إسلامنا الأصيل كما ترك اليهود والنصارى دياناتهم بسبب تحريف كتبهم، ولكنّ الله تعالى ضمن حفظ كتابه العزيز، فحمله رجال أُمناء وطبقة من النساء لم يكنّ بمنأ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يشغلهنّ عالم السياسة عن حفظ القرآن وحمله كما سمعنهنّ من في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظ الوحي المبين!

أُبَيّ بن كعب

وقد ذكرنا خبره وهو يقرأ الآية «26» من سورة «الفتح»، فزاد فيها سبع

____________________

(1) نفسه: 1005 - 1006.

٢٣٥

كلماتٍ، فلمّا بلغ عمر بن الخطّاب، بعث إليه ودعا ناساً فيهم زيد بن ثابت، فقرأ زيد سورة الفتح، فغضب عمر ...، وانتهى الأمر بموافقة عمر لأُبيّ بقوله: بل أقْرِئ الناس!

وأخرج الحاكم بسنده عن أُبيّ بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة! وكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة(1) .

إنّ عدد آيات سورة الأحزاب «73» آية، وأمّا عدد آيات سورة البقرة فهو «286» آية، فيكون الساقط - معاذَ الله أن نجرؤ فنقول هذا القول - بحسب رواية أبَيّ، هو «213» آية؟!

ولعلّه مكذوب عليه لأغراضٍ سياسيّة! فهلاّ سُئل عن تلك الآيات لإثباتها والتعبّد بتلاوتها؟! وأين غاب بقيّة الصحابة وفي طليعتهم أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام الذي هو مع القرآن والقرآن معه، كان يرى الوحي ويسمع كلامه ...

وأخرج الحاكم عن ابن عبّاس قال: قرأتُ على أبَيّ بن كعب «ولا تُقبل منها شفاعة» بالتاء، في تُقبل(2) . والذي في المصحف( وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (3) ، بالياء.

أخرج ابن شبّة في سنده عن الليث بن سعد في خبر جمع عثمان القرآن على قراءة واحدة، قال: وكان حين جمع القرآن جعل زيد بن ثابت، وأُبَيّ بن

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 2: 450/ 3554. وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: صحيح. التلخيص.

(2) المستدرك على الصحيحين 2: 254/ 2916.

(3) البقرة: 48.

٢٣٦

كعب يكتبان القرآن، وجعل معهم سعيد بن العاص يقيمُ عَرَبيَّتَه. فقال أُبَيّ: التَّابُوه، وقال سعيد بن العاص: إنّما هو التّابُوت. فقال عثمان: اكتبوه كما قال سعيد، فكتبوا التّابوت(1) .

وقال ابن شهاب الزهريّ: اختلفوا يومئذ في التابوت، فقال زيد: التابوه , وقال ابن الزبير وسعيد وعبدالرحمان: التابوت، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت فإنّه بلسان قريش(2) .

وترد لفظة التّابُوت في موضعين من القرآن الكريم: سورة البقرة، آية 248؛ وسورة طه، آية 39.

إنّ زيد بن ثابت الذي عوّلوا عليه كثيراً في كتابة ونسخ المصحف، واحتقره عبد الله بن مسعود بالنعوت التي مرّ ذكرها، وجدناه يكتب التّابُوت - بتاء طويلة منقوطة -، يكتبها: التّابوه - بالهاء غير المنقوطة - وزعم زيد فقدان آية وذلك لمّا جمع المصحف:

عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، قال: عرضتُ المصحف فلم أجد فيه هذه الآية( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ ) (3) الآية، قال: فاستعرضتُ المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد، ثمّ استعرضتُ الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد، حتّى وجدتُها مع

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1002.

(2) نفسه 1001.

(3) الأحزاب ك 23.

٢٣٧

خزيمة بن ثابت الأنصاريّ فكتبتها، ثمّ عرضته مرّة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) الآية - إلى آخر السورة(1) . قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنهما فلم أجدهما مع أحد منهم، ثمّ استعرضت الأنصار أسألهم عنهما فلم أجدهما مع أحد منهم، حتّى وجدتهما مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضاً من الأنصار فأثبتهما في آخر (براءة).

قال زيد: ولو تمّت ثلاث آيات لجعلتها سورة واحدة، ثمّ عرضتُه عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئاً.

فأرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وجعل لها عهدَ الله ليَرُدّها إليها، فأعطته إيّاها، فعرضت الصحف عليها فلم تخالفها في شيء فرددتُها إليه وطابت نفسُه، فأمر الناس أن يكتبوا المصاحف(2) .

ابن شهاب الزُّهريّ، من المعدودين في المنحرفين عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام . وزيد بن ثابت عثمانيّ. وابن شبّة غير رافضيّ بل ولا شيعي الهوى، وقد أثبت الرواية في كتابه. وهو ليس متأخّراً (173 - 262 هـ)، بصريّ.

