صفحات ذهبية

من مخطوطات المصاحف النّفيسة المحفوظة في
مكتبة الآستانة الرضوية المقدّسة

القرآن الكريم رسالة السماء إلى الأرض، ومعجزة النبيّ الأعظم محمّد صلّى الله عليه وآله، والعروة الوثقى، والحبل المتين الذي يتسمك به المسلمون سبيلاً إلى الإيمان والفوز. وهذا الكتاب السماوي الذي بلغ ذروة الإعجاز في الفصاحة والبلاغة، وتفرّد في اشتماله على أرقى المعارف والعلوم، وأروع الحكم والمواعظ، وأسمى الأحكام الحقوقيّة والجنائيّة، قد ترك تأثيراً لا مثيل له على الحضارة والعلوم والفنون البشريّة.
وقد ظهرت العناية بكتابة المصحف الشريف منذ أمَر رسول الله صلّى الله عليه وآله كُتّاب الوحي بتدوين القرآن ـ وفقاً لطريقة تلاوته ـ على العُسُب، والّلخاف، والرقاع، والأقتاب، والاكتاف، إلى عصرنا هذا حيث شاع فنّ الطباعة بأشكاله المختلفة واستخدمت الخطوط الاسلاميّة المختلفة في كتابة المصحف حتّى بلغت حدّاً تركت فيه كتابة القرآن تأثيرها العميق على تطوّر بعض الخطوط كالكوفيّ، والثلث، والنسخ، والمحقّق، والريحاني، والرقعيّ، والغباريّ، وساعدت على تكاملها واتّساعها وتبلور قواعد معيّنة لها، بل ووجد خط النستعليق مجالاً جديداً له بسبب استعماله في حقل كتابة المصحف. يضاف إلى هذا، أنّ كتابة المصاحف ـ من الوجهة الحضاريّة ـ ساعدت على ظهور خطوط محليّة أيضاً؛ كما نجد في الخطّ البابري الّذي ظهر في شبه القارّة الهنديّة في مجال كتابة القرآن. ومع أنّه يمكننا أن نعدّ كتابة القرآن السبب الوحيد في تنوّع الخطوط الاسلاميّة جغرافياً، إلاّ أنّه ينبغي أن لا نغفل عن أنّ إبداع طريقة قيّمة للخطّ، مرتكزة على كتابة عدد من الخطوط في صفحة واحدة، قد نشأ وترعرع في ميدان كتابة المصاحف.
إنّ تذهيب المصحف الذي كان بسيطاً للغاية في المرحلة الاولى من مراحل تزيين المصاحف، بما فيه من تجميل بدايات السور وفواصل الآيات بالزعفران والألوان النباتيّة عموماً.. قد تطوّر منذ أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري، واكتمل بسرعة، واستعملت نماذج رائعة وأنماط باهرة من الإتقان والتدقيق في تزيين النسخ القرآنية كالتذهيب، والترصيع، والتحرير، والتشعير، والجداول المزدوجة، وغيرها، إلى الحدّ الّذي يمكن معه القول: إنّ معظم الحالات المذكورة في ميدان تذهيب النُّسَخ وتزيينها قد نشأت ونمت بادئ الأمر في نطاق تزيين المصحف، ثمّ وجدت طريقها إلى سواه من الكتب. وقد أدّى اهتمام الفنّانين المذهّبين والرسّامين الحاذقين بتزيين النسخ القرآنيّة إلى توفّر مئات النسخ الفنيّة الّتي تعتبر بحقّ من الروائع المشهودة في عالم الفنّ الاسلامي على صعيد النسخ القرآنيّة. وهذه النسخ نفسها هي الّتي أثارت الفنّانين اليهود والنصارى في العصور الأولى على استخدام التزيينات المستعملة في النسخ القرآنية لتزيين التوراة والإنجيل.
ويمكن القول هنا: إنّ التجليد قد ازدهر في الفنّ الاسلامي منذ ذلك الحين، إذ بذل المجلّدون قصارى جهودهم للمحافظة على القرآن الكريم من خلال توظيف مالديهم من قدرة فنيّة وذوقيّة لتجليده، وذلك لكي يظلّ كلام الله في حصن حصين من الآفات ومن احتمال الضياع، ويظل يتنقّل على حاله خلال الأجيال والقرون. وقد ظهرت الغُلُف الفنيّة المحكمة كالغلف المعرّقة، والدهنيّة، والمرغشيّة وغيرها، وذلك بفضل القرآن وإيمان المسلمين به. وتوفّرت نماذج من الغُلُف لنسخ القرآن الكريم، يعتبر بعضها من روائع الفنّ الاسلامي في تاريخ تجليد الكتاب.
وهكذا التفّت المجاميع الفنية للورّاقين والخطاطين، والمذهّبين، والمجلّدين تحت ضوء القرآن المتألّق، ممّا أوجد طريقة فنية في أسلوب كتابة المصحف وتزيينه.
إنّ جهود هؤلاء الفنانين لم تثمر في حقل كتابة النسخ وتزيينها على نحو يحتذى فحسب، بل إنها أبدعت مئات النسخ النفيسة من القرآن العظيم في تاريخ الحضارة الإسلاميّة. وهناك عشرات النماذج من هذه الأعمال الفنيّة محفوظة في خزانة القرآن التابعة للآستانة الرضويّة المقدّسة. وها هي ذي أوراق ذهبيّة من هذه الدّوحة الوارفة للفنّ الاسلامي نضعها في متناول الهواة والراغبين.