ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه4%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168585 / تحميل: 5861
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

يا ابن حُنيفٍ قد أتُيتَ فانْفِرْ

وطاعِنِ القومَ وضارِب واصبِرْ

وابرزْ لهم مُستلئِماً وشَمِّرْ

فقال عثمان بن حُنيف: إي وربّ الحرمَين لأفعلنّ. ونادى عثمان بن حنيف في الناس فتسلّحوا.(١)

يوم الجمل الصغير

أقبل طلحة والزبير وعائشة حتّى دخلوا المِربد، حيّ قديم من أحياء البصرة ؛ وجاء أهل البصرة مع عثمان بن حنيف رُكباناً ومشاة، وخطب طلحة والزبير أنّ عثمان أحدث أحداثاً ثمّ أعتب لمّا استعُتب، وقُتل مظلوماً. واتّهما بذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال قائلون: نَطَقا بالحقّ! وقال آخرون: كذِبا، ولهما كانا أشدّ الناس على عثمان. وارتفعت الأصوات، وأُتي بعائشة على جمَلها، فتكلّمت، وكانت جهوريّة يعلو صوتها كثرة، فقالت: صَهْ صَهْ، فأسكت لها الناس، ثمّ قالت: إنّ عثمان خليفتكم! قُتل مظلوماً... فينبغي في الحقّ أن يُؤخذ قتلته فيُقتلوا به ويُجعل الأمر شورى.(٢)

فقال قائلون: صدَقتْ. وقال آخرون: كذَبتْ حتّى تضاربوا بالنّعال وتمايزوا

____________________

(١) المعيار والموازنة: ٥٧ - ٥٨، أنساب الأشراف ٣: ٢٤ - ٢٥، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٠.

(٢) العجبُ من أمّ المؤمنين! فهي تطالب بردّ الأمر شورى وهو أمر لم يعمل به أبوها أبوبكر أذ عيّن عمرَ بن الخطّاب بعده، ثمّ عيّن عمرُ ستّةً ليختاروا واحداً منهم مع ترجيح الكفّة التي فيها عبد الرحمان بن عوف، وعلى الآخرين الطّاعة في حال الاختيار وإلاّ يقتلوا! فاختار لهم عثمان بن عفّان. واختار المسلمون وفيهم طلحة والزبير عليّاً، طائعين غير مُكرهين على ما مرّ بنا.

٤٦١

فصاروا فرقتين، فرقة مع عائشة، وفرقة مع ابن حُنيف، وكان على خيل ابن حُنيف: حكيم بن جَبَلة العبديّ. وتأهبّوا للقتال فانتهوا إلى الزابوقة.

وأقبل جارية بن قدامة السعديّ فقال: يا أمّ المؤمنين، والله لقتلُ عثمان بن عفّان أهونُ من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضةً للسلاح ؛ إنّه قد كان لكِ من الله ستر وحرمة فهتكتِ سترك وأبحتِ حرمتكِ. إنّه مَن رأى قتالكِ يرى قتلكِ. إن كنتِ أتيتينا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنتِ أتيتينا مُستكرَهةً فاستعيني بالناس. ثمّ أنشد:

صُنتم حَلائلكم وقُدتم أُمَّكم

هذا لَعمُرك قلّةُ الإنصاف

أمرَت بجرّ ذيولها في بيتها

فهوتْ تشق البيد بالإيجاف

هُتكَت بطلحةَ والزّبير سُتورُها

هذا الـمُخَبَّرُ عنهُمُ والكافي

وأقبل غلام من جُهَينة على محمّد بن طلحة فقال له: ناشدتك الله، عند من دم عثمان؟ فقال: أما إذ ناشدتني الله، فإنّ دم عثمان ثلاثةُ أثلاث: ثلث عند صاحب الكوفة - يعني عليّاً، وثلث عند صاحب الهودج - يعني عائشة، وثلث عند صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة. فسمعته عائشة فقالت: فَعلَ الله بلك وفَعَل! وضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! ولَحِق بعليّ وقال في ذلك شعراً:

سألت ابن طلحة عن هالك

بجوف المدينة لم يُقبرَ

فقال: ثلاثةُ رَهْط هُمُ

أماتوا ابنَ عفّانَ، واستعبر

فثلث على تلك في خدرها

وأخطأتَ في الثالث الأزهر(١)

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٢ - ٤٨٣، الاشتقاق: ١٤٥. =

٤٦٢

فقلتُ: صَدَقتَ على الأوّلَيْن

وثلثٌ علي راكب الأحَمر

- عن الزهريّ قال: لمّا قدم طلحة والزبير البصرة أتاهما عبد الله بن حكيم التميميّ بكتب كتبها طلحة إليهم يؤلّبهم فيها على عثمان، فقال له حكيم: أتعرف هذه الكتب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على التأليب أمس والطلب بدمه اليوم؟ فقال: لم أجد في أمر عثمان شيئاً إلاّ التوبة والطلب بدمه.(١)

