أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)0%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف: السيد علي الحسيني الصدر
تصنيف:

الصفحات: 243
المشاهدات: 45619
تحميل: 4814

توضيحات:

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45619 / تحميل: 4814
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

هذا هو التلوّن والتزلزل، وعدم سكون الريح.

تلوّنٌ فظيع يجرّ إلى الكفر والارتداد، لأنّه إنكارٌ للحقّ بعد معرفته، وبغيٌ على الإمام بعد معرفة لزوم مودّته.

وقد رُوي أنّه سأله الأصبغ بن بناتة في محضر معاوية فقال له: ـ

يا صاحب رسول الله، إنّي احلفك بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، وبحقّ حبيبه محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله إلّا أخبرتني:

أشهدتَ غديرَ خمّ؟

قال أبو هريرة: بلى شهدته.

فقال الأصبغ: فما سمعته يقول في عليّ عليه السلام؟

قال أبو هريرة: سمعته يقول: مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللَّهُمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مِن نصره، واخذُل من خذله.

فقال له الأصبغ: فأنت إذاً واليت عدوّه، وعاديت وليّه.

فتنفّس أبو هريرة الصعداء، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون (1) .

ومن عجيب التلوّن والتزلزل وعدم الثبات تزلزل الزبير بن العوّام ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وابن عمّة أمير المؤمنين عليه السلام، لذي هو عبرة لمن اعتبر ودرسٌ لمن تدبّر.

حيث إنّه بعد سابقة إيمانه، وخدمته، وولائه لعليّ عليه السلام، أصبح محارباً له وباغياً عليه، ومؤجّجاً لفتنة الجمل والعمل الأرذل (2) .

فالصحيح الحقّ، والخُلق الأليق، أن يكون إيمان المرء ثابتاً مستقرّاً، ويكون في حياته ساكناً، غير متزلزل.

__________________

(1) لاحظ السفينة / ج 8 / ص 672، وتلاحظ لمزيد معرفة حاله ووضاعته كتب الرجال.

(2) راجع سفينة البحار / ج 3 / ص 444.

١٨١

والمطلوب هو الإيمان المستقرّ الذي أشار إليه قوله عزّ اسمه: ـ

( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) (1) .

ويتحقّق ذلك في الإنسان بعون الله تعالى، وببركة أهل البيت عليهم السلام بملازمتهم وعدم مفارقتهم.

ففي حديث الإمام الرضا عليه السلام: ـ «مَن لزَمناه لزمناه، ومَن فارقنا فارقناه» (2) .

والمؤمن الحقيقي ثابت القدم في إيمانه، ومتصلّبٌ في عقيدته.

قال عزّ اسمه: ـ ( يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ ) (3) .

وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام: ـ (المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يُستقلّ منه، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء) (4) .

__________________

(1) سورة الأنعام: الآية 98.

(2) وسائل الشيعة / ج 18 / ص 92 / باب 10 / ح 13.

(3) سورة إبراهيم: الآية 27.

(4) اُصول الكافي / ج 2 / ص 189.

١٨٢

(11)

وطيب المخالقة

المخالقة: مفاعلة من الخُلق بضمّتين، يعني: المعاشرة.

يُقال: خالَقَ القوم أي عاشرهم بخلق حَسَن.

فتكون المخالقة هنا بمعنى المعاشرة مع الناس.

والطيب: هو الحسن الذاتي، ويُطلق على ما هو طيّبٌ واقعاً وذاتاً، لذلك يطلق على العطور بأنّها طيب، ولا يقال للشيء المعطّر بأنّها طيب، بل يقال: إنّه مطيّب.

وفيها نحن فيه المعاشرة مع الناس قد تكون بسجيّة طيّبة، وقد تكون بسجيّة غير طيّبة.

وفي هذا الدّعاء الشريف عبّر الإمام عليه السلام بطيب المخالقة، ولم يقل حسن المخالقة، إشارة إلى طلب السجيّة الطيّبة الذاتيّة الواقعيّة، والعلاقة الودّية الحقيقيّة، فهي التي تكون حلية الصالحين، وزينة المتّقين.

دون العلاقة الحسنة الظاهريّة، التي قد تكون مراوغة وحيلة إذا لم تطابق قلب الإنسان وباطنه..

