ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى الشام

[ بعد فراغه من أمر الخوارج ] [ وفيها يتأفف بالناس، وينصح لهم بطريق السداد ]

أُفٍّ لَكُمْ (1) لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الاَْخِرَةِ عِوَضاً؟ وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ (2) كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ (3) وَمِنَ الذُّهُولِ في سَكْرَةٍ، يُرْتَجُ (4) عَلَيْكُمْ حَوَارِ(5) فَتَعْمَهُونَ (6) فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ (7) فَأَنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ..
مَا أَنْتُمْ لي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالي (8) وَمَاأَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ (9) وَلاَزَوَافِرُ(10) عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ. مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ، لَبِئْسَ ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ سُعْرُ (11) نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! تُكَادُونَ وَلاَ تَكِيدُونَ، وَتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ (12) لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ في غَفْلَةٍ سَاهُونَ، غُلِبَ وَاللهِ الْمُتَخَاذِلُونَ! وَأيْمُ اللهِ إِنِّي لاَََظُنُّ بِكُمْ أنْ لَوْ حَمِسَ
(13) الْوَغَى (14) وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ (15) قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأْسِ (16) وَاللهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ (17) وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ،وَيَفْرِي (18) جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ ماضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ (19) أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ (20) تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ (21) وَتَطِيحُ السَّوَاعِدُ (22) وَالاْقْدَامُ، وَيَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ مَا يَشَاءُ..
[طريق السداد] أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ (23) عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا..
وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالاْجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ..

------------
1. أُفّ لكم: كلمة تضَجّر واستقذار ومهانة..
2 . دوَرَان الاَعين: اضطرابها من الجزع..
3 . الغمرة: الواحدة من الغمر وهو: الستر، وغمرة الموت: الشدّة الّتى ينتهي إليها المحتضر..
4 . يُرْتَجُ: بمعنى يغلق، تقول: رتج الباب أي: أغلقه..
5 . الحَوار ـ بالفتح وربما كسر ـ : المخاطبة ومراجعة الكلام..
6 . تَعْمَهُون: مضارع عَمِهَ، أي تَتَحَيّرون وتتردّدون..
7 . المَألُوسة: المخلوطة بمس الجنون..
8 . سَجِيس ـ بفتح فكسر ـ : كلمة تقال بمعنى أبداً، وسجيس: أصله من «سجس الماء» بمعنى تغيّر وتكدّر، وكان أصل الاستعمال: «مادامت الليالي بضلامها»..
9 . يُمال بكم: يُمَال على العدوبعزكم وقوتكم..
10 . الزّافرة من البناء: رُكْنُهُ، ومن الرجل عشيرته وأنصاره..
11 . السَّعْر ـ بالفتح ـ مصدر سَعَرَ النار ـ من باب نَفَعَ ـ : أوقدها، وبالضم جمع ساعر، وهو ما أثبتناه، والمراد «لبئس مُوقدوا الحرب أنتم»..
12 . امْتَعَضَ: غَضِبَ..
13 . حَمِسَ ـ كفَرِحَ ـ : اشتد وصَلُبَ في دينه فهو حَمِسٌ..
14 . الوَغى: الحرب، وأصله الصوت والجَلَبَة..
15 . اسْتَحَرّ: بلغ في النفوس غاية حدّته..
16 . انفرجتم انفراج الرأس: أي كما ينفلق الرأس فلا يلتئم..
17 . يَعْرُقُ لَحْمَهُ: يأكل حتى لا يبقى منه شيء على العظم..
18 . فَرَاه يَفْريه: مَزّقَهُ يمزقه..
19 . ما ضُمت عليه الجوانح: هو القلب وما يتبعه من الاَوعية الدموية، والجوانح: الضلوح تحت الترائب، والترائب: ما يلي التّرْقُوَتَينِ من عَظْم الصدر..
20 . المَشْرفِيّة: هي السيوف التي تنسب إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو إلى الريف، ولا يقال في النسبة إليها: مشارفي، لاَن الجمع ينسب إلى واحدة..
21 . فَرَاشُ الهامِ: العظام الرقيقة التي تلي القحف..
22 . تَطِيحُ السواعِدُ: تَسْقُطُ، وفعله كباع وقال..
23 . الفَيْء: الخَرَاج وما يحويه بيتالمال..