التأهّب للقتال:

وتأهّبوا للقتال، فقام طلحة والزبير خطيبين وزعما أنّهما لم يريدا قتل عثمان... فقال الناس لطلحة: يا أبا محمّد، قد كانت كتبُك تأتينا بغير هذا! فقال الزبير: فهل جاءكم منّي كتاب في شأنه؟ ثمّ ذكر قتل عثمان... وأظهر عيب عليّ! فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: يا معشر المهاجرين، أنتم أوّل من أجاب رسول الله، فكان لكم بذلك فضل، ثمّ دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلمّا توفّي رسول الله بايعتم رجلاً منكم، والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك، فرضينا واتّبعناكم. ثمّ مات واستخلف عليكم رجلاً منكم، فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلّمنا، فلمّا توفّي الأمير جعل الأمر إلى ستّة نفر، فاخترتم عثمان

____________________

= وهي وثيقة صادقة تضاف إلى ما سبق وما يأتي أن القتلة هم أصحاب الجمل لأنّها صادرة من رجل لصيق بالأحداث هو ابن طلحة وإن كذب في بعضها إذ أضاف عليّاً إلى القتلة! ممّا حمل الفتى على مغادرة عسكرهم والانضمام إلى معسكر عليّعليه‌السلام .

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٨.

فأمّا التوبة فنعم وأمّا طلب الدم فليبداً بنفسه ومن معه من القتلة!

٤٦٣

وبايعتموه من غير مشورة منّا، ثمّ أنكرتم من ذلك الرجل شيئاً فقتلتموه من غير مشورة منّا، ثمّ بايعتم علياً من غير مشورة منّا، فما الذي نقمتم عليه فناقتله؟ هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحقّ أو عمل شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلاّ فما هذا؟! فهمّوا بقتله، فقام من دونه عشيرته، فلمّا كان من الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه فقتلوا سبعين رجلاً.(١)

وزحف إليهم عثمان بن حُنيف فقاتلهم أشدّ القتال، فكثُرت بينهم القتلى وفشَت الجراح. ثمّ إنّهم تداعَوا إلى الصُّلح فكتبوا بينهم كتاباً بالموادعة إلى قدوم عليّ، على أن لا يعرض بعضهم لبعض في سوق ولا مشَرعة، وأنّ لعثمان بن حُنيف دار الإمارة وبيت المال والمسجد. فلمّا كان في بعض الليالي بيّتوا عثمان ابن حُنيف وهو يصلّي بالناس العشاء الآخرة، فأسَروه وأمرت عائشة بقتله! ثمّ إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مُخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنيف وغيره من الأنصار. فاكتفوا بضربه وحلقوا رأسه ونتفوا لحيته وشاربيه وأشفار عينيه، ثمّ حبسوه. وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزّان والموكّلون به وهم السَّبابجة، فقُتل من أولئك السبابجة سبعون رجلاً غير مَن جُرح، ضُربت أعناق سبعين منهم صبراً من بعد الأسر، وهم أوّل من قُتل ظلماً في الإسلام وصبراً، وقتلوا رئيسهم أبا سلمة الزطّيّ، وكان عبداً صالحاً.

وركب حكيم بن جبلة العبديّ، معه إخوته: الرّعل والأشراف ابنا جَبَلة، في

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٦، وأنساب الأشراف، موجزاً ماذا قال الرجل إلاّ أنّه احتجّ عليهم بما هو حقّ، فعمد طلاب الصلح - كذا! - إلى قتله وسبعين رجلاً ؛ فما لكم كيف تحكمون!

٤٦٤

ثلاثمائة فارس، فطلب من طلحة والزّبير أن يحلاّ عثمان بن حُنيف ويرجع إلى دار الإمارة وبيت المال، فأبوا عليه ذلك ووقع القتال، فقتل حكيم وإخوته، وقُتل من قوم حكيم سبعون رجلاً. وهذا هو يوم الجمل الصغير ؛ وكانت الوقعة لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ستّ وثلاثين.(١)

التزاحم على الإمامة:

بعد قتل من قُتل، تدافع الزبير وطلحة في الصلاة!! وكانا بويعا أميرين غير خليفتين... ثمّ اتّفقا أن يصلّي هذا يوماً وهذا يوماً.

وأراد الزبير أن يعطي الناس أرزاقهم فقال عبد الله ابنه: إن ارتزقوا تفرّقوا! واصطلحوا على عبد الرحمان بن أبي بكر فصيّروه على بيت المال.(٢)

وعن عوف الأعرابيّ قال: جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما بالمسجد في البصرة فقال: نشدتكما بالله في مسيركما، أعَهِد إليكما فيه رسولُ الله شيئاً؟ فقام

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٦ - ٢٨، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٦ - ٤٩١، الفتوح ٢: ٢٨٩ - ٢٩٠، مروج الذهب ٢: ٣٥٨.

