الاستبداد وأصول الحكم .. رؤية قرآنية لأزمة حضارية

مدخل:

الاستبداد، الطغيان، التسلط، مفردات شكلت ظاهرة متأصلة في الحياة الإنسانية، وإشكالية صبغت معظم فترات التجربة السياسية الإسلامية، خلافاً لمقاصد رسالات السماء وما رسمته من معالم الحكم العادل، مما يدفعنا للبحث؛ من أين تسلل الاستبداد إلى منظومتنا الفكرية ليصبح جزءاً من مكونات واقعنا السياسي والاجتماعي؟ في محاولة لتعرية أصوله ومرتكزاته الفكرية والمعرفية، وللبحث أيضاً كيف فقد الحكم كمصطلح قرآني أصالته ومدلولاته وقدرته على ترشيد الحياة السياسية للأمة؟

فعلى مرّ التاريخ كانت البشرية أمام تحديين، الفوضى في غياب المنهج الرباني، والاستبداد في ظل أنظمة الطغيان، فأيهما شكّل معوقاً حقيقياً لتنمية الاجتماع الإنساني وتقدمه، الفوضى أم الاستبداد؟
 

فوضوية الإنسان:

ينطلق بعض الفلاسفة من فكرة فوضوية الإنسان، باعتبار أنّ الفوضى هي الحالة الطبيعية (الفطرة) في حياة الإنسان، حيث يحاول كُلّ فرد فيها المحافظة على حياته بقواه الخاصة، ولما كان يتساوى مع غيره في هذه القوى جسدية أو ذهنية يصبح الصراع عنيفاً، والواقع أنّ الطغاة غالباً ما تستروا بمخاطر الفوضى والتسيب، ليكون الطاغية هو المنقذ الذي يعيد الأمن والنظام والاستقرار، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ).
وكشاهد على مدى تمسك الناس بالنظام إذا مروا بتجربة الفوضى يساق هذا المثال: جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة، أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك، وبغير قانون بحيث تعمّ الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد، وكان الهدف من وراء ذلك هو أنّه بنهاية هذه الأيام الخمسة، وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فإنّ من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد، إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية.
 

الفتنة:

وقد أشار القرآن الكريم إلى الفتنة كأبرز ظاهرة اجتماعية تتهدد المجتمع بالفوضى، حين تغيب الرؤية ويتنازع على الحقّ، فتمتد المخاطر إلى المجتمع برمته، قال الله تعالى:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
ولكنّ القرآن الكريم إذ يستنكر الفتنة لا يجعلها مبرراً لتكريس الطغيان، وإن شرّع القوّة في مواجهتها، فالهدف هو حاكمية الدين لا الطاغوت. لذا كانت منظومة الطغيان أكثر تناولاً عبر آيات الذكر الحكيم، حين يسوق لنا قصص الأقوام عاد وثمود وفرعون، وهي ممالك قامت على القوة والطغيان: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) وقد جعل الباري عزّوجلّ الكفر بالطاغوت سابقاً للإيمان بالله بقوله تعالى: (فَمَنْ يكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
كما أرسل موسى (عليه السلام) إلى بني إسرائيل، وجعل تحريرهم من سلطة فرعون مقدّماً على دعوتهم للإيمان، ووصف مهمة النبي الأكرم برفع القيود والأغلال المكبلة للإنسان: (وَيضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)4.
 

مدنية الإنسان:

ما تؤكد عليه الرؤيا القرآنية هو سلامة الفطرة الإنسانية حيث يقول تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً)، فالإنسان مدني بالطبع، وإنّه يقبل على الحياة في جماعة سياسية منظمة، لذا كان دائم البحث عن تصور عالمي للكون عن طريق البحث العلمي لمعرفة الحقيقة، وكلما تقدم وعرف حقيقة ما كان يطور بعض الضوابط الخاصة به، وهذا ما جسدته الشرائع والمدونات القديمة.
من هنا كان التطلع لرسالات السماء، لإرساء معالم النظام الإنساني العادل بما يحقق للبشرية الرقي والتقدم والصلاح، وقد تكاملت هذه الصيغة التشريعية الحضارية في رسالة الإسلام، وذلك فيما أرساه من نظام سياسي واجتماعي وما تناولته آيات الذكر الكريم.
وقد تناولت اجتهادات الفقهاء آيات الأحكام لاستنباط الأحكام الشرعية الشاملة لجميع حقول الحياة، غير أنّ ما نحن معنيون به في هذا البحث هو آيات الحكم التي تؤسس لنا خطوط النظام السياسي الإسلامي لإدارة المجتمع.
قال تعالى: (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).
 