فإنّك ترى أنّه قد يعاشر أحدٌ مع شخصٍ، فيُحسن في معاشرته ويضاحكه

١٨٣

ويمازحه ويلاطفه بلسانه، مراوغةً مصانعةً، لا حقيقة، وهذه مخالقة غير طيّبة، بل غير حسنة كما هو المنقول عن شريح القاضي الذي ضُرب به المثل في مراوغاته ومصانعاته فقيل:

(شريح أدهى من الثعلب).

في قضيّةٍ ينقلها الشعبي، وجاء ذكره في كتاب الدميري (1) .

فالطيب من المخالقة هي التي تكون حقيقيّة واقعيّة، ويستمرّ عليها حتّى تصير سجيّة ذاتيّة، وهي المطلوبة في الدعاء الشريف.

والاُسوة والقدوة في المخالقة والمعاشرة الطيّبة مع الناس هم أهل البيت عليهم السلام الذين طابت معاشراتهم مع الناس في جيميع أدوار حياتهم، في حكومتهم وغير حكومتهم، مع أصحابهم وغير أصحابهم، مع أوليائهم وأعدائهم، حتّى مع خدّامهم.

كانت معاشراتهم معهم طيّبة حقيقيّة، وصافية صفو الماء الزلال، وصادقةً صدق الحقّ الأبلج، كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم الغرّاء، وحياتهم المباركة.

ومن أمثلة ذلك: ـ

1 ـ أمير المؤمنين عليه السلام... ذهب إلى السوق، واشترى ثوبين، أحدهما بدرهمين، والآخر بثلاث دراهم.

فأعطى الثوب ذا الثلاث دراهم لخادمه قنبر المعاشر معه، ولبس هو عليه السلام الثوب ذا الدرهمين.

2 ـ الإمام الحسين عليه السلام.. وهب بستانه لغلامه صافي، حتّى أنّه استأذن منه لدخوله هو إلى البستان.

وهبه له لكونه غلاماً شكوراً، ومُنفقاً من طعامه على كلب البُستان، فأحسن الإمام في عشرته.

__________________

(1) حياة الحيوان / ج 1 / ص 173.

١٨٤

3 ـ الإمام الصادق عليه السلام.. أبطأ عليه خادمه ونام ويم ينجز ما طلبه الإمام منه، فسار الإمام عليه السلام في طلبه فوجده نائماً، فجلس عند رأس الخادم، يروّح له بيده حتّى لا يصيبه الحرّ.

وفي برهةٍ من الزمان كان الإمام الصادق عليه السلام مبعّداً إلى الحيرة (1) من قبل المنصور الدوانيقي الذي عادى الإمام عليه السلام، محاربةً لعلمه الإلهي، ومعارضةً لحقّه الشرعي، وإغلاقاً لباب أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا الأصحاب الحقيقيّين لخلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وحين وجود الإمام الصادق عليه السلام في الحيرة كان معه خادمه المعلّى بن خنيس، وفي ليلة من تلك الليالي التي كانت من ليالي الصيف، أمر الإمام عليه السلام أن يُفرش له فراشه في الصحراء، ليكون نومه وعبادته هناك.

وأمرَ أن يُؤتى بسراجٍ ومركبٍ له وللمعلّى بن خنيس.

فجيء بسراجٍ وبغلةٍ وحمار..

فركب هو عليه السلام الحمار، وأمر المعلّى أن يركب البغل الذي هو أحسن من الحمار، فذهبوا إلى الصحراء، ثمّ ذهبوا من هناك إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، فتلاحظ طيب عشرته مع خادمه حيث فضّله على نفسه في المركب إيثاراً.

4 ـ الإمام الرضا عليه السلام.. كان يجلس على مائدة الطعام مع غلمانه وخَدَمه، وهو سلطان الدِّين والدّنيا والآخرة.

حتّى في حال مسموميّته وتألّمه لم يترك ذلك، بل كان يعاشرهم بأطيب المخالقة، وأفضل معاشرة.

__________________

(1) الحيرة: كانت بلدة على بُعد 5 كيلومترات من جنوب الكوفة كما في المنجد / ص 170.

