المرأة القرآنية

لقد كثرت أدوات الزينة والتجميل في عصرنا، حتى غدا (المكياج) فناً من الفنون، وعلماً من العلوم، يدرّس في المدارس والمعاهد والجامعات . وأصبحت صالونات التجميل أكثر عدداً من الصيدليات ، وصارت أسواقُنا غارقة بالمساحيق والدهون وأدوات التجميل الغربية ، بألوانها المختلفة الزاهية.. وتحوّلت المرأة في العالم العربي والإسلامي إلى أعظم مستهلكٍ لبضائع المعامل الأوروبيّة، والشركات الأجنبية ... وإننا لو أحصينا مقدار الاستهلاك السنوي للمواد التجميلية لأي قطرٍ من أقطارنا الإسلاميّة لذُهلنا من الأرقام التي تسجّلها التقارير الصادرة من الدوائر العامة المشرفة على المواد الاستهلاكيّة.

وفي خضم أجواء التسابق المحموم في إبداء زينة المرأة ، وإظهار معالم أنوثتها، ومفاتن الجمال في جسدها، أصبح الشغل الشاغل للكثير من النساء في عالمنا الإسلامي هو الاهتمام بزينتهنَّ ، والإمعان في أن تظهر إحداهنّ جميلةً فاتنة تبزُّ زميلاتها، وتجذبُ أكبر عددٍ من عيون الرجال إليها.

حتى راحَ البعض يفلسفون تلك المظاهر ويضعونها تحت شعار الحرية والانطلاق الذي يؤدي إلى التعبير الصادق الذي يخلّص المرأة من الكثير من العقد النفسيّة التي عاشتها النساء جرّاء عمليات الكبت لحاجات الغريزة الأنثويّة، ولما طُبعت عليه المرأة من حبِّ للزينة والجمال!

وإذا كانت تلك المقولات قد استغفلت الكثير من النساء في عالمنا الإسلامي ، إلاّ أنَّ المرأة المسلمة الملتزمة اليوم ، لم تعد تنخدع بها على الإطلاق ... بعد أنَّ وعت إسلامها العزيز ، وأدركت مدى الحكمة البالغة في منهجه الذي يرسمُه القرآن الكريم ... ذلك الكتاب القيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وإننا نقرأ ونسمع كلَّ يوم أنباءً عن تلكم النسوة اللاتي كُنَّ بالأمس القريب يعرضنَ زينتهنّ ومفاتنهنّ في عالم السينما والمسرح تحت شعار (الفن) و(الرقيّ)، حيث نراهنَّ اليوم وقد هجرنَ كلَّ الأضواء الساطعة، والألقاب الكبيرة، والصفقات المليونيّة، وعدنَ إلى وعيهنَّ ورشدهنَّ وأصالتهنَّ. تقول إحداهنَّ (السيدة شمس البارودي) وهي رائدتهنَّ في هذا المضمار: ( لقد كنّا نصلي وندعو الله كي ينجح الفيلم مثلاً، ونصوم ونضع المساحيق على وجوهنا ونقول: ( إحنا ما بنعملش حاجة غلط ) !! إن هذا هو أساس الغلط ، وكل الغلط : إمرأة جميلة يري جمالها المصوّر والمخرج والفنيون، وهي في ملابس (باريس)، وآخر صيحات الموضة ، تتحدث معَ ممثل مثلها لتقول كلمات حبّ ، أو من خلال قصة حبّ ليرى الناس بعد ذلك كلّ هذا، وتقول: ( إنه الفن ما فيهوش حاجة غلط ))!!

وتحوّلت السيدة شمس البارودي من المرأة التي كان همها زينتها ومفاتنها، إلى تلك المرأة المحجبة التي راحت تحمل همَّ دعوة النساء اللواتي خدعتهنَّ صرخات (الفن) و(الموضة) إلى العودة إلى وعيهنّ وقرآنهنَّ: ( إن القرآن الكريم أمَرَ المرأة بغض البصر، وأمَرَ الرجال بغض البصر عنها، فكيف نضعها لتكون (فرجة) يستمتعُ بالنظر إليها أيّ من الرجال )!! .