أيّ قوم هؤلاء الذين ينافح عنهم ابن تيميه! فهم غُدَّر يأسرون رجلاً بعد صلح وهو في حال صلاة! وعائشة تأمر بقتله، ولو لا خيفتهم على أهلهم بالمدينة لقتلوه ؛ فاكتفوا بما فعلوا به...

وكما أحدثوا أوّل حدث في الإسلام وهو شهادة الزّور، فقد أحدثوا أوّل حدث وهو قتل سبعين أسيراً مسلماً ظلماً وصبراً!!

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٧ - ٦٩، الفتوح ٣: ٢٩٠، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٩٠ - ٤٩١، مروج الذهب ٢: ٣٥٨.

٤٦٥

طلحة ولم يُجبه، فناشد الزبير فقال: لا، ولكن بَلَغنا أنّ عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها.(١)

عن أبي عمرة مولى الزبير قال: لمّا بايع أهل البصرة الزبير وطلحة قال الزبير: ألا ألف فارس أسيرُ بهم إلى عليّ، فإمّا بيَّتُّه وإمّا صبّحتُه لَعَلّي أقتله قبل أن يصلَ ألينا! فَلم يُجبه أحد، فقال: إنّ هذه لهي الفتنة التي كنّا نُحدَّث عنها! فقال له مولاه: أتسمّيها فتنةً وتُقاتل فيها؟! قال: وَيْحَك إنّا نُبصِر ولا نبصُر، ما كان أمرٌ قطّ إلاّ علمتُ موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ؛ فإنّي لا أدري أمُقبِل أنا فيه أم مُدبِر!(٢)

وعن عبد الله بن مصعب قال: أخبرني موسى بن عقبة قال: سمعت علقمة ابن وقّاص الليثي قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها وهو ضاربٌ بلحيته على زَوْره - أي أعلى صدره - فقلت له: يا أبا محمّد، أرى أحبّ المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على زَورك، إن كرهت شيئاً فاجلس. قال: يا علقمة، بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً. إنّه كان منّي في شيء ليست

____________________

(١) المصنّف لابن ابي شيبة ٧: ٥٤٤ / ٣٧٧٥. فحركة القوم وكلّ حرف صدر منهم محض باطل، فطلحة والزبير أميران! وكلّما كانت صلاة تشاحّا على الإمامة، وليس فيهما أهل للأمانة على بيت المال، والزبير جاء طالب دراهم...!

(٢) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٩٢. وثيقة إدانة تتبع أختها، فمن قبل بيّتوا ابن حنيف وهو في الصلاة... وها هو يريد تبيت عليّعليه‌السلام فلمّا لم يتمّ له ما أراد أقرّ أنّه في الفتنة سقط، فهلاً استنفذ نفسه منها؟!

٤٦٦

توبتي إلاّ أن يُسفَك دمي في طلب دمه!(١)

مسير أمير المؤمنين إلى العراق:

بلغ أمير المؤمنينعليه‌السلام ما أحدث البغاة النّاكثون من قتلهم السّبابجة وحكيم ابن جبلة وأصحابه، وما فعلوه بعثمان بن حُنيف ؛ فسار في سبعمائة من المهاجرين والأنصار منهم سبعون بدريّاً، واستخلف على المدينة سهل بن حُنيف.

وبعثعليه‌السلام ابنه الحسن، وعمّار بن ياسر، إلى الكوفة، فخطبا الناس، فنفر معهما من أهل الكوفة تسعة آلاف، وانضمّ إليهم أهل المدينة والحجاز وأهل مصر... ونزلوا الموضع المعروف بالزاوية. فكانوا تسعة عشر ألف من فارس وراجل، فصلّىعليه‌السلام أربع ركعات، وعفّر خدّيه بالتراب، وقد خالط ذلك دموعه، ثمّ رفع يديه يدعو: «اللّهمّ ربَّ السماوات وما أظلّت، والأرضين وما أقلّت، وربَّ العرش العظيم ؛ هذه البصرة أسألك من خيرها، وأعوذ بك من شرّها. اللّهمّ أنزِلنا منها خير منزلٍ، وأنت خير المُنزِلين. اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم خلعوا طاعتي وبغَوا عليّ ونكثوا بيعتي، اللّهم احقن دماء المسلمين».

وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء وقال: علامَ تقاتلونني؟ فأبَوا إلاّ

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٩٢، المستدرك على الصحيحين ٣: ٤١٩ / ٥٥٩٥ وقال في التلخيص: سنده جيّد.