١٨٥

وهكذا سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذين هم أشرف خلق الله تعالى، ترى أنّهم كانوا يحسنون المعاشرة الطيّبة مع جميع طبقات الخلق، ويأمرون بحسن المعاشرة، وطلاقة الوجه مع المعاشرين.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

يا بني عبد المطّلب، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فألقوهم بطلاقة الوجه، وحُسن البُشر (1) .

وفي حديثٍ آخر: ـ

صنائع المعروف، وحُسن البُشر، يكسبان المحبّة، ويُدخلان الجنّة.. والبخل وعبوس الوجه يبعّدان من الله، ويُدخلان النار (2) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: ـ

عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنّه لابدّ لكم من الناس... (3) .

وفي حديث أبي الربيع الشامي قال: ـ

دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام، والبيت غاصّ بأهله، فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق.

فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله عليه السلام وكان متّكئاً ثمّ قال: يا شيعة آل محمّد، إنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صَحِبَه، ومخالقة مَن خالقَه، ومرافقة مَن رافقَهُ، ومجاورة مَن جاورَهُ، وممالحة مَن مالحهُ.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 84.

(2) اُصول الكافي / ج 2 / ص 85.

(3) اُصول الكافي / ج 2 / ص 464.

١٨٦

يا شيعة آل محمّد، اتّقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله (1) .

فطيب المخالقة، وحسن المعاشرة مع الناس، من الصفات الكريمة، والخصال المباركة التي تجعلنا من شيعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

إذ هي من حلية الصالحين، وزينة الأتقياء..

والمتّقون الصالحون هم شيعة أهل البيت عليهم السلام.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 465.

١٨٧

١٨٨

(12)

والسَّبقِ إلى الفضيلة

السَبْق بسكون الباء هو: التقدّم...

يُقال: سَبَق إلى الشيء سبْقاً يعني: تقدّم إليه وخلَّفَ غيره.

والفضيلة: مقابل الرذيلة والنقيصة.

ومعنى الفضيلة هي الدرجة الرفيعة والمقام الرفيع.

وكذلك ما يوجب تلك الدرجة والمقام، كالإحسان إلى الخلق، وإعانة الضعيف، وكفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، والانتصار للمظلوم، وإطعام الطعام، ونشر العلم، وجهاد العدوّ، والمجاهدة مع النفس، وإتيان اُمور الخير، كلّ ذلك من موجبات الفضيلة.

والمطلوب في هذه الفقرة من الدعاء الشريف هو ما يكون من حلية الصالحين وزينة المتّقين، وهو استباقهم وحيازتهم قصب السبق في درك الفضائل، والأعمال الخيريّة التي توجب الفضيلة والدرجة الرفيعة.

والتسابق إلى مفاضل الأعمال، وصنائع الخيرات فضلٌ محبوب ومرغوب رُغّب فيه شرعاً وعقلاً، وكتاباً وسنّةً.

١٨٩

قال تعالى: ـ

( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ـ

( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (2) .

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: ـ

(مَن فُتح له بابٌ من الخير فلينتهزه، فإنّه لا يدري متى يُغلق) (3) .

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: ـ

(إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثمّ ينادي منادٍ أين أهل الفضل؟

قال: فيقوم عُنقُ من الناس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نصِلُ مَن قطَعَنا، ونُعطي مَن حَرَمنا، ونعفو عمّن ظَلَمنا.

فيُقال لهم: صدقتم، اُدخلوا الجنّة) (4) .

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام لعمّار: ـ

(يا عمّار، أنت ربُّ مالٍ كثير؟

قال: نعم، جُعلتُ فداك.

قال عليه السلام: ـ فتؤدّي ما افترض الله عليك من الزكاة؟

قال: ـ نعم.

__________________

(1) سورة المائدة: الآية 48.

(2) سورة الواقعة: الآيتان 10 و 11.

(3) ميزان الحكمة / ج 7 / ص 444.

(4) مستدرك السفينة / ج 8 / ص 233.

١٩٠

قال عليه السلام: ـ فتصِل قرابتك؟

قال: ـ نعم.

قال عليه السلام: ـ فتصِل إخوانَك؟

قال: ـ نعم.

فقال عليه السلام: ـ يا عمّار، إنّ الماي يَفنى، والبدن يَبلى، والعمل يبقى، والديّان حيٌّ لا يموت.

