ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه12%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168757 / تحميل: 5864
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

العمل وفق الشريعة الإلهيّة والسُنّة المحمّديّة القاضية بتحليل المتعة كأسلوب شرعي يعالج جذور المشكلة، ويمنع الفساد والعزوبة.

ومن أجل ذلك شُرّع زواج (المتعة) صوناً للشباب من الوقوع في شباك الشيطان، ومُمارسة الزنا واللواط وما إلى ذلك من مظاهر الشذوذ والفساد، وعليه لم يتجاوز الإمام عليّ (عليه السلام) الحقيقة عندما قال: (لولا ما سبقني به ابن الخطّاب ما زنا إلاّ شقي) (1) .

وكيفما كان فإنّه لا فرق بين الزواج الدائم والمُنقطع في أنّ كلاًّ منهما لا يتم إلاّ بعقد ومهر، وفي نشر الحرمة من حيث المصاهرة، وفي وجوب التوارث بين أولاد المرأة المُتمتّع بها، وبين أولاد الزواج الدائم وأيضاً سائر الحقوق المادّيّة والأدبيّة، وتبقى فروق معدودة يُراجَع للوقوف عليها كُتب الفقه.

المبحث الثالث

مقدّمات الزواج في المنظور الإسلامي

أولاً: أُسُس اختيار الشريك:

لا يخفى بأنّ الإسلام يرشد الزوجين إلى الأُسس السليمة عند الاختيار، ويكشف عن المواصفات التي يجب مراعاتها، فهو يحث كلاًّ من الزوجين على بذل الوسع واستنفاذ الجهد، بُغية التعرّف على أوصاف شريك العمر، بالمشورة مع الأقارب وغيرهم لكون القضيّة حيويّة لا تقتصر على سعادتهما بل

____________________

1) وسائل الشيعة | الحر العاملي 14: 436 كتاب النكاح - أبواب المتعة.

٢١

تنعكس آثارها على النسل.

وكان عباد الله الصالحون يطلبون المدد والعون من الله تعالى لكي يوفّقهم لحسن الاختيار، وأنْ يهب لهم الزوجة والذرّيّة الصالحة ( والَّذِينَ يَقُولُونَ ربَّنا هَب لنا مِنْ أزواجِنَا وذُرِياتِنَا قُرَّةَ أعيُنٍ واجعَلنَا لِلمُتَّقينَ إمَامَاً ) (1) .

وسوف نستعرض بإيجاز المواصفات المثاليّة التي حدّدها الإسلام لكلِّ من الزوجين.

1 - مواصفات الزوجة الصالحة:

في ضوء قراءتنا الفاحصة للنصوص الواردة في هذا الشأن، نجد أنّ الإسلام يقدّم الإرشادات المناسبة للزوج أُسس اختيار الزوجة في ضوء معايير سليمة.

إنَّ الإسلام يرى أنّ الوقاية خيرٌ من العلاج، لذلك يُسدي نصائحه بسخاء للزوج، يحثّه فيها على التثبّت والتأنّي عند الاختيار حتّى لا يكون كحاطبِ ليل لا يدري ما يجمع في حزمته، وقد كشف له عن خطأ النظرة الأحاديّةِ الجانب التي تُركّز على الجمال أو المال فحسب، مُؤكّدا على النظرة الشموليّة التي تتجاوز الظواهر المادّيّة، بل تغوص نحو العمق لتبحث عن المواصفات المعنويّة من دين وأخلاق وما إلى ذلك.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّما المرأة قلادة فانظر ما تتقلّد، وليس للمرأة خطر، لا لصالحتهنَّ ولا لطالحتهنَّ: فأمّا صالحتهنَّ فليس خطرها الذّهب والفضة، هي خير من الذهب والفضة، وأمّا طالحتهن فليس خطرها التراب، التراب خير منها) (2) .

____________________

1) سورة الفرقان: 25 | 74.

2) وسائل الشيعة 14: 17 كتاب النكاح.

٢٢

وقد أولى الأئمّة من عترة المصطفى (عليهم السلام) عناية خاصّة لمسألة اختيار الزوجة، وكانوا مع سُموّ مقامهم ورجاحة عقلهم وكثرة تجاربهم، يستشيرون الآخرين في هذا الشأن، (ومن الشواهد الدالّة على ذلك، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد وفاة فاطمة (عليها السلام): لما أراد أن يتزوّج قال لأخيه عقيل: (انظر لي امرأة قد أولدتها الفحولة من بني العرب؛ لأتزوَّجها فتلدُ لي غلاماً فارساً)، وفكَّر عقيل قليلاً ثمّ قال لأخيه: تزوّج أمُّ البنين الكلابيّة، فإنّه ليس في العرب على وجه الإطلاق أشجع من آبائها..

وصار عقيل يُعدِّد أمجاد أعمام وأخوال أمُّ البنين، فخطبها الإمام وتزوَّجها.. وأنجبت أمُّ البنين من الإمام أربعة ذكور.. هم: العبّاسُ، وعبد الله، وجعفر، وعثمان) (1) .

وكان أهل البيت (عليهم السلام) يسدون النصيحة المُخلصة لكلِّ من استشارهم في هذا الشأن، فعندما استشار داود الكرخي الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً له: إنَّ صاحبتي هلكت وكانت لي موافقة وقد هممت أنْ أتزوّج،

قال الإمام (عليه السلام): (اُنظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك وأمانتك، فإنْ كنت لابدّ فاعلاً فبكراً تُنسب إلى الخير وإلى حسن الخلق) (2) .

وما يبدو مثيراً للاهتمام أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الأطهار (عليه السلام) يقدّمون رؤيتهم المعرفيّة للشباب التي تكشف النقاب عن طبائع النساء، وسوف نسلط الضوء على هذا المطلب قبل الخوض في تفاصيل مواصفات الزوجة الصالحة:

____________________

1) العبّاس بن علي - سلسلة عظماء الإسلام، محمّد كامل المحامي: 20 - 23 منشورات المكتب العالمي للطباعة - بيروت 1980 م ط3.

2) من لا يحضره الفقيه 3: 244 باب أصناف النساء.

٢٣

طبائع النساء:

لقد كَشف الرسول الأكرم (صلّى الله عليه واله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) ومن خلال أحاديث كثيرة في هذا المجال عن طبائع النساء المختلفة؛ وذلك لتنمية وعي الشباب وتعميق خبرتهم لاختيار الأنسب والأفضل منهنَّ.

قال رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم): (ألا أُخبركم بخير نسائكم؟ قالوا بلى. قال: إنَّ خير نسائكم الولود الودود الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها الحصان عن غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها ولم تتبذّل له تبذّل الرجل) (1) .

وفي هذا الصدد يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (النساء أربعة أصناف: فمنهنَّ ربيع مُربّع، ومنهنّ جامع مُجمّع، ومنهنّ كرب مُقمّع، ومنهن غلّ قمّل.

فأمّا الربيع المربّع: فالتي في حجرها ولد وفي بطنها آخر، والجامع المجمّع: الكثيرة الخير المُحصنة، والكرب المُقمّع: السيّئة الخلق مع زوجها، وغلّ قمّل: هي التي عند زوجها كالغل القمّل، وهو غلّ من جلد يقع فيه القمّل فيأكله، فلا يتهيأ أنْ يحلّ منه شيئاً، وهو مثَل للعرب) (2) .

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (هنَّ ثلاث: فامرأة ولودٌ ودود، تعين زوجها على دهره، وتساعده على دنياه وآخرته، ولا تعين الدهر عليه، وامرأة عقيم لا ذات جمال ولا خُلق، ولا تعين زوجها على خير، وامرأة صخّابة، ولاّجة، خرّاجة، همّازة، تستقل الكثير ولا تقبل اليسير) (3) .

____________________

1) مكارم الأخلاق: 200.

2) مكارم الأخلاق: 198. ومن لا يحضره الفقيه 3: 244.

3) من لا يحضره الفقيه 3: 244 باب أصناف النساء.

٢٤

وفي هذا الإطار يُلفت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنظارنا إلى قضيّة جوهريّة لابدّ أن تُستحضر في الذهن عند الاختيار، وذلك في قوله (عليه السلام): (خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو، والجُبن، والبُخل، فإذا كانت المرأة مزهوّة، لم تُمكّن من نفسها، وإذا كانت بخيلة، حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة، فرَقت من كلِّ شيءٍ يعرض لها) (1) .

وهكذا نجد أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يُؤكّدون على ضرورة الاختيار الحر والواعي لشريكة العمر، ومن خلال استقراء الآيات والروايات الواردة حول مواصفات الزوجة الصالحة، وجدنا بالإمكان تصنيفها إلى قسمين رئيسين:

أ - مواصفات دينيّة ومعنويّة:

إنَّ من الأهميّة بمكان أنْ تكون الزوجة ذات دين يُعصمها عن الخطأ والخطيئة، ويزرع في وعيها العقيدة الصحيحة والآداب السامية التي ستنقلها بدورها إلى أبنائها، ولأجل ذلك حرّم الإسلام الزواج من المشركات، قال تعالى: ( ولا تَنكِحُوا المُشرِكاتِ حتّى يُؤمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤمِنةٌ خَيْرٌ مِن مُشرِكَةٍ ولَو أعجَبَتكُم ) (2) .