فهذا طلحة يقرّ على نفسه بما كان منه بشأن عثمان ولا يرى كفّارة ذنبه هذا إلاّ أن يسفك دمه، فهلاّ ذبح نفسه فأراح العباد من فتنة عظيمة...؟!

٤٦٧

الحرب.

تعبئة أمير المؤمنين

عبّأ أمير المؤمنينعليه‌السلام عسكره، فكان على خيل ميمنته عمّار بن ياسر، وعلى الرجّالة شُريح بن هانئ، وعلى خيل الميسرة سعيد بن قيس الهمدانيّ، وعلى رجّالتها عَديّ بن حاتم الطائيّ، وعلى خيل الجناح زياد بن كعب الأرحَبيّ، وعلى رجّالتها حجر بن عديّ الكنديّ، وعلى خيل الكمين عَمرو بن الحَمِق الخزاعيّ، وعلى رجّالتها جُندب بن زهير الأزديّ ؛ وأعطى رايته العظمى ابنه محمّد ابن الحنفية. ثمّ جعل على كلّ قبيلة سيّداً من ساداتهم يرجعون إليه في أمورهم ؛ فكان خزيمة بن ثابت الأنصاريّ ذو الشهادتين معه راية، وأبو أيّوب الأنصاريّ معه راية، وقيس بن سعد بن عُبادة معه راية، وأبو قتادة النّعمان بن ربعيّ الأنصاري معه راية، وعبد الله بن العبّاس معه لواء، وعبيد الله بن العبّاس معه راية. وتقدّم الجميع أمير المؤمنين، عن يمينه ولده الحسن، وعن شماله ولده الحسين، وبين يديه ولده محمّد ابن الحنفيّة، وخلفه عبد الله بن جعفر الطيّار ومشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار.

هذه هي تركيبة جيش عليّعليه‌السلام ، ليس فيها طليق ولا لصيق، ولا خائن أمانة ولا مزوّر شهادة ولا ناكث بيعة، ولا طالب دراهم، ولا دعيّ ولا مجهول النّسب...

٤٦٨

مبدأ عليّ في القتال

إنّ مبدأ عليّعليه‌السلام ، في كلّ حروبه: أن لا يبدأ قوماً بقتال. عن جويرية بن أسماء، عن يحيى بن سعيد، قال: حدّثني عمّي قال: لمّا كان يوم الجمل نادى عليّ في النّاس: لا ترموا أحداً بسهم ولا تطعنوا برمح ولا تضربوا بسيف ولا تطلبوا القوم ؛ فإنّ هذا مقام من أفلح فيه فلح يوم القيامة.

قال: ثمّ إنّ القوم قالوا بأجمع: يا ثارات عثمان! فمدّ عليّ يديه وقال: اللّهم أكبّ قتلة عثمان اليوم بوجوههم.

ثمّ إنّ الزبير قال للأساورة كانوا معه: ارموهم برشق، وكأنّه أراد أن ينشب القتال، فلمّا نظر أصحابه إلى الانتشاب لم ينتظروا وحملوا، فهزمهم الله ورمى مروانُ بن الحكم طلحةَ بن عبيد الله بسهم فشكّ ساقه بجنب فرسه، فقبض به الفرس حتّى لحقه فذبحه، فالتفت مروان إلى أبان بن عثمان وهو معه فقال: لقد كفيتك أحدَ قتلَةِ أبيك!(١)

زيادة بيان:

«أمر أميرُ المؤمنينعليه‌السلام أصحابه أن يصافّوهم ولا يبدأوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح، وأن لا يُجهزوا على جريح ولا يُمثّلوا بقتيل، ولا يدخلوا داراً بغير إذن ولا يشتموا أحداً ولا يلحقوا مُدبراً ولا يَهيجوا امرأة، ولا يأخذوا إلاّ ما في عسكرهم، ولا يكشفوا عورة، ولا يهتكوا

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣: ٤١٨ / ٥٥٩٣.

٤٦٩

ستراً.

ثمّ دعا عليّ بالدرع فأفرغه عليه وتقلّد بسيفه واعتجر بعمامته واستوى على بغلة رسول الله...

ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف فقالت: انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله يوم بدر، أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوالَ الشمس. فقالعليه‌السلام : يا عائشة، «عَمّا قَلِيلٍ لّيُصْبِحُنّ نَادِمِينَ »(١) .

ثمّ قال لأصحابه: أيّكم يَعرِض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قُطِعت يده أخذه بيده الأخرى، وإن قُطِعت أخذه بأسنانه؟! قال فتى شابّ يقال له: مسلم المجاشعيّ من تميم: أنا ؛ فقال له أمير المؤمنين: أعرض عليهم هذا، وقل لهم: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم. فحمل الفتى وفي يده المصحف فقُطعت يداه فأخذه بأسنانه حتّى قُتل. فقالت أُمّه:

يا ربّ، إنّ مسلماً دعاهُم

يتلو كتاب الله لا يخشاهُم

فَرَمَّلُوه رُمِّلت لحاهُم!

