هل إن معركة الطف عثرة على الطريق ام مرحلة من الطريق؟

هل إن معركة الطف عثرة على الطريق ام مرحلة من الطريق؟

 

يقول الدكتور عبد العظيم الديب بعد أن يذكر الفتوحات الإسلامية: هذا هو تاريخ الإسلام، أما معركة الجمل وصفين وكربلاء ... فتلك عثرات على الطريق.

وهذه المحاضرة تناقش هذا الرأي من خلال الكشف عن حتمية الصراع التاريخي بين حركة التوحيد وحركة الشرك.

الصراع بين حركة التوحيد وحركة الشرك

إن قوام التاريخ هو الصراع بين (التوحيد والشرك) وبين (الحق والباطل)، وإن ضاقت مساحته، واختفى عن الرأي العام، ولم يستقطب اهتمام الناس على وجه الأرض.

والحتمية أهم قوانين وسنن هذا الصراع فلا يمكن ان يمتد هذا الخطان على وجه الأرض وفي حياة الناس دون ان يتقاطعا، ودون أن يؤدي هذا التقاطع الى المواجهة والصراع، فان حركة التوحيد تقوم في المجتمع على انقاض الكفر والشرك، ولا يقوم للشرك والكفر أساس ولا أثر في حياة الناس الا بزوال التوحيد. فكل منهما يطرد الآخر. وهذا التناقض بين التوحيد والشرك هو الذي يؤكد حتمية الصراع بينهما.

وإذا أردنا أن نفهم التاريخ وسننه وقوانينه وأحكامه التي يرسمها الله تعالى لنا في كتابه فعلينا أن نقرأ تاريخ الأنبياء وحركتهم في ساحة المواجهة لا قوامهم.

إن حركة الأنبياء ترسم لنا المعنى الحقيقي لـ (الصراع) و (التاريخ) وترسم سنن الصراع في جبهة التوحيد وفي جبهة الشرك، وما يتطلبه الصراع من الصبر والتضحية والعطاء في كل من الجبهتين وما يتخلل الصراع من ألوان المحنة والعذاب وما يتعقب الصراع من نصر القلة المؤمنة وسقوط جبهة الكفر والشرك، وما يرافق الصراع من تساقط وتخاذل في صفوف أنصار الحق، ومن تبادل المواقع في كل من الجبهتين[1].

ولا شك ان من واجب الأنبياء وتكليفهم الدفاع عن المحرومين والمستضعفين ولا شك أن الأنبياء دافعوا ووقفوا إلى جنب المستضعفين وضد المستغلين والظالمين .

ولكن هذه المعركة ليست هي المعركة الأساسية والمحورية في حركة الأنبياء، وليست هي محور صراع معركة الأنبياء، وإنما محور هذه الحركة والصراع هو الصراع بين التوحيد والشرك.

 

حركة موسى بن عمران (عليه السلام)

ضمن هذا التصور للتاريخ لابد أن ندرس حركة موسى بن عمران (عليه السلام) في التاريخ.

إن تاريخ حركة كليم الله (عليه السلام) هو في الصراع بين التوحيد والشرك. ومن خلال هذا الصراع نستطيع أن نفهم تاريخ موسى بن عمران (عليه السلام) والمنعطفات الحساسة في حركته، والعقبات التي واجهها، والأسلوب الذي اتبعه في مواجهة هذه العقبات، والإنجازات التي حققها الله تعالى على يده، والمراحل التي اجتازها وتخطاها في هذا الصراع.

ومن خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم الفتن التي حدثت في مجتمع بني إسرائيل بعد ان نصرهم الله تعالى على فرعون وأنقذهم من الغرق، وكيف دبّ الشرك مرة ثانية من خلال حركة السامري وتضليله لبني إسرائيل ومن خلال استجابة بني إسرائيل لتضليل السامري واستضعافهم لهارون (عليه السلام) وتمردهم عليه، وطلبهم للعكوف على عبادة الأصنام عندما مرّوا على قوم يعبدون الأصنام بعد أن أنقذهم الله من الغرق، وامتناعهم عن الاستجابة لدعوة موسى بن عمران (عليه السلام)، لقتال القوم الجبارين، وابتلاء الله تعالى لهم بعد ذلك بالتيه أربعين سنة[2].

