قصة آية العض على الجراح

(إنّ القرآن يجري على آخرنا كما جرى في أوَّلنا ، ويسري في الباقين كما سرى في الماضين ) .

  ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران : 172 ـ 173) .

بعد أن وضَعت الحربُ أوزارها ، طفقَ الصحابة يذرفون دموع الحزن والأسى والتوبة ؛ للخطأ الفادح الذي ارتكبوه ، والنصر المحقّق الذي ضَيَّعوه ، فقد كانت كفّةُ المعركة لصالحهم ، وراحوا يخمدون أنفاس أعدائهم ، ويستأصلونَ شأفتهم ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) (آل عمران : 152) .

ووقفَ الرسولُ القائد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتطّلعُ إلى أولئك السبعين ، من خيرةِ أصحابه البرَرة ، مُخضّبين بدمائهم الزكيّة الطاهرة ، فتدفّقت عليه الآلام والأحزان ، وانفجَرت جراحاتهُ بالنزف ... فها هو يرى عمّهُ الحمزة ، أَسد الله وأَسدَ رسوله ، وقد مُثِّلَ بهِ أشنع تمثيل ، فراحَ يقول : ( ما وقفتُ موقفاً أغيظُ إليّ من هذا الموقف ) .

ووقفَ على جسد الصحابي الكبير مصعب بن عمير ، صريعاً في بُرده : وقال : ( لقد رأيتُكَ بمكّة وما بها أحدٌ أرَقّ حُلّةً ولا أحسن لِمّة ، ثُمَّ أنتَ أشعث الرأس في بُرده ! ) .

وأخذَ يتفحّصُ الشهداء السبعين بمرارة وحرقه ، ثُمَّ قال : ( زمِّلوهم بدمائهم ؛ فإنّهُ ليس أحدٌ يُكْلَمُ في الله ، إلاّ ويبعثه الله يوم القيامة وجرحُه يَدْمَى ، اللونُ لونُ الدم ، والريحُ ريحُ المِسْك ) .

ورجعَ المسلمون من (أُحد) ، وقد أَثخَنتهم الجراحات النازفة ، فاستقبلَتهم المدينةُ بالحزن والبكاء ، وراحت النساء تبكي قتلاهنّ ... من الأزواج والأبناء والآباء ... وقد نسيت بعض المؤمنات المجاهدات أحزانهنَّ ، وشُغلنَ عن أولادهنَّ وأزواجهنّ ... بمرأى النبي الكريم وقد بَدت عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الجراحات في وجههِ ، وكُسرت سِنّهُ الرباعيّة اليمنى من الفك الأسفل .

فجاءت السمداءُ بنتُ قيس ، وقد استشهدَ ابناها ، فلمّا نُعيا إليها ، قالت : ما فعلَ رسولُ الله ؟ قالوا: بخير هو بحمد الله ... فقالت : أرونيه أنظر إليه ، فراحَت تخاطبه بكلِّ وعي المرأة الرساليّة المجاهدة : كُلُّ مصيبةٍ بَعْدَكَ جللٌ (1) يا رسولَ الله !

وأقبلت حمنة بنت جحش ، فقال لها الرسول القائد : ( احتسبي يا حمنة ) ، فقالت : مَنْ يا رسولَ الله ؟ قال : ( خالِك ) ، قالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، غفرَ الله له ورَحمهُ وهنيئاً لهُ الجنَّة ، ثُمَّ قال : ( احتسبي ) ، قالت : مَنْ يا رسولَ الله ؟ قال : ( أخاكِ عبد الله ) ، فاسترجَعت وقالت : هنيّئاً لهُ الشهادة . ولمّا أخبرها عن زوجها مصعب بن عُمير ، صرخت : وا حزناه ! فقال الرسول الكريم : ( إنّ للزوجِ من المرأةِ مكاناً ما هو لأحدٍ من الناس ) .

وتقدّمت المجاهدةُ أُم سعد بن معاذ ، فقال لها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ( أبشري وبشّري أهليهم يا أُمَّ سعد ، إنّ قتلاهم ترافقوا في الجنَّة جميعاً ) ، فقالت : رضينا برسولِ الله سالماً ، وليس مَن يبكي عليهم بعد هذا !

