ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 108307
تحميل: 4442


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108307 / تحميل: 4442
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأمر المغيرةُ الأعور الزنّاء - وهو يومئذ أمير الكوفة من قِبَل معاوية - حُجْرَ بن عَديّ أن يقوم في الناس، فيلعن عليّاًعليه‌السلام ، فأبى ذلك، فتوعّده، فقام فقال: أيّها الناس، إنّ أميركم أمرني ان ألن عليّاً فالعنوه. فقال أهل الكوفة: لعنه الله! وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنيّة والقصد(1) .

وأراد زياد أن يعرِّض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من عليّعليه‌السلام ولعنه وأن يقتُلَ كلَّ من امتنع من ذلك، ويخرّب منزله، فضربه الله ذلك اليوم بالطّاعون، فمات - لا رحمه الله - بعد ثلاثة أيّام، وذلك في أيّام معاوية(2) .

وكان الحجّاج لعنه الله، يلعنُ عليّاًعليه‌السلام ، ويأمر بلعنه وقال له متعرِّض به يوماً وهو راكب: أيّها الأمير، إنّ أهلي عَقُّوني فسمّوْني عليّاً، فغيِّر اسمي، وصِلْني بما أتبلّغ به، فإنّي فقير. فقال: لِلُطف ما توصّلت به قد سمّيتُك كذا، ووليّتُك العمل الفلاني فاشْخَصْ إليه(3) .

وأسماء المنحرفين عن أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، والمغرقين في عدائه وعداء أهل بيتهعليهم‌السلام وشيعته، وأفعالهم الشنيعة لا يستوعبها هذا البحث.

روى أبو الحسن المدائني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخةً واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة - عام الصلح بين معاوية والإمام الحسنعليه‌السلام - (أنْ بَرِئت الذمّةُ ممّن ذكر شيئاً من فضل أبي تُراب وأهل بيته) فقامت الخطباء

____________________

(1) نفسه.

(2) شرح نهج البلاغة: 58.

(3) نفسه.

٢٨١

في كلّ كُورة، وعلى كلّ منْبر، يلعنون عليّاً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته؛ وكان أشدَّ الناس بلاء حينئذٍ أهل الكوفة، لكثرة مَنْ فيها من شيعة عليّعليه‌السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سُمَيّة، وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبّع شيعة عليّ وهو بهم عارف؛ لأنّه كان منهم أيّام عليّعليه‌السلام ؛ فقتلهم تحت كلّ حَجَر ومَدَر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسَمَل العيون وصَلَبهم على جذوع النّخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق؛ فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاويةُ إلى عمّاله في جميع الآفاق: ألا يجيزوا لأحدٍ من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: ان انظروا مَن قبَلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يرون فضائله ومناقبه؛ فأدنُوا مجالسَهم وقرّبوهم وأكرمُوهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك حتّى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثُه إليهم معاوية من الصّلات والكِساء والحِباء والقطاع، ويفيضه في العرب والموالي منهم، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من النّاس عاملاً من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه. فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب إلى عمّاله: أنّ الحديث في عثمان قد كَثُرَ وفَشَا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية؛ فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرّواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقضٍ له في الصحابة؛ فإنّ هذا أحبّ إليَّ وأقرُّ لعيني،

٢٨٢

وأدحضُ لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدُّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقُرِئت كُتبه على الناس، فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها! وجَدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وأُلقِيَ إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا غلمانَهم وصبيانَهم من ذلك الكثير الواسع حتّى روَوه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءَهم وخدَمهم وحشمَهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثمّ كتب إلى عمّاله نسخةً واحدة إلى جميع البلدان: انظروا مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحب عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الدّيوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشَفَع ذلك بنسخة أخرى: مَن اتّهمتُموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدِموا داره.

فلم يكن البلاءُ أشدّ ولا أكثر منه بالعراق؛ ولا سيّما بالكوفة، حتّى أنّ الرجلَ من شيعة عليّعليه‌السلام لَيأتيه مَنْ يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتُمَنّ عليه؛ فظهر حديث كثير موضوع، وبُهتانٌ منتشر! ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة؛ وكان أعظم الناس في ذلك بليّةً القرّاء المراءون، والمستضعَفون، الذين يُظهرون الخُشوع والنُّسُك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويصيبوا به الأموال والضِّياع والمنازل، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورَووها، وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لَمَا رَووها ولا تديّنوا بها.

فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليّعليهما‌السلام ، فازداد البلاء والفتنة،

٢٨٣

فلم يبق أحدٌ من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريدٌ في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسينعليه‌السلام ، وولّى عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة! وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهلُ النُّسُك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه ...، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من عليّعليه‌السلام وعَيْبه والطعن فيه والشنآن له ...

وقد روى ابنُ عرفة المعروف بنفطويه، في تاريخه: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيّام بني أميّة، تقرُّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يُرغمون به أنوف بني هاشم(1) !

مدرسة معاوية في وضع الحديث

جرى الكلام في المنع من الحديث والمعاقبة عليه، والتعلّل في ذلك بذريعة أن لا يختلط القرآن بشيء من غيره، وكان الموقف الصارم من الحديث في هتك حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحرق سيرته، وامتدّت أياديهم إلى القرآن فهتكوا حرمته بحرق المصاحف مع المزاعم التي ذكرناها في ضياع نصوص منه، وأنّ الآية الفلانيّة كانت على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كذا، وأضافوا إليها كلمات، وأخرى بلفظٍ آخر ...، ممّا ذكرناه. وفسّرنا ذلك بأنّه تمهيد لإقصاء أهل البيتعليهم‌السلام عن مراتبهم التي رتّبها القرآن الكريم ورتّبتها السنّة المطهّرة.

وذكرنا شيئاً ممّا فعله معاوية خاصّة وبنو أميّة وحاشيتهم مستفيدون من

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 11: 44 - 46.

٢٨٤

سياسة التمهيد، والتمكين جهد إمكانهم في إفراغ عُقَد النقص وطلب الثارات، فيالبدر وأُحد وحُنين ونذكر هنا عملاً فنّياً شيطانيّاً مُقنّناً سلكه ابن هند في حقل الأحاديث الموضوعة في ذمّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام نشّأ عليها أجيالاً شاميّة تتوارث بُغض عليّعليه‌السلام وينقل كلّ جيل إلى الذي يليه تلك الأحاديث الموضوعة.

ذكر أبو جعفر الإسكافي: أنّ معاوية وضعَ قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّعليه‌السلام ، تقتضي الطعنَ فيه والبراءة منه؛ وجعل لهم على ذلك جُعْلاً يُرْغبُ في مثله؛ فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين: عُروة بن الزبير(1) .

روى الواقديّ أنّ معاوية لمّا عاد من العراق إلى الشام بعد بَيْعة الحسنعليه‌السلام واجتماع الناس إليه خطب فقال: أيّها الناس؛ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي «إنّك ستلي الخلافة من بعدي، فاختر الأرض المقدّسة، فإنّ فيها الأبدال؛ وقد اخترتكم، فالعنوا أبا تراب. فلعنوه. فلمّا كان من الغد كتب كتاباً، ثمّ جمعهم فقرأه عليهم؛ وفيه: هذا كتابٌ كتبه أميرالمؤمنين معاوية، صاحب وحي الله الذي بعثَ محمّداً نبيّاً، وكان أُميّاً لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله وزيراً كاتباً أميناً، فكان الوحي ينزل على محمّد وأنا أكتبه؛ وهو لا يعلم ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله أحد من خَلْقِه.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 4: 63.

٢٨٥

فقال له الحاضرون كلّهم: صدقتَ يا أمير المؤمنين(1) !

أنصدّق الله تعالى إذ نصب عليّاًعليه‌السلام ، وليّاً لأمر المسلمين؛ وقد تكلّمنا عن ذلك بما فيه كفاية في آية الولاية وتصدّق أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام بخاتمه في حال الركوع في الصلاة، فكان الإجماع المتواتر أنّ الآية نزلت في عليّعليه‌السلام ؛ ونصّت على حصر الولاية بالله تعالى، ثمّ برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ثمّ بخليفة رسوله عليّعليه‌السلام .

وتوّج ذلك رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأخذ البيعة العامّة لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام في حجّة الوداع في غدير خُمّ، ولعن في أكثر من موطن مَن يناصب عليًّاعليه‌السلام أو يأبى خلافته ...، فكيف يناقض - حاشا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله - نفسه، فيُفسد ما أبرم وينصب خليفتين من بعده، ومَن الثاني: معاوية؛ وكفى به تعريفاً!