يا عمّار: إنّه ما قدّمت فلن يسبقك، وما أخّرتَ فلن يلحقَك) (1) .

وفي حديثه الآخر: ـ

(أيّما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) .

والمثلُ الأعلى، والقدوة الأسمى في السّبق إلى الفضائل هم أهل البيت عليهم السلام، وفيهم نزل قوله تعالى: ـ ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) » (3) .

فهم عليهم السلام سبقوا الناس في جميع الفضائل منذ أوّل خلقهم في عالم الذرّ، إلى آخر حياتهم في عالم الدُّنيا...

وهم السابقون إلى الله تعالى في الدُّنيا والآخرة..

سبقوا إلى الجواب ببلى، عند سؤاله تعالى: في الذرّ.

وسبقوا إلى الخيرات في الدُّنيا.

وسبقوا إلى الجنّة في الآخرة.

ومَن غير عليّ عليه السلام كان سبّاقاً إلى الفضائل؟!

__________________

(1) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 7.

(2) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 8.

(3) تفسير الصافي / ج 5 / ص 120، وإحقاق الحقّ / ج 3 / ص 114.

١٩١

أليس كان هو السابق إلى الإسلام، وكان إسلامه عن فطرة، وإسلام الناس عن كفر (1) ؟

ألم يكن هو السابق إلى تفدية نفسه المباركة لرسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة المبيت بين أربعمائة سيف من المشركين؟

وهل غيره سبق إلى الجهاد في سبيل الله، والجُهد في طاعة الله، والاجتهاد في عبادة الله؟

ولقد أجاد كافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام في نثره وفي شعره.

قال في النثر الذي وصف به عليّاً وذكر نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(صنوه الذي واخاه، وأجابه حين دعاه، وصدّقه قبل الناس ولبّاه، وساعده وواساه، وشيّد الدِّين وبناه، وهَزَم الشرك وأخزاه، وبنفسه على الفراش فداه، ومانَع عنه وحماه، وأرغَمَ من عانده وقلاه، وغسله وواراه، وأدّى دَينه وقضاه، وقام بجميع ما أوصاه، ذاك أمير المؤمنين لا سواه) (2) .

وقال في شعره في غديريّته المعروفة في مدح أمير المؤمنين عليه السلام، أنشدها كمحاورةٍ سُئل فيها فأجاب في 25 بيتاً: ـ

قالت: فَمَنْ صاحبُ الدِّين الحنيف أجِب؟

فقلتُ: أحمدُ خيرُ السّادةِ الرُّسلِ

قالت: فَمَنْ بعدَه تُصفي الولاءُ له؟

قلت: الوصيّ الذي أربى على زُحلِ

قالت: فَمَنْ باتَ مِن فَوق الفراشِ فَدى؟

فقلت: أثيبُ خلقِ اللهِ في الوَهَلِ

__________________

(1) سُئل بعض العلماء: متى أسلم عليّ عليه السلام؟

فأجاب: ومتى كفر؟ حتّى يكون أسلم، إنّه جدّد الإسلام.

فهو عليه السلام وُلد على الإيمان وفطرة الإسلام ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدّده في البعثة.

(2) الكنى والألقاب / ج 2 / ص 368.

