آليات التأثير الجماهيري في القرآن الكريم

من الوسائل المهمّة التي تُساهم ، وبشكلٍ أساسي وكبير ، في إنجاح المشروع الحضاري : وسيلة تسخير أفراد المجتمع ، والاستفادة من طاقاتهم المختلفة في وعي ذلك المشروع .

وهذه الوسيلة لكي تُستخدم استخداماً صحيحاً أو منطقيّاً ، لا بدّ لمَن أراد أن يستفيد منها ، أن يتعرّف ـ أولاً ـ على آليات التأثير الجماهيري والاجتماعي ؛ ليتمكّن من الدخول إلى نفوس الأفراد والتغلغل فيها ، ومن ثُمّ صياغتها بالطريقة الصحيحة التي يدعو إليها مشروعه الحضاري الذي يُؤمن به .

وأكبر أطروحة حضاريّة طرحَتها السماء هي " أطروحة الإسلام " ، الدين الذي خُتمت به الشرائع السماويّة ، وأُريد من خلاله أن يتكامل الفرد والمجتمع ويسيران إلى اللّه تعالى في خط الرضا .

والإسلام في طرحه الحضاري هذا ، يُعدّ القرآنُ الكريم أبرز المصادر التي يتأسّس عليها هذا المشروع ويبتني ويتكامل .

وإذا ما تدبّرنا في آيات القرآن الكريم ، من خلال نزوله التدريجي ليساير واقع الأُمّة ؛ فإنّنا نجده قد استخدمَ آليات التأثير الجماهيري استخداماً صحيحاً ، وسخّرها في خدمة مشروعه الحضاري الذي يريد للإنسان من خلاله أن يكون الخليفة للّه في هذه الأرض ، ملاحِظاً مواصفات خاصّة في مقام استخدام هذه الآليات .

ونحن قبل أن نتحدّث عن الآليّات التي استخدَمها القرآن الكريم ، نحاول أن نسلّط الضوء على معنى هذه الآليات التي يمكن من خلالها التأثير على الجماهير ، ومن ثُمّ تسخيرها في سبيل خدمة المشروع الحضاري الإسلامي .

فالآليّات : عبارة عن الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها الانتقال من الواقع النظري للأطروحة الحضاريّة إلى واقعها العملي ، الذي تكون نتيجته تحقيق الأهداف المرسومة سَلفاً لهذا المشروع .

وبعبارةٍ أخرى ـ ونحن نتحدّث عن آليّات التأثير الجماهيري في القرآن ـ : هي العوامل والأدوات والمناهج التي استخدمها القرآن الكريم في سبيل هداية الأفراد والمجتمعات ، وإيصالها إلى كمالاتها الكامنة فيها ، من خلال فطرتها السليمة ؛ لإيجاد حالة من الانسجام والتفاعل بين الفرد والمجتمع من جهة ، وبينه وبين الطبيعة من جهةٍ أخرى ، على أساس نظام كامل متناسق .

فحيث كان القرآن كتاباً موضوعه الإنسان ـ الفرد والمجتمع ـ فقد استخدمَ وسائل كثيرة في مقام هدايته ، سوف ينصبّ البحث حول آليّات التأثير الجماهيري منها .

 

أهمّ آليّات التأثير الاجتماعي في القرآن الكريم :

أولاً : القصّة القرآنيّة .

لمّا كان القرآن الكريم يتمثّل في الخطاب والبيان الإلهي ، فقد استخدمَ القصّة كأداة تربويّة ، غير مباشرة ؛ لإحداث حالة من الترشيد الاجتماعي على مستوى الوعي والسلوك . ففي الوقت الذي تُمثل القصّة القرآنيّة سَرداً تأريخاً لأُمَم سَلفت ، وبياناً ثقافياً لحضارات اندثرت ، وسبكاً فنيّاً في صياغة الأحداث والأدوار والشخوص في الواقعة ؛ فإنّها في الوقت ذاته ناظرة كلّ النظر إلى تقويم الفكر الاجتماعي والسلوك الأُمَمي .

فالقرآن الكريم عندما يحدِّثنا عن قصّة يوسف (عليه السلام) ؛ فإنّه يريد ترشيد سلوك الآباء تجاه أبنائهم ، لإحداث حالة من التوازن العاطفي في الأُسرة ، التي هي الأساس في بناء المجتمع كمفردة من مفردات القصّة .

