ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه8%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168572 / تحميل: 5860
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وعند العامّة يبرأ ا لضامن ؛ لأنّه فرع على المضمون عنه(١) .

وهنا للشافعيّة وجهٌ واحد : أنّه لا يبرأ بإبراء نفسه ، وإنّما يبرأ ببراءة المضمون عنه(٢) .

تذنيب : لو وكّله في إبراء غرمائه وكان الوكيل منهم ، لم يكن له أن يُبرئ نفسه ، كما لو وكّله في حبس غرمائه أو مخاصمتهم.

ولعلّ بينهما فرقاً.

ولو وكّله في تفرقة شي‌ء على الفقراء وهو منهم ، لم يكن له أن يصرف إلى نفسه من ذلك شيئاً عند الشافعيّة ؛ لأنّه مخاطب في أن يخاطب غيره ، فلا يكون داخلاً في خطاب غيره.

فإن صرّح له أن يُبرئ نفسه ، فالوجهان(٣) .

والمعتمد : الجواز في ذلك كلّه.

مسألة ٦٨٦ : إذا وكّله في الخصومة وأطلق بأن قال : وكّلتُك لمخاصمة خصمائي ، فإنّه يصح ، ويصير وكيلاً في جميع الخصومات ؛ عملاً بالعموم ، وهو أصحّ قولَي الشافعيّة.

والثاني : لا يصحّ ، بل يجب تعيين مَنْ يخاصم معه ؛ لاختلاف العقوبة.

وهذا الاختلاف قريب من الخلاف الذي سبق فيما إذا وكّله ببيع أمواله وهي غير معلومة(٤) .

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٤١ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٢.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٥ و ٥١٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٦.

(٣) البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٤.

(٤) الوسيط ٣ : ٢٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٠.

٦١

الفصل الثالث : في أ حكام الوكالة‌

وفيه مطالب :

الأوّل : في صحّة ما وافق من التصرّفات ، وبطلان ما خالف.

وتُعرف الموافقة باللفظ تارةً ، وبالقرينة أُخرى.

وفيه مباحث :

الأوّل : المباينة والمخالفة.

مسألة ٦٨٧ : يجب على الوكيل اعتماد ما عيّن الموكّل له وقرّره معه‌ ، ولا يجوز له المخالفة في شي‌ء ممّا رسمه له ، فيصحّ تصرّف الوكيل فيما وافق الموكّل ، ويبطل فيما خالفه مع صحّة الوكالة.

والموافقة والمخالفة قد تُعرفان بالنظر إلى اللفظ تارةً ، وبالقرائن التي تنضمّ إليه أُخرى ، فإنّ القرينة قد تقوى ، فيترك لها إطلاق اللفظ ، فإنّه إذا أمره في الصيف بشراء الجمد ، لا يشتريه في الشتاء.

وقد يتعادل اللفظ والقرينة ، وينشأ من تعادلهما خلاف في المسألة ، وهذا كما لو أطلق البيع وقال : قد وكّلتُك في بيعه ، ولم يعيّن ثمناً ولا نقداً ولا حلولاً ، فباع بغير نقد البلد من العروض والنقود ، أو بغبنٍ فاحش ، أو مؤجَّلاً ، فإذا فَعَل ذلك ، لم يصح ، وكان مخالفاً ؛ لأنّ العرف اقتضى انصراف إطلاق اللفظ إلى المعتاد المتظاهر بين الناس من البيع بالنقد ، ومن نقد البلد الذي يقع فيه البيع ، وبثمن المثل ، والحالّ ، فلا يملك الوكيل غير ذلك ، عند علمائنا أجمع ، وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ومالك ؛ قياساً على الوصي ، فإنّه لا يبيع إلاّ بثمن المثل من نقد البلد حالّاً.

٦٢

ولأنّه وكيل في عقد البيع ، فتصرّفه بالغبن لا يلزم الموكّل ، كالوكيل بالشراء إذا اشترى بغبنٍ فاحش ، ولأنّه إذا باع وأطلق ، كان الثمن حالّاً ، فإذا وكّل بالبيع وأطلق ، حُمل على الثمن الحالّ(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا وكّله في البيع وأطلق ، جاز له أن يبيع بأيّ ثمن كان ، قليلاً كان أو كثيراً ، حالّاً ومؤجَّلاً من أيّ نقدٍ شاء ؛ لأنّ المبيع ملكه ، فإذا أمر ببيعه مطلقاً ، حُمل على العموم في كلّ بيعٍ(٢) .

وهو ينتقض بالشراء ، فإنّه إذا أطلق له الشراء ، انصرف الإطلاق إلى الشراء بثمن المثل عنده(٣) .

وقال أبو يوسف ومحمّد : إذا أطلق له البيع ، لم يجز إلّا بثمن المثل من نقد البلد ، ويجوز حالًّا ومؤجَّلاً ؛ لأنّ البيع يقع بالحالّ والمؤجَّل في العادة ، فانصرف الأمر إليه(٤) .

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٨٢ ، الوسيط ٣ : ٢٨٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٦ ، البيان ٦ : ٣٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٣ - ٢٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٧ ، المغني ٥ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠٣ ، التلقين : ٤٤٦ ، المعونة ٢ : ١٢٣٩.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٥ - ١٤٦ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٢٣ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٤٢ / ٩٩٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠٣ ، المعونة ٢ : ١٢٣٩ ، بحر المذهب ٨ : ١٨٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٣٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٧ ، البيان ٦ : ٣٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٤ ، المغني ٥ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٦.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٦ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٤٢ / ٩٩٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦١ ، المغني ٥ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٨٢.

(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٧ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٢٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٥ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٤٢ / ٩٩٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦٠ ، بحر المذهب ٨ : ١٨٢ ، حلية =

٦٣

وهو ممنوع ؛ فإنّ ال ثمن إنّما يكون حالّاً في غالب العادة ، فانصرف الإطلاق إليه ، كثمن المثل. وأمّا إذا قيّد الموكّل الأمر فأمره بأن يبيعه بنقدٍ بعينه ، فإنّه لا يجوز له مخالفته ، إلّا أن يأذن له في بيعه بنقدٍ فيبيعه بأكثر. وقال أحمد في الرواية الأُخرى : إذا باع بأقلّ من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به ، صحّ ، ولا يصحّ الشراء بأكثر من ثمن المثل ، ويضمن الوكيل في صورة البيع النقصَ ؛ لأنّ مَنْ صحّ بيعه بثمن المثل صحّ بدونه ، كالمريض(١) .

فعلى هذه الرواية يكون البيع صحيحاً ، وعلى الوكيل ضمان النقص.

وفي قدره وجهان :

أحدهما : ما بين ثمن المثل وما باعه به.

والثاني : ما بين ما يتغابن الناس به وما لا يتغابن الناس به.

والوجه : الأوّل ؛ لأنّه لم يأذن للوكيل في هذا البيع ، فأشبه بيع الأجنبيّ.

وأمّا إذا باع بما يتغابن الناس بمثله ، فإنّه يجوز ويعفى عنه ولا ضمان عليه إذا لم يكن الموكّل قدّر له الثمن ؛ لأنّ ما يتغابن الناس به يُعدّ من ثمن المثل ، ولا يمكن التحرّز عنه.

فروع :

أ - إذا باع على الوجه الممنوع منه بأن يبيع بأقلّ من ثمن المثل أو بالعروض أو نسيئةً ، كان حكمه حكم الفضولي يكون بيعه موقوفاً إن أجازه الموكّل ، صحّ البيع ولزم ، وإلّا بطل ، ولا يقع باطلاً من أصله ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

____________________

= العلماء ٥ : ١٣٤ ، البيان ٦ : ٣٨١ ، المغني ٥ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٥ - ٢٢٦.

(١) المغني ٥ : ٢٥٥ - ٢٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٦.

٦٤

والمشهور عندهم : الأوّل (١) .

ب - لو كان في البلد نقدان وأحدهما أغلب ، فعليه أن يبيع به‌ ، فإن استويا في المعاملة ، باع بما هو أنفع للموكّل ، فإن استويا تخيّر.

وقال بعض الشافعيّة : إذا استويا في المعاملة ، وجب أن لا يصحّ التوكيل ما لم يبيّن ، كما لو باع بدراهم وفي البلد نقدان متساويان ، لا يصحّ حتى يقيّد بأحدهما(٢) .

والمشهور عندهم(٣) ما اخترناه أوّلاً.

ج - لو باع الوكيل على أحد الوجوه المذكورة ، لم يصر ضامناً للمال ما لم يسلّم إلى المشتري ، فإن سلّم ضمن.

د - بيع ما يساوي عشرةً بتسعةٍ محتملٌ في الغالب ما يتغابن الناس بمثله‌ ، فيصحّ فعله من الوكيل. وبيعه بثمانيةٍ غير محتملٍ ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : يختلف القدر المحتمل باختلاف أجناس الأموال من الثياب والعبيد والعقارات وغيرها(٥) .