١٩٢

قالت: فَمَنْ ذا الذي آخاهُ عن مِقةٍ؟

فقلت: من حاز ردَّ الشمس في الطفلِ

قالت: فَمَنْ زُوَّج الزّهراء فاطمة؟

فقلت: أفضلُ مَن حافٍ ومُنتعلِ

قالت: فَمَنْ والدُ السبطين إذ فَرَعا؟

فقلت: سابقُ أهلِ السَبق في مَهَلِ

قالت: فَمَنْ فاز في بَدرٍ بمعجزها؟

فقلت: أضربَ خلقِ الله في القُللِ

قالت: فَمَنْ أسَدُ الأحزاب يفرسها؟

فقلت: قاتلُ عمروِ الضيغمِ البطلِ

قالت: فيومُ حُنين مَن فَرا وبَرا

فقلت: حاصدُ أهلِ الشِّركِ في عجلِ

قالت: فَمَنْ ذا دُعي للطّير يأكله؟

فقلت: أقربُ مَرضيٍّ ومُنتحِلِ

قالت: فَمَنْ تِلْوُه يومَ الكساء أجِب؟

فقلت: أفضلُ مَكسوٍ ومُشتمِلِ

قالت: فَمَنْ سادَ في يوم «الغدير» أَبِنْ؟

فقلت:: مَن كان للإسلام خيرُ وليّ

قالت: فَمفي مَن أتى في هل أتى شَرَفٌ؟

فقلتُ: أبذلُ أهلِ الأرض للنُفَلِ

قالت: فمَنْ راكعٌ زكّى بخاتمه؟

فقلت: أطعنهم مُذ كان بالاُسُلِ

قالت: فمَنْ ذا قسيمُ النار يُسهُمها؟

فقلت: مَن رأيُه أذكى من الشُّعلِ

قالت: فمَنْ باهَلَ الطّهرُ النبيُّ به؟

فقلت: تاليه في حِلٍّ ومُرتحِلِ

قالت: فمَنْ شِبْهُ هارونٍ لنعرِفُه؟

فقلت: مَن لم يُحِلْ يوماً ولم يزلِ

قالت: فمَنْ ذا غدا بابَ المدينة قُل؟

فقلت: مِن سألوهُ وهو لم يَسلِ

قالت: فمَنْ قاتَلَ الأقوامَ إذ نكثوا؟

فقلت: تفسيرُه في وقعةِ الجملِ

قالت: فمَنْ حارَبَ الأرجاسَ إذ قَسَطوا؟

فقلت: صفّين تُبدي صفحةَ العملِ

قالت: فمَنْ قارَعَ الأنْجاسَ إذ مَرَقوا؟

فقلت: معناه يومَ النّهروان جَلي

قالت: فمَنْ صاحبَ الحوضِ الشريف غداً؟

فقلت: مَن بيتُهُ في أشرف الحُللِ

قالت: فمَن ذا لواءَ الحمدِ يحملُه؟

فقلت: مَن لم يكن في الرّوع بالوَجِلِ

قالت: أكلُّ الذي قد قلتَ في رجلٍ؟

فقلت: كلُّ الذي قد قلتُ في رجلِ

قالت: فمَنْ هو هذا الفردُ سِمْهُ لنا؟

فقلتُ: ذاكَ أميرُ المؤمنينَ عليّ (1)

__________________

(1) الغدير / ج 4 / ص 40.

١٩٣

وهذه الدراسة تعطينا أنّ السبق إلى الفضيلة من مفاخر صفات الصالحين وسجايا المتّقين، المحبوبة عند ربّ العالمين، والشرع المبين، ومن موجبات عظيم الأجر والثواب في يوم الدِّين..

كلّ هذا مضافاً إلى نتائجه الحسنة في نفس هذه الحياة الدُّنيا، فإنّ السبق إلى الفضائل من صنائع المعروف التي تدفع مصارع السوء، وتحفظ الإنسان من البلايا العظيمة كما هو المجرّب المحسوس في قضايا المحسنين.

من ذلك ما حدّث بعض السادة الأجلّاء الثقات ما مضمونه: ـ

أنّه كان في بعض البلاد المقدّسة شخصٌ مؤمنٌ صالح، وكان رجلاً تاجراً متمكِّناً ثريّاً، يحبّ الخير، ويصنع الخير لمن يعرفه ومَن لا يعرفه، خصوصاً الزائرين.

رأى في بعض الأيّام أحد زوّار ذلك البلد المقدّس لم يحصّل على فندقٍ أو محلّ مسكنٍ يسكنه في مدّة زيارتهم هو وعائلته.

وكانت تلك الزيارة أوّل زيارتهم لذلك البلد المقدّس الذي لم يعرف فيه أحداً ولم يتعرّف على أحد.

وكانوا قد جلسوا على رصيفٍ في الطريق ينتظرون الحصول على غرفةٍ فارغة.

فصادفهم هذا التاجر المؤمن، وسألهم: لماذا أنتم جالسون هنا؟

قالوا: ننتظر الحصول على مكانٍ نستأجره ونسكنه.

فقال لهم: ـ لي بيتٌ واسع، ومكانٌ مناسب، ودارٌ مفروشة مع وجبات الطعام.