ثمّ انظر أيّ جمهور أنتجت المدرسة الأُمويّة، فإنّ الأُمويّين قد بثّوا أحاديث كاذبة بشأن «الشام» وأنّها الأرض المقدّسة! وأنّ أهلها هم الأبدال الذين ينتصر بهم الله تعالى لدينه وغير ذلك. وعلى هذا تابعوا سيّدهم في لعن أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، حتّى صار جلّهم لا يعرف مَن هو «علي بن أبي طالبعليه‌السلام »!

روى الإسكافيّ: وقد صحّ أنّ بني أميّة منعوا من إظهار فضائل عليّعليه‌السلام ، وعاقبوا ذلك الراوي له؛ حتّى أنّ الرجل إذا روى حديثاً لا يتعلّق بفضله بل بشرائع الدِّين لا يتجاسر على ذكر اسمه؛ فيقول: عن أبي زينب(2) !

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 4: 72.

(2) المعيار والموازنة 137.

٢٨٦

وروى عطاء، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: ودِدْتُ أن أترَك فأحدِّثَ بفضائل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوماً إلى الليل؛ وأنّ عُنُقي هذه ضُربت بالسيف(1) .

وقال: وقد روى أنّ معاوية بذَلَ لِسَمُرة بن جُنْدَب مائة ألف درهم حتّى يروي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب:( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى‏ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلّى‏ سَعَى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ ) (2) ، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن مُلجم، وهي قوله تعالى:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) (3) ، فلم يقبل منه، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة فقبل، وروى ذلك(4) .

ما أعظم إجرامك يا ابن هند! ما أن تفردّت بالشام حتّى بذلت جهدك كلّه لفتن أهل الشام وإبعادهم عن دينهم ونشر الجهل بينهم فراح يسوقهم حيث شاء؛ وقد ذكر هذه الحالة المأساوية «عمرو بن العاص» وزيرُ معاوية في قصيدة طويلة تسمّى الجلجليّة، هذا بعضُها:

ولَمّا عصيتُ إمام المهدي

وفي جَيْشه كلُّ مُستفحلِ

أبا البَقَرِ البُكْم أهل الشامِ

لأهلِ التُّقى والحِجَى أُبتلي؟

____________________

(1) نفسه.

(2) البقرة: 204، 205.

(3) البقرة: 207.

(4) المعيار والموازنة 72 - 73.

٢٨٧

فقلت: نعم، قم فإنّي أرى

قتالَ المفضَّل بالأفضلِ

فَبِي حاربوا سيّدَ الأوصياء

بقولي: دمٌ طُلَّ من نَعْثَلِ(1) !

وعلّمتُهم كشْفَ سوءاتهمْ

لِردِّ الغَضَنْفرةِ المـُقبلِ(2)

وحيث رفعناك فوق الرؤوس

نزلنا إلى أسفل الأسفل!

وكم قد سمعنا من المصطفى

وصايا مخصّصةً في عليّ؟!

وفي يوم «خُمٍّ» رقى منبراً

يُبلّغ، والرَّكبُ لم يَرْحلِ

وفي كفِّه كفُّه مُعْلِناً

يُنادي بأمر العزيز العلي:

ألستُ بكُمْ منكُم في النّفوس

بأَوْلى؟ فقالوا: بلى فافعلِ

فأنحله إمرةَ المؤمنين

من الله مُسْتخلَف المـَنْحَلِ

وقال: مَن كنتُ مولىً له

فهذا له اليوم نِعْمَ الْوَلي

فَوالِ مُواليهِ يا ذا الجلا

لِ وعادِ مُعادي أخِ المـُرسَلِ

ولا تَنْقُضوا العهدَ من عِترتي

فقاطِعُهم بيَ لم يُوصَلِ

____________________

(1) طُلّ الدم: هُدِر ولم يُثأر له. ونعثل: اسم لعثمان سمّته به عائشة.

(2) ذلك أنّ عمرو بن العاص برز ليقاتل فبرز إليه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فلمّا رآه أسقط نفسه عن فرسه ورفع رجليه فبانت سوءته، فأشاح أمير المؤمنين بوجهه الكريم عنه وهرب ابن العاص.

وفعل مثل ذلك معاوية وبُسر مع الإمام!!

٢٨٨

فَبَخْبَخَ شيخُكَ لَمّا رأى

عُرى عَقدِ حَيْدرَ لم تُحْللِ

فقال: وليّكمُ فاحفظوه

فمَدْخَلُه فيكمُ مَدْخَلي

وإنّا وما كان من فعلنا

لَفي النّار في الدَّركِ الأسفلِ

وما دمُ عثمان منجٍ لنا

من الله في الموقف المـُخجلِ

وإنّ عليّاً غداً خصمُنا

ويعتزُّ باللهِ والمرسَلِ

فما عُذْرنا يومَ كشْفِ الغطا؟!

