كيف نواجه الصعاب؟

( نظرةٌ قرآنية ) *

القرآن الكريم دستور حياة ، ومصدر تشريع ، ونبراس هداية ، ما فُتئ العلماء يملأون خزائن معرفتهم من كنوزه ، ويستنيرون بآياته الساطعة ، وكما صرَّح القرآن في مُعجز بيانه عن تجلّي بديع صُنع الله في هذا الكائن البشري ـ فخَلَقَه في أحسن تقويم ، مُكرِماً إيّاه ، ومفضَّلاً على كثير ممّا خلق ، ومُسخِّراً له الكون بمشيئته ـ فقد كشف القرآن أيضاً عن نواحي الضعف في هذا الكائن ، فقد خُلِقَ الإنسان في كبد : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ) [ البلد : 4 ] ، ( ... مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) [ الإنسان : 2 ] ، يبتليه ربُّه : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ) [ البقرة : 155 ] .

ومع أنَّ الإنسان استحقَّ التكريم وحمْل الأمانة ، إلاّ أنَّه ( خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) [ الأنبياء : 37 ] ، يُصيبه الهلع ، فإذا مسَّه الشر جزع : ( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ) [ المعارج : 19 ـ 20 ] ، وكما قال علي ( عليه السلام ) : ( إذا استغنى بَطَرَ ، وإنْ افتَقَرَ وَهَنَ ) ، وهو بعد ذلك مسيَّر بالإرادة التكوينية ، وإنْ كان مخيَّراً بالإرادة التشريعية ؛ ومن هنا مُنِحَ الحرّية التي قد تكون سبباً لسعادته أو لشقائه ، ثمّ هو المسؤول بعد ذلك عمَّا يكسب من حسناتٍ ويكتسب من سيئات .

والإنسان بحسب تكوينه معرَّض لمواجهة جملة من المصاعب في مسيرة حياته ، ومهما حاول الإنسان تجنّب الاصطدام بالعقبات ، فهو لابدَّ أنْ يعثر وتزلّ قدمه أو يكبو جواده ، فتتنامى خبرة الإنسان وتزداد بقدر ما يقاسي من مشقّات ، وينمو عنده عامل الوقاية ، يقول ابن حزم : ( كل نائبة من نوائب الدهر تُصيب الإنسان ولا تقضي عليه ، فهي قوّة جديدة له ) .

وإذا استقرأنا الحياة من حولنا ، وجدناها مترَعة بالأمثال الحيَّة ، فمِن ( هيلين كيلر ) ، إلى ( طه حسين ) ، و( المُعرِّي ) وغيرهم ممَّن صدمهم الدهر ، فقدَّموا أروع العطاء وأثرى المنجزات ، وهم لا يتمتَّعون بالقدرة التي يملكها غيرهم ، فبرزتْ فيهم العبقرية والنبوغ .

ولقد كشف القرآن الكريم عن جملة من الخصال يتَّصف بها الإنسان ؛ فتكون سبباً لوقايته وصيانته من هذه الصعاب قبل وقوعها ، إذ تجعله قادراً على تحمّلها وتجاوزها بعد معرفة أسباب تلك المصاعب ، وأنَّ أغلبها ناتج عن قصور الإنسان ومحدودية إدراكه ، وقلَّة تجربته وتسرّعه وقلَّة صبره ، والقرآن حين أشار إلى نقائص هذا الإنسان ، أراد تنبيهه إليها ، وتوجيهه ليُبادر إلى علاجها ، وليساعده على معرفة نفسه ، معرفةً جيدة ، فعندما يُوقِن الإنسان بأنَّ فيه نقائصَ وعيوباً ، يُبادر إلى إصلاحها .