ه- كما لا يجوز أن ينقص الوكيل عن ثمن المثل ، لا يجوز أن يقتصر عليه وهناك طالبٌ بالزيادة ، بل يجب عليه بيعه على باذل الزيادة مع تساوي الغريمين ؛ لأنّه منصوب لمصلحة الموكّل ، وليس من مصلحته بيعه‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٧.

(٣) بحر المذهب ٨ : ١٨٣ ، البيان ٦ : ٣٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٧.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٧.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٧.

٦٥

بالأقلّ مع وجود الأ كثر.

و - لو باع بثمن المثل ووجد مَنْ يزيد عليه ، فإن كان بعد انقضاء الخيار ، فلا كلام.

وإن كان في زمن الخيار ولو في المجلس ، فالأقرب : إنّ على الوكيل الفسخَ ؛ لاقتضاء مصلحة الموكّل ذلك ، والتزام البيع منافٍ لها ، فلا يملكه الوكيل.

وقال بعض العامّة : إنّه لا يلزمه فسخ العقد ؛ لأنّ الزيادة ممنوع منها منهيّ عنها ، فلا يلزمه الرجوع إليها ، ولأنّ المزايد قد لا يثبت على الزيادة ، ولا يلزم الفسخ بالشكّ(١) .

وهو غلط ؛ لأنّها زيادة في الثمن أمكن تحصيلها ، فأشبه ما لو جاء به قبل البيع ، والنهي يتوجّه إلى الذي زاد ، لا إلى الوكيل ، فأشبه مَنْ جاءته الزيادة قبل البيع بعد الاتّفاق عليه.

مسألة ٦٨٨ : لو قال الموكّل للوكيل : بِعْه بكَمْ شئت ، جاز البيع بالغبن ، ولا يجوز بالنسيئة ولا بغير نقد البلد ؛ لأنّه فوّض إليه تعيين القدر بلفظ « كَمْ » لأنّها كناية عن العدد ، ويبقى في النقد والنسيئة على إطلاق الإذن ، فلا يتناول إلّا الحالّ بنقد البلد ؛ لأنّ تعميمه في أحد الثلاثة لا يقتضي تعميمه في الباقيين.

ولو قال : بِعْه بما شئت ، فله البيع بغير نقد البلد ، ولا يجوز بالغبن ولا النسيئة.

ولو قال : بِعْه كيف شئت ، فله البيع بالنسيئة ، ولا يجوز بالغبن ولا بغير نقد البلد ، وبه قال بعض الشافعيّة(٢) .

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٦.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٤ - ٢٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

٦٦

وقال بعضهم : يجوز ا لجميع(١) . ولا بأس به عندي.

ولو قال : بِعْه بما عزّ وهان ، فهو كما لو قال : بِعْه بكَمْ شئت ، قاله بعض الشافعيّة(٢) .

وقال آخَرون : له البيع بالعرض والغبن ، ولا يجوز بيعه بالنسيئة(٣) . وهو المعتمد.

مسألة ٦٨٩ : للحاكم بيع المرهون ومال المفلَّس بنقد البلد‌. ولو لم يكن دَيْن المستحقّين من ذلك الجنس أو على تلك الصفة ، صرفه إلى مثل حقوقهم.

وقد يحتاج الحاكم في ذلك إلى توسيط عقدٍ آخَر ومعاملةٍ أُخرى ، كما لو كان نقد البلد المكسَّرَ وحقُّهم الصحيحَ ، فلا يمكن تحصيل الصحيح بالمكسَّر إلّا ببذل زيادةٍ وإنّه ربا ، فيحتاج إلى شراء سلعةٍ بالمكسّرة ثمّ يشتري الصحيحة بتلك السلعة.

ولو رأى الحاكم المصلحة في البيع بمثل حقوقهم في الابتداء ، جاز ، وقد سبق(٤) .

والمرتهن عند امتناع الراهن عن أداء الحقّ يرفع أمره إلى الحاكم ، فإن تعذّر عليه وافتقر إلى بيّنةٍ ولم تكن له ، قام مقام الحاكم في توسيط المعاملة بالأُخرى وفي بيعه بجنس الدَّيْن وعلى صفته ، وبه قال بعض الشافعيّة(٥) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٤) في ج ١٤ ، ص ٥٠ ، ضمن المسألة ٢٩٧.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥.

٦٧

ومَنَع بعضُهم من تسلّط المرتهن على بيع المرهون بمجرّد امتناع الراهن عن أداء ما عليه(١) .

وإذا أُلحق المرتهن بالحاكم فيما ذكرنا ، أشبه أن يلحق وكيل الراهن ببيع المرهون وقضاء الدَّيْن منه بالمرتهن ، بل أولى ؛ لأنّ نيابة المرتهن حينئذٍ قهريّة ، و [ الموكّل ](٢) قد رضي بتصرّفه ، ونصبه لهذا الغرض.

مسألة ٦٩٠ : الوكيل بالبيع المطلق يبيع من ابنه الكبير وأبيه وسائر أُصوله وفروعه - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) - لأنّه باع بثمن المثل الذي لو باع به من أجنبيّ لصحّ ، فأشبه ما لو باع من صديقه ، ولأنّه يجوز للعمّ أن يزوِّج موليتَه من ابنه إذا أطلقت الإذن ، ولم يُجعل تعيين الزوج شرطاً ، فكذا هنا ، ولأنّ القابل غير العاقد ، فصحّ البيع ، كالأجنبيّ.

والثاني للشافعيّة : أنّه لا يجوز - وبه قال أبو حنيفة ، ويعتبر أبو حنيفة قبولَ الشهادة له(٤) - لأنّ التهمة تلحقه في حقّ أبيه وابنه الكبير بالميل إليهما ، كما تلحقه في حقّ نفسه ، ولهذا لا تُقبل شهادته لهما ، كما لا تُقبل شهادته لنفسه ، ومن الجائز أن يكون هناك راغب بأكثر من الثمن(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الوكيل ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) بحر المذهب ٨ : ١٧٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٩ ، البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ٢٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٥ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٢٢ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٤٢ / ٩٩٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥.

(٥) بحر المذهب ٨ : ١٧٨ - ١٧٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : =

٦٨

وأُجري الوجهان للشا فعيّة في البيع من الزوج والزوجة ، فإذا قلنا : لا تُقبل شهادة أحدهما للآخَر ، فكالأب والابن ، وإلاّ فلا(١) .

وهذا عندنا باطل ؛ لأنّا نجوّز الشهادةَ لهم والبيعَ أيضاً ؛ إذ الضابط ثمن المثل ، فإذا بذله [ أيّ ](٢) مَنْ كان ، جاز البيع.

ولو باع من مكاتَبه ، صحّ أيضاً.

وللشافعيّة وجهان : الجواز ؛ لأنّ المكاتَب يملك دونه. والمنع ؛ للتهمة ، لأنّه يتعلّق حقّه بكسبه(٣) .

وكذا يصحّ البيع من جميع أقاربه ، كأخيه وعمّه وغيرهما.

والوجهان للشافعيّة في الفروع والأُصول المستقلّين(٤) .

أمّا لو باع من ابنه الصغير ، فإنّه جائز عندنا أيضاً.

ومَنَع منه الشافعيّة ؛ لأنّه يستقصي لطفله(٥) في الاسترخاص ، وغرض الموكّل الاستقصاء في البيع بالأكثر ، وهُما غرضان متضادّان ، فلا يتأتّى من الواحد القيام بهما(٦) .

____________________

= ٢١٩ ، البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥ - ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٣) بحر المذهب ٨ : ١٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٩ ، البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ ، المغني ٥ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٢ - ٢٢٣.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ ، المغني ٥ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣.

(٥) في النسخ الخطّيّة : « لابنه » بدل « لطفله ».

(٦) بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٩ ، البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

٦٩

وعن أحمد روايتان. و للشافعيّة وجهان(١) .

مسألة ٦٩١ : إذا وكّله في بيع شي‌ء ، فإن جوّز له أن يشتريه هو ، جاز أن يبيعه على نفسه ، ويقبل عن نفسه.

وإن مَنَعه من ذلك ، لم يجز له أن يشتريه لنفسه إجماعاً.

وإن أطلق ، مَنَع الشيخ من ذلك ؛ لأنّه قال : جميع مَنْ يبيع مال غيره - وهُمْ ستّة أنفس : الأب والجدّ ووصيّهما والحاكم وأمين الحاكم والوكيل - لا يصحّ لأحدٍ منهم أن يبيع المال الذي في يده من نفسه إلّا لاثنين : الأب والجدّ ، ولا يصحّ لغيرهما ، وبه قال مالك والشافعي(٢) .

وقال الأوزاعي : يجوز ذلك للجميع. وهو منقول عن مالك(٣) أيضاً.

وقال زفر : لا يجوز لأحدٍ منهم أن يبيع من نفسه شيئاً(٤) .