الحكم مدخل للاستبداد:

ومع أنّ أهل اللغة يذكرون بأنّ الحكم أصله مَنعَ منعاً للإصلاح، فإنّ الباحث ليقف على مفارقة أنّ الحكم كمفردة قرآنية شكّل مدخلاً لتسلل الفكر الاستبدادي، وذلك حينما فصل اللفظ عن سياقه القرآني، ونظامه المعرفي الأصيل، مما أفرز اختلالاً معرفياً، انعكس على مجريات الحياة الإسلامية العامة.
وهكذا نجد أنفسنا أمام زخم هائل من المقولات والنظريات تهدف إلى انتزاع الحكم من إطار الولاية الإلهية إلى مؤسسة السلطان السياسي، فمن الحكم تفرعت مباحث السلطة، ليختزل الحكم القرآني إلى مفهوم السلطة السياسية المؤسسة على القوة المجردة ومن ثمّ محاولة تبريرها.
كما سنجد أنفسنا أمام تجربة مريرة وتحولات في مباني الفكر السياسي، تشكلت في سياقها اتجاهات متباينة أسهمت في صنع أرضية الاستبداد والتسلط والطغيان.
أنكر بعض المفكرين ورود الحكم بمعناه السياسي، وقالوا باقتصار دلالته على القضاء، وذهبوا إلى أنّ الإسلام لم يخلف نظرية في الحكم السياسي المدني، ولا حتى أي محددات للنظام السياسي،كما نفوا عن الرسول ممارسته للسلطة السياسية، واستدلوا تارة بقول النبي (صلى الله عليه وآله): (هوّن عليك فإنّي لست بملك ولا جبار) وتارة أخرى بما نسبوه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من قوله: (أنتم أعرف بشؤون دنياكم)، كما استدلوا أيضاً بقوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ).
ونتلمس هذا النفي للحكم القرآني كضابط للفكر السياسي مثلاً فيما يستنكره أحد الكتاب:وبدأ تحويل الدين إلى مصدر نظام وقيم سياسية، بهذه القاعدة الخطيرة (ما من أمر إلاّ وفيه حكم في القرآن) فجعلت القرآن مصدر القانون والحكم في المجتمع.
والملاحظة الجديرة بالذكر أنّ النتيجة الطبيعية لفصل الدين عن تنظيم الحياة السياسية وإقصاء القرآن الكريم كمرجعية للحياة السياسية الإسلامية، أن يفتح الباب على مصراعيه لتأسيس النظام السياسي على اجتهادات ذات طبيعة بشرية قاصرة، انتصرت في الأغلب للاستبداد والطغيان، ومع استبعاد الرسول الأكرم كمنظّر سياسي، وكمؤسس دولة خطت الملامح الأولى لفصول الانقلاب على الفكرة القرآنية، ولنتأمل فيما يورده كاتب آخر، حيث يقول: إنّ عثمان بن عفان أوّل من أدرك من الخلفاء تغير الأوضاع، وأوّل من أدرك الحاجة للدولة وللسياسة كسند ضروري للدين، وقال قولته المشهورة: (إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). أي ما لا يمكن المراهنة على تحقيقه بالعاطفة التي يبعثها القرآن والإيمان ينبغي تحقيقه عن طريق القهر والقوة، وبطبيعة الحال لم تكن هذه القوة سوى القمع والطغيان كما في نموذج الدولة الأموية والدولة العباسية وأنظمة الجور التي تعاقبت على الحياة الإسلامية، لذا يجمع المؤرخون على أنّ الدولة بعد الخلافة ولدت كما يسميها السلف دولة عضوضاً (سلطاناً سياسياً) قائماً على القوة والقسر وكانت رديفاً للسلطة والقوة (السلطة القهرية) وكما قال مروان بن عبد الملك: (والله لا يأمرني أحد بالتقوى بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه).
 

