كلام الرأس المقدّس

لهفي لرأسك فوق مسلوب القنا      يـكسوه مـن أنـواره جلبابا
يتلو الكتاب على السّنان و إنّما      رفعوا به فوق السّنان كتابا(1)

لَم يزل السّبط الشهيد حليف القرآن منذ أنشأ كيانه ؛ لأنّهما ثقلا رسول الله و خليفتاه على اُمّته . وقد نصّ الرسول الأعظم (ص) بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ، فبذلك كان الحسين (ع) غير مبارح تلاوته طيلة حياته في تهذيبه و إرشاده وتبليغه في حلّه و مرتحله حتّى في موقفه يوم الطفّ بين ظهراني اُولئك المتجمهرين عليه ليتمّ عليهم الحجّة و يوضح لهم المحَجّة . هكذا كان ابن رسول الله يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً حتّى طفق يتلو القرآن رأسه المطهّر فوق عامل السنان ؛ عسى أن يحصل في القوم من يكهربه نور الحقّ ، غير أنّ داعية الهدى لَم يصادف إلاّ قصوراً في الإدراك و طبعاً في القلوب وصمما في الآذان ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ )(2) .
ولا يستغرب هذا مَن يفقه الأسرار الالهيّة ، فإنّ المولى سبحانه بعد أنْ أوجب على سيّد الشهداء النّهضة لسدّ أبواب الضلال بذلك الشكل المحدّد الظرف والمكان والكيفيّة لمصالح أدركها الجليل جلّ شأنه ، فأوحى إلى نبيّه الأقدس أنْ يقرأ هذه الصفحة الخالصة على ولده الحسين (ع) ، فلا سبيل إلاّ التسليم والخضوع للأصلح المرضي لربّ العالمين ( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ )(3) . و حيث أراد المهيمن تعالى بهذه النّهضة المقدّسة تعريف الاُمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة ضلال الملتوين عن الصراط السّوي العابثين بقداسة الشريعة ، أحبّ الإتيان بكلّ ما فيه توطيد اُسس هذه الشهادة التي كتبت بدمها الطاهر صحائف نيّرة من أعمال الثائرين في وجه المنكر ، فكانت هذه محفوفة بغرائب لا تصل إليها الأفهام ، و منها استشهاد الرأس المعظّم بالآيات الكريمة ، والكلام من رأس مقطوع أبلغ في إتمام الحجّة على مَن أعمته الشهوات عن إبصار الحقائق ، وفيه تركيز العقائد على أحقيّة دعوته التي لَم يقصد بها إلاّ الطاعة لربّ العالمين و وخامة عاقبة مَن مدّ عليه يد السّوء والعدوان ، كما نبّه الاُمّة على ضلال مَن جرّأهم على الطغيان .
ولا بدع القدرة الإلهيّة إذا مكّنت رأس الحسين (ع) من الكلام للمصالح التي نقصر عن الوصول إلى كنهها بعد أن اُودعت في الشجرة(4) قوّة الكلام مع نبي الله موسى بن عمران (عليه السّلام) عند المناجاة ، وهل تقاس الشجرة برأس المنحور في طاعة الرحمن سبحانه ؟ ... كلاّ .
قال زيد بن أرقم : كنت في غرفة لي فمرّوا عليَّ بالرأس و هو يقرأ ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا )(5) فوقف شعري وقلت : والله يابن رسول الله رأسك أعجب و أعجب(6) .
ولمّا نُصب الرأس الأقدس في موضع الصيارفة و هناك لغط المارّة وضوضاء المتعاملين ، فأراد سيّد الشهداء توجيه النّفوس نحوه ليسمعوا بليغ عظاته ، فتنحنح الرأس تنحنحاً عالياً فاتّجهت إليه النّاس واعترتهم الدهشة ؛ حيث لَم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين (ع) ، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )(7) .
و صُلب على شجرة فاجتمع النّاس حولها ينظرون إلى النّور السّاطع ، فأخذ يقرأ ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )(8)(9) .
قال هلال بن معاوية : رأيت رجلا يحمل رأس الحسين (ع) والرأس يخاطبه : فرَّقت بين رأسي و بدني فرق الله بين لحمك و عظمك و جعلك آية ونكالا للعالمين فرفع السوط و اخذ يضرب الرأس حتّى سكت(10) .
و سمع سليمة بن كهيل الرأس يقرأ و هو على القناة ( فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )(11)(12) .
و يحدّث ابن وكيدة أنّه سمع الرأس يقرأ سورة الكهف ، فشكّ في أنّه صوته أو غيره فترك (عليه السّلام) القراءة والتفت إليه يخاطبه : (( يابن وكيدة أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربهم يرزقون ؟ )) . فعزم على أنْ يسرق الرأس و يدفنه . و إذا الخطاب من الرأس الأزهر : (( يابن وكيدة  ، ليس إلى ذلك من سبيل ، إنّ سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييري على الرمح ، فذرهم فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسّلاسل يسحبون ))(13)
قال المنهال بن عمرو : رأيت رأس الحسين (ع) بدمشق على رمح و أمامه رجل يقرأ سورة الكهف حتّى إذا بلغ إلى قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً )(14) نطق الرأس بلسان فصيح : (( أعجب من أصحاب الكهف ، قتلي و حَملي ))(15) .
ولمّا أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته نطق الرأس بصوت رفيع : (( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ))(16) .