ولأجل أنّ الدين له مدخليّة كُبرى في استقامة الزوجة، أوصى الرسول (صلّى الله عليه واله وسلّم) الشباب بأنْ لا ينظروا بعين الشهوة والطمع لمن يرغبون الاقتران بها، كأن يركّزون على جمالها ومالها، بل عليهم في المقام الأوّل أنْ ينظروا إلى دينها وتدينها، قال رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم): (تُنكح المرأة على أربع خلال: على مالها، وعلى دينها، وعلى جمالها، وعلى حسبها ونسبها، فعليك بذاتِ

____________________

1) نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: 509 | الحكمة 234.

2) سورة البقرة: 2 | 221.

٢٥

الدين) (1) . وقال (صلّى الله عليه واله وسلّم) مُوصياً: (مَن تزوّج امرأة لا يتزوّجها إلاّ لجمالها، لم يرَ فيها ما يحبّ، ومن تزوّجها لمالها لا يتزوّجها إلاّ وكله الله إليه، فعليكم بذات الدين) (2) .

وقال (صلّى الله عليه واله وسلّم): (لا تَتزوّجوا النساء لحسنهنَّ، فعسى حسنهنَّ أنْ يُرديهنَّ، ولا تَتزوّجوهنَّ لأموالهنّ، فعسى أموالهنَّ أن تطغيهنَّ، ولكن تزوجوهنَّ على الدين) (3) .

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا تزوج الرّجل المرأة لمالها، أو جمالها، لم يُرزق ذلك، فإن تزوّجها لدينِها رزقه الله جَمالها ومالها) (4) .

ومن المسائل المعنويّة التي تتطّلب الإشارة في هذا المقام والأخذ بنظر الاعتبار، هي مسألة النسب والحسب، فإنّه لا نزاع في أنَّ للنسب دوراً خطيراً في بناء شخصيّة الإنسان، وإرساء دعائمها الأساسيّة.

إنَّ كثيراً من الصفات المعنويّة والجسديّة يرثُها الإنسان عن آبائه، وأخواله، وأجداده، وهي تَتحكّم في رسم معالم شخصيّته، قال رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم): (تخيّروا لنطفكم، فإن النساء يلدن أشباه إخوانهنَّ وأخواتهنَّ) (5) .

وفي هذا الصدد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (تزوَّجوا في الحجز الصالح، فإنَّ العرق دسّاس) (6).

____________________

1) كنز العمّال 16: 303 | 44602.

2) روضة الواعضين، للفتال النيسابوري: 374 منشورات الرضي - قم.

3) كنز العمّال 16: 292 | 44537.

4) من لا يحضره الفقيه 3: 248 باب الوصيّة بالنساء.

5) كنز العمّال 16: 295 | 44557.

6) مكارم الأخلاق: 197.

٢٦

ممّا تقدّم يتّضح لنا أنّ الاقتران بذات الدين، هو قطب الرحى في توجّهات القرآن والسُنّة؛ وذلك لإرساء أُسُس متينة تقوم عليها الحياة الأُسريّة، وبدون ذلك يصبح البناء الأُسري متزلزلاً كالبناء فوق رمال مُتحرّكة، وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): (أتى رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم) يَستأمره في النكاح، فقال: نعم إنكح، وعليك بذواتِ الدين تربت يداك) (1) .

ولابدّ من التنويه على أنّ المراد من كون الزوجة ذات دين بإطلاقه، قد يشمل بإطلاقه الكتابيّة فقد (اتفقت مذاهب السُنّة الأربعة على صحّة الزواج من الكتابيّة، واختلف فقهاء الشيعة فيما بينهم، فقال أكثرهم: لا يجوز للمسلم أنْ يتزوّج اليهوديّة والنصرانيّة، وقال جماعة من كبارهم، منهم الشيخ محمّد حسن في الجواهر، والشهيد الثاني في المسالك، والسيّد أبو الحسن في الوسيلة بالجواز) (2) .

ومهما يكن الأمر، فإنّ الذي لاشكّ فيه هو تفضيل الزوجة المسلمة؛ لأنّ الإسلام هو أكمل الأديان، ويحصّن المرأة عقائديّاً وسلوكيّاً، ويؤهّلها للدخول إلى عش الزوجيّة، ويُوجب عليها طاعة زوجها وعدم خيانته في عرضه وماله، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم): ما استفاد امرؤٌ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتُطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله) (3) .

ومن المؤكّد أنّ مجرّد الإسلام لا يكفي بدون الصلاح، فكثير من المُسلمات

____________________

1) وسائل الشيعة 14: 21 باب استحباب اختيار الزوجة الصالحة.

2) التفسير الكاشف | الشيخ محمّد جواد مغنية 1: 334.

3) وسائل الشيعة 14: 23 باب استحباب اختيار الزوجة الصالحة.

٢٧

غير الملتزمات يَضربن بتعاليم الإسلام السمحة عرض الحائط، عند عدم انسجامها مع رغباتهنّ الجامحة، أو عند تصادمها مع مصالحهن.

وعليه فمن الأهميّة بمكان اختيار الزوجة المسلمة الصالحة فهي التي تصنع للزوج إكليل سعادته.

ورد عن الرسول (صلّى الله عليه واله وسلّم): (من سعادة المرء الزوجة الصالحة) (1) .

وصفوة القول أنّ الإسلام يرشد الشاب أن يتبع ميزاناً معيارياً يرجّح فيه الصفات المعنوية كالدين والصلاح عند اختيار الزوجة، قال تعالى: ( وانكِحُوا الأيامَى مِنكُم والصَّالِحينَ مِن عِبادِكُم وإمائكُم.. ) (2) .

ب - مواصفات جسميّة وعقليّة:

فمن الحقائق الموضوعيّة أنَّ سلامة جسم المرأة وعقلها له دور فعّال في تربية الأطفال وتقويم شخصيّتهم؛ ليكونوا أفراداً صالحين يسهمون في بناء المجتمع وتطويره.

ولم يغفل الدين الإسلامي عن هذه الحقيقة، لذا نبّه على ضرورة مراعاة عوامل السلامة من العيوب الجسميّة والعقليّة لكلا الزوجين، وجعل منهما الخيار في فسخ العقد، فيما إذا ما تبين أنّ أحدهما كان مُصاباً بعيبٍ جسماني أو خللٍ عقلي، وحول هذه المسألة قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّما يُردُّ النكاح من البرص، والجذام، والجنون، والعَفَل) (3) .

وبالإضافة إلى وجوب التأكّد من سلامة الزوجة من العيوب الجسديّة

____________________

1) وسائل الشيعة 14: 23.

2) سورة النور: 24 | 32.

3) وسائل الشيعة 14: 594 أبواب العيوب والتدليس.

٢٨

الموجبة لفسخ العقد، لابدّ من التركيز على سلامتها العقليّة، حتّى لا تكون مجنونة أو حمقاء تسيء التصرف، ولا تضع الشيء موضعه، ومن أجل ذلك قال الرسول (صلّى الله عليه واله وسلّم) محذراً الشباب من العواقب الاجتماعيّة، والتربويّة الوخيمة: (إيّاكم وتزوّج الحمقاء، فإنَّ صحبتها ضياع، وولدها ضياع) (1) .

وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الإسلام (يُجوّز - للرجل - أنْ ينظر إلى وجه امرأة يريد نكاحها، وإنْ لم يستأذنها، ويختصّ الجواز بوجهِها وكفّيها، وله أنْ يكرر النظر إليها، وأنْ ينظرها قائمة وماشية، وروي: جواز النظر إلى شعرها ومحاسنها وجسدها من فوق الثياب) (2) .

ومن يستقري النصوص الواردة في هذا الخصوص، يجد أنّها تُزوّد الشاب برُؤية كاملة عن المواصفات الجسميّة المطلوبة، ومن خلال قراءتنا الفاحصة يُمكن تصنيفها إلى الفقرات التالية:

أولاً - مواصفات جسميّة عامّة:

تتناول اللّون والقامة والسِّن وغيرها منها ما ورد في قول الرسول (صلّى الله عليه واله وسلّم): (لا تتزوجنَّ شهبرة، ولا لهبرة، ولا نهبرة، ولا هيدرة، ولا لفوتاً) (3) .

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (تزوّج عَيناء سَمراء عجزاء مربوعة، فإنْ كرهتها

____________________

1) نوادر الراوندي: 13، وبحار الأنوار 103: 237.

2) شرائع الإسلام 2: 495 كتاب النكاح - مسائل النظر إلى الأجنبيّة.

3) معاني الأخبار: 318 دار المعرفة - بيروت 1979 م، والشهبرة: الزرقاء البذيّة، واللهبرة: الطّويلة المهزولة، والنّهبرة: القصيرة الذّميمة، والهيدرة: العجوز المدبرة، واللفوت: ذات الولد من غيرك.

٢٩

فعليَّ الصداق) (1) .

وعنه (عليه السلام) قال: (من أراد الباءة فليتزوج بامرأة قريبة من الأرض، بعيدة ما بين المنكبين، سمراء اللّون، فإن لم يحظّ بها فعليَّ مهرها) (2) .

وهكذا نجد أنَّ هذه الأحاديث وغيرها كثيراً، تُلفت نظر الشاب وتوقفه على المواصفات الجماليّة في المرأة، حتّى يتمكّن من انتخاب الزوجة التي تتناسب مع ذوقه، وتحقّق رغبته، وحتّى تقرّ عينه ولا يتطلّع إلى أعراض الآخرين، زد على ذلك، يُحيطه علماً بأنّ لبعض المواصفات الجسميّة للمرأة مدخليّة في الإنجاب لذلك قال (صلّى الله عليه واله وسلّم) مُوصياً: (تخيّروا لنطفكم، وانتخبوا المناكح، وعليكم بذات الأوراك، فإنَّهنَّ أنجب) (3) .