كما يريد أن يوحي لنا بأنّ العفة والتحصّن ليسا أمرين مثاليين ، عندما تكون وسائل الإغراء والتمييع متوفّرة كلّ التوفّر ، بل هما حالتان واقعيّتان لا يحتاجان إلى شيء أكثر من الالتفات إلى رقابة اللّه ، التي لا يعزب عنها صغيرة ولا كبيرة في الأرض ولا في السماء .

وهاتان مفردتان في هذه القصّة من شأنها تقويم السلوك الاجتماعي للأفراد بشكلٍ عفوي عندما يعيش أحداث هذه القصّة ، وقيَم الخير والجمال التي ترشد إليها وتتحدّث عنها .

وهكذا في قصّة أصحاب الفيل ، التي تقوّم الفكر تجاه الأحداث والقضايا الخارجيّة ؛ من خلال أنّ القوّة لله جميعاً ، وإنّه مهما بلغت قوى الآدميين فإنّها هباء منثور في مقابل تلك القوّة المطلقة اللاَّمتناهية .

ولستُ أُريد أن أتحدّث عن القصّة وتأثيرها سيكولوجيّاً وتربويّاً في هذا البحث ؛ إذ ليس هنا محلّه ، وإنّما أردتُ الإشارة إلى دور هذه الآليّة ، وفاعليّتها في تحقيق أهداف الطرح الحضاري ، من خلال تأثّر الأفراد في المجتمع فكراً وسلوكاً ، وانتقالهم من حالةٍ لأخرى أرقى منها على مستوى النظريّة والتطبيق .

 

ثانياً : الخطابات الجماهيريّة .

استخدمَ القرآن الكريم خطابات : يا أيّها النّاس ، ويا أيّها الذين آمنوا ، ويا أيّها الإنسان ... في مواضع كثيرة ، تشير إلى تساوي الناس في الخَلق ، وتفاضلهم على أساس التقوى ، وتنبيههم إلى القضايا المصيريّة وغيرها ؛ مِمّا يكشف عن تعامل القرآن الكريم مع الجمهور من خلال هذه الآليّة التي تدعو المجتمع بتمامه ولا تقتصر على فئة دون أخرى ، كما هي المسألة لدى الدعوات العنصريّة أو العرقيّة أو القوميّة ؛ لأنّ القرآن لا يُريد تغيير ساحة دون ساحة ، أو أُمّة دون أخرى ، بل يريد للمجتمعات كلّها أن ترقى من وضعها التي هي عليه إلى وضعٍ أفضل .

ولعلّ القرآن عندما يخاطب الذين آمنوا بالخصوص فلأنّهم يمثّلون النخبة والطليعة في الأُمة ، التي يمكنها أن تحمل الرسالة إلى بقيّة المجتمعات وترشدهم إلى الطريق المستقيم ، فهؤلاء لا شكّ أنّهم بحاجة إلى إعداد خاص من قِبَل المشرِّع ، حتى يكونوا هم الوسيلة في إتمام الطرح وإنجاحه .

ولا ينافي هذا الاهتمام بالنخبة الصفةَ الجماهيريّة التي يتَّصف بها الخطاب القرآني ؛ لأنّه وسيلة إلى تحقيق الأهداف الاجتماعيّة العامّة .

 

ثالثاً : معالجة مشاكل المجتمع .

وهذه الآليّة من أهمّ الآليّات في مقام التأثير الجماهيري ، حيث إنّ الطبيعة الإنسانيّة مجبولة على الميل لمَن يُعالج مشكلاتها والقبول منه ، فعندما يُراد تغذية مجتمعٍ ما بفكرة معيّنة ؛ فإنّ أنجح الطُرق وأنجعها في ذلك محاولة رفع مشاكل ذلك المجتمع على اختلافها وتباينها ، ومن ثُمّ طرح تلك الفكرة ، أو طرح الفكرة متزامنةً مع رفع الحاجات ومعالجة المشاكل . وعندما نراجع الآيات الكريمة من خلال تاريخ نزول القرآن ، فإنّنا نجدها تعالج مشاكل الناس الاقتصاديّة منها ، والسياسيّة ، والنفسيّة ، والتربويّة والماليّة ، وكلّ المشاكل الأخرى .