مصداقية العودة للقرآن:

هذا التحريف للمفهوم القرآني للحكم وما نتج عنه من إجهاض لمشروع الحكومة الإسلامية ودولة العدل الإلهي، كرّس عند البعض هاجس الارتياب من أي دعوة للعودة للقرآن الكريم، وحاكميته باعتبار أنّ التجربة قد تمّ إجهاضها، ومن ثمّ السلبية حيال تبني المرجعية القرآنية لتنظيم الحياة السياسية تحت مبررات الانقلاب الخطير على حاكمية القرآن، والتحريف الذي طال التجربة الإسلامية.ولعله يؤمن بواقعية القرآن في جانبه الأخلاقي والتعبدي، أمّا القرآن الكريم كمرجعية لترشيد المشروع السياسي للأمة، فهو ليس أكثر من حلم تبدد في أحداث يوم السقيفة.
 

قراءة مضطربة:

فريق آخر جاءت قراءتهم لمفهوم الحكم القرآني مضطربة غير مؤصلة، كما لم يوفقوا في تأويل مفهوم الحكم، هذا الفريق في نهاية المطاف ينتهي بالمفهوم القرآني إلى ذات المفاهيم التي تتحدث بها القواميس السياسية عن السلطة.
ولعلنا نثير هذه الإشكالية عبر تساؤل، لِمَ تحدّث القرآن الكريم عن الحكم، ولم يتحدّث عن السلطة السياسية بشكل مباشر؟ وهل أراد القرآن الكريم بالحكم لفظاً ودلالة ذات المفهوم للسلطة السياسية في الفكر السياسي المعاصر؟.
السلطة بحسب اللغة مشتقة من السلاطة وهي القهر، ومنها جاء مفهوم السلطة السياسية في الفكر السياسي الحديث بمعناها القوة المجردة، ولم يستخدم القرآن لفظ السلطان للدلالة على مفهوم سياسي متعلق بالسلطان أو السلطة المتداول اليوم، حيث ارتبطت كلمة السلطان بمعنى القوة المجردة والحكم بالقوة، وقد استخدم القرآن الكريم السلطان بمعنى قوة الحجة الدامغة التي متى قامت انهار أمامها كُلّ شيء لأنّها حجة مستمدّة من الحقّ فهي تعني الصلاحية، أو القوة الممنوحة أو المرخص بها:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
كما استدلّ البعض على معنى السلطة من مفردة الملك، والملك بمعنى المتصرف بالأمر والنهي لم يستخدم في القرآن الكريم للدلالة على منصب سياسي في نظام الحكم الإسلامي، بل اعتبر الملك من مختصات الباري عزّوجلّ، وذمّ القرآن الكريم سنّة الملوك، في الفساد والاستهانة بكرامة العباد بقوله تعالى: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
ولفهم المقاصد القرآنية في تبنّي الحكم لا السلطة، لا بدّ من الإشارة إلى جوهر المشكلة السياسية، سيّما لمن تعني لهم السياسة السلطة.
 

نزعة التسلط:

جوهر المشكلة السياسية يكمن في قابلية الإنسان للتسلط والطغيان على الآخرين، و تولِّي السلطة بما فيه من احتكار لأدوات العنف في المجتمع، يؤدّي بالنزول بتلك الرغبة إلى التعسف في استعمال السلطة. مع أنّ السلطة ضرورة اجتماعية يقتضيها قيام المجتمعات، ولا تكون الأزمة إلاّ حين تؤسس هذه السلطة على غير مقوماتها الربانية.لذا كانت الدولة تاريخياً تنزع نحو توسيع الصلاحيات، وتقرير السلطان، ونحو مزيد من مركزة السلطة والتحكم في المجتمع.ولكي تحقق السلطة وظيفتها الاجتماعية كان لا بدّ لها من محددات وضوابط ومعايير، وهو ما تتضمنه آيات الحكم في القرآن الكريم.