وقال أبو حنيفة : يجوز للأب والجدّ والوصي ذلك ، إلّا أنّه اعتبر في الوصي أن يشتريه بزيادة ظاهرة ، مثل أن يشتري ما يساوي عشرةً بخمسة عشر ، فإن اشتراه بزيادة درهمٍ ، لم يمض البيع استحساناً(٥) .

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٤ ، الوجيز ١ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٥.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٥٦ - ٤٥٧ / ١٨٤٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٧ ، الوجيز ١ : ١٩٠ ، البيان ٦ : ٣٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠٣ ، المغني ٥ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢١.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٣٧٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠٣ ، المغني ٥ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢١.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٣٧٤.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٣٧٤ ، المغني ٥ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٢.

٧٠

ثمّ استدلّ رحمه‌الله على مذهبه : بإجماع الفرقة وأخبارهم أنّه يجوز للأب أن يقوّم جارية ابنه الصغير على نفسه ، ثمّ يستبيح وطأها بعد ذلك.

وأيضاً روي أنّ رجلاً وصّى إلى رجلٍ في بيع فرس ، فاشتراه الوصي لنفسه ، فاستفتى عبد الله بن مسعود ، فقال : ليس له(١) ، ولم يُعرف له مخالف(٢) .

إذا عرفت هذا ، فقد اختلفت الشافعيّة في صحّة بيع الوكيل من نفسه ، والوصي يبيع مال الطفل من نفسه.

فالمشهور عندهم : المنع - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - لأنّه يستقصي لنفسه في الاسترخاص ، وغرض البائع الاستقصاء في البيع بالأكثر ، وهُما غرضان متضادّان ، فلا يتأتّى من الواحد القيام بهما.

وأيضاً فإنّ التوكيل بالبيع مطلقاً يشعر بالبيع من الغير ، والألفاظ المطلقة تُحمل على [ المفهوم ](٣) منها في العرف الغالب.

ولأنّه تلحقه التهمة ، بخلاف الأب والجدّ ، فإنّ شفقتهما الطبيعيّة على الولد تمنعهما من التسامح معه ، فانتفت التهمة عنهما ؛ لشفقتهما عليه(٤) .

ونقل عن الاصطخري من الشافعيّة أنّ للوكيل أن يبيع من نفسه ؛ لحصول الثمن الذي لو باع من غيره لحصل(٥) .

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٥٧ / ١٨٤٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٧ ، المغني ٥ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٢.

(٢) الخلاف ٣ : ٣٤٦ - ٣٤٧ ، المسألة ٩ من كتاب الوكالة.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « العموم ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٩ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٧ ، الوجيز ١ : ١٩٠ ، الوسيط ٣ : ٢٨٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ ، المغني ٥ : ٢٣٧ - ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢١ - ٢٢٢.

(٥) بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

٧١

واحتجّ أبو حنيفة عل ى جوازه للأب والجدّ والوصي إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل [ بأنّه ](١) إذا اشترى الوصي بأكثر من ثمن المثل ، فقد قرب مال اليتيم بالتي هي أحسن(٢) ، فوجب أن يجوز(٣) .

واحتجّ مَنْ جوّز مطلقاً : بأنّ الوصي والوكيل نائب عن الأب ، فإذا جاز ذلك للأب ، جاز للنائب عنه(٤) .

وينتقض قول أبي حنيفة : بأنّ الوصي يلي بتوليته ، فأشبه الوكيل.

واحتجّ زفر : بأنّ حقوق العقد تتعلّق بالعاقد ، فلا يصحّ أن يتعلّق به حكمان متضادّان ، ويشبه في ذلك الوصي والوكيل(٥) .

واعلم أنّ المشهور أنّ للأب والجدّ أن يتولّيا طرفي العقد ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يلي بنفسه ، فجاز أن يتولّى طرفي العقد ، كالجدّ يزوّج ابن ابنه ببنت ابنه الآخَر.

ولا نسلّم ما ذكره من تعلّق حقوق العقد بالعاقد لغيره.

وأمّا غيرهما فالمشهور : المنع.

وعندي في ذلك تردّد.

فروع :

أ - إذا منعنا من شراء الوكيل لنفسه ، لم يجز أيضاً أن يشتري لولده‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين فيما عدا « ر » من النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّه ». وكلاهما ساقط في « ر ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) إشارة إلى الآية ٣٤ من سورة الإسراء.

(٣) المغني ٥ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٢.

(٤) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ - ٥٣٧.

(٥) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٧.

٧٢

الصغير ولا لمن يلي عليه بوصيّةٍ ؛ لأنّه يكون بيعاً من نفسه ، وبه قال الشافعي(١) .

وعندي فيه نظر أقربه : الجواز في ذلك كلّه.

وأمّا عبده المأذون له في التجارة فحكمه حكم بيعه من نفسه.

ب - إذا أذن لوكيله أن يبيع من نفسه ، جاز عندنا على ما تقدّم.

وللشافعيّة وجهان(٢) .

قال ابن سريج : يجوز ، كما لو أذن له في البيع من أبيه وابنه ، وكما لو قال لزوجته : طلّقي نفسكِ على ألف ، ففَعَلت ، يصحّ ، وتكون نائبةً من جهته ، قابلةً من جهة نفسها.

ولأنّ التهمة قد انتفت عنه بذلك ، فجاز(٣) .

وهذا على قول مَن اعتبر التهمة.

وحكى أبو حامد من الشافعيّة في نكاح بنت العمّ من نفسه وجهين أيضاً(٤) .

وقال الأكثرون : لا يجوز ؛ لما تقدّم من تضادّ الغرضين ، وأيضاً فإنّ وقوع الإيجاب والقبول من شخصٍ واحد بعيد عن التخاطب ووَضْع الكلام ، وتجويزه في حقّ الأب والجدّ خلاف القياس ، ولأنّه لا يكون موجباً قابلاً فيما يتولّاه بالإذن ، كما لا يجوز أن يزوّج بنت عمّه من نفسه بإذنها(٥) .

ونحن نمنع الحكم في الأصل.

ج - لو وكّل أباه بالبيع ، فهو كالأجنبي إن جوّزنا في حقّ الأجنبيّ أن‌

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٧٨ ، البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٢ و ٣ و ٥) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٨ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٩ ، البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٧٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٨.

٧٣

يشتري لنفسه جاز هنا ، وإن منعناه ثَمَّ منعناه هنا.

وقال بعض الشافعيّة المانعين في حقّ الأجنبيّ : يجوز هنا ؛ لأنّ الأب يبيع مال ولده من نفسه بالولاية ، فكذلك بالوكالة(١) .

وفيه بُعْدٌ.

د - لو صرّح له بالإذن في بيعه من ابنه الصغير ، قطع بعض الشافعيّة بالجواز - كما اخترناه نحن - لأنّه رضي بالنظر إلى الطفل وبترك الاستقصاء ، وتولّي الطرفين في حقّ الولد معهود على الجملة ، بخلاف ما لو باع من نفسه. ولأنّ التهمة قد انتفت ، والقابل غير الموجب(٢) .

وقال بعضهم : لا يجوز ، كما لو أذن في بيعه من نفسه(٣) .

ويجري الوجهان للشافعيّة فيما لو وكّله بالهبة وأذن له أن يهب من نفسه ، أو بتزويج ابنته وأذن له في تزويجها من نفسه.

والنكاح أولى بالمنع عندهم(٤) ؛ لأنّهم رووا أنّه « لا نكاح إلّا بأربعة : خاطبٍ ووليٍّ وشاهدَيْن »(٥) .

ه- لو وكّل مستحقّ الدَّيْن المديونَ باستيفائه من نفسه‌ ، أو وكّل مستحقّ القصاص الجانيَ باستيفائه من نفسه إمّا في النفس أو الطرف ، أو وكّل الإمام السارقَ ليقطع يده ، جاز.

وللشافعيّة الوجهان(٦) .

أمّا لو وكّله الإمام في جلد نفسه ، فالأقرب : المنع ؛ لأنّه متّهم بترك‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٧٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٢ و ٣ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٤) البيان ٦ : ٣٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٦ ، وانظر : المصنّف - لعبد الرزّاق - ٦ : ١٩٧ / ١٠٤٨١ ، وسنن الدارقطني ٣ : ٢٢٤ - ٢٢٥ / ١٩.

٧٤

الإيلام ، بخلاف القطع ؛ إذ لا مدخل للتهمة فيه.

وظاهر مذهب الشافعيّة : المنع في الجميع(١) .

مسألة ٦٩٢ : لو وكّله المتداعيان أن يخاصم من الجانبين ، فيدّعي عن أحدهما ويُنكر عن الآخَر ، الأقرب : الجواز ؛ لأنّه يتمكّن من إقامة البيّنة للمدّعي ثمّ من إقامة البيّنة الدافعة للمدّعى عليه ، وعدالته وأمانته تمنعه(٢) من الميل عن أحد الجانبين ، وهو أضعف وجهي الشافعيّة.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لما فيه من اختلال غرض كلّ واحدٍ منهما ، فإنّه يحتاج إلى التعديل من جانبٍ وإلى الجرح من جانبٍ ، وعلى هذا [ فإليه ](٣) الخيرة يخاصم لأيّهما شاء(٤) .