وحركة التوحيد تتلقى تحديات صعبة من الشرك، وقد واجه موسى بن عمران (عليه السلام) هذه التحديات من فرعون في فترة الرسالة من حياته، وكانت فترة حافلة بأقسى ألوان الصراع والمواجهة وأشدها حتى أذن الله تعالى بهلاك فرعون وجنده ونصر المستضعفين من قوم موسى (عليه السلام).

 

ولكن هل الشرك حركة في مقابل حركة التوحيد؟

بالتأكيد، فإن الشرك حركة كما أن التوحيد حركة، لأن مقومات الحركة هي التحدي والمقاومة والقوة والشرك يملك كل هذه المقومات.

الفهم الصحيح للتاريخ:

واعتقد أن هذا الفهم هو أساس الفهم الصحيح للتاريخ.

فإن التاريخ صراع بين حركتين ومقاومة وتحدي. وليس التاريخ كل صراع في الكون. مهما اتسعت رقعته ومهما استهلك من الجمهور والأموال والدماء وإنما قوام التاريخ – كما قلنا سابقاً – هو الصراع بين (التوحيد والشرك).

وفي المراحل الأولى يكون الصراع من الخارج على كيان التوحيد وعندما تنهزم حركة الشرك في الجهة الخارجة أمام حركة التوحيد تتحول إلى الداخل، وتبدأ الصراع من الداخل.

فإن العدو عندما يعجز عن تسقيط التوحيد يبدأ العمل في تحريف مسار التوحيد.

وبتعبير آخر يكون الصراع في المرحلة الأولى على التنزيل وفي المرحلة الثانية على التأويل.

والتوحيد بذلك يواجه خطرين خطر الاستئصال من الخارج وخطر التحريف والإفساد من الداخل، والأول يقوم به المشركون والثاني يقوم به المنافقون.

ولكل من هاتين المواجهتين من الخارج والداخل أثر تخريبي واسع في الدعوة إلاّ أن الأثر التخريبي للمواجهة الثانية أوسع بكثير من الأثر التخريبي للمواجهة الأولى.

ذلك ان المواجهة الأولى تزيد الأمة في طريق تحمّل رسالة الدعوة إلى الله صلابة ومتانة وقوة وتزيدهم استحكاماً وتماسكاً، أما المواجهة الثانية فهي تشقق الأمة الداعية إلى الله، وتذرهم فرقاً وطوائف متناحرة، وتدخل التحريف إلى صلب الدعوة وتضعف الدعوة وحملتها من الداخل بينما كانت المواجهة الأولى من عوامل قوة الأمة المسلمة التي تحمل رسالة الدعوة إلى الله تعالى.

وهذه هي ظاهرة النفاق.

وقد واجه موسى بن عمران وأخوه هارون (عليهما السلام) بعد هلاك فرعون وجنده والهزيمة المنكرة التي لحقتهم ... وبعد النصر الذي كتبه الله تعالى لبني إسرائيل على أعدائهم واجه موسى بن عمران وأخوه هارون (عليهما السلام) هذه الحركة التخريبية الواسعة من الداخل بشكل فاعل وقوي يندر مثله في حركة التوحيد في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام)[3].

حتمية الصراع بين التوحيد والشرك

ما هي الأسباب التي تدعو إلى القول بحتمية الصراع بين التوحيد والشرك؟

تقدّم سابقاً القول بأن حركة التوحيد تقوم في المجتمع على أنقاض الكفر والشرك، ولا يقوم للشرك والكفر أساس ولا أثر في حياة الناس إلاّ بزوال التوحيد. فكل منهما يطرد الآخر ، وهذا التناقض بين التوحيد والشرك هو الذي يؤكد حتمية الصراع بينهما.

وهذا الصراع حتمي لأن حركة التوحيد تمتد على مساحة نفوذ الشرك وسلطانه، ولا تمتد في الفراغ وتحتل مساحة سلطانه ونفوذه.

ومساحة الحياة لا تتسع للشرك والتوحيد فإذا تقدم التوحيد شوطاً توجب على الشرك ان ينسحب عن نفس الشوط.

إن التوحيد يمتد على مواقع النفوذ العسكري والمواقع الإعلامية والمواقع السياسية والمواقع المالية للشرك وتتقدم باتجاه استلام هذه المواقع.