 

الولاية الإلهية:

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
(قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ).
ورد الحكم في القرآن الكريم على الأغلب بمعنى القضاء والفصل، وفي مواضع استمدّ منه معنى السلطة والسيادة، ولكن ذلك لا يتصور إلاّ في إطار الولاية الإلهية التي يجعلها القرآن الكريم المحدد الرئيسي للحكم ونظامه، فالحكم لله والملك لله وجميع ذلك قائم على الحقّ وموازينه، فالحقّ محور الكون ومحور الرسالات.
ترتبط فلسفة الحكم في الإسلام برؤية شمولية للإنسان والوجود، وتلازم بين الحكم والحق ومنه يستمد الشرعية.
هذه الولاية الإلهية تكرست في نظرية الإمامة الذي تبنته مدرسة أهل البيت مفهوماً قرآنياً أصيلاً، وقد جعلت مقوماتها العلم والفقاهة وهو ما يعرفون به الحكم، ومن هنا يأتي الإحكام أي الإتقان، والحكمة، لذا ورد الحكم في القرآن الكريم جنباً إلى جنب العلم ليكون القاعدة التي تتأسس عليها السلطة لتؤدي وظيفتها في الإصلاح والحفاظ على الدين. قال الله تعالى: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)، وقال: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا). وقال: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
 

حجب الأفكار:

القرآن الكريم هو التجسيد الوحيد للوحي والمعرفة الإلهية وما عداه بشري ومدني، والإشكالية تبدأ حينما يتمّ إخضاع الدين والعقيدة لمنطق السياسة والدولة وتوظيفه فيها، وفي ذلك تكمن أزمة الذين انصرفوا عن المرجعية القرآنية واستدعوا من الثقافات المغايرة كُلّ ما هو دخيل ليكون النتاج الحجب، ففي الوقت الذي يتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء والحكماء والعلماء ومن ورثهم، كان الفكر مأسوراً بمسميات الأباطرة والقياصرة والأكاسرة والفراعنة، حيث عمد البعض إلى ربط السياسة بالأبعاد القيمية المعرفية والفلسفية اليونانية القديمة، حيث يتمّ تعريف القوي بأنّه هو من يفعل ما يشاء حيث يشاء. كما جرى تبني التفسير المسيحي للقوة، حيث بلور (ميكافيللي) مفهوم القوة السياسية بوصفها عملية مستقلة بذاتها وليس لها علاقة بأي شرعية أو تبرير غير سياسي.
 

بين القوة والقيم:

وهنا نصل إلى إشكالية يختزنها الفكر السياسي الغربي تتمثل في التناقض بين الظاهرة الأخلاقية وظاهرة السلطة. يقول أحد الباحثين أنّ علم السياسة هو علم السلطة، ولا يشترط أن تقوم السلطة برضا المحكومين فهي يمكن أن تقوم عن طريق القوة والقهر، ومتى ما وجدت وأصبحت قادرة على إلزام الأفراد باحترام إرادتها والخضوع لسلطانها فإنّها تصبح صالحة لتكوين الدولة. كما يورد آخر أنّ المساواة بين المواطنين يتنافى مع نواميس السلطة التي تتميز بـ(اللاتكافؤ)، فأهمّ النواميس في ظلّ هذا النظام تتحول السلطة السياسية إلى قوة إرغام وعنف تسود العلاقات الاجتماعية، فالتاريخ يشهد أنّ أمر السيطرة على الموارد ومنها البشر كان الدافع الأقوى عبر الزمن وراء قيام واستمرار الأنظمة السياسية. هذا التنامي للقوّة وجدلية علاقتها بالقيم، لربما كانت البيئة التي تجذّر فيها الطغيان والاستبداد ضد إرادة المجتمعات، تبلور بصورته الواضحة في صيغة الدولة التي قامت تاريخياً على القوة لا الحقّ، وفي هذا السياق يندرج سؤال آخر وهو لماذا لم يذكر القرآن الكريم الدولة بوضوح كما ذكر الحكم؟ وهل أنّ طبيعة الدولة وصيغتها الحديثة تتناغم مع القرآن الكريم نصاً وروحاً؟.
 