 

صور العلاج في القرآن :

إنَّ الوسائل التي قدَّمها القرآن الكريم للإنسان ـ ليعالج بها نفسه ـ كثيرة ، منها : أنْ يدرك حقيقة نفسه ، ويعرف مدى قدراته ؛ ممَّا يساعده على التكيّف مع العالَم المحيط به ، ( وفي أنفسهم أفلا يبصرون) [السجدة : 27] ، ولقد ميَّزه الله بقوى يستطيع فيها أنْ يدرك الكون كله في الزمان والمكان ، فبرجليه يَذرَع المكان ، ( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) [ العنكبوت : 20 ] ، وبيديه يتناول كل شيء يحتاجه ، وبعينيه يُبصِر المادة ، وبأُذُنيه يسمع الأصوات ، وما نأى عن حواسّه أدركه بالعقل والفكر ، تلك قدرةٌ هائلة منحها الخالق للإنسان ، ولكن أنَّى لهذه القوى المادية والفكرية ـ على أهميَّتها ـ أنْ تقي الإنسان من الكوارث والمصائب ، إنْ لم تُزوَّد بالطاقة الروحية والمعنوية .

 

الإيمان وتقوية الصلة بالله :

( فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا ) [ الجن : 13 ] ، والبخس : هو النقصان والخُسران المادي ، أمّا الرهق : فهو مِن قبيل الخُسران المعنوي ، والمشقَّة النفسية ، كالقلق ، والإحباط ، والجزع ، والخوف وغير ذلك ممّا يعتري نفْس الإنسان ؛ لأنَّ المؤمن يحتسب ، فنفسه مطمئنَّة بذكر الله ، ( أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ الرعد : 28 ] .

ولأنَّه مع الله فهو لا يعرض عنه ؛ لأنَّ مَن أعرض عن ذِكر الله عاش في ضيق وتعب ، كما تشير الآية : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) [ طه : 124 ] ، وهذا ما ابتُلي به أهل عصرنا وحضارتنا المادية ؛ حيث كثرتْ المشكلات النفسية والمصاعب ، وينصح القرآنُ إنسانَ هذا العصر بالتواصي بالحقّ ، والتواصي بالصبر : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [ العصر : 1 ـ 3 ] .

لقد عرفنا أنَّ في الإنسان مواقع ضعف ، كما أنَّ فيه مواقع قوَّة ، فعليه أنْ يدرك الأُولى ليتجنَّبها ، ويعرف الثانية ليستمدّ منها العون ، ويشدّ بها أزره .

ومن أسباب ضعف هذا الإنسان : عجلته وتسرّعه ، وهذا ناتج عن غلبة الهوى ، فينبعث قبل التدبّر والحيطة والتزوّد بالحكمة والتعقّل ، كما قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( اعقِل وتوكَّل ) ، والنفْس إذا اشتهتْ شيئاً ، أو رغبتْ في الوصول إليه أعماها الهوى عن إدراك مخاطر الطريق وعوائقه ، ( فحبُّ الشيء يُعمي ويُصِم ) ، و( صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلاّ قضاءها ) .

وممّا يُسبِّب للإنسان المتاعب في الحياة ، هو بُعده عن الله ؛ لأنَّ الإيمان به من أقوى الأسلحة في مواجهة الحياة ، عند ذلك نُدرك أنَّ كل شيء في قبضة الله وكائن بمشيئته ، فعندما نتقرَّب إلى الله بفعل الواجبات وترك المحرَّمات ، يمنحنا الله طاقة روحية ، تضمن لنا التغلّب على كل ما يعترض سبيلنا من مصاعب ؛ لأنَّنا إذ ذاك نكون قد استعنّا بالقوّة الكونية العظمى ، وكان الله معنا ، فالله وليّ الذين أمنوا ، يُخرجهم من الظلمات ، حيث يعثرون ويصطدمون ، إلى النور حيث يبصرون وينهضون من عثارهم ، كما أنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا ؛ لأنَّ إرادتهم تتوحَّد مع إرادة الله ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا ) [ الحج : 38 ] ، ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) [ البقرة : 257 ] .

وإذا التقتْ الإرادتان : الإنسانية والإلهية ، يتحقَّق النصر والنجاح .