ثانياً - الوجه الحسن:

يُفضّل أن تكون المرأة حسناء ذات وجه صبوح، تُدخل السرور والبهجة على نفس زوجها، عندما يقع نظره عليها، قال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه واله وسلّم): (أفضل نساء أُمّتي أصبحهنّ وجهاً، وأقلّهنَّ مهراً) (4) .

وفي الوقت الذي فضّل فيه أنْ تكون المرأة حسناء، فقد حذّر - بشدّة - من اختيار المرأة الحسناء التي نشأت وترعرعت في بيئة فاسدة، أو وسط اجتماعي منحرف، وقد (قام رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم) خطيباً فقال: (أيُّها الناس، إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في

____________________

1) مكارم الأخلاق: 199.

2) مكارم الأخلاق: 201.

3) كنز العمّال 16: 302 | 44594.

4) مكارم الأخلاق: 198.

٣٠

منبت السوء) (1) .

كما حذّر (صلّى الله عليه واله وسلّم) من اختيار الحسناء غير الولود قائلاً: (ذروا الحسناء العقيم، وعليكم بالسوداء الولود، فإنّي مُكاثر بكم الأُمم حتّى بالسقط) (2) .

وعليه يُفضّل اختيار الحسناء بشرط أنْ تكون خيّرةً، ولوداً نشأت في تربةٍ صالحةٍ وبيئةٍ صالحة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا، هنَّ أجمل من الحور العين) (3) .

ثالثاً - جمال الشعر:

قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): (إذا أراد أحدكم أنْ يتزوّج، فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها، فإنَّ الشعر أحد الجمالين) (4) .

رابعاً - طيب الريح:

فلاشكّ أنّ له مدخليّة في المواصفات الجسميّة المثاليّة، فالمرأة الطيّبة الريح، تجذب قلبَ زوجها كما يجذب شذا الأزهار النحل،

قال الرسول (صلّى الله عليه واله وسلّم): (تزوّجوا الأبكار، فأنّهنّ أطيَب شيءٍ أفواهاً..) (5) ، وعن عليّ ابن الحسين (عليه السلام)

قال: (خير نسائكم الطيّبة الريح..) (6) .

وهكذا نجد أنّ الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) يُقدّمون للشباب المواصفات الجماليّة الكاملة ليضعوها

____________________

1) مكارم الأخلاق: 203.

وإنّما جعلها خضراء الدِّمن تشبيهاً بالشجرة الناضرة في دمنة البقرة، وأصل الدِّمن ما تدمنه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها، فربّما ينبت فيها النبات الحسن وأصله في دمنة، يقول: فمنظرها حسن أنيق، ومنبتها فاسد. معاني الأخبار: 316.

2) مكارم الأخلاق: 202.

3) مكارم الأخلاق: 200.

4) مكارم الأخلاق: 200.

5) روضة الواعظين: 375.

6) مكارم الأخلاق: 200.

٣١

نصب أعينهم، عند اختيار شريكة العمر.

2 - مواصفات الزّوج المثالي:

لقد كفل الإسلام للمرأة حقّ اختيار شريك العمر، وأرشدها إلى جُملة من المواصفات التي يُفضّل أنْ يتّصف بها الشريك الصالح، ونظرا لكون المرأة بطبعها عاطفيّة، ورقيقة الحسّ، ويغلب عليها الحياء، فقد جعل الإسلام لأب الفتاة ولاية عليها، وشرّك بينهما في عمليّة الاختيار التي تلعب دوراً مهمّاً في تحديد مصير البنت ومستقبلها.

وأبرز المواصفات التي يجب توفّرها في الزّوج المثالي هي:

أ - أنْ يكون مُتديّناً وذا خُلقٍ حسن:

وهما من أهمّ مرتكزات البناء الزوجي النموذجي، فالرجل الذي لا يرتبط بدين ولا يتقيّد بخُلق، سوف يجعل حياة الزوجة جحيماً لا يُطاق، وبالمقابل فإنّ الزوج المُتديّن الذي يتحسّس المسؤوليّة في الحياة، ويشعر برقابة الله الدائمة، ويعلم بعاقبة أعماله في الآخرة، سوف يوفّر لها سُبل السعادة والنجاح في الحياة الزوجيّة.

وقد نقل لنا القرآن الكريم سابقة في هذا السياق، متمثّلة في إحدى بنات شُعيب (عليه السلام) التي أدركت ببصيرتها الإيمانيّة، وتجربتها القصيرة مع موسى (عليه السلام)، أنّه تتجسّد فيه المواصفات الجسميّة والخُلقيّة معاً، فقد كان قويّاً وأميناً ( قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إنِّي أُرِيدُ أنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ... ) (1) .

(يا أبتِ استأجره لرعي ماشيتنا، ليكفينا مؤنة هذا العمل، فهو قويّ وأمين، وكأنّ النبيّ قد فطن إلى المراد، فأسرع إلى تحقيق رغبة

____________________

1) سورة القصص: 28 | 26 - 27.

٣٢

ابنته، وطلب إلى موسى أنْ يخدمه فيرعى غنمه ثماني سنوات لقاء أنْ يُزوّجه بإحداهما.. فقبل موسى طلب شعيب (عليه السلام)) (1) .

فهذه سابقة قرآنيّة تجعل من ابنة شعيب (عليه السلام) قدوة حسنة لكلِّ امرأة تبحث عن الزوج المثالي.

ورُوي عن الحسين بن بشار قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) في رجلٍ خطب إليَّ فكتب: (من خَطَب إليكم فرضيتم دينه وأمانته، كائناً من كان فزوّجوه)، ( إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) (الأنفال:73) (2) .

وكان آل البيت (عليهم السلام) يُمارسون مع أولياء أُمور النساء حواراً إقناعيّاً، يستند إلى القرآن، أو إلى المُعطيات الواقعيّة، ولا يكتفون بإسداء النصائح المُجرّدة، ومن الشواهد الدالّة على هذا التوجه: جاء رجل إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، يستشيره في تزويج ابنته، فقال: (زوّجها مِن رجلٍ تقيّ، فإنّه إنْ أحبّها أكرمَها، وإنْ أبغَضَها لم يظلمها) (3) .

ولاشكّ أنّ هذه النصائح إذا دُعمت بالمُعطيات، وعزّزت بالحقائق والشواهد، فسوف ترسخ قناعة الآباء بها، ويأخذونها على محمل الجدّ ويتصرّفون في ضوئها.

وفي موقف آخر، أسدى الإمام الرّضا (عليه السلام) نصيحته المخلصة إلى وليّ أمر إحدى الفتيات مدعمة بالدليل القرآني؛ ليزيل غشاوة الشك من قلبه، قال له: (إذا خطب إليك رجل رضيت دينه وخُلقه فزوّجه، ولا يمنعك فقره وفاقته، قال

____________________

1) مع الأنبياء في القرآن | عفيف عبد الفتاح طبّارة: 224 دار العلم للملايين ط16.

2) من لا يحضره الفقيه 3: 248 كتاب النكاح - باب الأكفّاء.

3) مكارم الأخلاق: 204.

٣٣

الله تعالى: ( وَإن يَتفرَّقا يُغنِ الله كُلاًّ من سَعَتهِ ) وقال: ( إنْ يكُونُوا فقَراءَ يُغنِهِم اللهُ مِن فَضلِهِ.. ) (1) .

وينبغي الإشارة في نهاية هذه الفقرة، إلى أنّ الشرف لا ينحصر مصداقه في الحسَب والنسَب فحسب، كما كان الحال في عهد الجاهليّة، بل يتجسّد مصداقه الأعلى في الانتساب إلى الإسلام واعتناق مبادئه السامية، والتحلّي بفضائله العالية، هذا هو معيار التفاضل الكامل بين الناس، ويجب أنْ يكون مقياساً أساسيّاً لانتخاب الزوج المثالي،

بدليل قول الرسول (صلّى الله عليه واله وسلّم):(أنكحت زيدَ بن حارثة زينب بنت جحش، وأنكحت المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطّلب؛ ليعلموا أنّ أشرف الشرف الإسلام) (2) .

ب - أنْ لا يكون شارباً للخمر:

لو صرفنا النظر عن الآثار الضارّة التي يتركها الخمر على الوراثة، فإنّ له آثاراً اجتماعيّة مأساويّة على الزوجة، فانشغال الزوج المُدمِن على الخمر بشؤونه الخاصّة، وحرصه الدائم على إرواء غليله من الشراب، يجعله لا يهتم بزوجته وأطفاله، وقد يمتنع عن دفع المصاريف اللازمة لإعالتهم، الأمر الذي يُؤدّي إلى جملة مساوئ اجتماعيّة، أقلّها انفصام عُرى العلاقة الزوجيّة، وتفكّك الروابط الأُسريّة، ناهيك عن انحراف الأطفال وتسيّبهم.

قال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن شرِب الخمرَ بعدما حرَّمها الله، فلَيس بأهل

____________________

1) فقه الرضا: 31، وبحار الأنوار 103: 372، والآيات من سورة النساء: 4 | 130 وسورة النور: 24 | 32.

2) مكارم الأخلاق: 238، وكنز العمّال 1: 78 | 313.

٣٤

أنْ يُزوّج إذا خَطَب) (1) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) محذّراً:

(من زوّج كريمته من شارب خمر، فقد قطع رحمها) (2) .