ولا منافاة لما بيّنّاه من اقتضاء عدالته وأمانته عدمَ الميل بغير الحقّ ، وهو مكلّف باعتماد الصحيح ، حتى لو طلب الموكّل منه الخروجَ عنه ، لم يجز له موافقته عليه.

ولو توكّل رجل في طرفَي النكاح أو البيع ، جاز عندنا.

وعند الشافعيّة وجهان(٥) .

ومنهم : مَنْ قطع بالمنع(٦) .

ولو وكّل مَنْ عليه الدَّيْن بإبراء نفسه ، جاز عندنا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

(٢) الظاهر : « تمنعانه ».

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ما إليه ». والمثبت - كما في العزيز شرح الوجيز - هو الصحيح.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٨١ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٩ ، البيان ٦ : ٣٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ ، المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٤.

(٥ و ٦) بحر المذهب ٨ : ١٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨.

٧٥

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الوجهين.

والثاني : القطع بالجواز.

وهُما مبنيّان على أنّه(١) هل يحتاج إلى القبول؟ إن قلنا : نعم ، جرى الوجهان. وإن قلنا : لا ، قطعنا بالجواز ، كما لو وكّل مَنْ عليه القصاص بالعفو ، والعبد بإعتاق نفسه(٢) .

والوكيل بالشراء بمنزلة الوكيل بالبيع في أنّه لا يشتري من نفسه ولا مال(٣) ابنه الصغير على الخلاف السابق(٤) ، وفي تخريج شرائه من ابنه البالغ على الوجهين في سائر الصور.

مسألة ٦٩٣ : كلّ ما جاز التوكيل فيه جاز استيفاؤه في حضرة الموكّل وغيبته‌ ، عند علمائنا - وبه قال مالك وأحمد في إحدى الروايتين(٥) - لأنّ ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكّل جاز في غيبته ، كالحدود وسائر الحقوق.

وقال أبو حنيفة وبعض الشافعيّة : لا يجوز استيفاء القصاص وحدّ القذف في غيبة الموكّل - وهو الرواية الأُخرى عن أحمد - لاحتمال أن يعفو(٦) .

____________________

(١) أي : الإبراء.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٨ - ٥٣٩.

(٣) أي : « من مال ».

(٤) في ص ٦٨.

(٥) بحر المذهب ٨ : ١٦٥ ، المغني ٥ : ٢٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٨.

(٦) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٣٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٢ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : =

٧٦

وهو بعيد ، والظاهر أنّه لو عفا ، لأعلم الوكيل ، والأصل عدمه ، وقد كان قُضاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحكمون في البلاد ويقيمون الحدود التي تُدرأ بالشبهات ، مع احتمال النسخ.

وكذا لا يحتاط في استيفاء الحدود بإحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة أو تغيّر اجتهاد الحاكم.

مسألة ٦٩٤ : إذا وكّل عبده في إعتاق نفسه أو امرأته في طلاق نفسها ، صحّ.

ولو وكّل العبد في إعتاق عبيده أو المرأة في طلاق نسائه ، لم يدخل العبد ولا المرأة في ذلك - على إشكالٍ - لأنّ ذلك ينصرف بإطلاقه إلى التصرّف في غيره.

ويحتمل أن يملكا ذلك ؛ عملاً بعموم اللفظ ، كما يجوز للوكيل في البيع البيعُ من نفسه على ما اخترناه.

وكذا لو وكّل غريمه في إبراء غرمائه ، بخلاف ما إذا وكّله في حبسهم أو في خصومتهم ، لم يملك حبس نفسه ولا خصومتها ؛ عملاً بالظاهر.

ولو وكّل رجلاً في تزويج امرأة ولم يعيّن ، فالأقرب : أنّ له أن يزوّجه ابنته ، وبه قال أبو يوسف ومحمّد(١) .

ولو أذنت له في تزويجها ، فالأقرب : أنّه ليس له أن يزوّجها من نفسه ، بل لولده ووالده.

____________________

= ١١ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥١٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٥ ، حلية العلماء ٥ : ١١٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٠ ، البيان ٦ : ٣٥٧ - ٣٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٦.

(١) المبسوط - للسرخسي - ١٩ : ١١٨ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٤٧ ، المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣.

٧٧

وفيه لبعض العامّة و جهان(١) .

ولو وكّله في شراء عبدٍ ، جاز أن يشتري نفسه له من مولاه.

والحكم في الحاكم وأمينه والوصي كالحكم في الوكيل في بيع أحد هؤلاء لوكيله أو لولده الصغير أو طفل يلي عليه أو لوكيله أو لعبده المأذون.

وقد سبق(٢) الخلاف في ذلك كلّه.

مسألة ٦٩٥ : لو وكّل عبداً بشراء نفسه من سيّده ، أو يشتري منه عبداً آخَر ، ففَعَل ، صحّ عندنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد وبعض الشافعيّة(٣) - لأنّه يجوز أن يشتري عبداً من غير مولاه ، فجاز أن يشتريه من مولاه ، كالأجنبيّ ، وإذا جاز أن يشتري غيره من مولاه ، جاز أن يشتري نفسه ، كالمرأة لـمّا جاز توكيلها في طلاق غيرها ، جاز توكيلها في طلاق نفسها. ولأنّه قابل للنقل وقابل للاستنابة فيه ، فلا مانع مع وجود المقتضي.

وقال بعض الشافعيّة : لا يجوز ؛ لأنّ يد العبد كيد سيّده ، فأشبه ما لو وكّله في الشراء من نفسه ، ولهذا يُحكم للإنسان بما في يد عبده(٤) .

وهو باطل ؛ لأنّ أكثر ما يقدّر فيه جَعْل توكيل العبد كتوكيل سيّده ، وقد ذكرنا صحّة ذلك ، فإنّ السيّد يصحّ توكيله في الشراء والبيع من نفسه ،

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣.

(٢) في ص ٦٩ وما بعدها ، المسألة ٦٩١.

(٣) بدائع الصنائع ٤ : ٧٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٥ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٨ ، المغني ٥ : ٢٤٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١١ - ٢١٢ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٩ ، التنبيه : ١٠٩ ، الوسيط ٣ : ٢٨٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٢١ ، البيان ٦ : ٣٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٣.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٥٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٩ ، التنبيه : ١٠٩ ، الوسيط ٣ : ٢٨٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٢١ ، البيان ٦ : ٣٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٣ ، المغني ٥ : ٢٤٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٢.

٧٨

فهنا أولى.

فعلى هذا لو قال العبد : اشتريت نفسي لزيدٍ ، وصدّقه سيّده وزيدٌ ، صحّ ، ولزم الثمن.

ولو قال السيّد : ما اشتريت نفسك إلّا لنفسك ، فإن جوّزناه ، عُتق العبد بقوله وإقراره على نفسه ، ويلزم العبد الثمن لسيّده ؛ لأنّ زيداً لا يلزمه الثمن ؛ لعدم حصول العبد له ، وكون سيّده لا يدّعيه عليه ، فلزم العبد ؛ لأنّ الظاهر ممّن يباشر العقد أنّه له.

وإن صدّقه السيّد وكذّبه زيدٌ ، نُظر في تكذيبه ، فإن كذّبه في الوكالة ، حلف وبرئ ، وللسيّد فسخ البيع واسترجاع عبده ؛ لتعذّر ثمنه. وإن صدّقه في الوكالة وكذّبه في أنّك ما اشتريت نفسك لي ، فالقول قول العبد ؛ لأنّ الوكيل يُقبل قوله في التصرّف المأذون فيه.

مسألة ٦٩٦ : لو وكّله في إخراج صدقته على المساكين وهو منهم ، أو أوصى إليه بتفريق ثلثه عليهم ، أو دفع إليه مالاً وأمره بتفريقه على مَنْ يريد أو يدفعه إلى مَنْ شاء ، ففي جواز الأخذ منه روايتان تقدّمتا(١) .

وقال أحمد : لا يجوز ؛ لأنّه أمره بتنفيذه(٢) .

وأصحابنا قالوا : إذا أخذ شيئاً ، فلا يفضّل نفسه ، بل يأخذ مثل ما يعطي غيره.

وهل هذا على سبيل(٣) الوجوب ، أو الاستحباب؟ نظر.

وهل له الاختصاص إذا سوّغ له تخصيص واحدٍ به؟ إشكال.

____________________

(١) في ج ٥ ، ص ٣٦٠ ، المسألة ٢٧٢.

(٢) المغني ٥ : ٢٤١.

(٣) في « ج ، ر » : « وجه » بدل « سبيل ».

٧٩

وله أن يعطي ولده وأ باه وامرأته ومَنْ تلزمه نفقته مع الاستحقاق.

وعن أحمد روايتان(١) .