ففرحوا وأجابوا بالقبول، بعنوان أن يسكنوا في بيته، ثمّ يعطون له الاُجرة التي تدفع إلى الفنادق للسكن والطعام، ظنّاً منهم أنّ بيته معدّ لإيجار الزائرين.

فذهب بهم ذلك التاجر إلى بيته، وأكرمهم غاية الإكرام، وبقوا عنده عشرة أيّام، يخدمهم فيها بالإطعام والإكرام، بغاية الحفاوة والاحترام.

وحينما أرادوا الانصراف والرجوع إلى وطنهم حضّروا له النقود، لدفع ثمن

١٩٤

الإيجار والوجبات الغذائيّة، لكنّه لم يقبل منهم أيّ مال، وأدنى نقود.

وبالرغم من أنّهم أصرّوا عليه كثيراً بالقبول، لم يستجب لهم ذلك، وأجابهم بأنّي آخذ ثمن الإيجار والخدمة من الإمام عليه السلام بأكثر ممّا آخذه منكم، فليطيب خاطركم بذلك.

فتشكّروا منه، وودّعوه راجعين إلى بلدهم.

ومضت على ذلك الأيّام والسنين، ثمّ إنّ ذلك التاجر حدثت له مشكلة سياسيّة أدّت إلى أن يُسجن، ويحتمل عليه الإعدام..

واُجريت عليه لقاءات مع المسؤولين، وسؤال وجواب، ورتّبت له ملفّات شدّدت عليه الأمر.

وفي آخر الأمر جاء عنده في السجن أحد المسؤولين الكبار الذي كانت له درجة عسكريّة رفيعة، وبيده ملفّةٌ كبيرة تخصّني.

فنظر إليَّ مليّاً، ثمّ سألتي ألست أنت الحاجّ فلان، من أهل مدينة كذا، وتسكن دار كذا، في محلّة كذا؟

وأنا في كلّ المسائل اُجيبه بنعم، وتخيّلت أنّه يعرف هذه الخصوصيّات من الأسئلة التي طُرحت عليَّ سابقاً..

لكنّه قال لي: ـ أتعرفني؟

قلتُ في دهشةٍ: لا مع الأسف.

فرفع قُبّعته العسكريّة، وقال: هل عرفتني الآن؟

قلت: ملامحكم مأنوسة عندي، مَن أنتم؟

قال: أنا ذلك الشخص الذي نزلتُ مع عائلتي عندك في سنة كذا، وبقيتُ في بيتك عشرة أيّام، استضفتني فيها بكلّ كرامة.

ثمّ قال: هذه ملفّة إضبارتك التي تنتهي بإعدامك، لكن أنا اُمزّقها، واُسقط

١٩٥

حكم الإعدام قِبال ذلك العطف والإكرام، فمزّقها أمامي وحكم بتسريحي.

فنجوت من الإعدام والسجن بفضل السبق إلى ذلك العمل الخيري الذي عملته أنا محبّةً للإمام عليه السلام وزائريه.

١٩٦

(13)

وإيثار التفضّل

الإيثار: هو التقديم والاختيار على النفس.

قال تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) أي يقدّمون عليها.

ويُقال: آثرتُ ذلك أي اخترته، وفضّلته، وقدّمته.

والتفضّل: هو الابتداء بالإحسان.

فإنّ صنع المعروف والفعل الحَسَن قد يكون جزاءً وهو الإحسان..

وقد يكون تطوّلاً وابتداءً به وهو التفضّل، ومنه المواساة.

فالتفضّل هو الابتداء بالإحسان، وابتداء المعروف.

ومن حلية الصالحين وزينة المتّقين أنّهم يقدّمون غيرَهم على أنفسهم ويبتدئون بالفضل والإحسان.

وهو مرغوبٌ وممدوح كتاباً وسنّةً.

أمّا الكتاب فقوله تعالى: ـ

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

__________________

(1) سورة الحشر: الآية 9.

١٩٧

وقد أجمع الفريقان في أحاديثهم أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته سلام الله عليهم (1) .

ففي حديث شيخ الطائفة الطوسي مسنداً أنّه جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فشكا إليه الجوع.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيوت أزواجه..