وقد استجابت لتلك النداءات الواعية الكثيرات من (الفنانات) و(نجمات السينما) المصريّة، وكانت أخيرتهنَّ وليست آخرتهن السيدة (سهير البابلي) التي أحدث إعلانها عن التزامها وارتدائها الحجاب ، وعودتها إلى الإسلام ورفضها المظاهر الزينة المحرّمة ضجّة إعلامية هائلة في مصر في شهر حزيران من العام الماضي .

مما دفع الصحافي المشهور الأستاذ فهمي هويدي لأن يتصدّى لتلك الحملات الإعلامية التي يغضبها كلّ مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية والعودة إلى الذات ، فكتب مقالاً رائعاً بعنوان : (خطيئة الفنانات المحجّبات) حَمَلَ فيه على تلك الصحف المأجورة، والأقلام الموتورة التي شنّت حملتها على (الحجاب) وليس على (الاحتجاب)!!

 

 الزينة الظاهرة والزينة الباطنة:

لم يمنع القرآن الكريم المرأة من إظهار زينتها ، واستعمال ما تحبّ من أدوات الزينة والتجميل ، لأنّ ذلك من طبيعتها وفطرتها التي فطر الله النساء عليها ، باعتبارها الإنسان الذي يمتلك المشاعر المرهفة ، والعواطف الجيّاشة ، ويرنو إلى الزينة والجمال .. بل اعتبر القرآن ذلك حقاً طبيعياً للمرأة : ( َوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ )  الزخرف /  18.

وقد رسمَ القرآن منهاجاً رائعاً في تنظيم تلك الرغبة الفطرية، وأعطى الضوابط والحدود التي تجعل المرأة على بيّنةٍ من أمرها في تعاملها معَ الزينة والتزيّن واستعمال أدوات التجميل: ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا النور / 31 .

من خلال هذا النص القرآني يتبيّن لنا جيداً أنّ هناك نوعين من الزينة للمرأة :

النوع الأول: الزينة الظاهرة:

وهي التي يُسمَحُ للمرأة إبداؤها ، ويجوزُ لها إظهارها أمام الناس جميعاً، مهما كان بعدهم عنها.

النوع الثاني: الزينة الباطنة:

وهي التي لا يُسمَحُ للمرأة إبداؤها، ولا يجوز لها إظهارها إلاّ لأناس معيّنين قد حدّدتهم الآية المباركة ذاتها: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَى‏ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَائِهِنّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَائِهِنّ ...النور /  31.

 

 معنى الزينة:

هناك اتجاهان في تفسير معنى الزينة في قوله تعالى:  ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ).

الاتجاه الأول: جسد المرأة وملامحها الطبيعية:

ويذهب أصحاب هذا الاتجاه في التفسير إلى أنَّ المقصود من الزينة هو مواضع الزينة من جسم المرأة، وليس الزينة نفسها.

 وبذلك تكون الزينة وفق هذا الاتجاه تشمل أعضاء جسم المرأة وملامحها الطبيعيّة.

يقول صاحب تفسير الميزان العلاّمة الطباطبائي (قدّس سرّه):( المرادُ بزينتهنَّ مواضعُ الزينة، لأن نفس ما يُتزيّن به كالقرط والسوار لا يحرم إبداؤه، فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن ).

وهذا الرأي الذي يفسّر الآية تفسيراً كنائياً ذهب إليه صاحب تفسير مجمع البيان العلاّمة الطبرسي(رضي الله عنه) في القرن السادس الهجري، حيث يقول: (ويُظهِرْنَ مواضع الزينة لغير محْرَم ومن هو في حُكمه، ولم يُرد نفس الزينة، لأنّ ذلك مما يجوز النظر إليه ، بل المراد مواضع الزينة).

ويذكر الزمخشري صاحب تفسير الكشاف، في القرن السادس الهجري ، السرّ في هذا التعبير الكنائي في ذكر الزينة وعدم ذكر مواضعها، فيقول: (وذكر الزينة دون مواضعها للمبالغة في الأمر بالتصوُّن والتستر، لأنّ هذه الزينة واقعة على مواضع مِنَ الجسد لا يحلُّ النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن...).

الاتجاه الثاني: أدوات التجميل والمجوهرات والثياب:

يذهب أصحاب هذا الاتجاه في التفسير، وهو الظاهر، إلى أنَّ المقصود من الزينة في قوله تعالى: ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) هو الزينة نفسها، وهي في مواضعها من جسد المرأة باعتبار أنَّ الظاهر من كلمة (الزينة) هو الأمور والأشياء الخارجية التي تُضاف على الخلقة والطبيعة التكوينية.