واستقبلَت فاطمةُ الزهراء (عليها السلام) أَباها ومعها إناء فيه ماء ، فَغَسلت وجهه الكريم ، ثُمَّ لَحقهُ أمير المؤمنين ، وقد خضّبَ الدمُ يده إلى كتفه ، وفيه ستون جراحة ، فناولَ سيفَهُ ذا الفقار إلى الزهراء (عليها السلام) وقال: ( خُذي هذا السيف ، فلقد صَدقني اليوم ) ، وأنشدَ يقول :

أفاطمُ هاكِ السيف غير ذميمِ     لـستُ  بـرعديدٍ ولا بليئم

بينما راحت بعضُ النساء الثواكل والأرامل يصرخنَ ، ويجززنَ شعورهَّن ويخدشنَ وجوههنَّ ، ويشققنَ جيوبهنّ ، فغضبَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لذلك ، وقال : ( البكاء من الرحمان ، والصراخُ من الشيطان ) ، وما أن سمعنَ مقولته حتى هدأت أصواتهنّ ، ورحنَ يبكينَ قتلاهنّ بهدوءٍ وصبر .

وانصرفَ الجميع بعد ذلك لتضميِّد جراح المقاتلين ، وإعداد الشراب والطعام للجائعين المتعبين ..

* * *

في تلك الأجواء العصيبة ، وجدَ المنافقون الفرصة سانحة لبث الأراجيف والإشاعات ؛ من أجلِ تكريس أجواء الهزيمة أكثر فأكثر ، وراحوا يثيرونَ الشكوك بحكمة القيادة النبويّة ، ويعلنونَ عن صواب قرارهم بالرجوع في منتصف الطريق ، وعدم اشتراكهم في معركة (خاسرة) ! وأطلقوا أراجيفهم : ( لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ) وأخذوا يردّدونَ على المسامع : ( لو كانَ نبيّاً ما ظهروا عليه ، ولا أُصيبَ منهُ ما أُصيب ، ولكنّهُ طالبُ مُلك تكونُ الدولة لهُ أو عليه ) .

وباتَ الرسول القائد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ساهراً تلك الليلة يُقلبُّ وجهه في السماء ، مفكِّراً بالانعكاسات السلبيّة للهزيمة على المسلمين والدولة الإسلاميّة الفتيّة ، فلا بُدَّ من مبادرةٍ ذكيّة وخطوةٍ عمليّة تُنقذُ الموقف ، ولا تتيح للأعداء الفرصةَ في تكريس أجواء الهزيمة ، لتعيد للمسلمين هيبتهم وللإسلام مكانته ، وخصوصاً ما آلت إليه الأوضاع في الساحة ، حيث أصبحت تُنذِرُ بهجمةٍ شرسةٍ لأعداء الإسلام ، لينقضُّوا على المدينة ، فلا تقوم للمسلمين بعدها قائمة !

وما أن طلعَ فجرُ اليوم التالي ، وإذا بمؤذِّن الرسول يدعو المؤمنين للخروج إلى ميدان المعركة من جديد ! وراحت تردّدُ أصداءهُ بيوت المدينة وشوارعها : الجهاد الجهاد ... القتال القتال ... لقد كانَ القرار هو الخروج في إثرِ قريش لخوض المعركة مَعَ ذلك الجيش الذي رَجَعَ مُكلّلاً بالنصر ... على ما في المؤمنين من الجراحات والآلام والمعاناة ...

وهكذا أعلنَ الرسولُ القائد الحرب ... وهبّت جحافل المؤمنين تلبِّي داعي الجهاد ، يعضّونَ على الجراح ، التي لم تجفَّ دماؤها بعد ! ولم يَسمح للذينَ تخلّفوا عن معركةِ الأمس بالخروج ...

واستخلفَ الرسول ابن أُم مكتوم على المدينة ، وأعطى اللواء إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وسارَ هو في طليعةِ جيشه على بركةِ الله ، يُريدونَ اللحاق بذلك الجيش الذي تصوّر أنّهُ لن يُهزم بعد يوم أُحد أبداً .