دولة الحق:

الحكم في القرآن الكريم بمعنى الولاية الإلهية وسلطة الدين، أي قيم الحقّ هو الإطار الذي تصاغ فيه الجماعة المسلمة، فأصل نشوء الجماعات هو تبلور مبدأ أخلاقي لتبرير وجودها ووحدتها وفاعلية مؤسساتها، وقوامه الطاعة للسلطة القائمة فيها، والدولة في هذا السياق ليست سوى نتاج للمبدأ، ولم يتعرّض القرآن الكريم إلى مصطلح الدولة كما هي في مفردات الفكر السياسي، وإن ورد اللفظ في سياق تحديد وظيفة المال من جانب وفي سياق بيان سنة نورد اللفظ في سياق تحديد وظيفة المال من جانب سنة التداول, قال تعالى: (بَالأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)، و: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
لم يتبنّ القرآن الكريم نظرية الدولة كصيغة نهائية أو أحادية، وإن أمكن استيعابها في إطار الحكم ومقومات الدولة، وقد أفرد القرآن خطاباً عريضاً لصياغة مفهوم الأمّة، وبلورة رسالتها بما هو أشمل من إطار الدولة، التي لم يرد أن تتحول إلى معبود للمجتمع، وهو ما حدث تاريخياً، حيث أصبحت الدولة هي الشرط اللازم لوجود الدين، والدولة التي نشأت كنتاج جانبي للدين كادت أن تبتلعه كلياً وتخضعه نهائيا لمنطق مصالحها الذاتية.
وقد نادى القرآن الكريم المسلمين باسمهم كأمّة أي كشعب قائم بدينه وعقيدته: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، وطلب منهم الرحمة وتبليغ الرسالة، وعلمهم مبادئ الحياة الجماعية، والعمل الجماعي، والتعاون المادي، والتضامن الروحي وهي التي ستمكنهم من وراثة الأرض، وشرّع الجهاد كدعوة ونشر للرسالة، ومن خلاله كانت تتبلور مفاهيم الأخوة والتسامح ، تولد فيها الدين كمذهب وقانون وشريعة، وعلى هامشه كانت تتكون مؤسسات، وتترسخ مصالح اجتماعية دنيوية سياسية ومادّية لن تلبث أن تفرض نفسها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من مصالح المسلمين، وبالتالي من مصالح الدين، لذا كان الفارق الأساسي بين دولة الإسلام التي أقامها الرسول الأعظم أنّها دولة حقّ بينما توصف الدولة الحديثة بأنّها دولة ثروة وقوة.
 

محددات القوة:

للقرآن الكريم معالجة دقيقة في رسم العلاقة بين القوة والقيم، فالقوّة ليست هدفاً إلاّ بمقدار ما يعود على الناس من منافع (وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، لإقامة موازين العدل والقسط، والقيم الأخلاقية محددات لضبطها ولكي لا تحيد عن أهدافها، لذا ربط القرآن بين القوة والأمانة: (إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ )، (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) . في الآية الأخيرة دلالة على أنّ الحكم قوامه العلم، ودلالة أخرى على العلاقة بين السلطة والقوة، وقد كان يحيى يكثر التحنن على الناس.
في إطار هذا المشهد تكاملت فصول الاختلال المعرفي لمفهوم الحكم ودلالاته بعيداً عن السياق القرآني، مما كان له المضاعفات الخطيرة على مسيرة الأمّة الإسلامية ومشروعها الحضاري، ويتجلى ذلك في إبعاد نظرية الإمامة، والتي في حقيقة معناها تعني أنّ الرمز الصالح شرط من شروط النظام الصالح ليكون المصداق الذي تتجلى فيه الفكرة القرآنية، لذا كان من أهمّ الشروط التي استدلّ بها الفقهاء على شروط الإمام (رئيس الدولة) العدل و العلم (اجتهاداً).
وخلافاً للمفهوم القرآني للحكم ذهب جمهور من الفقهاء من المخالفين لمذهب أهل البيت إلى انعقاد الإمامة للحاكم بالثورة المسلحة والسيطرة على مراكز الحكم، وإسقاط نظام الحكم السابق، وفرض الإدارة الجديدة بالقوة العسكرية، ولا يحتاج انعقاد الإمامة حينئذ إلى عقد البيعة من قبل جمهور المسلمين، أو من جانب أهل الحلّ والعقد.
في هذا يورد محمد عابد الجابري في معرض تحليله لإشكالية العقل السياسي العربي هذه الإثارة:(إنّ العقل السياسي عند أهل السنّة عموماً إذا عطف على علي بن أبي طالب لا يخفي امتعاضه وتألمه من التردد الذي طبع سلوكه السياسي خصوصاً زمن الفتنة وحين التحكيم). ويتساءل الجابري: لماذا تروي ذات المصادر بكثرة حديث (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثمّ تكون ملكاً بعد ذلك)؟ ويجيب بأنّ الهدف هو إضفاء الشرعية على حكم معاوية المؤسس الأول للملك في الإسلام.
ويتساءل من جديد : لماذا تحاول المصادر السنيّة إثبات شرعية الملك الذي أقامه معاوية بالرغم من أنّها تجمع على أنّه كان انحرافاً عن الخلافة كما كانت زمن الراشدين؟ والتفسير الذي يطرحه هو(أنّهم كانوا يرون في ملك معاوية تأسيساً جديداً للدولة في الإسلام وإعادة بناء لها).
والذي يقرأ المؤلفات السنيّة بتدبّر وإمعان يجد إحساساً بالارتياح إزاء معاوية، لا لأنّه كان أفضل من علي بن أبي طالب، بل لأنّه برهنت الأحداث أنّه أقدر منه إذ استطاع إنقاذ دولة الإسلام من الانهيار التام، وإنّه استطاع أن يلمّ شمل المسلمين وأن يبني دولة قوية.
وإذا نحن نظرنا إلى الدولة بوصفها ظاهرة سياسية فإننا سنجد أنّ ملك معاوية كان فعلاً (دولة السياسة) في الإسلام، الدولة التي ستكون النموذج الذي بقي سائداً إلى اليوم.
يقول علي عبد الرازق: (إنّ محمداً ما كان إلاّ رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنّه لم يكن للنبي ملك ولا حكومة، وإنّه لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الديني كما نفهمه سياسياً وما كان ملكاً ولا مؤسس دولة ولا داعياً إلى ملك).
 

اختلال الثقافة السياسية:

تعرف الثقافة السياسية بأنّها مجموعة المعتقدات والقيم والمثل التي تحكم الأوضاع التي تجري في إطار العمل السياسي، ومع اختلال الفكرة القرآنية ونموذجها التطبيقي كان طبيعياً أن تختلّ الثقافة السياسية، حيث تنامت الطبيعة السلطوية في الثقافة السياسية نتيجة ظهور فكر سياسي أفرزته التغيرات التي طرأت على الأمّة بعد وفاة النبي الأكرم، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).
كما تنامت حالة من الانهزامية النفسية جذرتها ثقافة تبريرية، حتى اعتبر الطغيان جزءاً من الثقافة الشرقية، فقد جرت محاولات عديدة لتفسير الطغيان الشرقي وابتلاع الحاكم كُلّ شيء في الدولة، والاستسلام العجيب من المواطنين، فمنهم من اعتبر أنّ الطغيان الشرقي سائد في الفكر السياسي وأنّ الاستبداد نظام طبيعي بالنسبة إلى الشرق، وأنّ الحكومة المستبدة هي أصلح ما يكون للعالم الإسلامي، فالرجل اليوناني مثلاً لا يطيق الطغيان، بل ينفر منه، أمّا الرجل الشرقي فإنّه يجده أمراً طبيعياً، فهو نفسه طاغية في بيته، يعامل زوجته معاملة العبيد، ولهذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم هو نفسه معاملة العبيد، وقد جاءت في ذات السياق فكرة المستبد العادل أو المستنير كسبيل للنهوض، هذه الثقافة السلطوية التبريرية أدّت إلى الانفصام الظاهر في الشخصية المسلمة، نتيجة لحكم الطاغية واستبداده حيث اعتاد الفرد بأن تكون له شخصية خفية مستترة تتضمن قناعاته ليقول لا، وشخصية أخرى علنية تتكيف مع مقتضيات الواقع السياسي والاجتماعي وتجاريه لتقول نعم، دون أي مقاومة أو محاولة لتغييره، ولربما اتخذ من التقية كمفهوم قرآني تبريراً لذلك.
أصبح الواقع في ثقافة المسلم هو ما تفرضه القوة لا ما تقتضيه السنن القرآنية المسيرة للكون، وبدت تلك الشروط القرآنية لصلاح الإنسان والحياة أموراً مثالية لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، لتسود قيم السياسة لا سياسة القيم، وهو ما يعبر عنه كاتب حين يقول (السياسة هي الحكم والقوة، والتساهل فيها عجز وضعف، والسياسة وحدها تنبع من منابع القوة فهي لا تستقيم إلاّ بالقوة).
في إطار هذه الثقافة المضطربة جرت أوضاع العمل السياسي ليكون محوره القوة السياسية كقوة إرغام وعنف تسود العلاقات الاجتماعية وترسخت قناعة بأنّ قوة أي طرف تبدأ من ضعف الآخر،كما ترسخت قناعة هي الأخطر بالفصل بين ما هو سياسي وما هو أخلاقي، لذا كان من أهمّ نتائج القوة ومتطلباتها تفجر ظاهرة العنف حيث تطور باتجاه تشكله كنظام للعلاقات، وكان العنف هو التجلي الأكثر بروزاً للسلطة.
 