ولا شك أن كلا من هذين المحورين يعمل للاستيلاء على مراكز القوى في المجتمع:

المال والسلطان، والقوى العسكرية، وثقة الناس ومراكز التوجيه، والإسلام والثقافة، والقرآن الكريم يقرر حتمية الصراع بين هذين المحورين بشكل جازم.

يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾[4] .

ولذلك فالتفكير في اللقاء والتفاهم والحلول النصفية مع الكفر والطاغوت تفكير فيه كثير من الفجاجة والبساطة والضعف والهزيمة النفسية[5].

لأن التوحيد حركة باتجاه استلام مراكز القوة في المجتمع وذلك لان التوحيد دعوة إلى حاكمية الله، ولا تتم هذه الحاكمية نظرياً وإنما تتم باستلام مواقع السلطان.

وقد صدق ذلك الاعرابي الذي اكتشف بفطرته هذه الحقيقة حينما قال: إن هذا الدين تخافه الملوك.

هل إن الصراع بين التوحيد والشرك على المال والسلطان؟

وبناء على هذا الفهم فلا يمكن ان نقول: إن سبب الصراع بين حركة التوحيد وحركة الشرك هو المال والسلطان. لماذا؟

لأن الصراع بين التوحيد والشرك صراع حضاري، ليس على المال والسلطان، وليس على مساحة من الأرض وآبار من النفط ليمكن الوصول فيه إلى التفاهم والحلول الوسطية وإنما الصراع فيه على نفي كل سلطان وحكم عن حياة الإنسان وحصر الحكم والولاية لله تعالى في حياة الإنسان. ومثل هذا الصراع، صراع حضاري عميق لا ينهدم إلاّ بهدم كل سلطان عدا سلطان الله وتحكيم حكم الله وأمره على حياة الإنسان بشكل مطلق، وهذا الصراع يكون عادة صراعاً حضارياً شرساً، أشرس ما يكون الصراع في حياة الإنسان[6].

ولو كان هذا الصراع على المال والسلطان لأمكن ان يتفاهما ويصلا إلى حد من التفاهم، ولكن الصراع حول حاكمية الله وهذا صراع حضاري لا يمكن التفاهم حوله، فلا تنازل ولا تفاهم، ولا مصلحة ولا مهادنة.

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[7] .

والانبياء (عليهم السلام) في هذا الصراع يطلبون المال والسلطان ويسيطرون عليهما ليس لأنهما غاية الصراع بل لأن الصراع ليس صراعاً نظرياً وإنما هو صراع ميداني، وبالمال والسلطان تتحقق حاكمية الله.

كيف واجه الاسلام هذين التحديين؟

تقدم سابقاً ان حركة الأنبياء (عليهم السلام) ترسم لنا المعنى الحقيقي لـ (الصراع) و (التاريخ) وترسم سنن الصراع في جبهة التوحيد وفي جبهة الشرك.

وقد واجه الإسلام التحدي الأول (من الخارج) في مكة والمدينة مع عتاة قريش، وبعد ذلك اتسعت دائرة المعركة مع اليهود ومع ائتلاف واسع بين مشركي قريش واليهود في الأحزاب وانتهى هذا الشوط بهزيمة الشرك وتحالفاته ضد حركة التوحيد.

وفي هذه المرحلة تنهزم الجبهة المعادية للتوحيد هزيمة كبيرة ولم تعد هذه الجبهة قادرة على المقاومة والصمود والمشاكسة في مسيرة الدعوة، كما حدثت هذه الهزيمة في صفوف المشركين والكفار بعد فتح مكة والطائف، وكما حدثت هذه الهزيمة المنكرة في جيش فرعون وملأه بعد ما أهلك الله فرعون وجنده في البحر[8].

وفي هذه المرحلة كان الهدف القضاء على الدين، ولكن شاء الله ان ينصر دينه بشكل كامل ونهائي على جبهة الشرك.

إلاّ أن الجبهة المنهزمة تبادر بحركة سريعة إلى تغيير موقعها في تخريب الدعوة ومهاجمتها من المواجهة المكشوفة من خارج الدعوة إلى المواجهة الخفية من داخل الدعوة، وفي الحقيقة تنقل هذه الجبهة من أعداء الدعوة مهمتها التخريبية من خارج الدعوة إلى داخل الدعوة بعد ان يتبين لهم ان محاربة الدعوة من الخارج أصبحت أمراً غير ممكن على الإطلاق[9].

وفي هذه المرحلة يكون الهدف القضاء على نقاوة الدين وسلامته وأصالته واستقامته وربانيته.