فالقرآن في نزوله المنجَّم عبر ثلاثة وعشرين عاماً ، كان يلاحق المشاكل التي تَحول دون تقدّم الإسلام والمسلمين على كلّ المستويات ، ويقدِّم العلاج الناجع لها ممّا يقوى موقعه في نفوس معتنقيه ويزيد تمسّكهم به ، ويُرغِّب الآخرين في تبنّيه واعتناقه.

لذلك فنحن نجد القرآن الكريم يُثير المشكلة الفكريّة لدى الناس عندما كانت تعبد الأصنام ؛ ليُشعرها بأنّها تعيش في أزمة إخضاع العقل للخرافات والأساطير ، الأمر الذي يشعر به الكثير من الناس ، بل ربّما حتى سَدَنة الأصنام أنفسهم ، إلاّ أنّ المسألة تحتاج إلى إثارة مقرونة بطرحٍ بديل متكامل ؛ لتستثير العقل وتنشّطه ، وتجيب على كلّ إشكاليّاته وتساؤلاته .

فيثير القرآن الكريم هذه المشكلة ثُمّ يعالجها علاجاً متكاملاً ، يُشعر المجتمع من خلاله بماهيّته ومصداقيّته ؛ الأمر الذي يوثّق العلاقة ، ويشيِّدها بين المشروع الإسلامي والمجتمع .

وهكذا في بقيّة المشاكل الأخرى ، من أحوال شخصيّة ومَدنيّة وجنائيّة ؛ فإنّه إمّا أن يثير المشكلة ليقدِّم الحلّ لها ، وإمّا أن تكون المشكلة أمراً واقعاً ينتظر حلاً ، فتأتي السماء لتقدِّم الحلّ الكامل لها .

 

رابعاً : القيَم الحضاريّة .

لا بدّ للمشروع الذي يُريد أن يغيّر المجتمع أن يكون متوفّراً على قيَم حضاريّة ، يمكن من خلالها حلّ المشكلة الاجتماعيّة التي ما فتئ المصلحون والمربّون يبحثون عن حلّها خلال الحُقب التاريخيّة المختلفة ، ومازالوا كذلك .

إلاّ أنّ المشكلة تكمن في غياب القيَم الحضاريّة عن النظريّة أحياناً ، أو عن التطبيق أحياناً أخرى ، أو عنهما معاً .

وإذا ما تدبّرنا في القرآن الكريم ؛ فإنّنا نجده مليئاً بهذه القيَم ، أعني القيَم الحضاريّة : كاحترام العقل ، والدعوة للتفكير ، وتشجيع العلم ، والدعوة للخير والجمال ، والتأكيد على العدالة والمساواة ، والحث على نشر الحبّ والسلام ، وحفظ الحقوق ، والدعوة إلى النظم ، وفسح المجال للحريّات المختلفة ، وغيرها من القيَم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والتربويّة ، التي تُعدّ عاملاً مهماً في البناء الحضاري .

وفي هذا المجال ، هناك الكثير من الآيات ، إلاّ أنّ البحث فيها وبيان كيفيّة الاستفادة منها ، قد يخرج بنا عن الموضوع ؛ لذلك نُرجئه إلى محل آخر للبحث فيه بإسهاب ، إنّما نريد أن نشير إلى أنّ القيَم الحضاريّة التي أثارها القرآن في طرحه المتكامل ، لا توجد في أي طرح سواه ؛ لأنّها من تشريع خالق الإنسان الذي هو أعلم بطبيعته وما تحتاجه للوصول إلى كمالها .

وعلى كلّ حال ، فهذه الآليّة هي من أهمّ الآليّات وأخطرها في مقام التأثير الجماهيري ؛ لأنّها تُمثّل الأُسس النظريّة للمشروع الحضاري ، الذي لا يمكن لأي جمهور يحترم شخصيّته أن يقبله من دون أُسس متينة وأصيلة .

 

خامساً : المَثَل القرآني .

وهو من آليّات التأثير الجماهيري في الخطاب الإلهي ، إذ إنّ القرآن الكريم كثيراً ما يستخدم المَثَل لتوصيل الفكرة أو تقريبها للجمهور ، ويؤكّد على أنّ هذه الأمثال التي يضربها إنّما يضربها لكافة الناس ، وعلى الناس أن يتدبّروا فيها ليرقى فهمهم للقضايا ، ويرتفع مستواهم العلمي ؛ لأنّ من خصائص المَثَل القرآني أنّ الذي يفهمه يكون من العالَمين كما في قوله تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاّ الْعَالِمُونَ ) (العنكبوت : 43) .