جـ - أنْ لا يكون معروفاً بالزنا:

فكما حذّر آل البيت (عليهم السلام) من الاقتران بالمرأة التي تخلع ثوب العفاف والفضيلة، كذلك حذّروا من الرّجل الذي يخلع ثوب الحياء ويُجاهر بالزنا، وليس أدلُّ على ذلك ممّا ورد عن الحلبي قال: قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تَتَزوّجوا المرأة المُستعلِنة بالزنا، ولا تُزوّجوا الرجل المُستعلِن بالزنا، إلاّ أنْ تعرفوا منهما التوبة) (5) .

ومن جميع ما تقدّم نجد أنّ الإسلام يُرشد الفتاة وأولياء أمرها إلى جملة من المواصفات المثاليّة، التي يجب أخذها بنظر الاعتبار عند اختيار شريك العمر، كما حذّر الإسلام من القرار الارتجالي غير المدروس أو المرتكز على أُسُس مصلحيّة، فإنّه يضع الفتاة رهينة بيَد الرجل الذي له حقّ القيّمومة عليها ومَلَك زمام أمرها.

دَور العاطفة في الاختيار:

وينبغي التطرّق هنا إلى نقطة جوهريّة تتعلّق بالزوجين معاً، أنْ لا يكون اختيار أحدهما للآخر قائماً - من حيث الأساس - على العواطف فحسب؛ لأنّ هذا الاختيار قد يسقط من الحساب سائر المواصفات الكماليّة المطلوبة، يقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه واله وسلّم): (.. حبّك للشيء يعمي

____________________

1) مكارم الأخلاق: 204.

2) مكارم الأخلاق: 238.

3) مكارم الأخلاق: 204.

٣٥

ويصمُّ..) (1) .. وصاحب الهوى - على الأغلب - يَنساق لعاطفته المُتأجّجة، فيغضّ الطرف عن عيوب المحبوب، ويسدّ منافذ سمعه عن نصائح الآخرين ولو كانت صادقة ومخلصة،

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (عَينُ المُحبّ عمية عن معايب المحبوب، وأذنه صمّاء عن قبح مساويه) (2) .

صحيح أنّ العاطفة والودّ أو الانسجام النفسي من العوامل المساعدة على إدامة واستمرار الرابطة الزوجيّة، وأنّ الإسلام قد أعطى الشاب الحقَّ في انتخاب المرأة التي يميل إليها، فعن ابن أبي يعفور، عن الصادق (عليه السلام)، قال: قلتُ إنّي أردتُ أنْ أتزوّج امرأة، وإنّ أبويّ أرادا غيرها، قال: (تزوّج التي هَوَيت، ودع التي هوى أبواك) (3) .

ولكنّ الصحيح أيضاً، أنّ تجاهل المواصفات والنصائح التي عرضها الشرع أو التي أسّسها العقل، سوف يُؤدّي إلى نتائج لا تُحمد عُقباها في المستقبل، وخصوصاً بعد أنْ تنقشع غشاوة العواطف العمياء عن القلوب، أو تبرد حرارتها، عندها تظهر العيوب باديةً للعيان، وعليه فيجب أنْ لا تكون عاصفة الهوى هي محور الاختيار دون النظر والتعقّل في توفّر المواصفات المطلوبة في المحبوب.

الأمر الآخر الذي يجب التنويه به هو ضرورة تمسّك الزوجين بمبادئ الإسلام وقِيَمِه الأخلاقيّة قَبل الاقتران، فَتَديّن الرجل أو المرأة يُجنّبهما الخوض في مغامرات عاطفيّة قد تعصف بعشّ الزوجيّة، ويتأكّد هذا الأمر في المرأة ذات الطبيعة العاطفيّة، التي قد تتعرّض لعوامل الإغراء فتقع في الشباك التي ينصبها لها الفسّاق.

____________________

1) بحار الأنوار 77: 165.

2) غرر الحكم ح 6314.

3) مكارم الأخلاق: 237.

٣٦

ثانياً: الكفاءة بين الزوجين:

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المسألة بصورة صريحة، قال عزّ من قائل: ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ.. ) (1) .

وهذه الرؤية القرآنيّة نجد تأكيداً عليها في السيرة النبويّة المطهّرة، خصوصاً وأنّ المساواة بين غير المتكافئين ظُلمٌ وإجحاف لا يقرّه الشرع ولا ينسجم مع منطق العقل.

قال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه واله وسلّم): (وانكحوا الأكفاء، وانكحوا فيهم، واختاروا لنطفكم) (2) .

وفي هذا السياق يُحدّد الإمام الصادق (عليه السلام) الخطوط العامّة للكفاءة الزوجيّة بقوله:

(الكفء أنْ يكون عفيفاً وعنده يسار) (3) وعند التمعّن في هذا الحديث نجد أنّ الإمام (عليه السلام) يركّز على أهمية توفّر شرطين أساسيين في الكفاءة يتوقّف عليهما نجاح الحياة الزوجيّة وضمان استمرارها، وهما الشرط الأخلاقي المُتمثّل بالعفّة، والشرط الاقتصادي المُتمثّل باليسار.

وبتعبير آخر، أنّه يرى أنّ الكفاءة التامّة تَتَحقّق بتوفّر البعدين المعنوي والمادّي معاً، فميزان الكفاءة الحقّة - إذن - يجب أنْ يقوم في إحدى كفّتيه على الأخلاق والفضيلّة، وعلى التمكّن من الإنفاق في الكفّة الأُخرى، هذه هي النظرة الواقعيّة للكفاءة، فالإسلام لا يُريد من الرجل أنْ يكون راهباً يقبع في أحد

____________________

1) سورة النور: 24 | 26.

2) وسائل الشيعة 14: 29 باب استحباب اختيار الزوجة.

3) من لا يحضره الفقيه 3: 249 باب الأكفاء.

٣٧

زوايا الدار أو المسجد للعبادة والنسك ويترك زوجته وأطفالها عرضة لعوامل الفقر والفاقة، كما لا يرتضي أنْ يكون غنيّاً في غاية الثراء ولكن لا رصيد له من الفضيلة والعفّة.

كان أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) لمّا خَطَب فاطمة عليها السلام فقيراً حتّى إنّ نساء قريش قد عيّرنها بفَقْرِه،

فقال لها النبيّ (صلّى الله عليه واله وسلّم): (أما ترضين يا فاطمة أنْ زوّجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، إنّ الله تعالى أطّلع إلى أهل الأرض اطّلاعة فاختار منهم أباك، فجعله نبيّاً، وأطّلع إليهم ثانية، فاختار منهم بَعلَك فجعله وصيّاً، وأوحى الله إليَّ أن أنكحك إياه..) فضحكت فاطمة عليها السلام واستبشرت.. (1) .

هذا الموقف الذي سجّله التاريخ بسطور من نور، يُعطي الشباب درساً في الاختيار السليم لكي يضعوا نصب أعينهم الكفاءة المعنويّة ويمنحوها الأولويّة.

وما تقدّم شاهد عملي من السُنّة على أهميّة مراعاة الكفاءة بين الزوجين، وليست الكفاءة مَنوطةً بزخرف الحياة المادّيّة بقدر ما تتحقّق بالتماثل والتشابه من السجايا والطباع، وقد أعربت عن ذلك زوجة معاوية، وقد سَئمت في كَنفه مظاهر الترف والبذخ والسلطان والثراء، وحنّت إلى فتى أحلامها، كان خلواً من كلِّ ذلك - فقد كانت مطلّقة وتزوّجت من معاوية، فلم تذق معه طعم السعادة ولم ترضَ عن أخلاقه - فأنشدت:

لَبَيتٌ تَخفِق الأرواحُ فيهِ

أحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ

ولُبسُ عباءة وتَقرُّ عَينِي

أحبُّ إليَّ مِن لِبس الشُّفوفِ

____________________

1) الإرشاد | الشيخ المفيد: 24.

٣٨

وخَرقٍ من بني عمّي نجيب

أحبُّ إليَّ من علجٍ عنيفِ (1)

إذن من الأهميّة بمكان أنْ تُوجد حالة من التكافؤ بين الزوجين، وعلى الخصوص في الجانب الإيماني والأخلاقي والعلمي، وقد أشار الفقهاء إلى هذه المسألة المهمّة، يقول المحقّق الحلّي قُدّس سرّه: (الكفاءة شرطٌ في النكاح، وهي التساوي في الإسلام، وهل يشترط التساوي في الإيمان؟ فيه روايتان، أظهرهما الاكتفاء بالإسلام، وإنْ تأكّد استحباب الإيمان، وهو في طرف الزوجة أتمّ؛ لأنّ المرأة تأخذ من دين بعلها..) (2) .

ثالثاً: نظافة القصد وسلامة النيّة:

الإسلام يُريد للعلاقة الزوجيّة أنْ تبتني على أُُس معنويّة سليمة، فهو يُريد لها نظافة القصد وطهارة الغاية وسلامة النيّة، كونها علاقة تَتَرتّب عليها أهداف سامية تتمثّل بإدامة التناسل وتنشئة الأجيال، ومن هنا ورد عن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: (مَن تَزوّج لله عزَّ وجل ولِصَلة الرحم توّجَه الله تاجَ المُلوك) (3) .