أروحـك  ام روح الـنبوّة تـصعد      من  الأرض للفردوس والحور سجَّد

و رأسك أم رأس الرسول على القنا      بـآيه أهـل الـكهف راح يـردّد
و صـدرك أم مستودع العلم والحجى      لـتحطيمه  جـيش من الجهل يعمد
و اُمّــك  أم اُمّ الـكتاب تـنهَّدت      فــذاب  نـشيجاً قـلبها الـمتنهّد
و شـاطرت الأرضُ السّماءَ بشجوها      فـواحـدة تـنعى واُخـرى تـعدّد
وقـد نـصب الوحي العزاء ببيته      عـليك  حـداداً والـمعزّى محمَّد
يـلوح  لـه الـثقلان ثقل ممزّق      بـسـهم  و ثـقل بـالسّيوف مـقدَّد
فـعترته بـالسّيف والـسّهم بعضها      شـهـيد و بـعض بـالفلاة مـشرَّد
و أيّ شـهيد أصـلت الشمس جسمه      و مـشـهدها  مـن أصـله مـتولَّد
و أيّ ذبـيح داسـت الـخيل صدره      و فـرسـانها  مـن ذكـره تـتجمَّد
ألـم تـك تـدري أنَّ روح محمَّد      كـقرآنه  فـي سـبطه مـتجسَّد
فـلو عـلمت تـلك الخيلول كاهلها      بـأنَّ  الـذي تحت السنابك أحمد
لـثارت عـلى فـرسانها وتمرَّدت      عـليهم  كـما ثـاروا بها وتمرَّدوا
فـرى  الغيّ نحراً يغبط البدر نوره      وفـي كـل عـرق منه للحق فرقد
و هـشَّم  أضلاعاً بها العطف مودع      و قـطَّع  أنـفاساًبها الـلطف موجد
و أعـظم مـا يشجي النّفوس حرائر      تـضام  وحـاميها الـوحيد مقيَّد
فـمن مـوثَق يـشكو التشدّد من يد      و مـوثـقة تـبكي فـتلطمها الـيد
كـأنَّ  رسـول الله قـال لـقومه      خذوا و تركم من عترتي و تشدَّدوا(17)


____________________________
(1) في الدرّ النّضيد / 36 ، للسيد محسن الأمين ، أنّهما للسيد رضا الهندي .
(2) سورة البقرة / 7 .
(3) سورة الأنبياء / 23 .
(4) الدر المنثور 2 / 119 : آية ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) . والبحار 5 / 278 : نقلاً عن المهج . وفي قصص الأنبياء للثعالبي / 120 الباب الثامن : خروج موسى من مدين .
(5) سورة الكهف / 9 .
(6) إرشاد المفيد ، والخصائص الكبرى 2 / 125 .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 / 362 : كان زيد بن أرقم من المنحرفين عن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) فإنّه كتم الشهادة لأمير المؤمنين بالولاية يوم الغدير ، فدعا عليه بالعمى ؛ فكفّ بصره إلى أنْ مات .
وفي كامل ابن الأثير 4 / 24 : أمر ابن زياد ، فطيف برأس الحسين (ع) في الكوفة . و مثله في البداية لابن كثير 8 / 191 ، والخطط المقريزيّة 2 / 288 .
(7) سورة الكهف / 13 .
(8) سورة الشعراء / 227 .
(9) ابن شهر آشوب 2 / 188 .
(10) شرح قصيدة أبي فراس / 148 .
(11) سورة البقرة / 137 .
(12) أسرار الشهادة / 488 .
(13) شرح قصيدة أبي فراس / 148 .
(14) سورة الكهف / 10  .
(15) الخصائص للسيوطي 2 / 127 .
(16) مقتل العوالم / 151 .
(17) من قصيدة للسيد صالح ابن العلامة السيّد مهدي بحر العلوم .