وكم كانَ ركبُ المجاهدين رائعاً ومهيباً ، فها هي جراحاتهم ما تزال تنزفُ دماً عبيطاً ، وغبارُ المعركةِ ما زال بادياً على الشعور والوجوه ... ولكنّهُ الشوق واللهفة لخوض القتال والجهاد .

قال محمد بن إسحاق : كانَ يوم أُحُد يوم السبت النصف من شوّال ، فلمّا كانَ الغد من يوم الأَحَد لسِت عشرة ليلة مضت من شوّال ، أذّنَ مؤذّنُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الناس بطلبِ العدو ... وأن لا يخرج معنا أََحدٌ إلاّ مَن حضرَ يومنا بالأمس !

يُحدّثنا أحدَهم ، وهو يصوّرُ لنا طبيعة الأجواء الجهاديّة ، فيقول : شهدتُ أُحداً أنا وأخٌ لي فرجعنا جَريحين ، فلمّا أَذّنَ مؤذّنُ رسول الله بالخروج في طلب العدو ، وتُليت علينا الآية التي أنزَلها الله على نبيّه : ( وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ ) ، تواعدنا على أنْ لا تفوتنا غزوة مَعَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وخرجنا نلحقُ بالمؤمنين ، ونحنُ نكادُ نزحفُ وراءهم ... وكانَ أخي رافع أكثرُ منيِّ جراحاً ، فضعُفَ عن السير ، فتقدّمتُ أحملهُ على ظهري ، حتى لم أعد أقوى على حمله ... ثُمَّ لا ألبثُ أنْ أعود وأحملهُ من جديد ... وما زلنا كذلك حتى وصلنا إلى معسكر المسلمين ...

وهكذا استطاعَ هذان الجريحان أنْ يقطعا مسافة ثمانية أميال ، التي هي المسافة بينَ المدينة وحمراء الأسد .

 

* * *

وفي حمراء الأسد ، أمرَ الرسولُ القائد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المقاتلين أنْ يجمعوا الحطب ، ويجعلوهُ أكواماً متفرّقة في شتَّى أنحاء المعسكر ، حتّى إذا جنَّ الليل ، أمرَهم جميعاً بأن يوقِدوا النيران ، فأوقَدوها ، وعَلت ألسِنةُ اللهب إلى السماء ... وهكذا عملوا في اليوم التالي ...

وكم كانت المفاجأة كبيرةً على قريش ، ولم تكد تُصدّق النبأ الذي وقعَ عليها وقوع الصاعقة ... فكيفَ جاءَ هؤلاء المسلمون الذينَ خرجوا بالأمس منهزمين قد أثخَنتهم الجراح ، وفقدوا خيرة رجالهم ومقاتليهم ...

وارتعدت فرائصُ أبي سفيان ، وهو يسمع بالاستعدادات والتحشّدات الإسلاميّة بقيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حمراء الأسد !

فها هي أَلسِنةُ النيران المتصاعدة تُنبئ عن جيشٍ جرارٍ ، وحشودٍ كبيرة ...

وبَدأَ الوهنُ يدخلُ قلوبَ المشركين ، وذهبَ مَن يتعاطف مَعَ المسلمين وهو معبد الخزاعي ، ليقول لأبي سفيان : محمّدٌ قد خرجَ في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أرَ مثله قط ، يتحرّقونَ عليكم تحرّقاً ، قد اجتمعَ مَعَهُ مَن كانَ تخلّف عنهُ في يومكم ، وندموا على ما صنعوا .

قال أبو سفيان : ويلكَ ما تقول ؟!

قال معبد : والله ، ما أراكَ ترتحل حتّى ترى نواصي الخيل .

قال : فو الله ، لقد أجمَعنا الكرّةَ عليهم لنستأصل بقيّتهم .

قال : فإنّي أنهاكَ عن ذلك ، فو الله لقد حَملني ما رأيتُ أنْ قلتُ فيه أبياتاً من شِعر .

قال أبو سفيان : وما قلت ؟.

قال : قلتُ :

كادت تُهَدُّ من الأصوات راحلتي    إذ سالتِ الأرضُ بالجُردِ الأبابيل
تـردى  بـأُسدٍ كـرِامٍ لا تنابلةٍ    عـندَ اللقاء ولا مِيلٍ عازيل(2)

قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومَن مَعه (3) .