لكَ الويلُ منه غداً، ثمّ لي!(1)

شهادة حقّ نطق بها ابن النابغة، لمّا حصل بينه وبين سيّده ابن هند خلاف، تضمّنت مقارنة وموازنة بين العسكرَين: عسكر أهل الكوفة اهل التُقى والعقول الذين يمضون على بيّنة، متّبعين إمام هدى سيّد الأوصياء أميرالمؤمنين بأمر الله تعالى وتبليغ رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاتّبعوه ولم ينكثوا عهداً ...؛ ولذا فم أُسودٌ لا يجبنون.

ثمّ وصف عسكر أهل الشام وأنّهم بَقَرٌ بُكمٌ استطاع ابن العاص أن يعلّمهم، بل ويعلّم ملكهم ابن هند، وابن أبي أرطاة كيف يدفعون عن أنفسهم بسوءاتهم ويصف نفسه وأهل الشام بالجهل إذ اتّبعوا معاوية ورفعوه، فنزلوا بذلك إلى أسفل السافلين، وأنّه ومعاوية ومَن تبعهم في جهنّم!!

وهذا الذي قلناه من قبل في أحاديث «الأريكة»، وتحذير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من صاحب «الأريكة» الذي يتّخذ القرآن ذريعةً للمنعِ من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 2: 522.

٢٨٩

استعملصلى‌الله‌عليه‌وآله لفظ «يوشك» التي تظهر في القريب زمنيّاً، وفعلاً وجدنا أبا بكر يحرق «500» حديث، ثمّ ينهج عمر المنهج نفسه فيحرق أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعاقب صحابة لأنّهم يحدّثون ويحبس آخرين ...، فإذا جاء ابن هند ومن قبله سلفه عثمان الذي توسّع في معاقبة خيار الصحابة والمنع من الحديث، فما كان منه إلاّ أن يمدّ يده إلى تحريف أسباب نزول القرآن بما يخدم أهدافه، فإنّ هذا التحريف لديه أسهل من حرق السنّة ومنع تداولها، ومن حرق كتاب الله تعالى؛ كيف وهو معاوية الذي أعلن صراحةً أنّه ما قاتل من أجل الصلاة والصوم والحجّ والزكاة؛ وإنّما قاتل ليتأمّر عليهم - مرّ بنا -؛ وما علمنا منه ولا من بيته إسلام وإنّما هو فتح مكّة وإرغام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لآل أبي سفيان أن يفتحوا بيتهم للإسلام المنتصر وأحسن إليهم فأطلقهم؛ فهم الطُّلُقاء.

ومرّ بنا لعنُ رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي سفيان ولولديه: يزيد ومعاوية ابني أبي سفيان، في أكثر من موطن ودعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قتل معاوية إذا رأوه يخطب على المنبر ...

وقد كان جريئاً في أمرٍ سبُق إليه ولكن في حدودٍ من ذلك ما يتعلّق بأمر فدك وادّعاء النصّ على خلافة الأوّل وأمثال ذلك.

وأمّا معاوية فبعد تشدّده في محاربة الحديث، وفتحه مدرسةً لكتابة التاريخ والسيرة وفْقَ ما يريد، وعَلِمَ أولئك رغبته وقد أعمتهم الأموال التي أغدقها عليهم معاوية، فحقّقوا له رغبته ومن ذلك وضع أحاديث تنال من أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وأهل بيتهعليهم‌السلام . فأمّا بشأن الآيتين المباركتين؛ حيث دخل معاوية في

٢٩٠

معاملة تساوميّة مع سَمُرة بن جُنْدَب بذل له فيها مائتي ألف درهم، فلم يقبل فزاده لم يقبل حتّى صار أربعمائة ألف درهم، فقبل على أن يروي أنّ الآيتين نزلتا في أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام !

ومن قصّة الآيتين كما ذكر المفسّرون:

( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) ، نزلت في الأخنس ابن شريق بن عمرو بن وهب بن أبي سلمة الثقفي، كان يأتي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيخبره أنّه يحبّه ويحلف بالله على ذلك، ويخبره أنّه يتابعه على دينه، فكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعجبه ذلك ويدنيه في المجلس، وفي قلبه - أي قلب الأخنس - غير ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ:( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) ( وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى ) ما يقول، يعني يمينه التي حلف بالله، و( مَا فِي قَلْبِهِ ) أنّ الذي يقول حقّ( وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ ) يقول جدلاً بالباطل(1) .