إختلال المشروع السياسي:

يقول أحد المفكرين في معرض تحليله للنظام الديمقراطي الغربي: (إنّهم في المجتمعات الليبرالية ينطلقون في صياغة تنظيمهم المدني من اعتبار حقوق الإنسان لا حقوق الله، فالاهتمام بإرضاء الله ورضاه أو عدم رضاه أمر غائب عن الثقافة السياسية والأخلاقية للأنظمة والشعوب).
وعندما نقترب من المشروع الإسلامي نجده لم يتجاوز هذه الإشكالية، تحقيق غاية مرضاة الربّ وحقوق العباد (الإنسان) ولربما وجد الاستبداد منفذاً، فباسم الرب يقهر العباد، والحقيقة أنّه ما بين الفتنة (فوضى الفكر) والاستبداد كان الإسلام يجهض دائماً كمشروع نهضة ونظام للحكم، تمثل ذلك تاريخياً في حزب الخوارج حين رفعوا شعار (إنّ الحكم إلاّ لله) في فوضوية فكرية وتطرف وعنف استهدف المجتمع ومثل تعدياً على الشرعية.
هذا وفي التجربة الحديثة للمشروع الإسلامي الناهض لا زال الفكر السياسي يشهد المزيد من التحولات لبلورة مفهوم حضاري للحكم ومحددات للسلطة، جميع ذلك يجرى على خلفية إشكالية لا زال الفكر السياسي لم يتجاوزها على مستوى النظرية والتطبيق، وهي إشكالية العلاقة بين القوة والقيم، من هنا يمكننا رصد ما يسمى بظاهرة العنف الأصولي التي طغت على الأبعاد القيمية الإسلامية، كما تظهر هذه الإشكالية وعلى مستوى أكبر في المناقشات الجادة بشأن مخاطر الاستبداد الديني، فالمأزق الحقيقي حين يجد الحكم الديني ذاته في مواجهة المجتمع ويصبح بقاء النظام مرهوناً بآليات المنع والإكراه، وهل يتحقق آنئذ المقاصد العامة للولاية بالحفاظ على الدين والمصلحة العامة للناس وهدايتهم؟.
ولعلّ ذلك يشكل خلفية ما ذهب إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين من رأي للخروج من إشكالية العنف التي صبغت المشروع الإسلامي، يقول يجب ألاّ نطرح الإسلام كمشروع حكم لأنّه في الواقع هو ثقافة، وهوية المجتمع، وهو سياسياً مشروع المجتمع، فإذا طرح فوراً كمشروع حكم سيكون الإسلام مشكلة المجتمع، وسيكون الإسلام في مواجهة المجتمع فلكي لا يتحول الإسلام إلى قوة مواجهة لا مع الأنظمة ولا مع الشعب وإنّما يكون قوة ترشيد وردع.
ومع ذلك تبقى الإشكالية قائمة فقوّة الترشيد تعني قوّة الفكر والمنطق والعلم، أمّا قوّة الردع فأدواتها القوة ولربما العنف، إنّ سؤالاً حقيقياً يفرض ذاته في هذا السياق، وهو وظيفة السلطة بما يحقق التنمية والصلاح.