ذكرى جريمة الوهّابيين في تدمير قبور

مأساة هدم قبور الأئمة الطاهرين(ع) وقبور امهات المؤمنين والصحابة بواسطة الوهابيين

في الثامن من شوال 1344هجرية(1925م)

 

ذكرى جريمة الوهّابيين في تدمير قبور

 

أئمة أهل البيت وأمهات المؤمنين والصحابة في البقيع

في الثامن من شوّال سنة 1925م


البقيع في اللغة:

البقيع هو المكان الّذي فيه أُرُوم الشجر من ضروب شتى, ويطلق علىٰ مقبرة البقيع أيضا إسم بقيع الغرقد.
وورد في (عمدة الأخبار في مدينة‌ المختار) إن البقيع: في اللغة المكان، وقال قوم: لا يكون بقيعاً إلاّ وفيه شجر، وبقيع الغرقد كان ذا شجر، وذهب الشجر وبقي الإسم، وهو مقبرة بالمدينة الشريفة من شرقها، ويقال لها كَفْته بفتح أوله وإسكان ثانيه بعدها تاء معجمة باثنين من فوقها: إسم لبقيع الغرقد وهي مقبرة , وهذا الإسم مشتق من قوله عزّوجلّ: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً ) سميت بذلك لأنها تكفت الموتىٰ أي تحفظهم وتحرزهم.
وذكرها الحموي في معجم البلدان فقال: أصل البقيع في اللغة الموضع الّذي فيه أروم الشجر من ضروب شتىٰ و به سمي  بقيع الغرقد ـ والغرقد ـ كبار العوسج .
البقيع كمقبرة:
الظاهر من المصادر التاريخية إن أول من دفن بالبقيع هو عثمان بن مظعون (رضوان الله عليه) وهو أخو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرضاعة كما قيل , وبعده دفن إبن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إبراهيم.
ففي وفاء الوفاء للسمهودي روىٰ إبن زبالة عن قدامة إبن موسىٰ إن أول من دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالبقيع عثمان بن مظعون قال: وروىٰ أبو غسان عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه لما توفي إبراهيم إبن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون فرغب النّاس في البقيع وقطعوا الشجر فاختارت كل قبيلة ناحية فمن هنالك عرفت كل قبيلة مقابرها.
 قال: وروي إبن أبي شبه عن قدامة بن موسىٰ : ( كان البقيع غرقداً فلما هلك ! عثمان بن مظعون دفن بالبقيع وقطع الغرقد عنه ) .
وهكذا فقد إتجه النّاس آنذاك إلى الدفن في البقيع للتبرك بمن دفن هناك، خاصة إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزور البقيع ويدعو لأهلها,
 فقد ورد في سنن البيهقي : عن عائشة: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج إلى البقيع فيقول: (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون, وأنّا بكم إن شاء الله لاحقون ، اللهم إغفر لأهل بقيع الغرقد )) .

 

موقع ومساحة البقيع:

تقع جنة البقيع غير بعيد عن المسجد النبوي من جهته الجنوبية الشرقية خارج سور المدينة القديم الذي إختفى حالياً ، ويصلها بالمدينة باب في ذلك السور (من جهة الشرق) كان يسمىٰ باب البقيع .
أما اليوم فإنها تقع داخل المدينة وتحيط بها الشوارع من الجهات الأربع . . وقد كانت أبعادها 150 × 100 متر وهي الآن مسورة من جميع النواحي بالاسمنت ، وقد أصلحت أسوارها حديثاً وأنشئت بها الممرات الأسمنتية ليسهل المرور والدفن ، لا سيما وقت المطر ، وقد أدخلت بها أراضٍ جديدة وإتسعت اليوم أكثر من هذا , كما إن قسماً من البقيع كان يسمي ( بقيع العمّات ) حيث دفنت به عمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدر مساحته بـ 3493 متر مربع ، كان يفصله عن البقيع العام زقاق إسمه زقاق "عمقه" مساحته 824 متر مربع ، وقد ضم البقيعان اليوم إلىٰ بعضهما، وأزيل زقاق عمقه ، وهو ما نسميه اليوم درب صيران باب الجمعة ، وقد أزال السعوديون الجدار عام 1373 هـ.
واليوم فان البقيع يحيط به سور من الجهات الأربع كان منذ عهد العثمانيين، وقد قام السعوديون بترميمه فيما بعد .