ونحن في غنى عن تفسير المفسّرين، ولكن قطعاً للذريعة ومماشاةً لمنهج البحث، وإلاّ فالآيتان بمعاوية أليق فهو محضُ باطل سيرته التي مات عليها تثبت ذلك، وعليّعليه‌السلام حبّه إيمان وبُغضه نفاق. وأمّا قوله: إنّ قول الله تعالى:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) ، إنّها نزلت في ابن ملجم؛ فلا عجب! فكلاهما: ابن ملجم، ومعاوية، ناصبيّان خرجا على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقاتله معاوية، وأجهز

____________________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان 1: 108، معاني القرآن، للفّراء 1: 124، الكشّاف 1: 123، الجامع لأحكام القرآن 3: 17، جامع البيان 4: 243، إعراب القرآن، للعكبرى 1: 52، البحر المحيط 2: 116، تفسير الفخر الرازي 2: 190.

٢٩١

عليه ابنُ ملجم في محراب صلاته فضربه بالسيف فمضىعليه‌السلام شهيداً.

أمّا بشأن الآية المباركة، فالإجماع منعقد على أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وذلك أنّ قريشاً تحالفوا على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأجمعوا أمرهم: أن يُنتدب لذلك من كلّ قبيلة شابّ، فيكبسوا عليه وهو نائم، فيضربوه ضربةَ رجل واحد، فيضيع دمه ولا يأخذ بثأرِه أحد. فنزل جبريلعليه‌السلام بأمر الله تعالى لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك مكّة ويهاجر، وأن يبيت ابن عمّه عليّ على فراشه، ففعل وبات الفدائيّ وقد وطّن نفسَه للشهادة في سبيل الله وفي سبيل سلامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد عزّ الناصر الذي يؤدّي وظيفة خطيرة مثل هذه، وما كان لجسدٍ غير عليّ أن يتكرّم بمماسّة موضع جسد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فراشه. ثمّ ما كان لغير عليّ أن يقوم مقام النبيّ سواء في الدعوة والتبليغ حيث اختصّه بتبليغ «براءة»، أو تأدية أمانته وما كان يوصي إليه.

عن معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي رافع في هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: وخلفه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - يعني خَلَف عليّاً - يخرج إليه بأهله، وأمره أن يؤدّي عنه أمانته ووصايات مَن كان يوصي إليه، وما كان يُؤتَمن عليه من مال، فأدّى عليّ أمانته كلّها. وأمره أن يضطجع على فراشه ليلةَ خرَج، وقال: إنّ قريشاً لم يفقدوني ما رأوْك، فاضطجع على فراشه.(1) إنّ التأدية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس أمراً يُذكر من غير وقفة وتأمّل! وأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في

____________________

(1) أسد الغابة 4: 96.

٢٩٢

هذا الباب وفيرة وفي أكثر من مشهدٍ وموقف؛ يعزّزها ائتمانهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهلَه، ولا يجوز لنبيّ الله أن يأتمن على أهله إلاّ رجلاً مثله في العصمة.

وقد خَلَفهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أهله غيرَ مرّة، من ذلك: غزاة تبوك، فأظهرعليه‌السلام حزنه لذلك فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ، إنّما خلفتك على أهلي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، غير أنّه لا نبي بعدي؟(1) ».

ونذكر بعض الآثار الواردة في نزول الآية المباركة في أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام .

ورد نزول الآية في أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ عنه وعن ولديه الحسنينعليهم‌السلام ؛ وكفى بهم صدقاً ووثوقاً!

* عن أمير المؤمنينعليه‌السلام فيما خاطب به أهل الشّورى، محتجّاً عليهم بفضائله وما اختصّه الله تعالى به، ومنه الآية المذكورة، برواية الصحابيّ أبي الطُّفيل عامر بن واثلة. (المناقب للخوارزميّ 315، مناقب الإمام عليّ لابن

