الفداءُ بين عيسى والحسين (عليهما السّلام)

الفداءُ بين عيسى والحسين (عليهما السّلام)

          الدكتور  أنطون بارا

أنَّى للبشرية أن تجد طريق خلاصها بعيداً عن تعاليم الحسين ؟ كيف لها أن تسمو إذا لم تَمسُّها قُدْسية الطَّفِّ ؟ إن كربلاء ليست وقعة تاريخية انتهت في العاشر من محرَّم ، بل كانت منعطفاً حياتياً خطيراً استهدفت عقيدة الإسلام العظيم الذي حقَّق في صدر انطلاقته فتوحاتٍ ما كانت لتتم وتنجح لولا تمكّن العقيدة في النفوس ، وتمدُّدها في ذرَّات الضمائر .

فهل للحسين (عليه السّلام) الشهيد وأبي الشهداء وسيدهم شبيه في التضحية بين الأنبياء والشهداء ؟

وهل لتضحيات أرباب الديانات قديمهم وحديثهم شبه بما ضحَّاه سبط النبي الذي قال عنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) : ((حسينٌ منّي وأنا من حسين))؟

هذا ما أجاب عنه كتاب (أنطون بارا) الذي صدر مؤخراً بعنوان ( الحسين في الفكر المسيحي ) ، حيث عقد المؤلِّف مقارنة ناجحة بين شهادتي عيسى والحسين (عليهما السّلام) ، معتمداً على كثير من المراجع والخلفيات ، مُبرِزاً بموضوعية صافية ، حَسَنة النوايا والمقاصد قضية الحقِّ الإلهي الذي تقاسمته الأديان التوحيدية الثلاثة ، والذي لأجل نشره بين الخليقة جاءت الرُّسُلُ هادية مبشِّرة .

فلنقرأ هذا الكتاب لنطَّلع على وُجهة نظر المسيحية في شهادة الحسين(1) .

 

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ أحمد مطر في جريدة القبس الكويتية 12 أكتوبر 78 .

 

حوارُ الفكر بين الأديان

لم نقرأ قبلاً وجهة نظر مسيحيّة حول قصة كربلاء المتجلّية في استشهاد الحسين وعترة آل البيت (عليهم السّلام) ، ولا ندري لمَ هذا التقصير من جانب الفكر المسيحي لإبداء وجهة نظره في هذا الصدد ، مع أن الفداء والشهادة هما ركنا الدين المسيحي الذي يقوم عليهم ؟!

لكن كتاب الاُستاذ أنطون بارا (الحسين في الفكر المسيحي) ليُعتبر محاولة وتجربة جريئة من المؤلّف للخوض في هذا الموضوع باُسلوب جديد كلّ الجِدة ، لم يعهده قارئ العربية فيما نُشر من مئات الكتب حول ذات الموضوع ، وهو في حدِّ ذاته خطوة عملية ومنُطلقٌ لدراسات فكرية تعمِّق من الحوار بين أتباع الديانات السماوية ، بلا تعصُّب أو ضيق اُفق ، ولكن بسعة صدر وشمول رؤية .

وكما قلنا : إن خطوة المؤلِّف هي جرأة إيمانية يُشكر عليها ؛ لأننا انتظرناها طويلاً ، فمن أجدر بأتباع الديانات السماوية الثلاث بتأمُّل آيات القول والفعل التي جاءت بها رسالاتهم ، وحمَلَها لهم نبيُّوهم كَلِماً وآيات عجاباً ؛ لإهدائهم إلى سواء السبيل والصراط المستقيم ؟

لقد أفاض المؤلِّف وفصَّلَ بتحليل سيرة سيد الشهداء (عليه السّلام) ، والتي يلمس القارئ لسطور كتابه إعجابه الشديد بهذه السيرة ؛ تيمُّناً بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً ))(1) .

 

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ إبراهيم عبد الموجود في جريدة الأنباء الكويتية ـ العدد 983 سبتمبر 78 .

 

كتابٌ فريد ولغة مبتكرة

عدا كتب التاريخ الصرفة ، ما ضمَّت أرفف المكتبات العربية كتاباً واحداً يعرض لملحمة كربلاء بالتحليل الجيد والعرض المتقن .