 

التزام الحقّ والرغبة في الكفاح :

إنَّ في إيماننا بالحق ضمانةً لنجاحنا في الحياة وانتصارنا ؛ لأنَّ شريعة الحقّ لا يفلّ لها حدّ ، فالقلَّة في جانب الحقّ لن تُهزم أبداً ، ولأنَّ للحقّ خصائص يستمدّ منها الضعفاء قوّة ، ويتَّخذ منها المؤمنون عبرة ، وفي صفحات التاريخ قصص تُبهِر الأبصار ، كما أنَّ الإيمان بالحقّ يزيد قلب المؤمن صلابة فوق صلابته ، ويجعل من حياة الجهاد والكفاح في نفسه لذَّة لا تعادلها لذَّة . ونتذكَّر ذلك المجاهد الذي كان في يده تمرات يتقوَّت بها ، ولمّا سمع النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ينادي للجهاد ، ألقى من يديه تلك التمرات قائلاً : والله ما بعد هذه التمرات إلاّ الجنّة ، ومضى واستشهد .

ولنذكر ذلك المجاهد الذي كان راغباً في القتال مع النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وكان به عرج ، وهو عمرو بن الجموح ، فأعفاه النبي مراعاةً له ورحمة ، فقال : إنِّي أودّ أنْ أطأ بعرجتي هذه الجنّة ، ومضى واستشهد .

وهذا دليل على الاستهانة بالصعاب ، إذا قَوِيَ إيمان المرء وصدق جهاده ، ولا ننسَ موقف برير بن حضير الهمذاني وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري ، حيث كانا يمزحان قُبيل استشهادهما يوم العاشر من المحرَّم ، ولا ننس قول برير : والله ما هي إلاّ ساعة نُعالج القوم بأسيافنا ثمّ نُعانق الحور العين .

لكن الوقوف إلى جانب الحقّ ليس بالأمر السهل ؛ لأنَّه يتطلَّب من الإنسان أنْ يتجرَّد عن كل منفعة أو مصلحة آنيَّة ، مُعرِضاً عن اللذة العاجلة إلى اللذة الآجلة ، وطريق الحقّ محفوف بالمكاره ، ولا يحتمله إلاّ أولو العزم الموقنون أنَّهم سيصلون ـ بالرغم من معاناتهم ـ إلى تحقيق آمالهم والفوز بأهدافهم النبيلة .

 

العزم والإرادة :

ولقد اقترن العزم بالعزيمة ، وفي المصطلح القرآني يرادف ما نتداوله اليوم من كلمة إرادة ، فالعزيمة هي إرادة مع التصميم ، لأنَّ الإرادة التي هي من وسائل مجابهة الصعاب ، لا تمثّل الرغبة فحسب في فعل الشيء ، بل تعني الرغبة مقرونة بالإصرار ، قال الشاعر :

على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ

ثمّ قَرَنَ القرآن الكريم العزم بالصبر ، فوجَّه الله سبحانه الخطاب إلى رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) [ الأحقاف : 35 ] .

وكذلك قول لقمان لابنه وهو يعظه : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) [ لقمان : 17 ] ، أي أنَّ الصبر من الأُمور التي تُعزى إلى العزم ، وهو شدَّة الإرادة وقوّتها وصلابتها ، وهكذا نتدرَّج في مواجهة الصعاب خطوة بعد خطوة ، فالوعي والإدراك أوَّلاً ، ثمّ الإيمان بالله ، ثمّ التسلّح بالعزم والإرادة ، ولكن بقي علينا أنْ نضمن استمرار هذه الحالة وديمومتها كي لا تضعف إرادتنا فنكبو ، وهنا يأتي دور الصبر الذي هو من أقوى الأسلحة في مواجهة الصعاب .

ـــــــــــــــــــــ

* اقتباس وتنسيق قسم المقالات ، في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) للتراث والفكر الإسلامي ، من مجلَّة : ( نور الإسلام : العدد 89 ـ 90 / ص 38 ـ 40 ) .