وأبرز مواقع صراع المرحلة الثانية (صفين) و (الطف).

فإن معارك (صفين)و (الطف) امتداد لـ (بدر) و (الأحزاب) و (حنين).

لأن الشرك لما فشل في القضاء على التوحيد من الخارج تحول إلى الجبهة الداخلية.

وتحول بذلك المشركون إلى منافقين يوجهون ضرباتهم إلى الإسلام من الداخل.

أيهما أخطر على الإسلام الصراع في المرحلة الأولى ام المرحلة الثانية؟

والآن لنسأل: أيهما أخطر على الإسلام الذي حاربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت لواء أبي سفيان في بدر وأحد والأحزاب، أم الذين حاربوا وصيّ رسول الله وابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صفين والطف تحت لواء نجل أبي سفيان وحفيده، وأيهما أشرس؟

وفي الجواب، يمكن القول إن أهمية صفين والطف لا تقل عن أهمية بدر وأحد والأحزاب وأنا أحيل الجواب إلى القضية التاريخية التالية التي يرويها نصر بن مزاحم في كتاب (صفين).

فإن عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) عاش المواجهتين، وعاش المعركتين في مرحلة الصراع على التنزيل وفي مرحلة الصراع على التأويل، لأنه عاش بدر وأحد والأحزاب وعاش (صفين).

كان عمار بن ياسر يقول عن راية عمرو بن العاص في معركة صفين لمن تسرب إلى نفسه الشك بعد ان سمعهم يرفعون الآذان ويقرأون القرآن ويقيمون الصلاة كما يرفع الناس في جيش علي الآذان ويقرأون القرآن ويقيمون الصلاة ...

 

قال له عمار بن ياسر (رضوان الله عليه):

هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلين (المقابلة لي) فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات وهذه الرابعة، ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرّهن وأفجرهن.

ثم قال له:

أشهدت بدراً وأحداً وحنيناً أو شهدها لك أب فيخبرك عنها قال: لا.

قال: فإن مراكز علي (عليه السلام) مراكز رايات رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب[10].

عودة مرة أخرى إلى عاشوراء

عرفنا لحد الآن ثلاث نقاط هي:

1- إن الصراع بين التوحيد والشرك صراع حضاري وليس على المال والسلطان.

2- إن هذا الصراع صراع حتمي.

3- مراحل الصراع بين التوحيد والشرك في مرحلتي التنزيل والتأويل.

والآن نقول: إن الذين حاربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدر وحنين لم يتغيروا عن مواقعهم ومراكزهم كما يقول عمار (رضوان الله عليه) في صفين، وتعبير عمار K دقيق (على مراكزهم يوم بدر وأحد).

هؤلاء دخلوا الإسلام مرغمين ولكنه التقوا على الإسلام في صفين والطف وهم بنو أمية أنجال أبي سفيان وحاولوا ان يستعيدوا أمرين:

1- مواقعهم التي سلبها الإسلام عنهم.

2- القيم الجاهلية والعشائرية والطبقية والمنكرات التي كانوا يمارسونها قبل الإسلام.

وحاولوا ان يستعيدوا كل ذلك من خلال الإسلام، يعني: باسم الإسلام والتوحيد لا باسم الشرك، وباسم الإسلام لا باسم الجاهلية.

وهذا الخطر هو الخطر الحقيقي الذي كان يهدد الإسلام والذي عرفه علي والحسين (عليهما السلام) فحاولوا مواجهته في (صفين) و (كربلاء).

ما هو الدور التخريبي الذي لعبه هؤلاء، وقاموا به في الإسلام، وكيف واجههم الحسين (عليه السلام) في كربلاء؟

 بنو أمية لم يكونوا تجمعاً ساذجاً وبسيطاً وإنما كانوا تجمعاً سياسياً وحركياً.

وبنو أمية حركة سياسية بالتعبير الدقيق لهذه الكلمة تخطط لاستعادة مواقعها السياسية والسلطوية في المجتمع الإسلامي. وأبو سفيان كان هو الرأي المخطط لهذا الأمر والرأس الثاني معاوية وعمر بن العاص الرأس الثالث حيث كان في خدمة بني أمية وان لم يكن منهم.

ولم يكن أبو سفيان انساناً عادياً بل كان سياسياً يخطط لكي يصل الأمويون إلى الحكم.