 

المدفونون في البقيع:

كما ذكرنا بأن أول من دفن بالبقيع هو الصحابي المعروف عثمان بن مظعون وذلك في السنة الخامسة للهجرة ، حيث قام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه بعملية الدفن وعن ذلك يقول صاحب (وفاء الوفاء) انه: ( لما مات عثمان بن مظعون ودفن , أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله فقام إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  وحسر على ذراعيه (قال الراوي) كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين حسر عنهما ثم حمله فوضعه عند رأسه وقال: (( أتعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي )) .
وروىٰ أبو غسان عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه لما توفي إبراهيم إبن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون فرغب النّاس في البقيع وقطعوا الشجر فاختارت كل قبيلة ناحية .
وقد دفن بالبقيع فاطمة الزهراء (عليها السلام) حسب بعض الروايات ، وأربعة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهم:
الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام).
والإمام علي بن الحسين  بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
وأبنه الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام).
وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).
وممن دفن كذلك في البقيع:
■  إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ العباس بن عبد المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
■ الحسن بن الحسن (عليه السلام)
■ عقيل بن أبي طالب أخو أمير المؤمنين (عليه السلام)
■ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)
■ إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام)
■ محسن السقط ابن الإمام أمير المؤمنين (ع) على احتمال فإن قبره مجهول
■ محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب (عليه السلام)
■ الحسين بن علي بن الحسين (ع)  
■ الحسن بن جعفر (عليه السلام)
■ عبد الله / من أحفاد الإمام الحسن المجتبى (ع)
■ محمد ذو النفس الزكية / على قول
■ بعض أولاد الأئمة مثل أولاد الإمام السجاد (ع) والإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) والإمام الكاظم (ع)
■ فاطمة بنت أسد والدة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
■ فاطمة أم البنين زوجة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
■ رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ أم كلثوم بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  
■ عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ جمانة بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) / على قول
■ عبد الله بن جعفر الطيار.
■ الحسن المثنى بن الامام الحسن المجتبىٰ
■ أم سلمة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ مارية القبطية زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ أم حبيبة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ زينب زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ صفية زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ ميمونة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ ريحانة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ سودة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ جويرية زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ حفصة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ حليمة السعدية مرضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
■ عثمان بن مظعون
■ جابر بن عبد الله الأنصاري
■ مالك الأشتر  
■ عبد الله بن مسعود
■ بعض شهداء أحد
■ شهداء واقعة الحرة
■ جمع من الصحابة مثل  أسعد بن زرارة الخزرجي , أبو سعيد الخدري , أسيد بن الحضير,  زيد بن ثابت , أبو هريرة , وغيرهم وقيل عشرة آلاف صحابي دفنوا فيها
■ بيت الأحزان ، وهو البيت الذي بناه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) للزهراء(ع) لكي تبكي فيه على الرسول (ص) بعد أن منعها القوم من البكاء في دارها.

 

قصة قتل السعوديون الوهابيون أهلَ المدينة
 ونهب خزائن الرسول وهدم البقيع

مما يؤسف له حقاً بان المصادر التاريخية لم تذكر عن الهدم الأول للبقيع إلاّ نزرا يسيراً نذكر جانباً منه هنا..