وعليه فالقصد السليم يُؤّدي إلى التكريم من قِبل الله تعالى، فهو العالم بدخائل النفوس وخوالج القلوب، وقد هدّد الذين يتّخذون من رابطة الزواج المقدّسة مادّة للتفاخر والرياء ووسيلة لإيقاع الأذى أو الحصول على المنافع والمطامع غير المشروعة،

قال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه واله وسلّم): (مَن نَكَح امرأةً حلالاً، بمالٍ حلال، غير أنّه أراد بها فخراً ورياءً، لم يزده الله عزَّ وجلَّ بذلك إلاّ

____________________

1) أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) | السيّد مهدي الصدر: 453 - 454 دار الكتاب الإسلامي.

2) شرائع الإسلام | المحقّق الحلّي 2: 525 كتاب النكاح.

3) مكارم الأخلاق: 198.

٣٩

ذلاًّ وهواناً، وأقامَهُ الله بقدر ما استمتع منها على شفير جهنّم، ثمَّ يَهوي فيها سبعين خريفاً) (1) .

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا تزوّج الرجل المرأة لمالها أو جمالها، لم يُرزق ذلك، فإن تزوّجها لدينها، رزقه الله عزَّ وجلَّ مالها وجمالها) (2) .

وهكذا يظهر لنا جلياً أنّ الإسلام يُريد من الزواج الذي هو أحبُّ بناء إلى الله تعالى، أنْ يَبتني على هدفٍ نبيل وقصدٍ سليم، وعليه فهو يُكرِّم أصحاب القلوب السليمة، ويُنذر ذوي النوايا السيّئة بسوء العذاب.

رابعاً: البساطة في المهر والصداق:

ليس خافياً على أحد بأنّ الإسلام يسعى لإزالة العوائق التي تحول دون نسج العلائق الشرعيّة بين الجنسين، والتي تتمثل - أساساً - في الزواج.

والملاحظ أنّه يتّخذ موقفاً توفيقيّاً بين الزوجين، ففي الوقت الذي يجعل للمرأة المهر، ويأمر الرجل بإعطائه لها على الوجه الأكمل، وفق قوله تعالى: ( وآتوا النّساء صدُقاتهنَّ نحِلة.. ) (3) ، فإنّه يحثُّ النساء وأولياءهنّ على عدم تجاوز الحدود المعقولة للصداق، وعلى عدم التعسّف عند استيفائه.

____________________

1) عقاب الأعمال | الصدوق: 333 باب يجمع عقوبات الأعمال.

2) مكارم الأخلاق: 203.

3) سورة النساء: 4 | 4، وفي الآية 20 من هذه السورة المباركة ما يدلّ على وجوب دفع الصداق كاملاً للمرأة وإن كان كبيراً، وورد في الحديث تحذير من العواقب المترتّبة على غصب مهور النساء، منه ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):إنَّ أقذر الذنوب ثلاثة: قتل البهيمة، وحبس مهر المرأة، ومنع الأجير أجره وقوله (عليه السلام): من تزوّج امرأة ولم ينوِ أن يوفّيها صداقها فهو عند الله عزَّ وجلَّ زانٍ مكارم الأخلاق: 207 و 237.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ولو ذكرنا ما سرده ابن الجوزيّ من أمثال هذه الحكايات الخوارق لكانت كتاباً ضخماً!

وإنّما نقلنا بعضاً قليلاً منها لنقول: إنّ الرجل ذكرها على أنّها مسلّمات، فيما أنكر حديث ردّ الشمس، وشايعه ابن تيميه على ذلك.

نكتفي بما ذكرناه بشأن الآية المباركة، فإنّ الأحاديث التي ذكرها: ابن عبّاس وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو الحمراء... كلّها في أنّ الآية في الخمسة أصحاب الكساء: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليّ وفاطمه والحسن والحسينعليهم‌السلام (١) .

يحيى بن سلاّم، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي داود، عن أبي الحمراء

____________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١: ١٨٥ و ٣٣١ و ٦: ٢٩٢، وصحيح مسلم ٧: ١٣٠، والمعارف لابن قتيبة ٤٤٨، وسنن الترمذيّ ٥: ٣٦١، وتفسير الطبريّ ٢٢: ٦، وتفسير الحبريّ ٢٩٨، و ٣٠٠ - ٣٠٧، ومشكل الآثار للطّحاويّ الحنفيّ ٣٢١، والكنى والأسماء للدولابيّ ٢: ٢٥٤ / ٢٦١٩ و ٢٥٥ / ٢٦٢٢، وأسباب النزول للواحديّ ٢٣٩، والمعجم الكبير للطبرانيّ ١: ١٢٨، والمعجم الصغير، له ١: ١٣٥، والمستدرك على الصحيحين للحاكم الشافعيّ، وبذيله التلخيص للذهبيّ الحنبليّ ٢: ٤١٦، و ٣: ١٤٦ - ١٤٧، وكفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ ٢٧٦ و ٣٧٣ - ٣٧٥، وتفسير ابن أبي زمنين ٢: ١٦٤، والسنن الكبرى للبيهقيّ ٢: ١٥٢، وتاريخ بغداد ١: ٢٧٨، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ الشافعي ٣٠١ - ٣٠٧ / الرقم ٣٤٥ - ٣٥١، وتفسير ابن كثير الحنبليّ ٣: ٤٨٥، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي الحنفي ٢٤٨، وشواهد التنزيل / الرقم ٧١٢ - ٧١٣، ومناقب الإمام عليّ لابن مردويه ٣٠١ / ٤٧٥٤، ومطالب السؤول لابن طلحة الشافعي ٨، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ ١٢، والرياض النضرة للمحبّ الطبري ٢: ٢٦٩، وذخائر العقبى له: ٢٥، والمحرّر الوجيز لابن عطيّة ٤: ٣٨٤.

١٢١

قال: «رابطتُ المدينة سبعة أشهر مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا طلع الفجر جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال: الصلاة - ثلاثاً -« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » (١) ».

قال: الرِّجْس، يعني: الشيطان، وقال بعضهم: الرِّجس الإثم. والرجس في اللّغة: كلّ مستنكرٍ مستقذرٍ من مأكولٍ أو عملٍ أو فاحشة.(٢)

قال ابن عطيّة: الرجس اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص؛ فأذهب الله جميع ذلك عن «أهل البيت». وذكر حديث أمّ سلمة(٣) .

عصمة أهل البيتعليهم‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ضرورةً، وإلا لم يصلح للنبوّة! والآية المباركة زيادة بيانٍ في عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يَشرِكه فيها إلاّ أهل بيته: عليّ وفاطمة والحسن والحسين؛ فهم معصومون كذلك، لا يقربهم الشيطان، ولا يقارفون إثماً، ولا يأتون بفاحشة ولا تُصيبهم النجاسات التي أصابت غيرهم، وهم مُبَرّأون من كلّ نقصٍ وعيب ومن كلّ ما ينفّر؟ فكيف نفى ابن تيميه عصمة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؟!

____________________

(١) المسند لابن أبي شيبة (٧٢٠)، وتفسير ابن أبي زمنين (٢ / ١٦٤)، ومختصر تاريخ دمشق (١٧: ٣٤٢).

(٢) المسند لابن أبي شيبة (٧٢٠)، وتفسير الطبري (٢٢/٦)، وتفسير ابن أبي زمنين (٢ / ١٦٤).

(٣) المحرّر الوجيز لابن عطيّة الأندلسيّ ٤ / ٣٨٤.

١٢٢

حديث الثّقلين

وحديث الثّقلين دليل آخر علي عصمة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام .

يَرِد حديث الثّقلين من طُرقٍ عدّة تنتهي بجلّة الصّحابة وأمّهات المؤمنين.

عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تاركٌ فيكم الثّقلين: كتاب الله وعِترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»(١) .

وقد تكلّمنا حول حديث الثّقلين في غير هذا الموضع كلاماً وافياً، وإنّما أردنا القول: إنّ تركة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اثنان: القرآن الكريم، وعِترتُه أهل بيته. ولما كان القرآن الكريم معصوماً مُصَاناً من قبل الله تعالى؛ فكذلك عِدْلُه الثّقل الثاني: أهل البيت: فهم معصومون، وعليّعليه‌السلام منهم، فأمير المؤمنين عليّ معصوم.

وبهذا الاستدلال، وما سبقه من آية التطهير؛ فإنّ عليّاًعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم ينزل نصّ من الله تعالى. ولا جاء حديث في نسخ العصمة أو الأفضليّة.

آية المباهلة

ومن أدلّة أفضليّة وعصمة أهل بيت الرحمة وموضع الرسالة قوله تعالى:

____________________

(١) الجامع الصحيح للترمذيّ ٥: ٣٢٨، وكتاب الولاية لابن عُقدة: ١٧٥، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٨، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: ٢٣٤ ح ٢٨١، وعن زيد أيضاً، وبلفظ آخر، في: مسند أحمد ٤: ٣٦٧، وصحيح مسلم ١٦: ١٨٠ - ١٨١، وسنن الدارميّ ٢: ٤٣١، وسنن البيهقيّ ٢: ١٤٨، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازلي: ٢٣٦، وكنز العمّال ١٣: ٦٤١.

١٢٣

« تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ » (١) .

والآية في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي أخيه وعيبة علمه ونفسه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وابنته الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وسبطَيه الحسن والحسينعليهما‌السلام .

وذلك أنّ وفد نصارى نجران حاجّوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بباطلهم، وأبَوُا الإسلام، فدعاهم إلى المباهلة، أي الملاعنة وإلى دعاء الله تعالى أن ينزل عقابه على الكاذبين، وهي سنّةٌ أمضاها الأنبياء من قبله، فنال العذاب العاجل المذنبين من أقوامهم. ورجال الدّين وأحبار النصارى يعلمون ذلك، فلمّا حان الموعد خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يباهلهم بعليٍّ؛ فكان نفس رسول الله، وببضعته الطاهرة فاطمة الزهراء، وبولديه الحسن والحسين: فلمّا رأى الوفد هذه الوجوه المقدّسة، استشعروا الهزيمة، وامتنعوا من المباهلة ورضوا بإعطاء الجزية(٢) .