كلّ الكتب التي تناولت سيرة الحسين (عليه السّلام) العطرة ما خرجت عن ترداد ما رُدِّد مئات المرات ، وكأن عظمة هذه السيرة تكاد تقف عند حدود هذه التعابير المُعادة والمُكرَّرة على وتيرة واحدة .

سيرة الحسين (عليه السّلام) مبادئ ومُثُل ، وثورة لأعظم من حصرها ضمن الاُطر التي حُصرت بها . وعلى الفكر الإنساني عامة لا الفكر المسلم والمسيحي فحسب ، أن يُعيد تمثُّلها واستنباط رموزها من جديد ؛ لأنها سرّ سعادة البشرية وسرّ سؤددها ، وسر حريتها أعظم ما عليها امتلاكه .

كتاب واحد فحسب قرأته فوجدت فيه ضالتي في فهم شخصيّة الحسين (عليه السّلام) وثورته ، ألا وهو كتاب (الإمام الحسين) للشيخ العلامة عبد الله العلايلي . بعده لم يعد ثمة كتاب واحد يشدّني ، إلى أن اطّلعت على كتاب الأديب والصحافي (أنطون بارا) الذي نحى بتحليلاته فيه منحى مبتكراً جديداً على اُسلوب البحث ؛ سواء على صعيد السيرة أو التاريخ .

ولأوّل مرة اكتشفت إمكانية إيجاد لغة ملائمة لبحث يغوص في موضوع ديني تاريخي ، لغة لا يملُّها الفكر ، ويحتار في وصفها الذوق الرفيع ؛ لما ملكته من رشاقة وغِنَّة وإيقاع سهل ممتنع ، يجمع بين إيقاع لغات الصحافة والأدب والبحث الجاد ، كان منها أن جعلت من سطور الكتاب سمفونية رائعة ، فيها من كلِّ لون قَبَس ، ومن كلِّ عطرٍ أريج ، ومن كلِّ صوتٍ نغمة(1) .

 

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ كرم قنصل في مجلة الكلمة السورية ـ عدد 14 لعام 79 .

 

عاشوراء حسرة في ضمير المسلمين

على امتداد التاريخ الإسلامي ظلَّت كربلاء مصدراً لإيحاءات فاجعة تذوب معها وُجدانيات المسلمين في كلّ عصر حزناً وحسرة .

وعلى امتداد التاريخ الإسلامي ظلَّت الدهشة هي القاسم المشترك أمام حَلكة الظلام التي سادت النفوس ، وأعمت العيون عن الوقوف إلى جانب حقٍّ مبين ، وقادت إلى الالتفاف حول باطل لا يحتمل الشك في بطلانه .

وبين الحزن والدهشة صدرت آلاف الشروحات والتفسيرات لحادثة استشهاد الإمام الحسين عليه وعلى جدِّه أفضل الصلاة والسّلام ، تلك الحادثة التي تستعيدها الضمائر جيلاً بعد جيل في محاولة لفهم أسرارها وكشف رموزها ، كصورة فريدة للتناقض الصارخ بين الحقِّ المقهور وبين الباطل المنتصر .

وكتاب (الحسين في الفكر المسيحي) بحث فريد في موضوعه ؛ فلم يسبق الربط بين ثورة الحسين (عليه السّلام) وبين فكر أهل الكتاب ، بالإضافة إلى أن كاتبه عربي مسيحي . إلاّ إنه كتاب نادر في بابه واُسلوبه ، وجهد ضخم لا يُماثل من نوعه ، ما كان ليكتمل لولا شفافية في نفس الكاتب ، وقدرة طيّبة على البحث والاستقصاء والاستيعاب الجيّد ، والتمثُّل للحادثة عقائدياً وتاريخياً ، وقلم يعرف كيف يصوغ الرؤية بلغة فريدة ، ويستنبط التحاليل باُسلوب غير معهود ، خاصة إذا كان الموضوع على هذا العمق الفاجع في وُجدان القارئ(1) .

والحمدُ لله ربِّ العالمين , والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين .

 

ــــــــــــــــ

(1) من مقال للاُستاذ علي عبّاس في مجلة صورة الخليج ـ العدد 817 سبتمبر 78 .