مسألة ٦٩٧ : إذا وكّله في البيع مؤجَّلاً ، فإن قدّر الأجل صحّ التوكيل ، وإن أطلق فالأقرب : الجواز ، ويرجع في ذلك إلى مصلحة الموكّل ، والمتعارف إن كان فيه عرف.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه لا يصحّ التوكيل مع الإطلاق ؛ لاختلاف الأغراض بتفاوت الآجال طولاً وقصراً.

وأصحّهما عندهم : الصحّة.

وعلى ما ذا يُحمل؟ فيه ثلاث أوجُه :

أحدها : أنّه ينظر إلى المتعارف في مثله ، فإن لم يكن فيه عرفٌ راعى الوكيلُ الأنفعَ للموكّل.

والثاني : له التأجيل إلى أيّة مدّة شاء ؛ عملاً بإطلاق اللفظ.

والثالث : يؤجّل إلى سنة ولا يزيد عليها ؛ لأنّ الديون المؤجَّلة تتقدّر بها ، كالجزية والدية(٢) .

البحث الثاني : فيما يملك الوكيل بالبيع

مسألة ٦٩٨ : إذا وكّله في البيع مطلقاً ، لم يملك الوكيل قبض الثمن ،

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٤١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦١ ، بحر المذهب ٨ : ١٨٣ ، الوسيط ٣ : ٢٨٧ - ٢٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٣٦ ، البيان ٦ : ٣٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٧ - ٢٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

جملة عارضة:

لقد بدأ ابن تيميه كلامه بنفي الثابت، وإثبات المنفي، ومحاولة النيل من شخص أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وتفضيل الخوارج وبني أميّة على شيعة عليّ وأهل بيت النبوّة الطاهر؛ إلاّ أنّه، ولدفع دَخَلٍ، قد ذكر في تفريعه الثاني «أنّ إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عليّاً يحبّ الله ورسوله، ويحبُّه اللهُ ورسوله حقّ»، وعقّب بعدها بشتم الشيعة والتشكيك بإيمان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام !

نقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث من بعث، لم يقل بشأن أحدٍ منهم، ما قاله بحقّ عليّعليه‌السلام ، فماذا يعني ذلك؟ ولقد قرنصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الحبّ الخاصّ بتحقيق النّصر والفتح على يَدي عليّعليه‌السلام ؛ ولذا لسنا - بعد هذا - بحاجة إلى شهادة ابن تيميه وأضرابه!

الخوارج

أفصح ابن تيميه عمّا في نفسه فألقاه على لسان الخوارج ليقول بردّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وموته على الكفر!

وقبل الحديث حول الخوارج وما جاء فيهم من أحاديث توجب قتلهم، وأنّ لقاتلهم من الأجر الجزيل، نذكر طرفاً من أخبارهم تُظهر جهالتهم وأنّهم رجال سوء؛ ومع ذلك لم نجدهم قد كفّروا أميرالمؤمنينعليه‌السلام . فمِن خبرِهم: بعد أن فرغ أميرالمؤمنينعليه‌السلام من قتال (الناكثين) أهل الجَمَل، بدأت فتنة (القاسطين) في الشام، فقد أعلن معاوية تمرّده وخروجه على أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فكانت

١٠١

وقعة صفّين، وكانت أشدّ أيذامها هي الواقعة الخميسيّة، نسبةً إلى اليوم الذي حصلت فيه وهو: يوم الخميس؛ وتسمّى أيضاً «ليلة الهرير»؛ سمّيت بذلك لشدّتها، حيث جعل بعضهم يهرّ على بعض، ويعتنق بعضهم بعضاً، وجعل عليّعليه‌السلام يقف ساعةً بعد ساعةٍ ويرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «اللّهمّ إليك نُقِلَت الأقدام، وأفضت القلوب، ورُفعت الأيدي، وامتدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وطُلبت الحوائج...»« رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (١) .

ثمّ إنّه حمل في سواد اللّيل وحملت مع الناس، فكلّما قتل بيده رجلاً من أهل الشام كبّر تكبيرة، حتّى أحصي له ما يزيد على خمسمائة تكبيرة، في كلّ تكبيرة له قتيل(٢) .

رفعُ المصاحف

صبيحة تلك اللّيلة، كاد أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحسم المعركة بالنصر المؤزّر ويُنهيَ الفتنة، وقد أشرف مالك الأشتر على دخول عسكر معاوية. وهنا وقعت الفتنة، إذ قال معاوية لعمرو بن العاص: ويحك أبا عبدالله! أين حيَلُك التي كنتُ أعرفها منك؟ فقال عمرو: تريد ماذا؟ قال: أُريد أن تسكّن هذه الحروب؛ فقد أُبيد أهل الشام. فقال عمرو: إن أحببتَ فأمر بالمصاحف أن تُرفع على رؤوس الرماح، ثمّ ادعهم إليها. فأمر معاوية بالمصاحف فرفعت على رؤوس

____________________

(١) الأعراف: ٨٩.

(٢) وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ت ٢١٢ هـ) ٤٧٧، وفي الفتوح لابن أعثم (ت ٣١٤ هـ) قال: خمسمائة تكبيرة وثلاثٌ وعشرون تكبيرة (الفتوح ٢: ١٧٨).

١٠٢

الرماح، وصاح أهل الشام: يا عليّ اتّق الله أنت وأصحابك في هذه البقيّة، هذا كتاب الله بيننا وبينكم(١) .

الفتنة

في هذه المرحلة الحاسمة، وقع اللّجاج في صفوف جيش أميرالمؤمنينعليه‌السلام في شأن المصاحف المرفوعة؛ فالذين ملّوا الحرب وفي نفوسهم مرض تداعوا مطالبين أميرالمؤمنينعليه‌السلام بوقف الحرب والإجابة إلى حُكم القرآن! فقال لهم: «ويحكم! أنا أوّلُ من دعا إلى كتاب الله وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعُني في ديني أن أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنّما قاتلتهم ليدينوا بحُكم القرآن، فإنّهم قد عصَوُا الله فيما أمرهم فيه، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون»(٢) .

إلاّ أنّ الفرقة المارقة أصرّت على موقفها وحملته على أن يبعث إلى الأشتر وبذلك انقلب الموقف ونجا معاوية الذي كان يمنّي نفسه الفرار، فلقد كان بعد ذلك يقول: «واللهِ رجع عنّي الأشتر يوم رفع المصاحف، وأنا أُريد أن أسأله أن يأخذ لي الأمان من عليّ، وقد هممتُ بالهرب»(٣) .

____________________

(١) الفتوح ٢: ١٧٩، وفي وقعة صفّين بتوسّع واختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) وقعة صفّين ٤٨٩ - ٤٩٠، الفتوح ٢: ١٨٣، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢١٧.

(٣) الفتوح ٢: ١٨٥.

١٠٣

الهُدنة

بعد الذي كان من المارقين، توقّف الناس عن القتال وجرت مكاتبات طويلة انتهت بالاتّفاق على عقد هدنة مدّتها سنة، وكتبوا بذلك كتاباً وموثقاً وتقرّر أن يعيّن كلُّ فريق حكماً يرضون حكمه. فاختار أهل الشام: عمرو بن العاص، واختار الأشعث والذين صاروا خوارج بعد ذلك أبا موسى الأشعريّ، رغم رفض أمير المؤمنينعليه‌السلام له!

رفض التحكيم

بعد كتابة الكتاب وشهادة الشهود؛ خرج الأشعث بنسخةٍ منه يقرؤها على الناس، فتعالت أصوات المخالفين لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لا حُكم إلا لله، الحُكم لله يا عليّ لا لك! لا نرضى أن يُحكِّم الرّجال في دين الله، وقد كنّا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا خطأنا وزللُنا فرجعنا إلى الله وتبنا! فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا، وتُبت إلى الله كما تُبنا، وإلاّ برئنا منك!

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ويحكم! أبعدَ الرّضى والميثاق والعهد نرجع؟!

أليس الله تعالى قد قال:« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ، وقال:« وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » (٢) . فأبى عليّعليه‌السلام أن يرجع، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه، فبرِئتْ من

____________________

(١) وقعة صفّين ٤٠٨ - ٥٥٢، الفتوح ٣: ٣١٨ - ٣٢٥ و ٤: ٨٩ - ٩٠، وشرح نهج البلاغة ٢: ٢٩.

١٠٤

عليّعليه‌السلام ، برئ عليّ منهم.

فلمّا رجع أهل العراق لعراقهم، وأهل الشام لشامهم، انحاز مخالفوا أمير المؤمنينعليه‌السلام وساروا حتّى نزلوا بحروراء، وأمّروا عليهم عبد الله بن الكوّاء(١) .