ومن هنا كان عليّ وفاطمة والحسن والحسين: معجزة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم

____________________

(١) آل عمران / ٦١.

(٢) مسند أحمد ٢: ٣٠٠، وتفسير الطبريّ ٣: ١٩٢، والجامع الصحيح للترمذيّ ٥: ٣٠١، وصحيح مسلم ١٥: ١٧٦، وأسباب النزول للواحديّ ٦٧، وتفسير ١: ١١٤، وتفسير ابن العربي ١: ٢٣٠، وشواهد التنزيل ١: ٢٠ - ١٢٩ / ١٦٨ - ١٧٥، وأحكام القرآن لابن العربيّ ١: ٣٣١، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ ٢: ٢٩٩، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٦٣ / ٤٧١٩، ودلائل النبوّة لابي نعيم ٢٩٧، وتفسير ابن كثير ١: ٣٧٠، وكفاية الطالب ١٤٢ ووافقه الذهبيّ في التلخيص، ومصابيح السّنّة للبغويّ ٢: ٤٥٤، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٣١٨ / ٣٦٢، والمناقب للخوارزميّ ١٠٨، والكشّاف للزمخشريّ ١: ٣٦٨، والسّنن الكبرى للبيهقيّ ٧: ٦٣.

١٢٤

المباهلة ولو قامت الحجّة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وحلّ العذاب بساحته؛ لبطلت معجزته وانتهت رسالته، فدلّ ذلك على أفضليّتهم وعصمتهم، إذ لم يختر غيرهم. وبدوام الآية في القرآن يتلوها المؤمنون، دامت أفضليّتهم وعصمتهم! ولو عَلِم الله أنّ في الأرض عباداً أكرم منهم وأفضل، لأمر نبيّه أن يباهل بهم.

تتويج أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وليّاً للمسلمين

ونختم حديثنا في أفضليّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وعصمته بما كان من تتويج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام وليّاً وخليفةً للمسلمين بأمر الله تعالى؛ وذلك قوله عزّ وجلّ:

« يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ » (١) .

نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة (١٠ هـ) وتسمّى حجّةَ الوداع، إذ هي آخر حجّة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يلبث بعدها طويلاً فتوفّي سنة (١١ هـ). ولمّا قفلصلى‌الله‌عليه‌وآله راجعاً، وبلغ غدير خمّ أتاه جبرئيل بهذه الآية، فنادىصلى‌الله‌عليه‌وآله : الصلاة جامعة، فاجتمع الحجيج، وخطب رسول الله وبلّغ أمر الله تعالى، وأخذ بيد عليّعليه‌السلام وقال: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه».

وقد تكلّمنا بما لا مزيد عليه حول الحادثة في غير هذا الموضع وتضمّن شعرحسّان بن ثابت في ذلك، ورُواة حديث الغدير ومصادره، كان فيهم (٨٧)

____________________

(١) المائدة: ٦٧.

١٢٥

صحابيّاً، ومن التابعين (٦٢) تابعيّاً، وأمّا مصادره فتربو على (٧٠) مصدراً.

الاستدلال بالحديث

ودلالة حديث الغدير مثل الآيات والأحاديث التي ذكرناها من حيث ظهورها في أفضلية أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وديمومتها، وعصمته. فالآية المباركة وتبليغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بما ينبغي عليهم من طاع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام امتثالاً منهم لأمر الله تعالى؛ هو تتويجٌ لما سبق من حثّه إيّاهم في أكثر من مناسبة على وجوب ملازمة عليّعليه‌السلام ، والآية الولاية: الآية ٥٥ من سورة المائدة، وقد مضى الكلام حولها وأنّها في أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام .

والكلام في الغدير هو نفسه في الكلام حول آية الولاية إذ لم ينزل بيان ينسخها؛ فكذلك الحال في آية التبليغ يوم الغدير، فعليّعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لا ذلك لَمَا اختاره الله تعالى أميراً للمؤمنين وخليفةً لرسول ربّ العالمين، لم يدم على هذا الاختيار طويلاً حتّى رحل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّه تبارك وتعالى.

ولا يعقل أن يكون خليفة رسول الله والقائم مقامه في التبليغ بعده غير من عصمه الله سبحانه، لئلاّ يركب بالأُمّة سبيل الخطل، فعليّ معصوم والمعصوم دائم الأفضليّة.

حديث المنزلة

وحديث المنزلة من الأدلّة الساطعة في أفضليّة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام

١٢٦

الدائمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعصمته وإمامته قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

وظهور الحديث فيما ألمحنا إليه جليّ، ذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو سيّد الأنبياء والرُّسُل، ورسالته خاتمة الرسالات؛ فوصيّه خير الأوصياء، وهارونعليه‌السلام نبيّ معصوم؛ فمنزلة عليّعليه‌السلام بمنزلة نبيّ وإن لم يكن نبيّاً.

والحديث يرد عن: أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وعن فاطمة ابنة عليّ عن أسماء بنت عميس، وزين العابدين عليّ بن الحسين، وجعفر بن محمّد عن أبيه وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، ومحدوج بن زيد الذّهليّ، وأبي سعيد الخدريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن المسيّب، وأبي أيّوب الأنصاريّ، وجابر بن سمرة، ومجاهد، وأمّ سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبي هريرة، وأنس بن مالك.

مصادر حديث المنزلة

وقد ذكرته كتب الحديث والتراجم في موارد كثيرة، نقتصر على ذكر المصادر وبعض الموارد:

مسند أبي داود (ت ٢٠٤ هـ) الحديث ٢٠٥.

المصنّف لعبد الرزّاق (ت ٢١١ هـ) ٢: ٤٢٠ / ٣٥٧٩، و ٣: ٥٨٦ / ٦١٥٩.

الطبقات الكبرى لابن سعد (ت ٢٣٠ هـ) ٣: ٢٤، ومواضع أُخرى.

المصنّف لابن أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) الحديث ١٢ من فضائل عليّعليه‌السلام .

صحيح البخاريّ، كتاب فضائل أصحاب النبيّ - باب مناقب عليّ. كما

١٢٧

أخرجه في كتاب المغازي، باب غزوة تبوك.

تاريخ البخاريّ الكبير ٣ / ٤٨: ١٧٩.

صحيح مسلم (ت ٢٦١ هـ) ١٥: ١٧٤ - ١٧٦.

مسند أحمد؛ مسند أبي سعيد / الحديث ١٠٨٧٩، ومواضع أخرى.

الفضائل لأحمد / الحديث ١٤٢.

تاريخ الثّقات للعجليّ (ت ٢٦١ هـ) ٥٢٢ / ٢١٠٦.

خصائص أميرالمؤمنين عليعليه‌السلام للنّسائي / الحديث ٤٣ - ٥٦، و ٥٩ - ٦٠ و ٦٨.

سنن التّرمذيّ: ٥، كتاب المناقب، باب مناقب عليّ ٢١.

مشكل الآثار للطحاويّ الحنفيّ (ت ٣٢١ هـ) ٢ / ٢١٣: ١٩٠٣.

مسند أبي يعلى (ت ٣٠٧ هـ).

مسند سعد ٢: ٦٦ - ١٣٢، وغيره.

مسند ابن حبّان (ت ٣٥٤ هـ) ١٥ / ٣٦٩ / ٦٩٢٦.

المعجم الكبير للطبرانيّ (ت ٣٦٠ هـ) ٢٤ / ١٤٦ / ٣٨٤.

سنن ابن ماجة (ت ٢٧٥ هـ) ١: ٤٢ حديث ١١٥.

الكامل لابن عديّ ٢ / ٤١٦ / ترجمة حرب بن شدّاد.

مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ، لابن المغازلي الشافعي (ت ٤٨٣ هـ) ٣٤ / الحديث ٥١.

أنساب الأشراف للبلاذريّ ١: ٣٤٦.

١٢٨

تاريخ بغداد ٣: ٢٨٩ / ١٣٧٦.

مناقب عليّ بن أبي طالب، لابن مردويه (ت ٤١٠ هـ) ٦١ / ٢٨ - ٢٩ و ١١٢ / ١٣٠.

حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهانيّ (ت ٤٣٠ هـ) ٧ / ١٩٤.

المناقب للخوارزمي الموفّق الحنفيّ (ت ٥٦٨ هـ) ١٣٣ / ١٤٨.

مناقب الإمام عليعليه‌السلام لمحمّد بن سليمان الكوفيّ «القرن الرابع» ١: ٥٦١ / ٤١٨.

مختصر تاريخ دمشق ١٧ / ٢٤٣ - ٢٤٨.

تهذيب الكمال للمزّيّ السّلفيّ ٣٥ / ٢٦٣.

مسند البزّار / الحديث ١٠٧٤.

حديث الطّير

وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهدي إليه طير، فدعا الله تعالى أن يأتيه بأحبّ الخلق إليه ليأكل معه، فجاء عليّعليه‌السلام فأكل معه.

وقد احتجّ به أميرالمؤمنين في جملة ما احتجّ به يوم الشورى، قال: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحدٌ قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق

١٢٩

إليك وإليّ، وأشدّهم حبّاً لك وحبّاً لي، يأكل معي من هذا الطائر(١) » فأتاه فأكل معه، غيري؟ قالوا: اللّهمّ لا.