هكذا رجَعَ المشركون إلى مكّة ، وقد لفَتتهم الدهشةُ من عزيمة المسلمين وصرامتهم وإصرارهم على الحرب والجهاد ، رغم ما بهم من القرْحِ والجرْح ، فأنزلَ الله سبحانه في ذلك قراناً : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران : 172 ـ 175 ) .

 * * *

إنّ في الآيات المباركة وقصّتها دروساً رائعة ، لاُ بدَّ من الوقوف عندها والتبصّر في أحداثها ، ولعلّ من أهمّها :

الدرس الأوّل : أنّ الخسارة في معركة من المعارك ، والهزيمة في جولةٍ من الجولات ، لا يعني أن نعيش الهزيمة والضعف ، والاستسلام للجراحات النازفة ، لتتحوّل الهزيمة في معركة إلى هزائم وخسائر وانكسارات في كُلَّ المعارك القادمة ... ذلك لأنَّ عيش الوهن وتسلّلَه للقلوب هُوَ الخسارة الحقيقيّة التي ما بعدها خسارة ؛ لأنَّ الوَهن يشلُّ الحركة والانطلاق ، ويضعِّف القوى عن المقاومة والدفاع ؛ ولهذا جاءَ التحذير القرآني في أجواء الهزيمة : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

 كما وأعطى القرآن سُنّةً من سُنن الصراع : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران : 146) ، وإنّنا إذا تدبّرنا السياق في الآية المباركة ... لرأينا أنَّ الوهن هُوَ العنصر الأول في الهزيمة ، ليأتي بعد ذلك الضعف في ساحة المواجهة ، مِمّا يُؤدّي إلى الاستسلام للأعداء والخضوع والاستكانة ، ولربّما نعرفُ من ذلك مدى التسامح في أقوال أغلب المفسّرين عندما يُفسرونَ الوَهن بالضعف ، ولا يفرِّقونَ بينهما .

وهنا تكمنُ حكمة وحنكةَ القيادة النبويّة بأن لا تسمح للهزيمةِ أنْ تتكرّس ، لتتحوّل من ساحة المعركة ، وميدان المواجهة ، إلى ساحة القلب والنفس والروح ، فتكون الهزائم في كُلِّ مساحة وميدان ، وانكسارٍ في كلّ معركة قادمة ، فلم يسمح الرسول القائد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمقاتلين المتعبين ـ الذينَ أثخنتهم الجراح ـ أنْ يندبوا قتلاهم ، ويبكوا دماءهم النازفة ، وإنّما استطاعَ ـ وبتسديد السماء ، بمبادرته الكريمة ـ أنْ يخلق حالةً جهاديّة متألقّة رائعة ، حيث أمرَ المقاتلين الذينَ لم تجفّ دماؤهم بعد ، أنْ يُلاحقوا الجيش الذي هزمهم بالأمس ، ليخوضوا معه معركةً جديدة حاسمة .

وقد رأينا كيف خرجَ المجاهدون وهم يعضّونَ على جراحهم ، في طلبِ عدوّهم ، مِمّا سبّبَ إدخال الرعب في القلوب ، والوهن في النفوس ... وهكذا سجّل المؤمنون مبادرة استطاعوا فيها القضاء على حالة الوهن ، التي غالباً ما تَحدث في أجواء الهزيمة والفشل والانكسار... فلم تهزمهم مشاعر القرح والألم والجولة الخاسرة ، فإنَّ أمامهم جولات وصولات ، وما عليهم إلاّ أنْ يستفيدوا من التجربة ؛ ليصحّحوا المسيرة ، لينطلقوا من جديد بعزمٍ وبصيرة : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) ( آل عمران : 140) .