____________________

(1) المصنّف، لابن أبي شيبة حديث 12 من فضائل عليعليه‌السلام ، مسند أبي داود حديث 205، مسند أحمد، مسند أبي سعيد ح 10879 ومواضع أخرى، مسند أبي يعلى - مسند سعد 2: 66 - 132 وغيرها، الفضائل، لأحمد، حديث 142، تاريخ البخاري الكبير 3/48: 179، صحيح مسلم 3: 44، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عليّ رقم 30 - 32، المعجم الكبير، للطبراني 24/146/384، طبقات ابن سعد 3: 24، مسند ابن حبّان 15/369/6926، مشكل الآثار 2/213: 1903، الكامل، لابن عَديّ 2/416 ترجمة حرب ابن شدّاد، سنن ابن ماجة 1: 42 حديث 115، أنساب الأشراف 1: 346، تاريخ بغداد 3: 289/1376، حلية الأولياء 7: 194، مختصر تاريخ دمشق 17/243 - 248، مناقب الخوارزمي 133/148، تهذيب الكمال 35/263

٢٩٣

المغازليّ 155، كنز العمّال 3: 156، غاية المرام 564).

ورواه الصحابيّ أبو ذرّ الغِفاريّ. (أمالي الطوسيّ 2: 162).

ورواه ابن الكَوّاء، عنهعليه‌السلام . (خصائص أميرالمؤمنين للشريف الرضيّ 26). وأبو مريم الأسديّ، عنهعليه‌السلام . المستدرك على الصحيحين 3: 5.

* الحسن بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . تذكرة الخواصّ 182.

* عليّ بن الحسين بن عليّعليهم‌السلام ، عن حكيم بن جبير، عن عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، قال: إنّ مَن شرى نفسه ابتغاء رضوان الله عليُّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وقال عليٌّعليه‌السلام عند مبيته على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وَقَيْتُ بنفسي خَيْرَ مَنْ وَطأ الحصى

ومَن طافَ بالبيتِ العتيقِ وبالحِجْرِ

رسول إله خافَ أنْ يمكُروا بهِ

فنجّاه ذُو الطَّوْلِ الإله، من المكْرِ

وباتَ رسول الله في الغار آمِناً

مُوَقًّى وفي حفظ الإله وفي سِتْرِ

وبِتُّ أُراعيهم وما يُثْبِتُونَني

وقد وطّنْتُ نفسي على القتْل والأسرِ

ورد في المناقب للخوارزميّ 127 وينابيع المودّة 92، والمستدرك على الصحيحين. وورد بغير الشعر المذكور في: أمالي الطّوسيّ 2: 61، المناقب لابن شهر آشوب 2: 64.

* ابن عبّاس. مختصر تاريخ دمشق 17: 318، المناقب للخوارزميّ 126، ينابيع المودّة 92. وبرواية عمرو بن ميمون عنه، في مختصر تاريخ دمشق 17: 329.

٢٩٤

ورواية أبي صالح عنه في تفسير الطبريّ 9: 149، تفسير فرات 5، دلائل النبوّة لأبي نُعَيم 63 - 65.

والسُّدِّي عنه، في العُمدة لابن البطريق 124، ينابيع المودّة 92.

ورواه أبو غطفان عن ابن عبّاس، في الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 227، أمالي الطّوسيّ 2: 60. وشعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون، في البداية والنهاية 7: 338.

ولحديث ابن عبّاس طُرُق كثيرة في شواهد التنزيل من ذلك ك رقم 134، 135، 136، 138.

ومن مصادر الحديث عن ابن عبّاس: أنساب الأشراف 2: 106، خصائص النسائيّ 61 - 62، مسند أحمد بن حنبل 1: 330 - 331، والمعجم الكبير للطبرانيّ 3: 151، وتاريخ بغداد 13: 191 - 192 ن وكفاية الطّالب 240 - 241، وإحياء العلوم للغزاليّ 3: 252، التلخيص 3: 5/4263، تفسير الثعلبي 2: 126، تفسير النيشابوري بهامش تفسير الطبريّ 2: 291، تفسير القرطبيّ 3: 21، مجمع الزوائد 9: 19 - 20، الرياض النّضرة 2: 269 - 270، ذخائر العقبى 84 - 88.

* رواه الصحابي أبو سعيد الخُدْريّ. شواهد التنزيل حديث رقم 133.

* وورد عن عائشة بنت قُدامة. الطبقات الكبرى 1: 227.