ورمى أصحابُ الجمل أصحاب أمير المؤمنين، فعقروا منهم جماعة، ثمّ جيء برجل من أصحابه من الميمنة قد رُمي بسهم فقُتل، فقالعليه‌السلام : اللّهم اشهد. ثمّ أذن بالقتال وهو يقول: الآنطاب الضِّراب. ثمّ دفع رايته إلى ابنه محمّد ابن الحنفيّة وقال: تقدّم يا بنيّ فتقدّم محمّد فطعن في أصحاب الجمل طعناً منكراً وأمير المؤمنين ينظر، فأعجبه ما رأى من فعاله فجعل يقول:

____________________

(١) المؤمنون: ٤٠.

٤٧٠

اطعن بها طَعْنَ أبيك تُحمَدِ

لا خيرَ في الحرب إذا لم تُوقَدِ

فقاتل ساعةً ثمّ رجع، وحمل أصحاب الجمل على ميمنة أمير المؤمنين وميسرته فكشفوها، فأتاه بعض ولد عقيل وأمير المؤمنين يخفِق نعاساً على قربوس سرجه، فقال له: يا عمّ، قد بَلَغَت ميمنتك وميسرتك حيث ترى، وأنت تَخفِق نعاساً؟ قال: اسكت يا ابن أخي ؛ فإنّ لعمّك يوماً لا يَعدوه، والله ما يبالي عمُّك وقع على الموت أو وقع الموت عليه. ثمّ ضرب بيده إلى سيفه فاستلّه، وأخذ الراية من ولده محمّد وحمل، وحمل معه الناس فما زال يضرب فيهم يميناً وشمالاً ثمّ رجع وقد انحنى سيفه، فجعل يسوّيه بركبته... ثمّ حمل ثانية حتّى اختلط بهم، فجعل يضرب فيهم قُدماً حتّى انحنى سيفه، ثمّ رجع إلى أصحابه وهو يقول: «والله ما أريد بذلك إلاّ وجه الله والدار الآخرة».

وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضَبّة، وجعل بنوضبّة يأخذون بَعْرَ الجمل فيفتّونه ويشمّونه ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى بعر جمل أمّنا كأنّه المسك الأذفر!!

وعرقب جماعة من عسكر أمير المؤمنين الجمَل فوقع لجنبه... فبادر إليها محمّد بن أبي بكر، بأمر أمير المؤمنين لمواراتها... وجاء عليّعليه‌السلام فقال: يا عائشة، رسول الله أمرك بهذا؟! ألم يأمرك أن تقرّي في بيتك؟! والله ما أنصفك الذين أخرجوك ؛ إذ صانوا عقائلهم وأبرزوك! فقالت: قد ظفرت فأحسن. فأمر أخاها محمّداً أن يحملها ويدخلها البصرة ولا يدع أحداً يقترب منها، فحملها فأدخلها بيت صفيّة بنت طلحة العبديّ.

٤٧١

وبعد الوقعة نادى أمير المؤمنين في أصحابه: «لا تتّبعوا مولّياً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنتهبوا مالاً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».

وكانت وقعة الجمل يوم الخميس لعشر ليالٍ خلون من جُمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين. قُتل فيها من أصحاب أمير المؤمنين ألف وسبعون شهيداً، وهلك من أصحاب الجمل عشرون ألفاً.

وقُتل من وجوه أصحاب الجمل: طلحة بن عبيد الله التّيميّ، وابنه محمّد.

وقُتل الزبير بن العوّام، وجُرح ابنُه عبد الله جراحاتٍ بليغة، وجُرح مروان.

وطلحة ابن عمّ أبي بكر وزوج ابنته أمّ كلثوم بنت أبي بكر.

وكانت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عند عبد الله بن عبد الرحمان بن أبي بكر، وقد خلف عليها مصعب بن الزبير بن العوّام. وكان الزبير صهر أبي بكر، زوجته أسماء بنت أبي بكر، وولده منها عبد الله بن الزبير. ومروان بن الحكم بن العاص ابن عمّ عثمان وزوج ابنته أمّ أبان بنت عثمان بن عفّان.

فأمّا طلحة فإنّ مروان بن الحكم لمّا وقعت الهزيمة وفرّ أتباع الجمل، سدّد سهماً أصاب قدم طلحة. وقيل: إنّ عبد الملك بن مروان جرح طلحة في جبهته، ورماه مروان بسهمه وقال: لا أطلب بثأري في عثمان بعد اليوم أبداً!