وقفة تأمّل

إن الخوارج الذين أقامهم ابن تيميه بيّنةً على تضليل الشيعة وتكفير أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ قد وجدناهم غارقين في وحل جهل مظلم وأعرابيّة غليظة أوردتهم المهالك! فهم الذين حملوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام على قبول التحكيم عملاً منهم بخديعة ابن العاص، ورفضوا عبد الله بن عبّاس الذي اختاره عليٌّ حكماً له، وأصرّوا على أبي موسى الأشعريّ ولم يكن موضع رضى أميرالمؤمنين لأسبابٍ بيّنها لهم، فإذا صار التحكيم والاتّفاق على عقد هدنة أمدها سنة؛ رفضوا التحكيم! وحجّتهم أنّه لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله! إلاّ أنّهم كانوا أصدق من ابن تيميه إذ ردّوا الخطأ إلى أنفسهم، ولكنّهم انتقلوا إلى مفارقة أُخرى.

فقد طلبوا من أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يتوب من ذنب ارتكبوه هُم! فينقض العهد والميثاق بعد توكيده، فأبىعليه‌السلام مستدلاًّ عليهم بكتاب الله؛ فلمّا انتهوا إلى الحدّ هذا؛ فارقوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام وعاثوا فساداً؛ والمرء مع من أحبّ!

١٠٥

مناظرة ابن عبّاس للخوارج

بعد انحياز الخوارج إلى حروراء، قرية قرب الكوفة، بعث أمير المؤمنين إليهم ابن عبّاس ليناظرهم، فأقبل عليهم ابن عبّاس وطلب أن يخرج إليه رجل منهم ليكلّمه، فخرج إليه: عتاب بن الأعور الثعلبيّ، فحاججه ابنُ عبّاس حتّى ألزمه الحجّة، وحمله على أن يقول: إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون، ويحك يا ابن عباس! احتلتَ واللهِ حتّى أوقعتني في أمر، وألزمتني الحجّة حتّى جعلتني ممّن أُخرّب دار الله. لكن ويحك يا ابن عبّاس! فكيف التخليص ممّا أنا فيه؟ قال ابن عبّاس: الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخْربته الأمّة من دار الإسلام. قال: فدُلّنيعلى السّعي في ذلك. قال ابن عبّاس: إنّ اوّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديَه، وتعلم من يريد عمارتها فتُواليَه. قال: صدقت يا ابن عبّاس، واللهِ ما أعرفُ أحداً في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، لو لا أنّه حكّم عبد الله بن قيس(١) في حقٍّ هو لَهُ!...؛ فصاحت الخوارج: هيهات يا ابن عبّاس! نحن لا نتولّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتّى نحتجّ عليه ويسمع من كلامنا.

فخرج عبد الله بن عبّاس إلى عليّعليه‌السلام ، فخبّره بذلك، فركب إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتّى وافاهم بحروراء، فلمّا بلغ ذلك الخوارج ركب عبد

____________________

(١) هو أبو موسى الأشعريّ.

١٠٦

الله بن الكوّاء في مائة رجل من أصحابه حتّى واقفه، فقال له أمير المؤمنين: يا ابن الكوّاء، إنّ الكلام كثير، ابرزْ إليّ من أصحابك حتّى أُكلّمك؛ قال ابن الكوّاء: وأنا آمنٌ من سيفك؟ قالعليه‌السلام نعم، وأنت آمنٌ من سيفي. فخرج ابن الكوّاء في عشرةٍ من أصحابه، ودنوا من عليّعليه‌السلام فذكر عليّعليه‌السلام الحرب الذي كان بينه وبين معاوية، وذكر اليوم الذي رُفعت فيه المصاحف وكيف اتّفقوا على الحكمين...، ومخالفة الخوارج له، فانحاز ابن الكوّاء مع العشرة الذين معه إلى صفّ أمير المؤمنين، وقد رجعوا عن رأي الخوارج، ومضى الباقون وهم يقولون: لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله(١) .

وقفة تأمّل أخرى

لقد وجدنا فيما ذكرنا أنّ عتاب بن الأعور الثعلبيّ الخارجيّ قد أقرّ لابن عبّاس أنّه قد ألزمه الحجّة، وأنّ سعي الخوارج فسادٌ في الأرض، وأنّ الحقّ مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فأين هذا ممّا ادّعاه ابن تيميه؟!

وقد وجدنا ابن الكوّاء، وهو رأس الخوارج، بعد مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام له، قد رجع هو والعشرةُ الذين كانوا معه عن رأي الخوارج وصاروا إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأمّا بقيّة الخوارج فإنّهم قد استزلّهم الشيطان وركبتهم الحميّة الجاهليّة، ومضوا ينادون:لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله؛ أي أنّهم لم يكفّروا عليّاًعليه‌السلام كما زعم ابن تيميه.

____________________

(١) الفتوح ٤: ٩٠ -٩٧.

١٠٧

مقتل عبد الله بن خَبّاب بن الأَرَتّ

إنّ الخوارج الذين تشدّق ابن تيميه بهم وجعلهم حجّةً على الإمام عليّعليه‌السلام وشيعته، عاثوا في الأرض فساداً؛ فبعد انحياز رئيسهم ابن الكوّاء وعشرةٍ منهم إلى صفّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ تدارسوا أمرهم فأمّروا عليهم عبد الله بن وهب التّميميّ الراسبيّ، وحرقوص بن زهير البَجَليّ. وعقدوا العزم على أن يعسكروا بالنَّهروان والتحق بهم أصحابٌ لهم من البصرة مع مِسعَر بن فدكيّ التميميّ، فاستعرض هؤلاء الناس في طريقهم، فإذا هم برجلٍ يسوق بامرأتِه على حمارٍ له، فدعوه وانتهروه ورعّبوه، وقالوا له: من أنت؟ فقال: رجلٌ مؤمن. قالوا: فما اسمُك؟ قال: أنا عبد الله بن خبّات بن الأرتّ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفّوا عنه، قالوا له: ما تقول في عليّ؟ قال: أقول: إنّه أمير المؤمنين وإمام المسلمين وحدّثني أبي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل، فيُصبح مؤمناً ويُمسي كافراً؛ ويُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً». فقالوا: والله لنقتلنّك قتلةً ما قُتِلَها أحد! وأخذوه فكتّفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى مُتمّ حتّى نزلوا تحت نخل فسقطت رطبة منها، فقذفها بعضهم في فيه، فقال له رجل منهم: أبغير حِلّها ولا ثمن لها؟! فألقاها من فيه واخترط سيفه فمرّ به خنزير لذمّيّ فقتله، فقال له بعض أصحابه: إنّ هذا لمن الفاسد في الأرض! فطلب صاحب الخنزير حتّى أرضاه، فقال ابن خبّاب: لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع؛ إنّي لآمنٌ من شرّكم. فجاءوا به وألقوا به على الخنزير فذبحوه، وبقروا بطن امرأته وهي تقول: أما تتّقون الله؟! وقتلوا ثلاث نسوةٍ كُنّ معها.

١٠٨

وقد قال الخوارج لعبد الله بن خبّاب ساعة ذبحه: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك! وكان في عنقه مصحف. وساوموا رجلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن، فقال: واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جَنا خلة إلاّ بثمن؟!

وبلغ أميرَ المؤمنينعليه‌السلام ما اجترأه الخوارج من ترويع الناس بالاستعراض، وقتلهم عبد الله بن خبّاب وتلكُم النّسوة، فبعث إليهم الحارث بن مرّة العبديّ ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم، فخرجوا إليه فقتلوه(١) .

سؤال

قومٌ يقتلون صحابيّاً ولم يكن رافضيّاً! لأنّه صدقهم القول في معتقده في عليّعليه‌السلام ، ويبقرون بطن امرأته الحامل فيقتلونها مع ثلاث نسوة! والإسلام يأبى قتل النساء والذّريّة، وهذا هو مبدأ الإمام عليّعليه‌السلام في حروبه كلّها، وهم إذ يقتلون المؤمنين من غير ذنب، فإنّهم يرون للخنزير حرمةً لا يجوز هتكها، وحمل سلوكهم رجلاً نصرانيّاً أن قال لهم: «واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جنا نخلةٍ إلاّ بثمن؟!»؛ وإنّ من مبادئ الإسلام حرمة قتل الرّسل، فما بالُهم عَدَوا على رسول الإمام عليّعليه‌السلام فقتلوه؟!

كلّ هذه المفاسد العظيمة، وما سبقها من إقرارٍ على أنفسهم وانحياز أميرهم

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١: ١٢٢، وأنساب الأشراف للبلاذريّ ٣: ١٤١، وتاريخ الطبري ٤: ٦١، والفتوح ٤: ١٩٨.

١٠٩

وعشرة آخرين منهم إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وما سنذكره من رجوع ألوف منهم، ومع كلّ ذاك يبقى الخوارج حجّة عند ابن تيميه فيما ذكر!!

مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام للخوارج

بعد الذي كان من الخوارج، سار إليهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأصحابه، حتّى إذا صار قريباً من النهروان جاء رجلٌ يعدو، فسأله أمير المؤمنين: ما وراءك؟ فقال: إنّ القوم لمّا علموا أنّك تقاربت منهم عبروا النهروان هاربين، فقالعليه‌السلام : أنت رأيتهم حين عبروا؟ قال نعم؛ فقال له: كلاّ والذي بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّاً، لا يعبرون حتّى يَقتُلَ اللهُ مقاتلتهم على يدي، فلا يبقى منهم إلاّ أقل من عشرة، ولا يقتل من أصحابي إلاّ أقلّ من عشرة، ذلك عهدٌ معهود وقضاءٌ مقضيّ(١) .

ولمّا صار قبالة القوم مدّوا الرماح في وجهه وهم يقولون: لا حكم إلاّ للهِ، فقال أميرالمؤمنين: لا أنتظر فيكم إلا حُكم الله(٢) .

ثمّ إنّهعليه‌السلام دخل معهم في مناظرة طويلة، فكانوا كلّما أشكلوا عليه أمراً أجابهم بدليلٍ من القرآن أو السنّة، حتّى قطع جميع حججهم، وجعل بعضُهم يقول لبعض: صدق فيما قال، ولقد دحَضَ جميع ما احتججنا عليه؛ ثمّ صاح القوم من كلّ ناحية وقالوا: التوبةَ التوبة يا أمير المؤمنين!

فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف، وبقي على حربه أربعة آلاف، وأقبلعليه‌السلام

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٢٠، والكامل للمبرد ٥٤٣.

(٢) الفتوح ٤: ٢٦٨.

١١٠

إلى هؤلاء المستأمنين إليه فقال: اعتزلوا عنّي في وقتكم هذا وذروني والقوم.

ثمّ اشتبك العسكران في معركة عدم نظيرها؛ فلم يُقتَل من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام إلاّ ثمانية، وقيل: تسعة رجال، ولم يفلت من الأربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة رجال، انتهى أحدُهم إلى قرب حرّان؛ ونسله فيها(١) ، وهي المدينة التي ولد فيها ابن تيميه وترعرع بها.

تعقيب

إنّ الخوارج، لمّا فنّد أميرالمؤمنينعليه‌السلام آراءهم وأبطل حججهم فأعلنوا توبتهم، نادوا عليّاًعليه‌السلام بأمرة المؤمنين، ممّا يعني أنّهم كانوا يعتقدون ذلك ولكن استحوذ عليهم الشيطان ثمّ ثابوا إلى رُشْدهم، ولم يبق إلاّ مَن حقّ عليه العذاب فما الدنيا أصابوا وهم في الآخرة من الخاسرين.

وقبل ذكر ما ورد فيهم من الأحاديث نقول لابن تيميه: هلاّ كنت مع الثمانية آلاف، وأحد عشر ممّن سبقهم إلى التوبة - ابن الكوّاء وجماعته - فكنت معهم في صفّ عليّ وشيعته، لا مع أهل اللّجاجة ممّن أخبر الإمام عليّعليه‌السلام أنّه لن ينجو منهم إلاّ دون العشرة؛ فكان كما قال؟!

الأخبار والآثار الواردة في الخوارج

ذو الخُوَيصرة التّميميّ: وهو الخارجيّ الأوّل، ومن قصّته: حينما كان رسول

____________________

(١) الفتوح ٤: ٢٦٩ - ٢٧٥.

١١١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعطي الناس من أموال حنين، جاء ذو الخويصرة التّميميّ فقال: يا محمّد، قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، فقال رسول الله أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلتَ؛ فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: ويحك! إذا لم يكن العدلُ عندي فعند من يكون؟! فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فقال: «لا، دَعهُ، فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السّهم من الرّميّة، يُنظَر في النَّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القِدْح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدمّ»(١) .

رواية جابر: مسلم صاحب الصحيح: حدّثنا محمّد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا اللّيث عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجلٌ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمّد! أعدل! قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟! لقد خِبتَ وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ١٣٩.

«يتعمّقون في الدّين» أي يتتبّعون أقصاه، «والنّصل»: حديد السهم. و «القدح»: السّهم.

والفوق: طرف السهم الذي يباشر الوتر. و«الفرث»: ما يوجد في الكرش. والمعنى: أنّهم ليس لهم من الدّين شيء، كالسهم يخترق البدن ويخرج من غير أن يعلق به أثر من دم وغيره.

١١٢

من الرَّمِيّة.(١)

كلمة مع ابن تيميه: ذو الخويصرة هو الخارجيّ الأوّل، له أصحاب؛ فخرج هو على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أصحابه على عليّعليه‌السلام الذي هو نفس رسول الله كما في آية المباهلة، وأخوه يوم المؤاخاة، وقد أنكرته يا ابن تيميه وأثبتناه، وبحديث المنزلة إذ هارون أخو موسىعليهما‌السلام ...؛ وأنت تتولّى الخوارج من غير

____________________

(١) صحيح مسلم، بشرح النوويّ ٧: ١٥٩.

ذكر النوويّ هامش المصدر: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنّ من سبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كُفِّر وقتل، وهذا الرجل قال: اعدل يا محمّد واتّق الله يا محمّد، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتّى استأذن وخالد في قتله؛ فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أن محمّداً يقتل أصحابه! فهذه هي العلّة. وسلك معه مسلكه مع المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنّه صبر استبقاءً لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم، لئلاّ يتحدّث الناس أنّه يقتل أصحابه فينفروا. وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم، وعدوّه من جملتهم. قوله ٩: «ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرتَ»، روي بفتح التاء في خبتَ وخسرت، وبضمّهما فيهما، ومعنى الضّم ظاهرٌ؛ وتقدير الفتح: خبت أنت أيّها التابع إذا كنتُ لا أعدل لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل، والفتح أشهر والله أعلم. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم» قال القاضي - عياض -: فيه تأويلان، أحدهما معناه: لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ فيه سوى تلاوة الفم: الحنجرة والحلق، إذ بهما تقطيع الحروف. والثاني: معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله «يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة»، وفي الرواية الأُخرى يمرقون من الإسلام، معناه: يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلّق به شيء منه.

وقال الخطابيّ: هو هنا الطاعة، أي من طاعة الإمام، وفي هذه الأحاديث دليل لمن يُكفّر الخوارج.

١١٣

تمييز، فبالضرورة أنّك تتولّى الخارجيّ الأوّل، فهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عادل عندك؟!

رواية أبي ذرّ: مسلم: حدّثنا شيبان بن فرّوخ، حدّثنا سليمان بن المُغيرة، حدّثنا حُميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ بعدي من أمّتي قومٌ يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقِيَهم، يخرجون من الدّين كما يخرج السهم من الرّميّة ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلق والخليقة».

فقال ابن الصامت: لقيت رافع بن عمرو الغفاريّ أخا الحكم الغفاريّ فقلت له: ما حديث سمعته من أبي ذرّ كذا وكذا؛ فقال وأنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

فالخوارج شرّ خلق الله، وفسّر ذلك بخروجهم من الدين، ومن طاعة الإمام، وكلُّ ذلك متحقّق في الخوارج منفيّ عن شيعة أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ذكرنا شيئاً من أخبارهم وفساد معتقدهم وفساد سلوكهم، ونعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاهم بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ؛ من حديث توزيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مغنماً بعثه إليه الإمام عليّعليه‌السلام ، وفيه: فجاء رجلٌ كثُّ اللّحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس(٢) ؛ فقال: اتّق الله يا محمّد، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فمن يطع الله إن عصيتُه، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تأمنونني؟! قال: ثمّ أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله؛ فقال رسول الله: «إنّ من ضِئْضِىء هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان! يمرقون

____________________

(١) صحيح مسلم ٧: ١٧٤.

(٢) كثّ اللّحية: كثير اللّحية. والوجنة: لحم الخدّ. غائر العينين: صغيرهما كأنّهما مطموستان. ناتئ الجبين: بارز الجبين وهو جانب الجبهة. محلوق الرأس: واضح، وكانت حلاقة الرأس علامة لهم.

١١٤

من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد»(١) .

وأورده بسندٍ آخر عن أبي سعيد الخدريّ، وفيه «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل ثمُود»(٢) .

فهنيئاً لمن يوالى قوماً يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان! ولذلك توعّدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لو أدركهم لاستأصلهم وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الصادق المصدّق؛ فلقد وجدناهم يقتلون الصحابيّ عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ، ويبقرون بطن امرأته الحامل، ويقتلون النّسوة الثلاث؛ إلاّ أنّهم أشكلوا على صاحبهم إذ قتل خنزيراً لذمّيّ معاهد! وأخبارهم في استعراض الناس بالقتل مشهور.

وإذا فات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدركهم فيقتلهم قتلاً عامّاً؛ فقد أدركهم أمير المؤمنينعليه‌السلام فكانت له فضيلة قتالهم كما ذكر النوويّ، ولم يسلم من مجموع أربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة انتهى أحدهم إلى قرب حرّان، وتناسل هناك؛ ولا ندري جزماً لِمَ احتجّ ابن تيميه الحرّانيّ بالخوارج على عليّ أميرالمؤمنين وشيعته؟!