وعندما تولى الخليفة الثالث امور المسلمين دخل أبو سفيان على عثمان وقال: قد صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل اوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. فصاح به عثمان: قم فعل الله بك وفعل[11].

وعمل بنو أمية على عزل الطبقة المستضعفة التي رفعها الإسلام من مثل سلمان وأبي ذر وعمار، رفع الإسلام هذه الطبقة من قاعدة الهرم إلى قمة الهرم.

وأعادوا إلى قمة الهرم الطبقة التي وضعها الإسلام واستعادوا كل مواقعهم في عهد معاوية ويزيد وما بعد ذلك واستعادوا قيم الجاهلية ومنكراتها.

والفرق بين معاوية ويزيد ان يزيد كان يشرب الخمر ويعلن ذلك، وكان يأتي بالمنكرات جهاراً، ولكن معاوية كان يمارسها بالخفاء.

أقرأوا (الاغاني) لأبي الفرج، و (تاريخ دمشق) و (تهذيب ابن عساكر) لكي تجدوا كيف أنهم حاولوا ان يضعوا من مكان (رسول الله (صلى الله عليه وآله)) وسوف تقرأوا ان الحجاج كان يقول: إن خليقة أحدكم خير من رسوله مشيراً إلى ان الخليفة أفضل من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكيف أنهم حاولوا إثارة النعرة القومية فيما بين المسلمين والتمييز فيما بين المسلمين العرب وغير العرب من الموالي، ومحاولة طرد المسلمين من غير العرب من الساحة السياسية، بل من حواضر العالم الإسلامي أحياناً، كما حدث في عهد معاوية والحجاج، وعدم الاعتراف بإسلامهم لئلاّ تسقط عنهم الجزية.

وكانوا يقولون: لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة: كلب أو حمار أو مولى[12].

وكانوا يمارسون إذلال الأمة بالإرهاب.

فقد سلك حكام بني أمية مسالك عجيبة في إذلال الأمة وتحطيم شخصيتها المعنوية لغرض السيطرة عليها وتمكين قبضتهم منها وتصفية كل حالات المعارضة والتمرد ضد النظام.

وبلغ بهم الأمر أنهم كانوا يمارسون استرقاق المسلمين وسبي المسلمات المؤمنات واسترقاقهن وعرضهن في الأسواق.

وبسر بن أرطأة هو أول من اقترف هذه الجريمة في تاريخ الإسلام، فسبى المؤمنات من همدان المعروفة بولائها لأهل البيت (عليهم السلام) وعرضهن في الأسواق للبيع وكان الناس يكشفون عن سيقانهن ليشتروهن. كما يصنع تجار الرقيق في أسواق النخاسة والرقيق، كما فعل ذلك بسر بن أرطأة عندما أرسله معاوية إلى اليمن بالمسلمات المؤمنات اليمانيات، سباهن وأقامهن في الأسواق للبيع.

وهكذا كانت سيرة بني أمية في إذلال المسلمين واسترقاقهم واستعبادهم كالمشركين تماماً وقد أسرفوا في ذلك أيّما إسراف حتى قالوا: إن بني أمية كانت تبيع الرجل في دين يلزمه وترى انه يصير بذلك رقيقاً[13].

وأفظع من ذلك كله وأبلغ في إذلال المسلمين ما كان من فعل مسلم بن عقبة (وكان يسمى بمسرف) قائد جيش يزيد بن معاوية إلى المدينة المنورة في وقعة الحرة المعروفة ... عندما احتل يزيد المدينة المنورة وأباحها لجيشه، حيث دعا المسلمين إلى بيعة يزيد بن معاوية على دمائهم وأموالهم وأهليهم. وأنهم عبيد ليزيد بن معاوية يقضي في دمائهم وأموالهم وأنفسهم بما شاء[14]. وعلى هذه الطريقة جرى بنو أمية في إذلال المسلمين وإخضاعهم لنزواتهم ورغباتهم وتصفية حالات المعارضة السياسية والعسكرية وتحكيم قبضتهم على مصائر الناس وأقدارهم[15].

وكانوا يمارسون ألوان الدعارة والابتذال في قصورهم.