 ففي سنة 1220هـ (1805م) دخل السعوديون المدينة بعد ما زعم عن مبايعة البعض لهم ويذكر إبن بشر تفاصيل القضية فيقول :
( وفي أول هذه السنة قبل مبايعة غالب بايع أهل المدينة المنورة سعود على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، وهدمت جميع القباب التي وضعت على القبور والمشاهد وذلك إن آل مضيان رؤساء حرب وهما بادي وبداي إبني بدوي بن رمضان ومن تبعهم من عربانهم أحبوا المسلمين ووفدوا على عبد العزيز وبايعوه، وأرسل معهم عثمان بن عبد المحسن أبا حسين يعلمهم فرائض الدين ويقرر لهم التوحيد.
 فأجمعوا علىٰ حرب المدينة ونزلوا عواليها، ثم أمر عبد العزيز ببناء قصر فيها فبنوه وأحكموه وإستوطنوه، وتبعهم أهل قباء ومن حولهم وضيقوا على أهل المدينة وقطعوا عنهم السوابل وأقاموا علىٰ ذلك سنين، وأرسل عليهم سعود وهم في موضعهم ذلك الشيخ العالم قرناس بن عبد الرحمن صاحب بلد الرس المعروف بالقصيم , فأقام عندهم قاضياً معلماً كل سنة يأتي إليهم في موضعهم ذلك , فلما طال الحصار علىٰ أهل المدينة وقعت المكاتبات بينهم وبين سعود من حسن قلعي وأحمد الطيار والأعيان والقضاة وبايعوا في هذه السنة ).
ويروي صاحب لمع الشهاب القصة بتفصيل أكثر عندما يقول :
( فلما قرب إلى المدينة أرسل إلىٰ أهلها بدخوله، فأبوا وإمتنعوا من ذلك, فحمل عليهم كراراً حتىٰ دخلها بعد وصوله بخمسة وعشرين يوماً، فقتل منها بعض النّاس حيث سمي أهلها الناكثين! ، لذلك إستباح دمهم حتىٰ بعد الحرب، فدخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزاره، ولبث فيها عشرة أيام لم يحرك منها ساكناً...).
ويضيف:( ويوم الحادي عشر، جاء هو وبعض أولاده ومن يعز عليه، فطلب الخدم السودان الّذين يخدمون حرم النّبي ، فقال: أريد منكم الدّلالة علىٰ خزائن النّبي، فقالوا بأجمعهم .. نحن لا نوليك عليها، ولا نسلطك، فأمر بضربهم وحبسهم، حتىٰ أضطروا إلى الإجابة، فدلوه علىٰ بعض من ذلك فأخذ كل ما فيها، وكان فيها من النقود ما لا يحصىٰ ، وفيها تاج كسرىٰ أنوشروان ، الذي حصل عند المسلمين لما فتحت المدائن، وفيها سيف هارون الرشيد، وعقد كان لزبيدة بنت مروان زوجته ، وفيها تحف غريبة من جملة ما أرسله سلاطين الهند بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم) تزينا لقبته (صلى الله عليه وآله وسلم) , وأخذ قناديل الذهب، وجواهر عديدة، ثم انه رتب في المدينة أحداً من آل سعود ، وخرج إلى البقيع يريد نجداً ، فأمر بتهديم كل قبة كانت في البقيع، وتلك القبب قبة الزهراء فاطمة بنت الرسول (رضي الله عنها) وقبة الحسن بن علي (رضي الله عنه)، وقبة علي بن الحسين (رضي الله عنه)، وقبة محمد الباقر، وقبة جعفر الصادق، وقبة عثمان (رضي الله عنهم أجمعين).
ويقول الجبرتي في تاريخه عن يوم 15 رجب 1220هـ (9 أكتوبر 1805م): ( وفيه: وردت الأخبار بان الوهابيين إستولوا على المدينة المنورة علىٰ ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ـ بعد حصارها نحو سنة ونصف من غير حرب، بل تحلقوا حولها، وقطعوا عنها الوارد، وبلغ الأردب الحنطة بها مائة ريال فرانساً , فلما إشتد بهم الضيق سلموها, ودخلها الوهابيون ولم يحدثوا بها حدثاً، غير منع المنكرات وشرب التنباك في الأسواق، وهدم القباب ، ما عدا قبة‌ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)) .
وقيل بإن الشريف غالب عاهد الوهابيين علىٰ ( ترك ما حدث في النّاس من الإلتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات وما أحدثوه !! من بناء‌ القباب على القبور والزخارف وتقبيل الأعتاب !! والخضوع والتذلل، والمناداة والطواف، والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها... فعاهده علىٰ منع ذلك وعلىٰ هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده ) .

 

البقيع بعد الهدم الأول:

مر الرحالة الحاج عبد الله بورخارت بالمدينة المنورة في أواخر القرن التاسع عشر وذلك بعد تهديم الوهابيين للبقيع فوصفها وصفاً مؤثراً جاء فيه :
( في اليوم الذي يلي أداء الحاج واجباته للمسجد والحجرة ، تجري العادة بذهابه إلی مقبرة المدينة تكريماً لذكری القديسين الكثيرين المدفونين بها ، وهي تجاور أسوار البلد علی مقربة من باب الجمعة وتسمی ( البقيع ) صورتها مربع مكون من بضع مئات من الأذرع يحيط به جدار يتصل من الجنوب بضاحية المدينة ، وتحيط به من سائر نواحيه مزارع النخيل ، وهذا المكان حقير جداَ بالنظر إلی قداسة الأشخاص الّذين يحتوي رفاتهم ، ولعله أشد المقابر قذارة وحقارة بالقياس إلی مثله في أية مدينة شرقية في حجم ( المدينة ) فليس به متر واحد حسن البناء ، كلا بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة إتخذت غطاء للقبور ، إنّما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة ) .
 ويضيف بورخارت بالقول: ( ويعزی تخريب المقبرة إلی الوهابيين فيشير إلی بقايا القبب والمباني الصغيرة التي عمدوا إلی تخريبها من فوق قبور العباس وبعض الأئمة وعثمان وستنا فاطمة وعمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة ومزابل) .!!
إخراج آل سعود الوهابيين من المدينة المنورة
من قبل جيش محمد علي باشا
لقد حز في نفوس المسلمين في العالم الأفاعيل الشانئة التي قام بها السعوديون الوهابيون في المدينة المنورة من قبل النّاس وتهديم للآثار الإسلامية وإهانة لمقابر الأولياء والصالحين فيها .. ولذلك فقد عم الغضب الإسلامي سائر البلاد الإسلامية، وإرتفعت وتيرة المطالبات الشعبية بتحرير الأماكن المقدسة من القيود السعودية وإعادة الهيبة والإحترام إليها كما كانت فيه علی الدوام.
وقد شجعت هذه الأجواء (بالإضافة إلی الرغبات العثمانية في الهيمنة علی الحجاز) الدولة العثمانية علی التفكير في إستردادها، ولذلك فقد طلبت من واليها علی مصر محمد علي باشا البدء في الإستعداد لإستعادة السيطرة علی الحجاز في عام 1222هـ 1807م وهكذا بدأ محمد علي باشا في إرسال قواته إلی الحجاز بعد تردد وكانت أول دفعة أرسلها في 19 رجب 1226هـ , 8 أغسطس 1811م عن طريق البحر تلتها قوة أخری في 5 شعبان 1226هـ 26 أغسطس 1811م كما أرسل قوات برية بقيادة إبنه طوسون عن طريق العقبة إلی ينبع المكان الّذي إتفق ان يكون (مكان التّجمع والإلتقاء للقوات البحرية والبرية) ، وقد بلغ عددها ثمانية آلاف جندي ولم تجد القوات بقيادة طوسون صعوبة في النزول في ينبع وذلك لمساعدة الشريف غالب لها.
وقد تمكنت هذه القوات من إنزال أول هزيمة بالقوات السعودية في البداية وبدأ طوسون في التخطيط للزحف نحو المدينة المنورة .. وهكذا كان، لكن القدر علی موعد سيء معه حيث هزمت قواته في وادي الصفراء وقتل عدد كبير منها وفر الباقون (ثلاثة ألاف جندي) إلی ينبع في حالة ذعر وفزع .
وقد أرسل طوسون في طلب المدد من أبيه محمد علي باشا حيث وصله فيما بعد فبادر إلی نقل مواقعه إلی بدر (1227هـ. 1812م) وقام بتنظيم قواته وترتيبها ثم زحف إلی وادي الصفراء وأحتله ثم توجه نحو المدينة المنورة .. وقد ( وصلت قوات طوسون تساندها قبائل حرب وجهينة إلی المدينة المنورة، بعد رحلة مضنية نتيجة لوعورة الطريق، وبعد المسافات، وشدة الحر، التي إضطرت الجيش أن يسير بالليل ويستريح في النهار، وحاصر طوسون بقواته المدينة مدة طويلة، تمكن في أثنائها من فتح ثغرات في سورها، بواسطة المتفجرات فأضطرت القوات السعودية الوهابية الَّتي كانت متحصنة بها إلی الإستسلام، بعد أن فتكت الأمراض بها نتيجة لطول مدة الحصار وقطع المياه والطعام عنها، وأرسل طوسون لوالده بشائر النصر مصحوبة بثلاثة آلاف من آذان القتلی، ومفاتيح الحرم النبوي الشريف ) وكان دخول المدينة المنورة في التاسع من شهر ذي القعدة وقد سقطت بعد عدة أيام من دخولها .
إستسلم الأمير عبد الله بن سعود إلی إبراهيم باشا في 8 ذي القعدة 1233هـ , 9 سبتمبر 1818م وبهذا سقطت الدولة السعودية الأولی.


