القرآن وطريقة التحليل التعامُلي: (transactional analysis)

كما مرَّ بنا في أعلاه فإنّ هذه الطريقة في العلاج النفسي تُعطي أهمية كُبرى لتأثير الوالدين أو من بحُكمهما على تشكيل مشاعر وأحاسيس الطفل في حياته الباكرة وتبقى معه عند البلوغ وربما إلى نهاية الحياة. وقد يحصل أنّ بعض الأفراد يستطيعون أن يتخلَّصوا من هذه التأثيرات، ولكن الغالبية من الناس تبقى تحت هذا التأثير الحاصل في عهد الطفولة المُبكِّر . وما يُسميه أريك بيرن مؤسس هذه الطريقة بالخُطَّة ( script ) الذي أكتسبه الطفل بتأثير الوالدين أو أحدهما يمكن أن يجعل الفرد مدفوعاً   (driven) أو أن يكون مقموعاً (ridden ) ولكنه في الحالتين لا يسمح بنمو شخص حقيقي( real person).  يقول بيرن:( إنّ الطفل هو حبيس والديه: إنّه يُصدّق ويفعل أي شيء يُمكن أن يُكسبه موافقتهما وحُبَّهما. وفي نفس الوقت فإنّه يتفادى ويصدّ عن أية أفكار أو تصُّرفات تُسبّب غضب والديه وبالتالي كراهيتهما وعقابهما. إنّ الطفل، خُصوصاً بين سنّ السنتين إلى ستّ سنوات، يعرف إنّه بدون حماية والديه وحُبِّهما ( أو أولياء أمره) فإنّه لا يستطيع البقاء على قيد الحياة. فإذا أصبح الطفل مُغيّراً أو مُعدَّلاً(  adapted ) فإنّه سوف ينمو ليُصبح شخصاً بالغاً غير طبيعي، أي إنساناً مُستعبداً. إنّه سيتصرف، عندما يصبح بالغاً وربما طيلة حياته، كما أُجبر على أن يشعر ويفكر ويسلك ويتكلم عندما (قَوْلَبَهُ) أبواه( tailored). ومثل هكذا إنسان لا يستطيع أن يُمارس الحياة (الطبيعية) التي يستطيع أن يتذوقها الإنسان الحر. إنَّ الإنسان الحر هو مُستقل ذاتيّا،ً ولهذا فإنّه سوف يقوم على تلبية حاجاته بأفضل طريقة مُتاحة له: إنّه قادر على أن ينظر إلى الأشياء و الإمكانيات التي تزخر بها الحياة بدون هلع أو رهبة. إنّ (استمرارية) الصَفاء والسلام عند الإنسان الحر تمكّنه من أن ينظر إلى الأشياء والأمور بصورة موضوعية، وتمعُّن ويخرج باستنتاجات مُتوازنة يسير على هديها في التعامل مع الحياة: إنّه يتكلم، و يشعر، و يتصرف بما يلاءم استنتاجاته العقلية الموضوعية غير المُتعجّلة. أمّا الشخص (المُستعبَد) فإنّ استنتاجاته (العقلية) مجهّزة له مُسبّقاً : بواسطة انطباعاته الطفولية، وقراراته المبكرة، التي طابقتْ تصوّره عن رغبات والديه. إنّه يتعامل مع جميع المواقف المُستجِدّة بطريقة يجب أن تتواءم مع ما يعتقد أنّ والديه يريدانه أن يُمارس حياته من خلالها.

وإذا ألقينا نظرة على القرآن فإننا نجد إشارات واضحة إلى التأثير الكبير والأثر العميق الذي يمكن أن يتركه الوالدان على الطفل ويستمر معه طيلة حياته: (وإذا قيلَ لَهُمُ أتَّبِعوا ما أنْزَلَ اللهُ قالوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعقِلونَ شَيئاً ولا يَهتَدونَ) (البَقَرَة-170). وفي آية أخرى نقرأ: (وإذا قيلَ لَهُم تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ اللهُ وإلى الرَسُولِ قالوا حَسْبُنا ما وَجَدنا عَلَيْهِ آباءَنا، أوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعْلَمونَ شيئاً ولا يَهتَدونَ) (المائِدة-104). وفي آية أخرى يقول القرآن: ( وَكَذلِكَ ما أرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريَةٍ مِن نَذيرٍ إلاّ قالَ مُترَفوها إنَّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهم مُقتَدونَ) (الزُخرُف-23). وواضح من هذه الآيات إنّ الذين لا يريدون أن يُصدّقوا الأنبياء، لا يحتجّون بما تراه عقولهم وأفكارهم في اللحظة والمكان الذي يناقشهم فيه الأنبياء، وإنما يَحتجُّون بما أملاه عليهم آباؤهم. ألا يتطابق هذا مع ما تقوله مدرسة التحليل التعاملي من أنّ الطفل المُعدّل أو المُغيّر(  adapted  )ينمو ليصبح شخصاً بالغاً (مُستعَبداً)؟ ولا بأس من إعادة ما يقوله أريك بيرن مؤسس هذه الطريقة عندما يكتب : أمّا الشخص (المُستعَبد) فإنّ استنتاجاته (العقلية) مجهّزة له مُسبّقاً: بواسطة انطباعاته الطفولية وقراراته المبكرة التي طابقتْ تصوّره عن رغبات والديه. إنّه يتعامل مع جميع المواقف المُستجِدّة بطريقة يجب أن تتواءم مع ما يعتقد أنّ والديه يريدانه أن يُمارس حياته من خلالها). ومثل هذا الشخص لا يُعتبر شخصاً حقيقياً في عُرف هذه الطريقة والقرآن كذلك لا يعتبر مثل هذا الشخص إنساناً سويّاً: ( أَمْ تَحسَبُ أنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعونَ أو يَعْقِلُونَ، إنْ هُم إلاّ كَالأنْعامِ بَلْ هَم أضَلُّ سَبيلاً) (الفُرقان-44). ففي العُرف القرآني فإنّ الإنسان الذي يصل حدَّ البلوغ ويبقى أسيراً لأفكار ومُعتقدات والديه التي لا تتلاءم مع الطبيعة الحرة يخرج من عِداد البشر ويُصبح من الناحية الموضوعية من صنف (الأنعام) أي الكائنات غير العاقلة أو أكثر ضلالاً منها، لأنّ (الأنعام) لديها غريزتها التي تنفعها في طلب معاشها ، ولكن الإنسان بفقده لقائد فطرته، أي العقل، يصبح بلا دليل وضائعاً تماماً ولا يمكن أن ينطبق عليه تعريف (الإنسان الطبيعي). ويصف القرآن مثل هؤلاء الأشخاص في آية أخرى فيقول:( وَإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسمَعوا وتَراهُم يَنظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبصرونَ) (الأعْراف-198). وهؤلاء الناس إذا لم يُصلحوا حالهم ويستردوا عقولهم فإنهم يكونون من أصحاب النار: ( وقالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنَّا في أصحابِ السَعيرِ) (المُلْك-10). ولهذا فإنّ القرآن رغم حثِّه الإنسان على معاملة والديه بمنتهى اللطف والاحترام فإنّه يضع حدوداً لطاعتهما تقف عند حدّ طلب الوالدين الشرك بالله. وفي تعبيرنا المُعاصر فإنّ الشرك بالله هو إطاعة بشر آخرين في تبديل الطبيعة البشرية أو الفطرة و إنتاج ما تُطلق عليه مدرسة التحليل التعاملي الطفل (المُعدّل) أو المُغيّر( الذي ينمو ليُصبح إنساناً بالغاً "مُستعَبداً). ولننظر مثلاً إلى الآية التالية:( وَوَصَّينا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وإنْ جاهَداكَ لِتُشرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بهِ عِلمٌ فلا تُطِعهُما إلّيَّ مَرجِعُكُم فَأُنَبِّؤكُم بِما كُنتُم تَعمَلون) (العَنكبوت-8). وإذن فإنّ طاعة الوالدين واجبة إلاّ في حالة الشرك بالله أي الاعتقاد بأنّ ما خلق الله في الإنسان يمكن أن يُعدّل أو يُبدّل بناء على رغبة الوالدين أو أية عوامل أخرى. ويعود القرآن في آية أخرى إلى ذكر حدود طاعة الوالدين فيقول:( وَوَصَيَّنا الإنسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهنَاً على وَهْنٍ وَ فِصالُهُ في عَامَيْنِ أن اُشكُر لي ولِوالِدَيْكَ إلَيَّ المَصيرُ. وإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعهُما وصاحِبْهُما في الدُنيا مَعروفاً...) (لُقمان-14-15). إذن فإنّ طاعة الوالدين واجبة في حدود ما تسمح به قوانين الفطرة والعقل، أمّا إذا أراد الوالدان أو أحدهما أن يجعلا من رغباتهما الضيقة المبنية على الجهل بقوانين الكون ونواميسه وطبيعة النفس البشرية فلا طاعة لهما على الإنسان خصوصاً الإنسان البالغ العاقل الذي يُريد أن يعيش حياته حرّاً ،مستقلاً ،غير مُستعبد ولا مُرتهباً. وقد أوردنا سابقاً قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثير العميق للوالدين على سلوك الإنسان ومصيره حين يحدثنا بقوله:( يُولَدُ الإنسانُ على الفِطرةِ مُسلماً، ولكنَّ أبَوَيهِ يُهَوِّدانِهِ، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه). وهذا يعني أنّ الطفل هو فعلاً (حبيس) والديه وأنَّهما يستطيعان، إذا أصّرا، أن يجعلاه يتخذ أي توجُّه فكري، أو عقائدي يجبرانه عليه، بحيث يكون من الصعب جدّاً على هذا الطفل عندما ينمو ويُصبح بالغاً أن يتخلَّص من هذا (القالَب) الذي وضعاه فيه في سنِّ الطفولة المُبكرة. وهكذا نرى أنّ القرآن والإسلام قد ذكرا أسباب وأعراض المُداخلات النفسية لتأثير الوالدين، والبيئة المُحيطة بالطفل، والتي توصّلت إليها مدرسة التحليل النفسي بعد قرون عديدة.