ولعل الخلاعة والمجون يعتبر من أبرز سمات بني أمية وقد دخل الغناء والطرب والشرب والسكر والاستهتار على أيدي بني أمية إلى الإسلام من باب واسع وزاول الحكام من بني أمية ألواناً مختلفة من اللهو والمجون والخلاعة على مرأى ومسمع من المسلمين وبصورة مكشوفة وعارية، وأدخلوا الفساد إلى قصر الخلافة بأبشع صوره وأشكاله.

وكان الشرب والسكر أمراً شائعاً في قصور الخلفاء من بين أمية، وكان معاوية يمارس هذا المنكر في الخفاء، فلما تولى يزيد ابنه أمر الخلافة أعلن هذا المنكر إعلاناً، وجرى من بعده خلفاء بني أمية على طريقته إلاّ ما كان من أمر عمر بن عبد العزيز. وكان معاوية أول خليفة يدخل الخمر في قصره[16].

يقول الجاحظ: وكان يزيد لا يمسي إلاّ سكراناً ولا يصبح إلاّ مخموراً، وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كل شهر مرة حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء، وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً ويدع يوماً، وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كل ثلاث ليال ليلة، وكان هشام يشرب في كل جمعة، وكان يزيد بن الوليد والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشراب، فأما يزيد بن الوليد فكان دهره بين حالتي سكر وخمار ولا يوجد أبداً إلاّ ومعه إحدى هاتين، وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء، وليلة السبت[17].

وقد خرجت ظاهرة الشرب والسكر عند الخلفاء في عهد يزيد بن معاوية من طور الكتمان إلى طور الإعلان والاجهار، وكان يزيد بن معاوية أول خليفة يعلن اقتراف هذا المنكر إعلاناً، ويتحدى به مشاعر المسلمين[18].

وأما الغناء، فقد ولع في حكام بني أمية وقد كان يحمل إلى قصر الخليفة المغنون من سائر البلاد فيستمع إليهم الخليفة فيجيزهم من أموال بيت مال المسلمين المبالغ الكبيرة ويستبقي عنده من ينتقي منهم ويصرف منهم من يشاء.

وأما عن مجون الخلفاء من بني أمية وخلاعتهم واستهتارهم فحدّث ولا حرج، وما نقرأه في التاريخ لا يكاد ان يصدقه الإنسان لولا ان المؤرخين من كل المذاهب يتفقون على مجمل ما كان يجري في قصر الخلافة الأموية من مجون وخلاعة[19].

وكان كل ذلك يتم من خلال موقع الخلافة الإسلامية، خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن خلال الإسلام، وهذا الخط كان تهديداً للإسلام في الصميم.

ولذلك كان همّ الحسين (عليه السلام) تسقيط آل أمية ويزيد وسلب الصفة الشرعية عنهم وتجريدهم عن موقع الشرعية.

وذلك ان هذا الانحراف كان ينحدر من موقع الخلافة الإسلامية التي كانت تمتلك في نفوس المسلمين رصيداً كبيراً من الشرعية والقدسية، وقد كان بنو أمية يعتمدون كثيراً عنصر الشرعية في موقعهم السياسي والاجتماعي، وكانوا يوحون إلى الناس بطريق أو آخر ان موقع الخلافة اقوى من موقع الرسالة فيقول قائلهم: (إن خليفة أحدكم أفضل من رسوله).

وكانوا يرون في هذا الموقع أداة لتنفيذ طموحاتهم ورغباتهم، بأيسر الطرق، وأسهلها ... فلذلك دأب معاوية على تحكيم هذا الموقع الشرعي لنفسه ولابنه يزيد من بعده.

وكان هذا الموقع الشرعي الذي حرص عليه حكّام بني أمية يكوّن أكبر الأخطار التي تلحق الإسلام من جانب حكومة بني أمية. فقد كان الانحراف ينحدر إلى الناس من قصور الخلفاء في إطار من الشرعية.

وكان هناك في قصور الخلفاء من يبرر ويوجّه هذا الانحراف، ويعطيه الصبغة الشرعية من علماء البلاط ... وبالتالي كان هذا الانحراف ينعكس وينسحب على الإسلام، ويفقد الإسلام أصالته ونقاءه على أوسع صعيد وهو وسط الأمة.

وقد حرص الإمام (عليه السلام) في حركته على كسر هذا الإطار الشرعي الذي كان يحتمي به حكام بني أمية، وسلب صفة الشرعية من حكومة بني أمية، وتجريدها عن القدسية الشرعية التي كان يحرص عليها بنو أمية كل الحرص ... وبالتالي تفويت الفرصة على الحكم الأموي في تحريف الإسلام.