العثمانيون يعيدون بناء البقيع

عندما إستعادت الدولة العثمانية المدينة أعادت إليها عمارتها وقامت ببناء الآثار الإسلامية التي هدمها الوهابيون، وقد (أعادوا بناء الكثير من القباب وشادوها علی صورة من الفن تتفق مع ذوق العصر) ، (ساعدها في ذلك تعاون العلماء مع دولة الخلافة العثمانية بالإضافة إلی التَّبرعات السَّخية والأضرحة الجاهزة التي كانت تأتي من كافة العالم الإسلامي) .

 

صاحب (مرآة الحرمين) يعدد القباب المبنية في البقيع

( لذلك لا تعرف قبورا كثيرة منهم إلاّ أفراداً معدودة أقيمت علی قبور بعضهم قباب ، ومن أولئك الأفراد إبراهيم ورقية وفاطمة أولاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفاطمة بنت أسد أم عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، وعبد الرحمن إبن عوف، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وأسعد بن زرارة، وخنيس إبن حذافة السهمي، والحسن بن علي، ومعه في قبره إبن أخيه زين العابدين علي بن الحسين، وأبو جعفر الباقر محمد بن زين العابدين، وجعفر الصادق بن الباقر.
 وممن علم قبره بالبقيع العباس بن عبد المطلب، والامام الحسن بن علي، والامام علي بن الحسين والامام محمد الباقر والامام جعفر الصادق و تجمعهم قبة واحدة هي أعلی القباب التي هناك ،  كقبة إبراهيم وقبة عثمان بن مظعون التي بناها السلطان محمود سنة 1233هـ، وقبة الزوجات، وقبة إسماعيل بن الامام جعفر الصادق، وقبة مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة، وقبة نافع شيخ القراء، وهناك قبة تسمی قبة الحزن يقال إنها في البيت الذي آوت إليه فاطمة بنت النبي والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان بالبقيع قباب كثيرة هدمها الوهابيون ).

 

مدخل البقيع

تدخل البقيع وعلى اليمين مسجد مسقف كالغرفة كتبوا على مدخله:  (هذا مسجد أبي إبن كعب وصلى فيه النبي غير مرة).
في بقعة أئمة البقيع دفن الإمام الحسن والإمام زين العابدين والإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصّادق (صلوات الله عليهم) في ضريح واحد.
 ويروون إن العباس بن عبد المطلب مدفون هناك، في تلك البقعة وأمام الأئمة (عليهم السلام) إلى جانب الجدار آثار كالعرش وله ستار يقولون إن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) مدفونة هناك ، كما يروون إنها مدفونة في البيت الأخر وذلك إحتمال أيضاً.
وكتبت هذه الكلمات على المدخل مع أبيات شعرية بالتركية:
(هذه قبة العباس وأهل البيعة (رضي الله عنهم) .. هذا قبر عم النّبي الطاهر، أنس أهل البيت فانصر يا رب العالمين سيد الناس العباس).
وقبتان متصلتان ببعض ، أحداها لمالك بن أنس وينسب المذهب المالكي له والأخرى لنافع وهو قارىء من القراء المشهورين.
في السابق كان جدار البقيع حاجزاً وبعد هذا الترميم أزالوا الجدار وأضافوه إلى البقيع، وعلى محاذاة قبة عثمان كتب فوق بابه: (هذه قبة حليمة السعدية رضي الله عنها) وكتبوا هذين البيتين الشعريين: (قبر المرضية فخر العالم حليمة صاحب الحرمة، ذات الشرف سعدية أول من خدم محمد).
في إنتهاء البقيع وعلى جهة البساتين زقاقان فاصلان وقبتان قريبتان من بعض أحداها مؤخرة وكتب على بابها: (هذه قبة سعيد الخدري رضي الله عنه)، وبالتركية حفر بيتين شعريين على حجره والقبة المقدمة هي للطاهرة المطهرة فاطمة بنت أسد وزوجة الأسد ووالدة أسد الله الغالب علي إبن أبي طالب (عليه السلام) وسميت بذلك لأن الله تعالى فطمها بالعلم من الطمث، كانت أول إمرأة هاجرت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة على قدميها وكانت من ابرّ النّاس برسول الله وروي أنها لما ماتت ألبسها رسول الله قميصه وإضطجع في قبرها.
وعلى مدخل البقعة المتبركة حفرت هذه العبارة وأشعار بالتركية: (هذه قبة الوالدة المحترمة لعلي رضي الله عنه)، و(لتبقى هذه القبة المنيرة ولتخرب يد الأعداء...).
على اليمين وعند الخروج من البقيع بقعة يقولون إن عمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مدفونات هناك.
وعند الدخول من باب الجنائز وعلى اليسار صحن وقبة بروح كبيرة هي لإسماعيل إبن الإمام الصّادق (عليه السلام).