ثُمّ إنّنا إذا ما لاحظنا المَثل من جهة أخرى ؛ فإنّنا نراه من الوسائل التربويّة المهمّة في فهم الفكرة وإيصالها للغير ، ممّا تَجعل الجمهور أكثر تفاعلاً مع الفكرة وأكثر انسجاماً معها ، الأمر الذي يسهل علينا التعامل مع الجمهور وسرعة النفاذ إليه ، والتأثير عليه ، وصياغته بالطريقة التي تمكّنه من حمل رسالة السماء في طريق المشروع الإسلامي .

 

سادساً : الثواب والعقاب .

وهي آليّة لا بدّ منها لإنجاح المشروع الحضاري ؛ لأنّ النفس الإنسانيّة مجبولة على أن ترتدع عمّا تُردع عنه إذا كان في الإقدام عليه عقوبة أكيدة ، وأن تمتثل لِمَا تُؤمر به إذا كان في الامتثال به ثواب أكيد . وبدون هاتين الآليّتين ربّما لا يمتثل الإنسان ولا يرتدع ، وإن حَصلت لديه القناعة الأكيدة بضرر فعل أو نفع آخر ، وإن وجِد مثل هذا الشيء فهو لدى النزر القليل جدّاً من العقلاء . أمّا غالبيّة الناس في المجتمعات المختلفة ، فلا ينزجرون إلاّ مع الترغيب والترهيب ، وحيث إنّنا نتحدّث عن آليّات التأثير الجماهيري ، فحديثنا عن الآليّات التي تؤثّر على المجتمع بشكلٍ عام .

لذلك فإنّنا إذا لاحظنا آيات الكتاب العزيز ؛ فإنّنا نجدها كثيراً ما تركّز على مسألة الوعد والوعيد ، فتعِد المؤمن الصالح بالثواب الأبدي الخالد ، كما أنّها تعِد الكافر الطالح بالعقاب الأبدي الخالد .

وهذه الآليّة ـ بالإضافة إلى كونها مؤثّرة اجتماعيّاً وجماهيريّاً في مسألة إنجاح المشروع الإسلامي ـ هي أيضاً عامل مهم في إحداث حالة من التوازن النفسي والسلوكي لدى الأفراد ، وهو ما عبّرت عنه بعض الروايات بالوسطيّة بين الخوف والرجاء ، التي هي من المواصفات المهمّة في الإنسان المؤمن الذي يعيش حالة من السواء السلوكي .

على كلّ حال ، من شأن هذه الآليّة أن تُحدث حالة من الأمن الاجتماعي في المجتمع ، ينطلق من الرقابة الداخليّة الذاتيّة لدى الأفراد ، كما من شأنها تحريك الأفراد للقيام بمسؤولياتهم وأدوارهم الاجتماعيّة ، من خلال الشعور بأهميّة تحسين العاقبة بالشكل الذي تحقّق رضا الله تعالى الذي نتيجته الثواب الخالد ، وبهذا يتمّ تأمين جانب كبير من إنجاح المشروع الإسلامي في المجتمع .

 

أقسام آليّات التأثير :

هذه الآليّات التي ذكرناها تمثّل مجموعة من آليّات التأثير الجماهيري لا جميعها ، ويمكننا أن نقسمّها إلى ثلاثة أقسام :

1 ـ آليّات في الخطاب .

وهي المتمثّلة في : القصّة ، المَثَل ، الخطاب الجماهيري ، الثواب والعقاب .

2 ـ آليّات في النظريّة .

وهي المتمثّلة في القيَم الحضاريّة بما تشمله من : قيَم أخلاقيّة ، وقانونيّة ، واجتماعيّة وغيرها .

3 ـ آليّات في الواقع .

وهي الّتي تتمثّل في حلّ مشاكل المجتمع وعلاجها .

  مواصفات آليّات التأثير :

أهمّ المواصفات التي تتَّصف بها آليّات التأثير الجماهيري في القرآن الكريم ما يلي :

1 ـ السهولة .

تمتاز هذه الآليّات التي ذُكرت بالبساطة والسهولة ، فهي تخاطب الجماهير بلغة واضحة ، لا تحتاج إلى شيء أكثر من التوجّه إلى أدوات اللغة العربيّة ، والقدرة على فهم نصوصها من خلال معرفة الأساليب العربيّة الفصيحة .