وقد كان الإمام يجهر بهذه الحقيقة جهاراً ويعلن برأيه في يزيد، وعدم أهليته للخلافة، وينال منه كلما واتته فرصة.

وقد أعلن رأيه هذا في يزيد عندما دعاه الوليد بن عتبة للبيعة، ومروان حاضر، قال (عليه السلام) له بعد كلام طويل، وهو يريد ان يسمع مروان رأيه في يزيد، وموقفه من البيعة:

(أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع مثله)[20].

وقد كان لخروج الإمام (عليه السلام) على يزيد، ومحاربته لجيش ابن زياد بعد رفض البيعة ليزيد، واستشهاده هو وأهل بيته وأصحابه بتلك الصورة المفجعة على يد جيش الخلافة. كان لذلك كله أثر كبير في إسقاط شرعية الخلافة، وتجريدها عن الشرعية والقدسية التي كانت الخلافة تتمتع بها[21].

وبذلك يمكن القول ان مهمة عاشوراء وكربلاء كانت بالدقة انتزاع الصبغة الشرعية من آل آمية وتجريدهم من الشرعية الإسلامية.

عودة إلى الدكتور عبد العظيم الديب

يقول الدكتور عبد العظيم الديب ان كربلاء عثرة على الطريق فكيف نفسر ذلك؟

أقول: إذا كان يقصد بالعثرة بني أمية فإنه لم يفهم دور بني أمية في تخريب الإسلام.

وبنو أمية لم يكونوا عثرة وإنما كانوا عقبة.

وإذا كان يقصد بذلك وقعة كربلاء، فهو لم يفهم التاريخ ولا الإسلام.

فلو كان بنو أمية يمضون في طريقهم ويستبدلون ما شاءوا من قيم الإسلام وأفكاره من موقع الشرعية لم يبق اليوم من الإسلام شيء.

إن نقاء الإسلام بمفاهيمه النقية الناصعة اليوم بيد المسلمين سنة وشيعة هو من بركات نهضة الحسين (عليه السلام) .

إن الحسين (عليه السلام) أفلح في إسقاط الشرعية واستطاع ان ينزع الشرعية من بني أمية وجرد بني أمية عن الصفة الشرعية.

ومنذ عاشوراء نجد في الإسلام خطين: خط الخلفاء، وخط الفقهاء.

ونجد ان الخط الثاني يحاول ان يبتعد عن خط الخلفاء.

بينما كان الأمر قبل كربلاء على شاكلة أخرى، فقد كانت الخلافة تمثل كل الشرعية الإسلامية وتمثل السيادة والشرعية في وقت واحد.

والحمد لله رب العالمين

ـــــــــــــــــــ

 

[1] في رحاب القرآن: 9/ 69 - 88 .

[2] في رحاب القرآن: 9 / 81 - 82 .

[3] في رحاب القرآن: 9/ 93 - 94 .

[4] النساء: 76 .

[5] في رحاب عاشوراء: 222 - 223 .

[6] في رحاب القرآن: 9/ 88 - 89 .

[7] الكافرون: 1 - 6 .

[8] في رحاب القرآن: 9 / 92 .

[9] في رحاب القرآن: 9 / 92 .

[10] وقعة صفين/ نصر بن مزاحم: 321 .

[11] الاستيعاب لابن عبد البر: 4/ 87 .

[12] وارث الأنبياء: 164 .

[13] شرح النهج لابن أبي الحديد: 15 / 241 - 242 .

[14] الكامل لابن الأثير: 4 / 118، ط 1385هـ ، الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 1 / 214، ط 1388هـ، وتاريخ اليعقوبي: 2 / 237، ط 1394هـ ، ومروج الذهب: 3 / 70، ط 1404هـ

[15] وارث الأنبياء: 65 - 67 .

[16] المصدر السابق: 49 .

[17] التاج في أخلاق الملوك: 151 .

[18] وارث الأنبياء: 51 .

[19] راجع البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 140، والأغاني للأصفهاني: 7 / 17، 47، 59، 60، 61. ط دار الكتب.

[20] مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي (المتوفى 568هـ) تحقيق الشيخ محمد السماوي: 1 / 184 .

[21] وارث الأنبياء: 219 - 221 .