وكان عثمان قد خيّب آمال طلحة والزبير وحرمهما من ولاية الكوفة والبصرة، فتسخّطاه، وكانا فيمن كتب إليه يذكرون له عيوبه. وحين اشتدّ الأمر

٤٧٢

على عثمان كان طلحة والزبير قد استوليا على الأمر.(١)

وكانا في القوم الذين حصروه، وقد أشرف عليهم عثمان من جدار داره ثمّ قال: هل فيكم عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: لا، فسكت ونزل. وبلغ ذلك عليّاً وهو في منزله، فأرسل إليه غلامه قنبر...، فجاء قنبر إلى عثمان ثمّ قال: إنّ مولاي يقول لك: ما الذي تريد؟ فقال عثمان: أردته أن يوجّه إليّ بشيء من الماء ؛ فإنّي قد مُنِعْتُه وقد أضرّ بي العطش وبَمن معي! فرجع قنبر إلى عليّ فأخبره بذلك، فأرسل إليه عليّ ثلاث قِرَب من الماء مع نفرٍ من بني هاشم، فلم يتعرّض لهم أحد حتّى دخلوا على عثمان، فأوصلوا إليه الماء...

ثم أقبل عثمان حتّى أشرف على الناس ثانية فسلّم عليهم فردّوا عليه سلاماً ضعيفاً، فقال أفيكم طلحة؟ قال: نعم ها أنا ذا، فقال عثمان: سبحان الله! ما كنتُ أظنّ أن أسلّم على جماعة أنت فيهم ولا تردّ عليّ السلام! ثمّ قال: أهاهنا سعد بن أبي وقّاص؟ أهاهنا الزبير بن العوّام؟ فقالا: نعم نحن هاهنا، فقل ما تشاء. فراح يناشدهم الله ويذكّرهم بمناقبه وأنّه لا يجوز لهم قتله، فسمع صوتاً يهدّد بقتله.(٢)

وذكر البلاذري أنّ طلحة منع أن يدخل الماء العذب على عثمان، فأرسل عليّ إلى طلحة أن دَع هذا الرجل فليشرب من مائه ومن بئره ولا تقتلوه من

____________________

(١) أنساب الأشراف ٦: ٢١١.

(٢) الفتوح ٢: ٢١٩ - ٢٢٢، مروج الذهب ٢: ٣٤٤.

٤٧٣

العطش، فأبى.(١)

وبعث أمير المؤمنين ولديه الحسن والحسين مع مواليه للدفع عن عثمان، وجُرح الحسن وشُجّ قنبر. فلمّا علمعليه‌السلام بمقتل عثمان غضب، فقال له طلحة: لو دفع إليهم مروان ما قتل.(٢)

وبذا يتّضح العداء الخفيّ بين طلحة ومروان: فطلحة محرّض على عثمان، فلمّا قُتل عثمان صار محرّضاً على مروان! ثم جمعهم الشيطان ليطالبوا بدم عثمان، فلمّا كانت الهزيمة قتل مروان رفيقه طلحة!!

مزيد بيان في أمر مروان:

إنّ قول طلحة لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لو دفع عثمان إليهم مروان ما قتل، ذلك أنّ مروان كان أحد الأسباب المهمّة(٣) في إثارة الفتنة ومسير أهل الأقاليم من مصر والعراق...

احتجاجاً على الأحداث التي صارت أيام عثمان وانتهت بمقتله. ولم يكن عند عثمان أحد يفزع إليه ويثق به إلاّ عليّ! ولذا لمّا علم بنزول الثوّار بذي خشب بعث إلى الإمام عليّعليه‌السلام وسأله أن يخرج إليهم ويضمن لهم عنه كلّ ما يريدون من العدل وحسن السّيرة، فسار عليّ إليهم، فأجابوه إلى ما أراد

____________________

(١) أنساب الأشراف ٦: ٢١١.

(٢) مروج الذهب ٢: ٣٤٥.

(٣) لم نتعرّض لأسباب ثورة الأقاليم على عثمان إذ يطول شرحها.

٤٧٤

وانصرفوا، فبينما هم في الطريق إذا غلام عثمان مقبل من قبل المدينة، فقرّروه فأقرّ وأظهر كتاباً إلى ابن أبي سرح صاحب مصر وفيه: «إذا قدم عليك الجيش فاقطع يد فلان، واقتل فلاناً وافعل بفلان كذا...».(١)

وعلم القوم أنّ الكتاب بخطّ مروان، فرجعوا إلى المدينة. فمروان أحد قتلة عثمان! من لون آخر ؛ فعائشة وطلحة والزبير من أشدّ المؤلّبين على عثمان، ومروان يلعب بعثمان ويقلب المواقف ويضيّع جهود أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في إطفاء الفتنة. عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: لمّا حصر عثمان الحصر الآخر فلقيهم الآخر فلقيهم عليّ بذي خشب فردّهم عنه، وقد كان والله عليٌّ له صاحب صدق، حتى أوغر نفس عليّ عليه، جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على عليّ فيتحمل ويقولون: لو شاء ما كلّمك أحد وذلك أنّ عليّاً كان يكلّمه وينصحه ويُغلِظ عليه في المنطق في مروان وذويه، فيقولون لعثمان: هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمّه، فما ظنّك بما غاب عنك منه؟!(٢)

ولم يتغيّر موقف الإمام عليّعليه‌السلام من نصرته لعثمان في حياته عنه بعد مماته! إذ لمّا قُتل عثمان، فرّ بنو أميّة ومعهم مروان و «خرج به ناس يسير من أهله يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له «حشّ كوكب» كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلمّا خرج على الناس رجموا سريره وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك عليّاً

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٤٤.