2 ـ المعاصرة .

ويتّضح هذا الأمر من خلال النزول التدريجي للقرآن ، حيث كانت الآيات الكريمة تلاحِق كلّ مستجدّ من مستجدّات الحياة ؛ لتتعامل معه على أساس العقلانيّة والواقعيّة لتضع له الخطوط العريضة والرئيسيّة ، وتحلّ إشكاليّاته المختلفة ، وتسير به إلى شاطئ الأمان ؛ لذلك فإنّ القرآن أراد للمجتمع أن يتكامل بشكلٍ طبيعي جداً من خلال سياسة التدرّج التي لم تكن لتطرح النظريّة بكلّ أبعادها فجأة ، ولم تكن تتأخّر في طرح الفكرة في غير وقتها ، بل كانت تنتظر كلّ فرصة تَسنح لتطرح بُعداً من أبعاد النظريّة ؛ لتستغلّها وتتعامل مع الواقع من خلالها لتؤثّر فيه التأثير المناسب لمَا تتطلّبه مقتضيات المرحلة الزمانيّة والمكانيّة .

ولعلّ ظاهرة النَسخ في بعض الأحكام الشرعيّة ـ التي كانت موجودة في عصر النزول ـ أصدق شاهد على مسألة المعاصرة القرآنيّة للواقع ؛ حيث إنّ النَسخ : عبارة عن انتهاء أمَد الحكم الذي شُرِّع ليناسب مرحلة زمانيّة معيّنة ، ويشبع حاجاتها ومتطلّباتها ، وبمجرّد أن تنتهي هذه المرحلة وتأتي مرحلة أخرى ، فإنّنا نرى أنّ الحُكم يتغيّر بتغيّرها ليناسب المرحلة الجديدة .

ثُمّ إنّ القرآن الكريم بالإضافة إلى اتّصافه بالمعاصرة في عصر النص ؛ فإنّه مُتصف بهذا كذلك في كلّ زمان ومكان ؛ لكونه الكتاب الذي جاء لهداية البشريّة جميعاً ، ولمَا يمتاز به من كونه من عند خالق البشر الذي هو أعلم بما يناسبهم ويصلحهم في كلّ زمان ومكان ، فما جاء فيه من القوانين والسُنن الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تتحكّم في حركة الحياة ، نراها وجداناً في كل أُمّة وفي كلّ مجتمع مهما كان يدّعي لنفسه من التقدّم والتطوّر والحداثة ؛ لأنّها قوانين وسُنن ثابتة لا تتغيّر .

فالآليّات التي استخدمها القرآن الكريم في مقام التأثير الاجتماعي ، تتميّز بهذه الصفة المهمّة التي لها الأثر الكبير في نجاح المشروع الإسلامي .

3 ـ الشموليّة والموضوعيّة

تمتاز آليّات التأثير الاجتماعي التي استخدمها القرآن الكريم بميزتين أُخريين ، وهما : الشموليّة ، والموضوعيّة . فعندما يستخدم القرآن الكريم عمليّة معالجة مشاكل الناس ؛ فإنّه يحاول أن يعالج المشاكل كلّها ومن جميع جهاتها ، ويطرح حلاً شاملاً كاملاً لها ، كما أنّه لا يعيش المثاليّة في طريقته لحلّ المشاكل ، بل يتعامل معها تعاملاً موضوعيّاً وواقعيّاً ؛ بُغية تحقيق أهدافه التي يصبو إليها في تحقيق عمليّة التغيير في الأُمّة ورفع مستواها الفكري والسلوكي .

وهكذا في طرحه للقيَم الحضاريّة ، وهكذا في بقيّة الآليّات ، يحاول أن يكون ما يطرحه يمتاز بهذه المواصفات الأساسيّة التي تُنجح الأطروحة ، وتحقّقها في الواقع العملي .

هذه بعض الآليّات التي استخدَمها القرآن الكريم ، يمكن أن يُستفاد منها في مقام حمل رسالة الإسلام إلى المجتمعات والتأثير فيها .

ــــــــــــــــــــــ

* المصدر : مجلَّة " رسالة القرآن " ( نشرة فصلية تُعنى بالشؤون القرآنية ) ،  دار القرآن ـ قم ، العدد 11 ( رجب ـ شعبان ـ رمضان ) ، 1413 هـ ، ص 193 ـ 200 .