ومن جانبٍ آخر ، أرادَ الرسولُ القائد بمبادرته تلك أنْ يوحي للعدو بالقوّة والاستعداد الدائم والمواجهة المستمرّة حتّى في أشدّ الحالات حَراجة ، وفي أكثر المواقف صعوبة ؛ ليُثبت لهم أنَّ الجراح النازفة لا توهنُّ عزم المؤمنين الرساليين ، بل ما تزيدهم إلاّ عزيمة وقوّة ومضاء ، وزيادة في التبصّر بنقاط الضعف والخلل في النفوس والصفوف ... وبذلك وَجدَ الأعداء أنَّ ورقَةَ أُحد لم تكن رابحة ، وليس لها أيّ رصيد في الجولات الآتية .

الدرس الثاني : عندَ كُلِّ  تجربةٍ صعبة قاسية يمرُّ بها المؤمنون ، يزدادُ نشاطُ المثبّطين في الساحة ، فينطلقون ببثِّ الأراجيف والإشاعات الرامية إلى خلقِ حالةٍ من التكريس للمعاناةِ ، والتأكيد على أجواء الهزيمة ، ليعيش المجتمع الإيماني اليأس من أيَّ فَرَجٍ مستقبلي ، وأملٍ في التطّلع إلى تباشير فجرٍ ، يبدّدُ ظلام الهزيمة والانكسار .

ولهذا فقد رأينا المنافقين بَعْدَ أُحد لعبوا دوراً كبيراً في ممارسة أساليب التثبيط والتعويق ، حيث بدأت إذاعاتهم ووكالات أنبائهم تبثُّ برامجها بكثافة ، ليل نهار ؛ لتحوّل الهزيمة في ساحة المعركة إلى ساحة القلب ـ كما قلنا ـ وحينها تتولّدُ الهزائم المستمرّة ، والانكسارات المتلاحقة .

تلك هي لعبة المنافقين وضعفاء الإيمان في ساحة المواجهة والصراع : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) ، ( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ) ، ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) ، ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) ، ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ) (آل عمران : 168 ـ 154 ـ 154 ـ 165) ... وهكذا(4) .

وإذا ما انتقلنا إلى أجواء معركة الأحزاب ، تلك الأجواء الصعبة التي عاشَ فيها المسلمون أقسى لحظاتهم وأحرَجها ... حينما اجتمعَ الأعداء جميعاً تحت شعار : ( يا أعداء الإسلام اتّحدوا ) ، فإنّنا سنجدُ كيفَ لعبت حركة النفاق في تكريس أجواء الهزيمة ... عندما انطلقوا يبثّون إشاعات التثبيط والتعويق : ( يا أهل يثربَ ، لا مُقام لكم فارجعوا ) ( مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً ) (الأحزاب : 12) ، ( قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ) (الأحزاب : 18) ... وهذا ما نجدهُ في سورة الأحزاب .

الدرس الثالث : أنّ التجربة الصعبة لدى الواعين من المؤمنين ، لا تجعلهم يعيشونَ الوهن والضعف ، بل على العكس من ذلك تماماً ... لأنَّ شدّة الهجمة دليل عافية وصحّةٍ واستقامة : ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (القلم : 9) ، ولو أنّهم ساوموا وداهنوا لتحوّلت عداوة أعدائهم صداقةً حميمة (خِلّه) ، وحربهم سلماً ، وكراهيتهم حُبّاً ومودّة : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ) (الإسراء : 73) .

ولعلّ هذا هو السر في العلاقة بينَ شدّة الهجمة وزيادة الإيمان : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ) ( آل عمران : 173) ، حيثُ نرى أنَّ قول المثبّطين والمعوّقين ساهمَ في زيادة الإيمان وصلابة الموقف .

 ونشيرُ هنا إشارة خاطفة إلى أنَّ هذهِ العلاقة بينَ شدّة الهجمة وزيادة الإيمان في الآية المباركة ، قد وقفَ عليها بعض المفسّرين موقف المتدبّر ؛ لاكتشاف سرّها كحقيقة من حقائق الصراع والمواجهة ، فقد اعتبرها بعضُهم حالةً طبيعيّة وقانوناً طبيعيّاً في العلاقة بينَ التحدّي والاستجابة ، فكلّما كانت التحدّيات كبيرة ، جاءت المواقف صلبةً وقويَّة ... ( ولذا كانَ المؤمنون كلّما لامَهم في أمر الله لائم أو مَنعهم مانع زادوا قوّةً في إيمانهم وشدّة في عزمهم وبأسهم ) (5) . واعتبرها البعض الآخر حالةً استحضاريّةً لسُنن الصراع التي كانَت مرتكزة في وعي المؤمنين المجاهدين ، التي ركّزها في أذهانهم القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة ، في ربطه بينَ شدّةِ الهجمة ومجيء النصر : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ) ( يوسف : 110) ، ( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران : 125) ، ( إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (محمد : 7) .