وأحبّ الخلق إلى الله بعد رسول الله هو أفضلهم من غير مراء، ولم ينقض هذا الحديث حديث فيما بعد، وإنّما ترادفت الأحاديث في ترسيخ هذا الحبّ وتلك الفضيلة الظاهرة في العصمة والإمامة حتّى تُوّج ذلك بحديث الولاية يوم غدير خمّ، فأعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية عليّعليه‌السلام   المتفرّعة من ولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وألزمهم إيّاها، ودعا الله تعالى: أن ينصر من نصره، وأن يخذل من خذله!

وما من مناسبة إلاّ وصدحصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الحبّ الذي صار علامة فارقة بين المؤمن والمنافق؛ فلينظر من ناصب عليّا البغضاء: أين يكون إذا حُشرت الخلائق للحساب؟!

أبو كريب محمّد بن العلاء الكوفيّ قال حدّثنا أبو معاوية - الضرير -، عن

____________________

(١) رواه: أنس خادم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ وعبد الله بن عبّاس، وسعيد بن المسيّب. يراجع: التاريخ الكبير للبخاريّ ١: ٣٥٨، والجامع الصحيح للترمذيّ ٢: ٢٩٩، وأنساب الأشراف للبلاذريّ ٢: ٣٧٨، ومسند أبي يعلى ٧: ٦٢٦ / ٣٦٢١، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٢، وكتاب الولاية لابن عقدة - حديث المناشدة، الفقرة ١٠، وتاريخ بغداد ٣: ١٧١ و ٣٦٩ و ٨: ٣٨٢ و ١١: ٣٧٦، وموضّح أوهام الجمع والتفريق، له ٢: ٢٩٨، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ، ذكره بطرقٍ تنيف على العشرين، وتهذيب التهذيب ١: ٣٠٣، وحليه الأولياء ٦: ٣٣٩، والمناقب للخوارزميّ ٦٨، ومصابيح السّنن للبغويّ ٤: ١٧٣ / ٤٧٧٠، وتذكرة الخواصّ ٤٤، ولسان الميزان ٥: ١٩٩، ومجمع الزوائد ٩: ١٢٦، وتذكرة الحفّاظ ٣: ١١٢، وذخائر العقبى ٦١، وكنز العمّال ١٣: ١٦٧ / ٣٦٥٠٧.

١٣٠

الأعمش، عن عديّ بن ثابت، عن رزّ بن حبيش، عن عليّ كرّم الله وجهه قال: والله الذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، إنّه لعهد النبيّ الأمّيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ: أنّه لا يحبّني إلاّمؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق(١) .

احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل عليّعليه‌السلام

ناظر المأمون حشداً من الفقهاء في فضل أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وكان ممّا احتجّ به: حديث الطّير.

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيد قال: بعث إليّ يحيى ابن أكثم وإلى عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إنّ أمير

____________________

(١) مسند الحميديّ (ت ٢١٩ هـ) ١ / ٣١، والمعيار والموازنة للإسكافيّ (ت ٢٢٠ هـ) / ٢٤٤، المصنّف لابن أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) ٧ / ٥٠٥، ومسند أحمد ١ / ٨٤ - ٩٥ - ١٢٨، وفضائل الصحابة، له ٩٤٨ - ٩٦١، وصحيح مسلم ٢ / ٦٤، وسنن ابن ماجة ١ / ٤٢ / ١١٤، والسّنّة لعمرو بن أبي عاصم ٢ / ٥٩٨، وأنساب الأشراف للبلاذريّ ٢ / ٩٦، وخصائص أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام للنّسائي ١٠١ / ٩٧، والسُّنن، له ٨ / ١١٥ - ١١٦، والمسند لأبي يعلي الموصليّ ١ / ٨٤ - ٩٥ - ١٢٨، وصحيح ابن حبّان ٢ / ١٧٧ / ٢، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٢٤١ / ح ٢٢٥ - ٢٢٦ و ٢٢٨ و ٢٣١، والعقد الفريد لابن عبد ربّه ٥: ٣٥٤، وعلوم الحديث للحاكم / ١٨٠، وتاريخ بغداد ١٤ / ٤٢٦ / ٧٧٨٥.

وللحديث طريق آخر عن أم سلمة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال «لا يُحبّ عليّاً منافق، ولا يبغضه مؤمن».

مسند أحمد بن حنبل ١: ٨٤، ونذكر كتاب الفضائل له ١٤٣ / ٢٠٨، والمصنّف لابن أبي شيبة ٧: ٥٠٥، وسنن ابن ماجة ١: ١١٤، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ١٣٧.

١٣١

المؤمنين [ يعني المأمون ] أمرني أن أُحضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلّهم فقيه يَفْقَه ما يُقال له ويُحسِن الجواب، فسمّوا من تظنّونه يصلح لما يطلب أميرالمؤمنين. فسمّينا له عدّة، وذكر هو عدّة، حتى اكتمل العدد الذي أراد، وأمر بالبكور في السّحر، فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فقال: أحببت أن أُنْبئكم أنّ أميرالمؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين اللهَ به.

قلنا: فليفعل أمير المؤمنين، وفّقه الله.

فقال: إنّ أمير المؤمنين يدين الله على أنّ عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأولى الناس بالخلافة.

قال إسحاق: فقلت: يا أميرالمؤمنين، إنّ فينا من لا يعرف ما ذكر أميرالمؤمنين في عليّ، وقد دعانا أميرالمؤمنين للمناظرة.

فقال: يا إسحاق، اختر، إن شئت سألتك أسألك، وإن شئت أن تسأل فَقُلْ. قال إسحاق: فاغتنمتها منه فقلت: بل أسألك يا أميرالمؤمنين.

قال: سل. قلتُ: من أين قال أميرالمؤمنين أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالخلافة بعده؟

قال: يا إسحاق، خبِّرني عن الناس بِمَ يتفاضلون حتّى يقال فلانٌ أفضل من فلان؟ قلت بالأعمال الصالحة.

قال: صدقت فأخبرني عمّن فضل صاحبه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله، أيُلحق به؟

١٣٢

فقلت: لا يلحق المفضول على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الفاضل أبداً.

قال: فانظر يا إسحاق ما رواه لك أصحابك، ومَن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك، من فضائل عليّ بن أبي طالب؛ فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل عليّ، فقل إنّه أفضل منه؛ لا والله، ولكن فقس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحده، فقل إنّهما أفضل منه؛ ولا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل عليّ فقل إنّهم أفضل منه؛ لا والله، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنّهم أفضل منه.

ومضى المأمون يناظره بدءاً بالسبق إلى الإسلام.

وهكذا حتّى سأله عن حديث الطّير، قال المأمون:

فهل تعرف حديث الطّير؟

قلت: نعم.

قال: فحدّثني به.

قال: فحدّثته الحديث، فقال: يا إسحاق، إنّي كنت أكلّمك وأنا أظنّك غير معاند للحقّ، فأمّا الآن فقد بان لي عنادك؛ إنّك توقن أنّ هذا الحديث صحيح؟

قلت: نعم، رواه من لا يمكنني ردّه!

قال: أفرأيت من أيقن أنّ هذا الحديث صحيح، ثمّ زعم أنّ أحداً أفضل من

١٣٣

عليّ، لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن تكون دعوة(١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه مردودةً عليه! أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحبّ إليه! أو أن يقول إن الله عزّوجلّ لم يعرف الفاضل من المفضول!! فأيّ الثلاثة أحبّ إليك أن تقول؟ فأطرقت.

ثمّ قال: يا إسحاق لا تقل منها شيئاً؛ فإنّك إن قلت منها شيئاً استنبئتك، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله.

قلت: لا أعلم، وإنّ لأبي بكر فضلاً.

قال: أجل، لو لا أنّ له فضلاً لما قيل إنّ عليّاً أفضل منه.

والمناظرة طويلة انتهت بقول الفقهاء: كلّنا نقول بقول أميرالمؤمنين أعزه الله(٢) وهذه فضيلة أخرى لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ثابتة، إذ دامت مع حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى رحلته... فعليّعليه‌السلام أفضل من غيره وإلاّ لما ضمّه إلى نفسه فآخاه؛ فلقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله في المؤاخاة يضمّ الشكل إلى شكله، والنظير إلى نظيره، فاختار عليّاً أخاً دون سواه، ولو كان غيره أفضل مه لآخاه ولم يقدّم عليّاً عليه.

قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال - فيما بلغنا، ونعوذ بالله من أن نقول عليه ما لم يقل -: «تآخوا في الله أخَوَينِ أخوين» ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: «هذا أخي».. فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير

____________________

(١) وهي دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيه الله تعالى بأحبّ الخلق إليه ليأكل معه من الطير.

(٢) العقد الفريد ٥: ٣٤٩ - ٣٥٩.

١٣٤

ولا نظير من العباد، وعليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أخوين(١) .

وكلامنا في المؤاخاة نظير كلامنا في آية المباهلة؛ إذ أقامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقام نفسه الطاهرة المقدّسة، وذلك يوم التحدّي مع نصارى نجران، وما نزل فيها من قرآن ما زال يتلى حتّى قيام الساعة؛ وآية التطهير التي يتلوها المسلمون فيذكرون في كلّ واحدة منهما: عليّاً وزوجه البتول فاطمة وابنيهما الحسن والحسينعليهم‌السلام لا يشركهم في ذلك إلاّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأفضليّة عليّعليه‌السلام وعصمته جارية وحيّة ما زال القرآن الكريم حيّاً محفوظاً، وقد تكفّل الله تعالى بحفظه وكفى به حافظاً ووكيلاً« إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (٢) .