ويستشهد أصحاب هذا الاتجاه في التفسير بقوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأََرْضِ زِينَةً لَّهَا )، لاستجلاء معنى الزينة ، باعتبار أنَّ الذي على الأرض من نبات وعمران وغيرهما يُعتبرُ زينةً للأرض ، وبذلك يكون معنى زينة المرأة هو كُلُّ ما تزيّنت به من حُليّ وثياب وأدوات تجميل . .

يقول العلامة الشهيد مرتضى المطهري في كتابه القيّم (مسألة الحجاب): (إنّ كلمة (زينة) في لغة العرب شاملة لألوان التجمّل التي تلتصق بالبدن كالخضاب والكُحل ، والتي تنفصل عنه كالمجوهرات والذهب).

ولهذا نستطيع أن نقول إنّ الزينة ـ على هذا الاتجاه ـ تكون على نوعين:

النوع الأول: الزينة الملتصقة: وهي ما تتزيّنُ به المرأة من أدوات تجميل كالحُمرة والكحل وما شابههما من المساحيق التجميليّة التي تستعملها النساء عادةً .

النوع الثاني: الزينة المنفصلة: وهي ما تتزينُ به من أشياء تنفصل عن بدنها، وتشمل كلّ ما تلبسه من حليّ ومجوهرات ، وقد أضاف بعضهم ما تلبسهُ المرأة من ملابس وثياب.

يقول صاحب تفسير (من وحي القرآن) العلاّمة فضل الله (حفظه الله): (ولعلّ هذا الاحتمال هو الذي يظهر من طبيعة الكلمة في مدلولها اللغوي، الذي يعني ما تتزيّنُ به المرأة من الأشياء الخارجية . . . ولا يُنافي ذلك أنَّ الزينة مما يجوز إظهاره في نفسه، لأنَّ المقصود به هو الزينة في مكانها من الجسد ، لا في مكان آخر .

  ولكنّ هناك حديثاً عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فيما رواه في الكافي باسناده عن الفضيل ، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذراعَين من المرأة ، هما من الزينة التي قال الله ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ ) ، قال (عليه السلام): (( نعم وما دونَ الخمار من الزينة ، وما دون السوارين )) مما يؤكد أنّ المراد بها مواضع الزينة .

 

الزينة الظاهرة حدودها ومواصفاتها:

من خلال الاتجاهَين السابقَين في تفسير معنى الزينة ، يتبين لنا المقصود من الزينة الظاهرة في قوله تعالى: ( إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ).

فعلى الاتجاه الأول يكون معنى الزينة الظاهرة هو بعض الأعضاء التي سمحت الشريعة الإسلامية للمرأة إظهارها وابدءاها في المجتمع ، وهما الوجه والكفّان , وهو ما يظهر من بعض الروايات.

وعلى الاتجاه الثاني يكون معنى الزينة الظاهرة هو بعض الأشياء التي تتزين بها المرأة من أدوات الزينة ، وإن اختلفت الروايات في تحديدها.

ففي رواية زرارة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال (عليه السلام): (( الزينة الظاهرة الكحل والخاتم )) .

وفي رواية علي بن إبراهيم القُمّي، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الآية ، قال (عليه السلام): (( هي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسّوار , والزينة ثلاث: زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج ، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها، وأمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوق، والدّملج (سوار العضد) وما دونه، والخلخال وما أسفل منه، وأمّا زينة الزوج فالجسد كلّه )).

يقول العلامة المطهري بعد استعراضه للروايات التي تتحدث عن الزينة: (على أيّ حال ، فهذه الروايات تُفهم أن ستر الوجه والكفين حتى المعصم غير واجب على المرأة ، ولا مانع أيضاً حتى من إظهار الزينة الاعتيادية المتعارف عليها التي توجد في هذين القسمَين (الوجه والكفين) كالخضاب والكحل ، حيث لا تخلو المرأة منها ، وحيث أنّ إزالتها عَمَل خارج عن الحدود العاديّة).

ويبقى الحكم الشرعي ليس من اختصاص هذا البحث التفسيري ، ولهذا فإن على الإنسان أنْ يرجع في ذلك إلى المجتهد الذي يقلّده.