أقول: هذا كلامهم في القرآن، يكتبونه بلهجاتٍ مباينةٍ للفظِ الوحي الفصيح البليغ؛ فيكفّر بعضُهم بعضاً لتعدّد اللّهجات، ويضيفون إليه ما ليس منه كلاماً ركيكاً، ويزعمون ضياع الكثير منه واندرس؛ ومنه ما ضاع ولكن بعد طوافٍ طويل بين المهاجرين فلم يجده عندهم، ثمّ بين الأنصار حتّى وجده عند أحدهم

____________________

(1) التوبة: 128 - 129.

(2) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1001 - 1002.

٢٣٨

والسؤال: صحابة في الصدر الأوّل لا يعرفون كتابهم ولكن يحفظون أنسابهم؟!

فإمّا أن تكون هذه الرّوايات مكذوبة فنطرحها! وإمّا أن تكون صادقةً وقد بلغت عند حدّ التواتر، فكيف نطمأنّ إلى رواياتهم ونجعلها من المسلّمات وبخاصّة تلك المتعلّقة بهدم أهم ركن من أركان الإسلام وهو النبوّة الذي يأتي بعد التوحيد، ولولاه لما عرفنا الله تعالى حقّ معرفته، ولا إيمان بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنطق بالشهادة فقط وإنّما حمل وبثّ وتقييد أحاديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكما عدا أولئك النّفر على السنّة بالحجّة التي أشرنا إليها؛ فقد عدَوا على القرآن بالشواهد التي ذكرناها ممّا يعني صدق دعوانا فيما خلصنا إليه من نتيجة: العمد إلى طمس معالم العترة الطاهرة وما لها من حقوق سياسيّة.

قلنا: إنّ الناس كان يُكفّر بعضُهم بعضاً بسبب القراءات، حتّى جمع عثمان الناس على مصحفٍ واحد، ولكن أساء الأدب إلى كتاب الله تعالى - كما سنعرض له -

عن أنس بن مالك قال: اجتمع لغزوة أرمينية وأذربيجان أهلُ الشام وأهلُ العراق وكان معهم حُذيفة بن اليمان ففزِع من اختلافهم في القراءة، فقدم على عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرِك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى! فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف نَنْسَخْها في المصاحف ثمّ نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر عثمان زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمان بن الحارث بن هشام فنَسَخُوها في المصاحف. وقال عثمان للرَّهط القرشيِّين الثلاثة:

٢٣٩

إذا اختلفتم أنتم وزيدُ بن ثابت في شيءٍ من القرآن فاكتُبوه بلسان قريش، فإنّما أنزل بلسانهم، ففعلوا ذلك، حتّى إذا نُسِخَ المصحفُ ردّ عثمانُ الصحفَ إلى حفصة وأرسل إلى كلّ أُفُقٍ بمصحفٍ ممّا نَسخوا، وأمر بما سِواه من القرآن في كلّ صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يُحرق(1) .

نتوقّف قليلاً مع الرّواية: فقد قلنا إنّ النّاس يكفّر بعضُهم بعضاً بسبب القراءات، وكان أولئك النّفر وفي طليعتهم عبد الله بن مسعود، الذي أحسن عمرُ تأديبه! فامتنع من الحديث ومن ثَمّ صار أشدّهم منعاً للحديث؛ فاستحقّ تلك الرواية، بالأخذ بقراءته! حتّى وإن غيّر وبدّل في ألفاظ الآيات وأنكر سُوَراً كاملةً؛ فاُناس ملتزمون بقراءته وآخرون بقراءة غيره، فيكفّر بعضُهم بعضاً باختلاف القراءات.

والمسألة الأخرى: إنّ عثمان قد جمع الناس على مصحفٍ واحد، ولكنّه أساء الأدب كما قلنا من قبل وذلك من خلال حرقه المصاحف!! فهلاّ جمعها فجعلها في خُزانة في مكان أمين؟!! وكما أنّ العدوان على سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والاستهانة بها بعد ما بلغهم توكيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يقطع معاذيرهم؛ فهو عدوانٌ على شخصه الكريم!، فكذلك الحال بالنسبة إلى القرآن الكريم، لا يجوز هتْكُ حرمته بأيّ لونٍ: بالمحوِ، أو الدفن، أو الحرق؛ تلك الأساليب التي مُورست مع سُنّة المـُرْسَلصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاختار عثمان أبشعها وهي:

«الحرق» إذ لو دُفِنت - مع اعتراضنا الشديد على هذا الفعل المنكر - رُبّما

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 991 - 992. وانظر فتح الباري 9: 17، سنن البيهقي 2: 41.

٢٤٠