والقمر قدرناه منازِل

المتأمّل في نظام الكون و حركاته ،ينقلب إليه البصر خاسئاً و هو حسير، إذ لا يجد في هذه الحركات و الأفلاك إلاّ النظام التام و الدقة الكاملة يقول تعالى :

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثمّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ)(4) سورة الملك .
و المتأمل في نظام الشمس و القمر و الأرض ، لا يلبث أن تأخذه الدهشة و الذهول من تلك الأجرام المتحركة في تقدير عجيب و توافق غريب ، و ما ينشأ عن ذلك من ظواهر الليل و النهار ، و الشروق و الغروب ، و تطورات الهلال، من محاق إلى هلال إلى بدر ، ثمّ ظواهر الخسوف و الكسوف ، و ما يرافقها من رهبة و دهشة ، و تضرّع و إذعان . فمن هذا الذي خلق هذا الكون كله و قدّره تقديراً ، و قرّر أنظمته تقديراً . سيقولون الله ، فقل أفلا تتقون ؟ يقول تعالى في سورة الرحمن : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)   ( 7 ) سورة الرحمن .
فكلّ ما خلق الله سبحانه من شمس و قمر ، و زرع و شجر ، وسماء و أرض ، بعيدة عن العجز و النقصان ، و الخلل و الطغيان .
 و يقول سبحانه في كتابه العزيز: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )  (40) سورة يس.

 

معلومات عامة عن القمر :

يأخذ القمر نوره من أشعة الشمس ، ثمّ يعود فيعكس على الكرة الأرضية ،بحيث ترى الأرض دائماً نفس الوجه من القمر .
يبعد القمر عن الأرض 356410كم ، ويصل بعده في أدنى اقتراب من الأرض 356400كم ، يبلغ قطره 3476كم ، و سرعته على مداره 3680 كم في الساعة . و حرارته القصوى 117 مئوية ، و حرارته الدنيا 162.7 تحت الصفر . أعلى جبل فيه هو قمة ديورفيف في القطب الجنوبي للقمر ، ويبلغ ارتفاعه 10.5كم بالنسبة إلى سطحه .

 

منازل القمر :

يتحرك القمر باعتباره تابعاً للأرض ، يتحرك حول الأرض فيتم دورته حولها في مدة تقارب 29.5يوماً . و هو ما يسمى بالشهر القمري أو العربي ، لتفريقه عن الشهر الشمسي أو الغربي ، الذي مدته حوالي 30.5يوماً ، و هو مشتقّ من حركة الأرض حول الشمس ، التي تتم في اثني عشر شهراً شمسياً ، و تقدر بحوالي 365يوماً ، و هي السنة الشمسية . أمّا السنة القمرية التي تعادل اثني عشر شهراً قمرياً فتقدر بحوالي 354يوماً.
و لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها ، لرأينا القمر يسير ببطء زائد ، حتى أنّه يدور دورة واحدة فقط حول الأرض في مدة 29.5يوماً . و لكن حركة الأرض حول نفسها تجعلنا لا نلحظ مقدار حركة القمر الصحيحة إلا إذا راقبناه يومياً في نفس الوقت ، مثلاً عند الغروب ، فبمقدار ما يكون قد علا على الأفق يكون مقدار مسيره الحقيقي . و بما أنّه يتمّ دورته الكاملة في حوالي 30يوماً ، و هي تعادل على الأرض 24ساعة ، إذن يتأخر غروب القمر كلّ يوم عن اليوم السابق بمقدار 30/24من الساعة أي 5/4 الساعة ’ أي نحو 48دقيقة ، أي بمعدل ثلاثة أرباع الساعة كلّ يوم تقريباً .

و هذا الارتفاع التدريجي للقمر نحو كبد السماء باتجاه الشرق يوماً بعد يوم ، يسمح له بإظهار نصفه المضيء بالتدريج ، الذي يستمد نوره من الشمس بالنسبة للأرض ، والأرض بينهما تقريباً ، و ظهر بدراً كاملاً يطلع من الشرق عند المغرب . ثمّ بعد نصف الشهر ينتابه النقصان من جديد، حتى يعود إلى المحاق ، حيث يقع بين الشمس و الأرض ، ويكون وجهه المضيء تجاه الشمس ، ووجهه العاتم تجاه الأرض.
ولبيان منازل القمر و كيف يصير هلالاً بعد المحاق ، قال سبحانه مصوراً ذلك : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ....
أي حتى صار كالعرجون القديم ، و هو عرق النخل الذي تشكل منذ عام أو أكثر ، فالهلال يكون مقوساً مثله .