 

السعوديون الوهابيون يستعينون بالانجليز ضد الأشراف

ويذبحون مفتي الشافعية وسادن الكعبة
حاول إبن سعود السيطرة على الحجاز عدة مرات بحجة كونها كانت تحت سيطرة أجداده في الدولة السعودية الأولى من جهة، ومن أجل أن لا تكون تحت سيطرة عائلة معينة من جهة أخرى .. وقد وقعت معركة حدودية بين إبن سعود وحكم الأشراف في الحجاز عام 1919 في منطقة (تربة) ولكن الإنجليز منعوا إبن سعود من الاستمرار في حملاته نظرا لعلاقاتهم الحسنة مع الأشراف ... ( فانصاع لتحذير الحكومة الإنجليزية وأمر قواته بالعودة للرياض خوفاً من الدخول في خصام مع الحكومة الإنجليزية وهو في حاجة إلى مساندتها وخاصة في تلك الفترة ) .
وعندما توترت العلاقات بين الأشراف والإنجليز وسمحت بريطانيا لابن سعود بغزو الحجاز إستصدر الأخير فتوى من علماء الرياض بغزوها ثم حرك قواته بقيادة سلطان بن بجاد زعيم الغطغط نحو الطائف ، في شهر صفر 1343 هـ (1924م) ، ودخلها في السابع منه وقام بمجزرة رهيبة قتل فيها عدد كبير من النساء والأطفال الأبرياء وعدد من رجال الدّين الّذين كانوا يصطافون في الطائف منهم مفتي الشافعية الشيخ الزواوي وأبناء الشيخ عبد القادر الشيبي سادن الكعبة الشريفة.
وقد أثارت أنباء هذه المجازر حالة كبيرة من الرعب والفزع في أوساط الحجازيين في مكة الأمر الذي دفع وجهاءها إلى الإجتماع والخروج بقرار يقضي بضرورة تنازل الشريف حسين عن العرش لإبنه علي .. ( وبالفعل بويع الأمير علي ملكاً على الحجاز في 4 أكتوبر سنة 1924 (5 ربيع أول 1343هـ) وإضطر الملك حسين الّذي أجبر على التنازل عن العرش إلى مغادرة جدة إلى العقبة في 24 أكتوبر من نفس السنة) .
وبالرغم من أن الشريف الجديد علي انتقل إلى جدة وتحصن بها إلاّ إن قوات إبن سعود واصلت مسيرها نحو مكة حيث دخلتها بدون قتال بقيادة خالد بن لؤي في 16 أكتوبر 1924م (17 ربيع الأول 1343هـ).
وقد أرسل الشريف علي يطلب الصلح من إبن سعود وقام بتوسيط كل من أمين الريحاني ومستر فيبلي وغيرهما إلا إن انتصارات إبن سعود قد جعلته يرفض ذلك ويصر على (ضرورة رحيل الحسين وأولاده عن الحجاز، على أن يجتمع مؤتمر إسلامي بمكة للنظر في مسائل الحجاز وغيره) .
بعدها إستولت القوات السعودية على القنفذة ثم على رابغ .. وفي جمادي الثانية 1343هـ (يناير 1925م) حاصرت مدينة جدة وبعدها المدينة المنورة ولم تسقط جدة بمغادرة الشريف علي لها في 22 ديسمبر 1925م .. بينما سقطت المدينة المنورة في يد الجيش السعودي في 15 جمادي الأولى 1344هـ (5 ديسمبر 1925) بعد حصار طويل عانى منه الأهالي كثيراً .