ولم تكن هذه هي المرّة الأولى التي يبيت أميرالمؤمنينعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يفديه بمهجته ويدرأ عن نفسه بنفسه؛ يشدّ أزْرَه في ذلك أبو طالب، أبوه مؤمن قريش وناصرُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . جاء في «شعر أبي طالب وأخباره -

٢٩٥

المستدرك ص 73»: ممّا أنشده أبو طالب، وكان كثيراً ما يخافُ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله البَيَات - أي الغَدْر ليلاً حيث يبيت - إذا عُرِف مضجعه، فكان يُقيمه ليلاً من منامه ويُضجِع ابنَه عليّاً مكانه، فقال له عليّ ليلةً: إنّي مقتول. فقال له أبو طالب، شعراً:

إصبِرَنْ يا بُنَيَّ فالصَّبْرُ أحجى

كُلُّ حَيٍّ مصيرُهُ لِشَعُوبِ(1)

قَدَّرَ اللهُ - والبلاءُ شديدٌ -

لِفداءِ الحَبيبِ وابنِ الحبيبِ

إنْ تُصبْكَ المـَنُونُ فالنَّبْلُ تُبرى

فمُصِيبٌ منها وغيرُ مُصيبِ

كلُّ حيٍّ - وإنْ تملّى بِعُمْرٍ -

آخذٌ من مَذاقِها بِنَصيبِ

فأجاب عليّعليه‌السلام ، فقال:

أتأمُرُني بالصَّبرِ في نصرِ أحمدٍ

وواللهِ ما قلتُ الّذي قلتُ جازعا

ولكنّني أحببتُ أن ترى نُصرتي

وتعلمَ أنّي لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجهِ الله في نصر أحمدٍ

نبيِّ الهُدى المحمود طفلاً ويافعا(2)

إنّ في سلوك أبي طالبرضي‌الله‌عنه ، في حمايته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفداءه بابنِه عليٍّعليه‌السلام ، وطاعة عليّ المطلقة لأبيه؛ مع وعيٍ منه أنّ ذلك في سبيل الله تعالى؛

____________________

(1) شَعُوب: المـَنيّة، يُقال أشْعَبَ الرجلُ، إذا مات أو فارق فراقاً لا يرجع. تهذيب الألفاظ، لابن السكّيت 453.

(2) المستدرك على شعر أبي طالبعليه‌السلام ، لأبي هِفّان المِهْزَميّ (ت 257 هـ) 74.

٢٩٦

وقد ترجمه في جوابه لأبيه شعراً، مضافاً إلى ما لحقه هو وبني هاشم من أذى قريش التي فرضت عليهم مقاطعة أمدها ثلاث سنين لا يشترون منهم ولا يبيعونهم، ولا يتزوّجون منهم ولا يزوّجونهم ومن ثمّ انعزل أبو طالب وبنو هاشم إلى شِعبِ وادٍ عرف فيما بعد باسم وادي أبي طالب؛ أقول: إنّ في سلوك أبي طالب هذا تحطيم للدعاية الأُمويّة التي نشرت حديثاً مفترىً وهو أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أبا طالب إلى الإسلام فأبى؟! فلمّا مات، استأذن الله تعالى بالاستغفار له فلم يأذن له؟!! كلّ ذلك ناصبيّةً وبغضاً وحرباً لعليٍّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

إنّ الحماية التي أَوْلاها أبو طالبعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تكذّب الدعاية الأُمويّة وتلقي ظِلال تساؤل على كتب الحديث والتاريخ التي تناقلت تلك الدّعاية بنصٍّ واحد! من غير التفات لسيرة شيخ البطحاء وزعيمها ومقدار الأذى الذي تحمّله هو وبنو هاشم وفقدانه منزلته بين قومه. فإذا كان ذلك عاطفةً محضةً، فلِمَ حُرِم أبو لهب، وهو عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً هذه العاطفة؟! بل كان أشدّ النّاس عداوةً له واستخفافاً له، وكانت امرأته تُعينه في مهمّته القذرة هذه فكانت تحمل الشوك والحطب يضعانه في الطريق الذي يمرّ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وقد أنزل الله تعالى فيهما سورةً كاملةً: «سورة تَبّت».

إنّ للعاطفة حدوداً، ومن حدودها أن يطلب أبو طالب من ابن أخيه يكفّ عن الدعوة صوناً له من خطر قريش وإبقاءً على مكانته هو في قريش..؛ إلاّ أن موقفه وشعره وشعر ولدهعليه‌السلام ، ومواقف وأشعار تترجم حقيقة أبي طالب وأنّه عاش ومات مسلماً مناضلاًرضي‌الله‌عنه . وهذه بعض أشعاره:

٢٩٧

حديث بحيرا الراهب

ذكر ذلك ابن إسحاق في سيرته؛ فبسند عن يونس بن بُكير عن محمّد بن إسحاق، قال: إنّ أبا طالب خرج تاجراً إلى الشام ومعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا نزل الركب بُصرى من أرض الشام، وبها راهب يُقال له بَحِيرا في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانيّة، فلمّا نزلوا ببَحِيرا وكانوا كثيراً ممّا يمرّون به قبل ذلك لا يكلّمهم ولا يعرض لهم، حتّى إذا كان ذلك العام نزلوا قريباً من صومعته، فصنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك - فيما يزعمون - عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب، حين أقبلوا وغماماً تظلّه - أي تظلّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - من بين القوم، حتّى نزلوا تحت شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة قد أظلّت الشجرة، وتدلّت أغصان الشجرة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى استظلّ تحتها، فلمّا رأى ذلك بَحِيرا، نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فصُنع، ثمّ أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحبّ أن تحضروا كلّكم ...، فحضروا وتخلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحداثة سنّه، فلمّا نظر بَحِيرا في القوم لم يرَ الصفة التي يعرف ويجد عنده؛ قال: يا معشر قريش لا يتخلّف أحد منكم عن طعامي هذا، قالوا له: يا بَحِيرا ما تخلّف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلاّ غلام هو أحدثُ القوم سنّاً، تخلّف في رحالهم، قال: فلا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم فأحضروه، فلمّا رآه بَحِيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، حتّى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام بَحِيرا فقال له: يا غلام أسألك باللاّت والعُزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه، وإنّما قال بَحِيرا له ذلك لأنّه سمع

٢٩٨

قومه يحلفون بهما، فزعموا أنّ رسول قال له: لا تسلني باللاّت والعُزّى شيئاً، فو الله ما أبغضت شيئاً قطّ بغضهما، فقال له بَحِيرا: فبالله إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه، قال: سلني عمّا بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من قومه، وهيئته، وأموره؛ فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره فيوافق ذلك ما عند بَحِيرا من صفته، ثمّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلمّا فرغ منه أقبل على عمّه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلامُ منك؟ قال: ابني، قال له بَحِيرا، ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّصا، قال: فإنّه ابن أخي وقد مات أبوه وأُمّه حبلى به، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه من اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنّه شرًّا، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمّه حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام.

فزعموا أنّ نفراً من أهل الكتاب «يهود» قد كانوا رأوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك السفر هم: زَبير، وتمّام ن ودَريس؛ ورأوا منه أشياء فأرادوه، فردّهم عنه بَحِيرا، وذكّرهم الله عزّ وجلّ، وما يجدون في الكتاب من ذِكره وصفته(1) .

ولأبي طالب شعر في ذلك:

إنّ ابن آمنة النبيّ محمّداً

عندي بمثلِ منازلِ الأولاد

لما تعلّق الزمامِ رحمته

والعيس قد قلّصن بالأزواد

____________________

(1) سيرة ابن إسحاق 73 - 76.

٢٩٩

فارفض من عيني دمع ذارف

مثل الجمان مُفرّق الأفراد

إلى آخر الشعر. فأنت ترى أنّه قد آمن وأعلنها صريحةً(1) بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ما زال غُلاماً، وذلك لشهادة حَبْر؛ ممّا يدلّل على رجحان عقل أبي طالب دون غيره من الشيوخ الذين ماتوا كفّاراً أو قُتلوا مشركين فكان الحسد لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام : كيف تجتمع النبوّة والإمامة في بيت واحد، والسيادة لابن عمّه سيّد الرسل وله سيّد العرب والزوجه سيّدة نساء أهل الجنّة ولولديه سيّدي شباب أهل الجنّة وأبوه شيخ البطحاء حامي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مؤمن قريش؟! ومن شعر أبي طالبرضي‌الله‌عنه ، وذلك لمّا اجتمعت بنو هاشم وبنوالمطّلب معه ورأى أن قد امتنع بهم وأن قريشاً لن يعادوه، وتجد في الشعر أنّه انتصر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه تصريح منه برسالة النبيّ:

منعنا الرسول رسول المليك

بِبِيضِ تَلألاُ كلمعِ البُروق

بصرب بزبر دون التهاب

حذار البوادر كالخنفقيق(2)

أذبّ وأحمي رسول المليك

حماية حام عليه شفيق(3)

فلمّا رأى أبو طالب من قومه ما سرّه من جدّهم معه، وحدبهم عليه جعل

____________________

(1) نفسه 76.

(2) الخنفقيق: أي الداهية. اللسان.

(3) سيرة ابن إسحاق 149.

٣٠٠