 

ما معنى ولادة القمر علمياً :

و الآن نتساءل كيف يلد القمر ، و كيف يتحول إلى هلال ثمّ بدر ؟ إنّ القمر أثناء دورانه حول الأرض يمرّ بوضعية ينطبق فيها ظاهرياً على الشمس ، و هذا يوافق المحاق . فإذا علا قليلاً عنها بالنسبة للناظر من الأرض قلنا أنّه ولد ، لأنّ الجزء السفلي من وجهة المضيء يبدأ بالظهور . وفي هذه الحالة نحصل على الهلال بشكل حرف (ن) . لكن هذا لا يحدث إلاّ نادراً ، و ذلك عندما تقع الأرض والقمر و الشمس على استقامة واحدة ، و هي حالة كسوف الشمس . أمّا في الحالة العامة فيكون القمر منزاحاً إلى أحد جانبي الشمس . ففي بلادنا يكون منزاحاً إلى جهة يسار الناظر (جنوب ) .
فإذا صار القمر أثناء دورانه على خط أفقي واحد مع الشمس يكون في المحاق .
و بمجرد انزياحه عن هذه الوضعية و ارتفاعه عن أفق الشمس ، يبدأ طرفه المضيء بالظهور، و نقول أنّ القمر قد ولد . ويكون شكل الهلال عندها مثل الحرف (ر) .
بيد أنّ العين البشرية لا تستطيع رؤية القمر بعد ولادته إذا كان عمره أقلّ من ثماني ساعات ، وذلك لشدّة قربه من الشمس، و تأثير ضوئها على وضوحه . وبما أنّ الولادة للقمر متعلقة برؤيته ، فإذا التمسنا القمر عند غروب الشمس و كان عمره أكثر من ثماني ساعات و استطعنا رؤيته نقول أنّه ولد شرعاً.

 

القمر ساعة كونية :

فانظر في هذه الآية الربانية و المعجزة الإلهية ( القمر ) كيف خلقها الله وسواها ، و أحكم صنعها وسيرها .
لا، بل انظر إلى هذه الساعة الكونية التي تبزغ في سمائنا كلّ يوم متزايدة في نورها ، لتعطينا تأريخاً شهرياً منتظماً دورته ، 30 يوماً تقريباً ، فبما أنّ القمر يكتمل نوره 16 يومأً تقريباً ، فإنّ إضاءة نصفه تعادل 8 أيام تقريباً و إضاءة ربعه تعادل 4 أيام تقريباً و هكذا .. فمن نظرة سريعة إلى الجزء المضيء من القمر نستطيع معرفة التأريخ الشهري القمري بخطأ لا يتجاوز اليوم الواحد .
و قد أشار سبحانه إلى هذه النعمة و المعجزة بقوله :
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (5)سورة يونس .
 

الفرق بين السنة الشمسية و السنة القمرية :

ذكرنا أنّ السنة الشمسية تعادل 365 يوماً ، و أنّ السنة القمرية تعادل 354 يوماً ، الفرق بينهما 365 – 354 = 11 يوماً .
و يتراكم هذا الفرق مع توالي السنين ( كلّ سنة 11يوماً ) ، فيصبح كلّ ثلاثة سنوات شهراً تقريباً ، فإذا وقع أوّل المحرّم في أوّل نيسان مثلاً فبعد ثلاث سنوات يصبح أوّل المحرّم في أوّل آذار ، و بعد ثلاثة سنوات في أوّل شباط .. و هكذا يتراجع إلى الوراء شهراً كلّ ثلاث سنوات . و يعود التطابق بين التقويمين الشمسي و القمري كلّ 33 سنة حيث أنّ كلّ 32 سنة شمسية تعادل 33 سنة قمرية ، بفرق يومين فقط . أي يعود الوضع النسبي بين الشمس و القمر و الأرض متماثلاً كلّ 33سنة . و من هذا المنطلق لاحظ علماء الجوّ أنّ الأحوال الجوّية التي تطرأ على الأرض تحدث على نمط متشابه كلّ 33سنة فإذا حصل قحط على الأرض ، فإنّه يحدث قحط مشابه له بعد 33سنة .
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التعادل بين السنة الشمسية و السنة القمرية ، و أنّه كلما مضى مائة سنة شمسية تمضي 103 سنة قمرية ، أي بزيادة ثلاثة سنوات كلّ مائة سنة ، و ذلك في معرض حديثه عن أهل الكهف حيث قال عن مدة لبثهم في الكهف .
( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا )  (25) سورة الكهف .
فإذا حسبنا المدّة على حساب السنة الشمسية تكون 300سنة ، و إذا حسبناها على السنة القمرية تكون 309 أي بفارق تسع سنين .
فسبحان من سيّر النجوم في أفلاكها ، وقدّر سرعتها و سنواتها ، و هو العالم بحركاتها ، تبارك الله أحسن الخالقين.