وكلامنا فيه مثل كلامنا في حديث الثّقلين: فالقرآن الكريم قرين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته، وهم: عليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام . وظهوره في الأفضليّة والعصمة الجارية أمرها بيّن لمن آتاه الله عقلاً وقلباً سليماً« إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى‏ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ » (٣) .

وكذلك: حديث المنزلة، وهو من أكثر الأحاديث من حيث احتفاء المصادر به، ممّا يُظهِر الموقعَ الخاصّ لأميرالمؤمنينعليه‌السلام .

فعليّعليه‌السلام هارون هذه الأمّة كما أنّ هارون النبيّعليه‌السلام أخو موسى النبيّعليه‌السلام ؛

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ١٥١.

(٢) الحجر: ٩.

(٣) ق: ٣٧.

١٣٥

فعليّعليه‌السلام له من حقّ الأخوّة والمنزلة الخاصّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّعليه‌السلام أخو رسول الله في الدنيا والآخرة فأفضليّته لذلك متّصلة، لا منفصلة.

من طرق عدّة: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين أصحابه، فآخى بين أبي بكر وعمر، وفلانٍ وفلان، فجاءه عليّرضي‌الله‌عنه فقال آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحدٍ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت أخي في الدنيا والآخرة»(١) .

فمثلما خُلِّدَتْ عصمة عليّعليه‌السلام وأفضليّته فيما ذكرنا من نصوص قرآنيّة؛ كذلك كانت أخوّته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وذكره ابن أبي شيبة، ونصّه: «أنت أخي وصاحبي»(٢) .

ونحيل القارئ الكريم إلى موضوع المؤاخاة، فقد بسطنا البحث هناك؛ وإنّما أوردناه بإيجاز ليكون واحداً من أدلّتنا على أفضليّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام التي أنكرها ابن تيميه.

حديث رد الشمس

قال ابن تيميه: وحديث ردّ الشمس له - أيّ لعليٍّعليه‌السلام - قد ذكره طائفة: كالطحاويّ، والقاضي عياض، وغيرهما. وعدوّا ذلك من معجزات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن

____________________

(١) الجامع الصحيح، للترمذيّ ٢ / ٢١٣، والاستيعاب، لابن عبد البَرّ ٣ / ٣٥، والمستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥ / ٤٢٨٨، والرياض النضرة ٢ / ١٦٧.

(٢) المصنّف، لابن أبي شيبة ٧ / ٥٠٨.

١٣٦

المحقّقون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أنّ هذا الحديث كذب موضوع. كما ذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات»، فرواه من عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسن عن أسماء بنت عميس قالت: - ثمّ ذكر الحديث -(١) .

قال: قال أبو الفرج - ابن الجوزيّ -: هذا الحديث موضوع بلا شكّ...(٢) .

قال: وفضيل بن مرزوق ضعّفه يحيى، وقال أبو حاتم بن حبّان: يروي الموضوعات ويُخطئ على الثّقات(٣) .

قال أبو الفرج: وهذا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه(٤) .

قال: قال أبو الفرج: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين:...، حدّثنا عبد الرحمان بن شريك، حدّثني أبي، عن عروة، عن عبيد الله بن قيس، قال: دخلت على فاطمة بنت عليّ فحدّثتني أنّ عليّ بن أبي طالب، - وذكر حديث رجوع الشّمس -.

قال أبو الفرج: وهذا حديثٌ باطل. أمّا حديث عبد الرحمان بن شريك؛ فقال أبو حاتم: هو واهي الحديث. قال: وأنا لا أتّهم بهذا الحديث إلاّ ابن عقدة؛

____________________

(١) منهاج السنّة النبويّة، ابن تيميه ٤: ١٨٦.

(٢) نفسه.

(٣) نفسه.

(٤) نفسه.

١٣٧

فإنّه كان رافضيّاً يحدّث بمثالب الصّحابة(١) .

قال: قال أبو الفرج: وقد رواه ابن مردويه من حديث: داود بن فراهيج، عن أبي هريرة. قال: وداود ضعيف ضعّفه شعبة. قلت: فليس في هؤلاء من يحتجّ به(٢) .

قال: وأمّا الثاني: ببابل؛ فلا ريب أنّ هذا كذب، وإنشاد الحميريّ لا حجّة فيه؛ لأنّه لم يشهد ذلك(٣) .

قال: وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال: غزا نبيٌّ من الأنبياء، فدنا من القرية حتّى صلّى العصر قريباً من ذلك، فقال للشّمس: أنت مأمورة وأنا مأمور؛ اللّهمّ احبِسها عليّ شيئاً. فحبست عليه حتّى فتح الله عليه. فإن قيل: فهذه الأمّة أفضل من بني إسرائيل، فإذا كانت ردّت ليوشع فما المانع أن تردّ لفضلاء هذه الأمة؟ فيقال: يوشع لم تردّ له الشّمس، ولكن تأخّر غروبها، طوّل له النهار... ولا مانع من طول ذلك، لو شاء الله لفعل ذلك...

قال: لكنّ يوشع كان محتاجاً إلى ذلك؛ لأنّ القتال كان محرّماً عليه بعد غروب الشّمس؛ وأمّا أمّة محمّدٍ فلا حاجة لهم إلى ذلك ولا منفعة لهم فيه، فإنّ الذي فاتته العصر إن كان مفرّطاً لم يسقط ذنبه إلاّ بالتوبة، ومع التوبة لا يحتاج إلى ردّه وإن لم يكن مفرّطاً كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد

____________________

(١) منهاج السنة ٤: ١٨٦.

(٢) نفسه.

(٣) نفسه.

١٣٨

الغروب(١) .

(فصل) قال الرافضيّ: التاسع رجوع الشّمس له - أي لعليّعليه‌السلام - مرّتين: إحداهما في زمن النبيّ! والثانية بعده.

أما الأولى: فروى جابر وأبو سعيد - الخدريّ - أنّ رسول الله نزل عليه جبريل يوماً يناجيه من عند الله، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فَخِذَ أميرالمؤمنين، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشّمس، فصلّى عليّ العصر بالإيماء، فلمّا استيقظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: سل الله تعالى يردّ عليك الشّمس لتصلّي العصر قائماً.

وأمّا الثانية: فلمّا أراد أن أن يعبر الفرات ببابل، استعمل كثير من أصحابه دوابّهم، وصلّى لنفسه في طائفةٍ من أصحابه وفات كثيراً منهم، فتكلّموا في ذلك؛ فسأل الله ردّ الشّمس فردّت ونظمه الحِمْيَريّ فقال:

ردّت عليه الشَّمس لما فاتهُ

وقت الصّلاة، وقد دنت للمغرب

حتّى تبلّج نورها في وقتها

للعصر ثمّ هوت هويّ الكوكب

وعليه قد حُبست ببابل مرّةً

أُخرى، وما حُبست لخلق معرب

إلاّ ليوشع أوْ لهُ، ولحبسها

ولردّها تأويلُ أمر مُعجب(٢)

قال: وأمّا الإسناد الثاني، فمدارُه على فضيل بن مرزوق؛ وهو معروف بالخطأ على الثّقات وإن كان لا يتعمّد الكذب. قال فيه يحيى بن معين مرّةً: هو ضعيف، وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه: لا أعلم إلاّ خيراً. وقول

____________________

(١) منهاج السنة ٤: ١٨٦.

(٢) الخبر والشّعر في خصائص أميرالمؤمنين للشريف الرضيّ سنعرض له فيما بعد.

١٣٩

سفيان: هو ثقةٌ.

ويحيى مرّةً - أخرى -: هو ثقة، فإنّه ليس ممّن يتعمّد الكذب ولكنّه يخطئ؛ وإذا روى له مسلم، ما تابعه غيره عليه، لم يلزم أن يروي ما انفرد به!(١)

قال: وروى من طريق أبي العبّاس بن عقدة؛ وكان مع حفظه جمّاعاً لأكاذيب الشّيعة!

قال: قال ابن عقدة: حدّثنا يحيى بن زكريّا، أخبرنا يعقوب بن معبد، حدّثنا عمرو بن ثابت قال: سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ عن حديث ردّ الشّمس على عليّ...، فذكر حديث أسماء بنت عميس.

قال: وهذا الحديث، إن كان ثابتاً عن عمرو بن ثابت الذي رواه عن عبدالله بن حسن؛ فهو الذي اختلقه، فإنّه كان معروفاً بالكذب. قال أبو حاتم بن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ليس بثقة ولا مأمون. وقال النّسائي: متروك الحديث.(٢)

قال: وأمّا رواية أبي هريرة: إسناده مظلم لا يثبت به شيء عند أهل العلم؛ بل يُعرف كذبه من وجوه: فإنّه وإن كان داود بن عبد الملك النّوفليّ، وهو الذي رواه عنه، قال البخاريّ: أحاديثه شبه لا شيء. وذكر ابن الجوزيّ أنّ ابن مردويه رواه من طريق داود بن فراهيج، وذكر ضعف ابن فراهيج(٣) .

____________________

(١) منهاج السنّة ٤: ١٩٢.

(٢) نفسه ١٩٢ - ١٩٣.

(٣) نفسه ١٩٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492