فقُلن: ما عندنا إلّا الماء.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من لهذا الرجل الليلة؟

فقال عليّ عليه السلام: أنا له يا رسول الله، وأتى فاطمة عليها السلام وقال لها: ـ

هل عندك يا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وآله شيء؟

فقالت: ما عندنا إلّا قوت العشيّة، لكنّا نُؤثِر ضيفنا.

فقال: يا ابنة محمّد نوّمي الصبية، واطفئي المصباح.

فلمّا أصبح عليّ عليه السلام غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) .

وأمّا السنّة، فيستفاد فضل الإيثار والمواساة في أحاديث بابه مثل: ـ

1 ـ حديث المفضّل قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجلٌ: في كم تجب الزكاة من المال؟

فقال له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟

فقال: اُريدهما جميعاً.

فقال: أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون درهماً.

__________________

(1) كنز الدقائق / ج 13 / ص 175، وإحقاق الحقّ / ج 9 / ص 144.

(2) أمالي شيخ الطائفة / ص 188.

١٩٨

وأمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك (1) .

2 ـ حديث السعداني عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: ـ

( فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .

قال عليه السلام: ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ قال الله عزّوجلّ: ـ

لقد حقّت كرامتي ـ أو مودّتي ـ لمن يراقبني، ويتحابّ بجلالي..

إنّ وجوههم يوم القيامة من نور، على منابر من نور، عليهم ثيابٌ خُضر.

قيل: مّن هم يا رسول الله؟

قال: قومٌ ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، ولكنّهم تحابّوا بجلال الله، ويدخلون الجنّة بغير حساب، نسأل الله أن يجعلنا منهم برحمته (3) .

3 ـ حديث الطبرسي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: ـ

اُتيَ رسول الله صلى الله عليه وآله بأسيرين ـ يهوديّين مستحقّين للقتل ـ فأمر النبيّ بضرب عنقهما، فضُرب عنق واحدٍ منهما، ثمّ قُصد الآخر.

فنزَلَ جبرئيل فقال: ـ يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤوك السلام، ويقول: ـ لا تقتله، فإنّه حسن الخلق سخيُّ قومه.

فقال اليهودي تحت السيف: هذا رسول ربّك يخبرك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم.

قال: والله ما ملكتُ درهماً مع أخ لي قطّ، ولا قطبتُ وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك محمّد رسول الله.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 24.

(2) سورة غافر: الآية 40.

(3) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 25.

١٩٩

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا ممّن جرّه حسنُ خلقه وسخاؤه إلى جنّات نعيم (1) .

وعليه فالإيثار والمواساة فضيلة ممدوحة، وخليقة طيّبة، بدليل الكتاب والسنّة.

وأهل البيت عليهم السلام هم القدوة في إيثار التفضّل، والابتداء بالفضل والإحسان إلى الغير.

وقد آثروا على أنفسهم ثلاثة أيّام في سبيل الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً، لا يريدون بذلك منهم جزاءً ولا شكوراً، إلّا رضا الله تعالى، فخصّهم الله بسورة الدهر، كما تلاحظه في جميع تفاسير الفريقين.

ودراسة موجزة في إنفاقاتهم تعطيك صورة واضحة عن أنّهم كانوا قمّة الخلق في الإيثار والمواساة.

من ذلك ما تقرأه في باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام (2) .

كإيثاره بالتصدّق بجميع أمواله، ووقف عيون ماءه، وتخصيص حوائطه وبساتينه للفقراء والمساكين، ولم يدّخر لنفسه ديناراً ولا درهماً، ولا حطاماً من حطام الدُّنيا.

قال أبو الطفيل: رأيت عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل ويلعقهم ذلك، حتّى قال بعض أصحابه: لوددتُ أنّي كنتُ يتيماً.

في حين لم يشبع هو من خبز الشعير، ولم يأكل خبز البُرّ، وكان إدامُه الملح فقط، وربما ائتدم باللبن الحامض كما في حديث سويد بن غفلة.

وكان يقول: ـ (أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ) (3) .

__________________

(1) مشكاة الأنوار / ص 231.

(2) لاحظ بحار الأنوار / ج 41 / ص 24 / باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام.

(3) نهج البلاغة / الكتاب 45.

٢٠٠