(٢) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٣٣ - ٤٣٤.

٤٧٥

فأرسل إليهم يعزم عليهم لَيكفُنّ عنه ففعلوا، فدفن في حشّ كوكب».(١)

تفويت عثمان الأمر على طلحة:

ولمّا أدرك عثمان حقيقة الناس وأنّه مقتول لا محال، سعى إلى تفويت الفرصة على عائشة وطلحة «وكان طلحة قد استولى على حصار عثمان مع نفر من بني تيم - قوم عائشة وطلحة - وبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى عليّ:

فإن كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكل

وإلاّ فأدركني ولما أُمَزَّق

أترضى أن يُقتل ابن عمّتك وتُسلب ملكك - ويُسلب نعمتك وأمرك -؟ فقال عليّ: صدق والله، لا نترك ابن الحضرميّة يأكلها، يعني طلحة.

ثمّ خرج عليّ إلى الناس فصلّى بهم صلاة الظهر والعصر، وتفرّق الناس عن طلحة، ومالوا إلى عليّ. فلمّا رأى طلحة ذلك أقبل حتّى دخل على عثمان فاعتذر إليه ممّا كان منه! فقال له عثمان: يا ابن الحضرميّة، وألبّت عليّ الناس ودعوتهم إلى قتلي، حتى إذا فاتك ما كنت ترجو وعلاك عليّ على الأمر جئتني معتذراً! لا قَبِل الله ممّن قَبِل منك.(٢)

فعاد طلحة إلى التأليب على عثمان، فلَمّا قُتل بايع عليّاًعليه‌السلام ، ثمّ نكث وغدر فلم يُصب من دنياه إلاّ سهم مروان!

وكان عبد الملك بن مروان يقول: لو لا أنّ أمير المؤمنين - كذا! أخبرني أنّه

____________________

(١) نفسه: ٤٣٨.

(٢) أنساب الأشراف ٦: ١٩٦ و ٢١٢، الفتوح ٢: ٢٢٩.

٤٧٦

هو الذي قتل طلحة ما تركتُ من ولد طلحة أحداً إلاّ قتلتهُ بعثمان بن عفان.(١)

أخبار الزبير وروايات مقتله:

كتب معاوية إلى الزبير يخدعه: «أن أقبِل إليَّ أبايعْك ومَن يَحضُرني»، فكتم ذلك طلحة وعائشة، ثمّ بلغهما فكُبر ذلك عليهما، وأخبرت عائشة به ابن الزبير، فقال لأبيه: أتريد أن تلحق بمعاوية؟ فقال: نعم، ولِمَ لا أفعل وابن الحضرميّة ينازعني في الأمر؟! ثمّ بدا له في ذلك.(٢)

فالزبير على أُهْبة أن يتخلّى عن عسكر الناكثين فينضمّ إلى القاسطين وليس في الأمرين إلاّ الطّمع في الإمرة الّتي قُتل دونها.

والرّوايات صريحة في مقتل الزبير في ساحة المعركة:

عن الزّهري قال: خرج عليّ على فرسه فدعا الزبير فتواقفا، فقال له عليّ: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً و لا أولى به منّا! فقال عليّ: لست له أهلاً بعد عثمان؟!

قد كنّا نَعُدّك من بني عبد المطّلب حتّى بلغ ابنُك ابنُ السوء ففرّق بيننا وبينك. وعظّم عليه أشياء فذكر أن النبيّ مرّ عليهما فقال لعليّ: «ما يقول ابن عمّتك؟ لَيُقاتلنّك وهو لك ظالم». فانصرف عنه الزبير وقال: إنّي لا أقاتلك. ورجع إلى ابنه عبد الله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنّك خرجت

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٦: ٢٢٣.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٥٣.