 

الهدم الثاني للبقيع:

مكث جيش ابن سعود عدة أشهر (تقل عن الخمسة بقليل) في المدينة لم يمس فيها مقبرة البقيع بسوء.. فبعد أن دخل الجيش المدينة المنورة في 15 جمادى الأولى 1344هـ ، لم تنلها أيد الغي السعودي إلاّ في الثامن من شوال من ذلك العام وقبلها قام بالتمهيد لذلك عبر أحد فقهاء السلاطين وهو قاضي القضاء الشيخ عبد الله بن بليهد حيث أرسله إلى المدينة المنورة في شهر رمضان ، وبعد دخوله المدينة وجه إلى علمائها المغلوبين على أمرهم السؤال التالي :
 ( ما قول علماء المدينة زادهم الله فهماً وعلماً في البناء على القبور وإتخاذها مساجد هل هو جائز أم لا ؟
وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا ؟
وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع وهو مانع من الإنتفاع بالمقدار المبني عليها فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا ؟
وما يفعله الجهال(...) عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع الله والتقرب بالذبح والنذر لها وإيقاد السرج عليها هل هو جائز أم لا ؟
وما يفعل عند حجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من التوجه إليها عند الدعاء وغيره والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها وكذلك ما يفعل في المسجد من الترنيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة هل هو مشروع أم لا ؟
افتونا مأجورين وبينوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين ).
وهكذا وفي يومٍ أسود كالح من أيام عام 1344 هـ كشر الوهابيون عن أنيابهم وسنوا حرابهم وفرضوا على جميع بنّائي المدينة الإشتراك في الهدم، وتوجهوا إلى جنة البقيع ورفعوا سواعد طالما تغذت على المال الحرام وهووا بها على أطيب بقعة ضمت رفات أربعة من الأئمة الأطهار من آل البيت الأبرار (عليهم السلام) ، ولا زالوا بها حتى سووها مع الأرض لا يشير إليها إلا مجموعة الحصى التي عليها .. لا يعرفها من يزورها إلاّ بدليل ولا يظلله عن شمس الحجاز الحارقة بناء أو ظلال ، يكاد من ينظر إليها في وحشتها أن يبكي فلا يتوقف عن البكاء ، ويكاد لا يبرح مكانه إلاّ أن تدفعه سياط الحارس الواقف عليها لمنع الزائرين من الزيارة .

 

رسالة إلى علماء الشيعة:

وتنقل لنا رسالة لرجل شيعي كان في المدينة المنورة عند هدم قبور البقيع أرسلها إلى أحد علماء الشيعة في العراق مؤرخة في 8 شوال 1344 تنقل لنا هذه الرسالة صورة لما حصل للمقدسات الإسلامية في المدينة المنورة ومما جاء في الرسالة .
( أعرض لكم إن جميع البلاد الحجازية مقهورة تحت سيطرة إبن سعود وحكمه المطلق فيها، ولا يوجد في هذه البلاد من أقصاها إلى أناها فرد واحد سواء من سكان المدن أو البوادي يسعه أن يقف دون أوامره وإرادته النافذة.
 ومنذ أيام ورد المدينة قاضي قضاة الوهابيين  ـ يقصد الشيخ عبد الله بن بليهد ـ وبينما كان مجلسه غاصاً بعلمائها صرح أمامهم بتحريم زيارة القبور، وإنها بدعة في الدين ، وشرك بالله، وانه يلزم تحصيل الإتفاق من جميع علماء المذاهب الأربعة على تخريبها تماماً ومحو آخر أثر من آثارها على وجه الأرض , ونظراً لذلك فقد منعت زيارة جميع المراقد المطهرة ، وأغلقت أبوابها، ومنذ عشرين يوماً لم نجرؤ على قصد هذه المشاهد المشرفة وزيارتها، إذ أن جنود الوهابيين قد رصدوا الحرم المطهر النبوي ومنعوا أي زائر من التشرف بزيارة سيدة نساء العالمين ، ومن التقرب إلى ضريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) , ثم إن قاضي قضاة الوهابيين لم يتمكن من تحصيل الإتفاق المطلوب من علماء المدينة ، إلا بعد أيام إذ إستعمل معهم الوسائل الأخرى المخوفة من القوة ، والبعض الآخر وافق إبتداءً ، فحكموا جميعاً طبق رغبته بتحريم زيارة القبور مطلقاً والتمسح بها إلى الله والإستشفاع بها إليه وتلاوة الزيارة فيها.
ثم صدر الأمر بهدم وتخريب المراقد الشريفة، فشرع الجند أولاً بنهب جميع ما تحتويه تلك البنايات المقدسة في البقيع من الفرش والستائر والمعلقات والسرج وغير ذلك ثم بدأوا يخربون تلك المشاهد المقدسة، وفرضوا على جميع بنّائي المدينة الإشتراك في التخريب والتهديم ).
هذه هي حال البقيع منذ ذاك وحتى اليوم ، والى أن يعاد بناء الأضرحة الطاهرة بكل تبجيل واحترام.