____________________

(١) صحيح مسلم ٧: ١٦٢. وفي شرح النوويّ: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ من ضِئضِي هذا» هو الأصل، والسنخ، والعنصر، والأرومة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» أي قتلاً عامّاً مستأصلاً كما قال تعالى:( فَهَلْ تَرَى‏ لَهُم مِن بَاقِيَةٍ ) (الحاقّة: ٨) وفيه الحثّ على قتالهم، وفضيلة لعليّرضي‌الله‌عنه في قتالهم.

(٢) نفسه / ١٦٣.

١١٥

الحثّ على قتل الخوارج؛ واختصاص أميرالمؤمنين بذلك

أخرج النّسائيّ، قال: أخبرنا عليّ بن المنذر قال: أخبرنا عاصم بن كليب عن أبيه، قال: كنت عند عليّرضي‌الله‌عنه جالساً إذ دخل رجلٌ عليه ثياب السفر، وعليّ يكلّم الناس ويكلّمونه، فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أتكلّم؟ فلم يلتفت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت عائشة فقالت: هؤلاء القوم الذين خرجوا في أرضكم يسمّون حروريّة؟ قلت: خرجوا في موضع يسمّى حروراء؛ فقالت: طوبى لمن شهد منكم، لو شاء ابن أبي طالب لأخبركم خبرهم! فجئت أسأله عن خبرهم، فلمّا فرغ عليّعليه‌السلام قال: أين المستأذن؟ فقصّ عليه كما قصّت عليه؛ قال: إنّي دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس عنده غير عائشة، فقال لي كيف أنت يا عليّ وقومٌ كذا وكذا؟

قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: ثم أشار بيده فقال: قوم يخرجون من المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فيهم رجلٌ مُخَدَّج(١) ، كأنّ يده ثدْيُ حبشيّة، أنشدكم باللهِ أخبرتكم أنّه فيهم؟ قالوا: نعم؛ فجئتموني وأخبرتموني أنّه ليس فيهم، فحلفت لكم باللهِ أنّه فيهم، ثمّ أتيتموني به كما نعتّ لكم؟ قالوا: نعم؛ صدق اللهُ ورسوله(٢) .

وعبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يخرج قوم في آخر الزمان، يقرأون

____________________

(١) مُخَدَّج: أي ناقص اليد.

(٢) خصائص أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام للنّسائيّ ١٤٥ - ١٤٦ / ح ١٧٨.

١١٦

القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرّميّة، قتالهم حقّ على كلّ مسلم»(١) .

والروايات كثيرة في أنّ الخوارج هم شرّ الخلق، يقتلهم أولى الناس بالحقّ، وقد قتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعه أهل العراق.

عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: والحديث نظير الذي قبله، إلاّ أنّ آخره: «فأينما أدركتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة»(٢) .

وبسندٍ عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذكر أناساً يخرجون في فرقةٍ من الناس سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرّميّة، هم شرّ الخلق، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ، وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق(٣) .

التفريع الثالث

افترض ابن تيميه أمراً بلا دليل! وذلك: إن كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أفضل من غيره في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلا يدلُّ ذلك على أفضليّته بعد!

____________________

(١) مسند أحمد ١: ١٥٦، وخصائص أمير المؤمنين ١٤٤ / ح ١٧٤، ومسند أبي يعلى ١: ٢٧٣.

(٢) صحيح البخاريّ ٣٦١١، ٥٠٥٧، ٦٩٣٠ باب علامات النبوّة، وصحيح مسلم ٧: ١٦٧ - ١٦٨، ومسند أحمد ١ / ٨١، ١١٣، ١٣١، والفضائل لأحمد / ١١٩٨، وسنن أبي داود / ٤٧٦٧، ومسند أبي يعلى ١ / ٢٢٦، والخصائص للنّسائيّ ١٤٣ / ١٧٣.

(٣) صحيح مسلم ٧: ١٦٩، والخصائص للنّسائيّ ١٤٠ / ١٦٨.

١١٧

ولو كان عنده ثمّة ما يعضّد ما ذهب إليه لذكره؛ فعليه: إنّ عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حياته وبعد مماته.

التفريع الرابع

وفرّع رابعاً، ذلك قوله: لو قدّرنا أفضليّته، لم يدلّ ذلك على أنّه إمام معصوم منصوصٌ عليه.

وجوابنا: لقد جارينا ابن تيميه، بغية إمامة الحجّة على من وقع في حبائل فتنته من غير تدبّر؛ وإلاّ فأمير المؤمنين قد نطق القرآن الكريم بأفضليّته إذ اختاره الله تعالى وليّاً للمسلمين؛ وذلك قوله تعالى:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (١) ، وقد تكلّمنا حول الآية فيما مضى، وأنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة، فقرن الله سبحانه ولاية عليّعليه‌السلام بولايته وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يجوز على الله عزّ وجلّ أن يختار إلاّ من هو أفضل.

ولم ينزل سبحانه بياناً ينسخ ذلك، فالآية محكمة، وعليّعليه‌السلام ولايته دائمة، خالدة مع خلود القرآن؛ فهو الأفضل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخر الدهر.

____________________

(١) المائدة: ٥٥.

ولا بأس بذكر بعض مصادر نزول الآية في أمير المؤمنينعليه‌السلام : تفسير مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ هـ) ١: ٤٨٥ - ٤٨٧، والذرّيّة الطّاهرة للدولابيّ (ت ٣١٠ هـ) ١٠٩ / ١١٤، وتفسير الطبريّ ٦: ١٥٦، وتفسير الحبريّ (ت ٢٨٩ هـ) ٢٦١، وأنساب الأشراف (ت ٢٧٩ هـ) ٢: ٣٨١، وشواهد التنزيل ١: ١٨١، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ ٣: ٤٣١، وتفسير ابن كثير ٢: ٧١.

١١٨

وهذا دليل على عصمة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فإنّ الله تعالى اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً، والنبيّ معصومٌ بالضرورة، فكذلك وليُّ الله.

ومن أدلّة عصمتهعليه‌السلام : آية التطهير؛ وذلك قوله تعالى« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » (١) .

والآية في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين:.

روى ذلك: أم سلمة، وعائشة، وأبو سعيد الخدريّ، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عبّاس عن عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن أبي يسار، عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . قالت: فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي»، قالت أمّ سلمة، يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟ قال: «إنّك أهلي، وهؤلاء أهل بيتي»(٢) .

وعن فضيل بن مرزوق، عن عطيّة العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ عن أمّ سلمة أنّها قالت: نزلت هذه الآية في عليّ:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . وقالت: قلت: يا رسول الله، ألست من أهل

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢: ٤١٦ و ٣: ١٤٦ وبذيله التلخيص للذهبيّ. وفي سنن الترمذيّ ٥: ٣٢٨ عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ النبيّ قال: «أنت على مكانك وأنت إلى خير». وفي الباب عن أمّ سلمة، ومعقل بن يسار، وأبي الحمراء، وأنس بن مالك.

١١٩

البيت؟ قال: «إنّك على خير، إنّك من أزواج النّبيّ». وكان في البيت: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين:(١) .

ومثله عن عائشة: قال جُمَيع بن عُمَير: دخلت مع أمّي على عائشة فقالت: أخبريني كيف كان حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ؟ فقالت عائشة: كان أحبّ الناس إلى رسول الله، لقد رأيته يوماً أدخله تحت ثوبه وفاطمة وحسناً وحسيناً؛ فقال: «اللّهمّ اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». قال: فذهبت لأدخل رأسي فمنعني، فقلت: يا رسول الله، أولستُ من أهلك؟ قال «إنّك على خير»(٢) .

منزلة دعوان

قال أبو الفرج: كتب إليّ عبد الله الجبائيّ قال: رأيت دعوان بن عليّ بعد موته وكأنّ عليه ثياباً بيضاً وعمامةً بيضاء وهو يمضي إلى الجامع لصلاة الجمعة، فأخذت يده اليسرى ومضينا، فلمّا بلغنا إلى حائط الجامع قلت له: يا سيّدي، إيش لقيت؟ فقال: عُرِضتُ على الله خمسين مرّة وقال لي: إيش عملت؟ فقلت: قرأتُ القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاّك، أنا أتولاك. قال عبد الله: فأصابني الوجد وصحت: آه، وضربتُ بيدي حائط الجامع ثلاث مرّات أتأوّه وأضرب الحائط بكتفي، ثمّ استيقظت.(٣)

____________________

(١) مشكل الآثار للطحاويّ ١: ٣٣٤، وتفسير الحبريّ ٢٩٨، والمعجم الكبير للطبرانيّ ١: ١٢٧، وشواهد التنزيل الرقم ٧١٢ - ٧١٣، وتفسير ابن كثير ٣: ٤٨٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٦٥.

(٣) المنتظم لأبي الفرج ابن الجوزيّ ١٨: ٥٨ / ٤١٣٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492