٤٧٧

على بصيرة ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفتَ أنّ تحتها الموت فجبُنتَ! فأحفَظه ذلك حتّى أرعد وغضب وقال: ويحك! إنّي حلفت له ألاّ أقاتله ؛ فقال له ابنه: كفّر عن يمينك غلامك سرجس، فأعتَقَه وقام في الصفّ.(١)

وذكره الحاكم من طرق عدّة جميعاً عن أبي حرب بن أبي الأسود الديليّ قال: شهدتُ عليّاً والزبير لمّا رجع الزبير على دابّته يشقّ الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله فقال: ما لك؟ فقال: ذكر لي عليٌّ حديثاً سمعته من رسول الله يقول: «لَتُقاتلنّه وأنت له ظالم» فلا أُقاتله. قال: وللقتال جئت، إنّما جئت لتصلح بين الناس ويصلح الله هذا الأمر بك. قال: قد حلفت أن لا أقاتل، قال: فأعتق غلامك جرجس وقف حتّى تُصلح بين الناس، فأعتق غلامه جرجس.(٢)

وعن قتادة: خرج عليّ إلى طلحة والزبير، فدنا منهما حتّى اختلفت أعناق دوابّهما، فقال عليّ: لعمري لقد أعددتما خيلاً وسلاحاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فأتّقيا الله سبحانه ولا تكونا كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثاً. ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دماءكما؟! فهل من حدثٍ أحلّ لكما دمي؟! قال طلحة: ألّبت الناس على: عثمان!! قال عليّ( يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقّ وَيَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ الْمُبِينُ ) (٣) يا طلحة، تطلب بدم عثمان؟! فلعن الله قَتَلَة عثمان!

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٥٣، تاريخ الطبريّ ٣: ٥١٩ - ٥٢٠.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣: ٤١٣ / ٥٥٧٥، والتلخيص للذهبيّ.

(٣) النور: ٢٥.

٤٧٨

يا زبير، أتذكر يومَ مررتُ مع رسول الله في بني غنم فضحك وضحكت إليه فقلتَ: لا يدَعُ ابن أبي طالب زَهوَه! فقال لك رسول الله: «صَهْ! إنّه ليس به زهو، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم»؟!

فقال: اللّهمّ نعم: ولو ذكرتُ ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً. فانصرف عليّ إلى أصحابه ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلاّ وأنا أعرف فيه أمري، غيرَ موطني هذا. قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب، فقال له ابنه عبد الله: جمعتَ بين هذين الغارّين حتّى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! أحسستَ رايات ابن أبي طالب وعلمتَ أنّها تحملها فتية أنجاد! قال: إنّي قد حلفت ألاّ أقاتله وأحفَظه ما قال له، فقال: كفِّرْ عن يمينك وقاتِلْه. فدعا بغلام له يقال له مكحول، فأعتقه، فقال عبد الرحمان بن سليمان التميميّ:

لم أرَ كاليوم أخا إخوانِ

أعجب من مُكَفِّرِ الأيمانِ

بالعِتق في معصية الرحمانِ!

وقال رجل من شعرائهم:

يُعتقُ مكحولاً لصونِ دينه

كفّارةً لله عن يمينه

والنّكث قد لاح على جبينه!(١)

فلكنث والخروج على إمامه وإراقة الدماء، مع ما قاله له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٥١٤.

٤٧٩

يقاتل عليّاً ظالماً له، والأحاديث في ذلك أوفر ممّا ذكرنا... كلّ ذلك والزبير وطلحة وصاحبة الجمل طالبو إصلاح؟!

دَورُ ابن عوف في قتل عثمان:

لم يكن عبد الرحمان بن عوف بمنأى عن الأحداث، وإنّما له دور واضح في قتل عثمان! هذا على الرغم من أنّه هو الذي اختار عثمان بن عفّان من بين الستّة نفر الذين عيّنهم عمر بن الخطّاب لاختيار الخليفة بعده، على أن ينظُر في حال الاختلاف إلى الصفّ الذي فيه ابن عوف فيؤخذ كلامه. وقد أثرى عبد الرحمان إثراءً لا مثيل له في حاكميّة عثمان، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعه من الإنكار على عثمان والتأليب عليه، وكان قد حلف أن لا يكلّم عثمان أبداً. وذُكِر عثمان عند عبد الرحمان بن عوف في مرضه الذي مات فيه فقال عبد الرحمان: عاجلوه قبل أن يتمادى في مُلكه! فبلغ ذلك عثمان، فبعث إلى بئر كان يُسقى منها نَعَمُ «*» عبد الرحمان بن عوف فمنعه إيّاها. وأوصى عبد الرحمان بن عوف أن لا يُصلّيَ عليه عثمان، فصلّى عليه الزبير، أو سعد بن أبي وقّاص.(١)

هذا هو حال عبد الرحمان بن عوف الزهريّ أحد أصحاب الشورى وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة! لم يختلف عن رفاقه: سعد بن أبي وقّاص، وطلحة والزبير ؛ في مقاطعة عثمان والتأليب عليه والسعي في قتله، تُعينهم وتقودهم أمّ

____________________

(*) أي إبله.

(١) أنساب الأشراف ٦: ١٧٠ - ١٧١.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492