وهذا ما نجدهُ أيضاً في واقعة الأحزاب ، عندما رأى المؤمنون التحشّدات الكبيرة للأعداء : ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً ) (الأحزاب : 22) .

ولهذا ذكر صاحب تفسير الميزان تفسيراً آخر لهذهِ العلاقة بقوله : ( ويمكن أنْ يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذهِ الأخبار ، ما عندهم من خبر الوحي ، أنّهم سيؤذَونَ في جنب الله حتّى يتمّ أمرهم بإذن الله ، وقد وعَدهم النصر ولا يكون نصرٌ إلاّ في نِزال وقتال ) (6) .

بينما فَسَّر البعض الثالث سرّ العلاقة المذكورة بأنّه يرجعُ إلى ما ذكرناهُ في أوّل الدرس الثالث ، وهو : أنَّ شدّة الهجمة دليل صحّةٍ واستقامةٍ في المسيرة... لأنَّ ( التحدّيات الكافرة كلّما كبُرت كلّما كانت دليلاً جديداً على مستوى الخطورة التي تمثّلها حركة الإيمان ضدَّ الكفر ، مِمّا يمنح المؤمن شعوراً بقوّة الموقف في قوّة الإيمان ... لأنَّ ردّ الفعل في حركة الكفر فيما يمثِّله من أساليب العدوان لا يدلُّ على قوّةٍ في الموقف ، بل يوحي بحالة الضعف التي تدفع إلى التشنّج والانفعال العدواني ... وفي هذا الموقف يشعر المؤمنون أنَّ عليهم أنْ يواصلوا الفعل من مواقعهم القويّة ؛ ليرتفع مستوى الحركة إلى أعلى ما يستطيع العاملون أنْ يبلغوه ، وهذا هو وحي القرآن في تصويره لهذهِ الروح الفاعلة الصاعدة : ( فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (7) ، وهذهِ العلاقة لا يحسُّ بها إلاّ المجاهدون العاملون الذينَ يعيشونَ ساحة التحدّيات وميدان المواجهة .

ــــــــــــــــــــ

* المصدر : مجلَّة " رسالة القران " ( نشرة فصلية تُعنى بالشؤون القرآنية ) ، دار القرآن ـ قم ، العدد 11 ( رجب ـ شعبان ـ رمضان ) ، 1413 هـ ، ص 27 ـ 36 .

1 ـ جَلَل : حقير لا قيمة له . قال الراغب في مفرداته : الجَلَلُ : المتناول من البَقَر ، وعُبَّرَ بهِ عن الشيء الحقير ، وعلى ذلك قولهُ : كلّّ مصيبة بعده جلل .

على أنَّ الراغب ذكرَ قبل ذلك أنَّ الجلل : كُلّ شيء عظيم .

2 ـ معاني الكلمات :
تهدُّ : تسقط لحصول ما سمعت من أصوات الجيش وكثرته .
الجرد : الخيل العتاق .
الأبابيل : الجماعات .
تردّي : تسرّع .
التنابلة : القصار .
الميل : جمع أميل ، وهو الذي لا رمح مَعَه .
المعازيل : الذي لا سلاحَ مَعه .

3 ـ تفسير الطبري : في تفسير الآية 173، من سورة آل عمران .

4 ـ الآيات في سورة آل عمران ، وقد نَزلت بعد معركة أُحد ؛ لتصوَّرَ لنا نشاط المرجفين والمعوّقين والمثبّطين في أجواء الهزيمة .

5 ـ تفسير الميزان للطباطبائي 4: 64 مؤسّسة الأعلمي بيروت .

6 ـ الميزان : المصدر السابق .

7 ـ تفسير من وحي القرآن لمحمد حسين فضل الله 6: 252 .