القرآن و الإنسانية

القرآن و العلوم الإنسانية

هذا الموضوع أي موضوع مادة القرآن، أو معرفة القرآن أو علوم القرآن الإنسانية يظل في الواقع من الاتساع بمكان كبير، و لكن في الآن ذاته يتعين علينا أن نتحدث باختصار عن هذا الجانب، و ذلك لجملة أسباب، منها: أن القرآن الكريم يظل كتاباً إرشادياً يتضمن مجموعة من المباديء، الواقع رسمها القرآن الكريم من جانب، و اضطلع الحديث أو السنة الكريمة بتجليتها و توضيحها من جانب آخر و بكلمة أكثر وضوحاً ، إن هذه المباديء التي رسمها الله سبحانه و تعالى ، و طلب منا أن نلتزم بها، هي في الواقع مبادىء مرسومة إما من خلال القرآن الكريم، و إما من خلال السنة الشريفة متمثلة في السّنة الواردة عن الأربعة عشر معصوماً^.
و بما أن كلاً من هذين المصدرين المشكلين لمعرفة مبادىء الله سبحانه و تعالى، يتآزران بنحو لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر مستقلاً حينئذ فإن الحديث عن أحدهما و هو القرآن الكريم ينبغي أن لا ينفصل إذاًَ عن الحديث عن السنة الشريفة.
و لكن بما أن للسنة الشريفة ميادينها المعرفية الواسعة فإن الحديث عن هذا الجانب يظل متضارباً مع ما نستهدفه من الحديث عن القرآن الكريم من حيث معرفته و من حيث تاريخه، لذلك سوف نمر بنحو عابر و سريع جداًَ في الحديث عن هذا الجانب لأن الموضوع هذا ينبغي أن يترك لمختلف أنماط المعرفة التي اضطلع بها المعنيون بالشأن الإسلامي ، حيث أن كلا من المباديء المتصلة‌ بالأحكام الشرعية ، و المبادىء المتصلة بالأحكام العقائدية، و الأحكام المتصلة بالأحكام الأخلاقية، يضطلع كل ضرب من المعرفة أو يتناول في الواقع المعنيون بشؤون هذه المعرفة أو تلك، يتناولون هذه الجوانب كلا بحسب اختصاصه عبر الحقول المتنوعة.
من هنا نكرر ثانية بأننا عندما نتحدث عن المادة القرآنية الكريمة سوف لن نتحدث عنها كمادة ينبغي التحدث عنها تفصيلاًَ بقدر ما هي التحدث عنها عبر الإشارات السريعة كما قلنا، و هنا لا بد أن نكون ملمين بشيء من الجانب المعرفي في القرآن الكريم من حيث مادته و منهجه و لغته، و مما لا شك فيه أن القرآن الكريم بصفته ظاهرة إعجازية لها تميزها و استقلاليتها، كذلك فإن هذا التميز أو هذا الاستقلال و هذه اللغة تظل بدورها منفرزة تماما عما نألفه نحن البشر من لغات و مناهج و مادة معرفية، فبالنسبة إلى اللغة سبق أن لا حظنا كيف أن القرآن الكريم يتميز لغوياً بجملة سمات:
السمة الاُولى منها هي أن اللغة التي يتوكأ عليها ليست هي لغة علمية صرفة، و لا لغة فنية صرفة بقدر ما هي لغة تجمع بين اللغة العلمية بحسب مصطلحاتنا و بين اللغة الفنية، و لكن حتي هذا النمط من الجمع له استقلاليته، و له تميزه و تفرده بحيث أوضحنا في حينه و لا حاجة إلى الإعادة بقدر ما ينبغي علينا الإشارة العابرة و السريعة جداً، نقول: أن اللغة القرآنية الكريمة كما لاحظنا تجسّد نمطاً لغوياً لا يتوكأ على العلم فحسب ولا على اللغة الأدبية فحسب، بل يتوكأ على كليهما و لكن وفق تميز و تفرد لا ينسحب على أي نمط من أنماط التعبير اللغوي الذي يألفه البشر، فهو من جانب ليس علماً و لا فناً ، ومن جانب آخر ليس نمطاً شكليا كالمسرحية أو القصة أو الخاطرة أو المقالة أو الخطبة، و من جانب ثالث ليس الشكل المزيج من هذه الأشكال جميعاً، وفق لغة خاصة تجمع بين العلم و الأدب أو بين كل من الأدب و العلم، بقدر ما هو كما قلنا لغة خاصة لا يمكن أن ننسبها إلى أي من الأشكال المألوفة البشرية.
إنما نستهدف الآن من ذلك كله أن نشير إلى هذه اللغة تتميز بكونها لغة إعجازية متفردة متميزة و مستقلة كذلك فإن كلا من اللغة القرآنية الكريمة، و المادة القرآنية الكريمة أيضاً تظل كل واحدة منهما متميزة متفردة و تحمل السمة الإعجازية، و إذا أردنا أن نستشهد بالأمثلة ما علينا إلّا أن نذكّر بالضرب المعرفي الموجود أو المألوف بشريا، حتى نستطيع من خلال المقارنة أو نتبين ما هي المعرفة القرآنية الكريمة ، و كيفية طرح هذه المعرفة ، و من ثم كيفية الإفادة منها.
كلنا يعلم أن المعرفة البشرية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنماط: المعرفة البحتة كالرياضيات مثلاً، و المعرفة الطبيعية كالكيمياء و الفيزياء، و المعرفة الإنسانية كالتاريخ و علم النفس و علم الإجتماع و الإقتصاد و ما إلى ذلك، و يمكننا أن نضيف إلى ذلك نمطاً رابعاً هو المعرفة الفنية  متمثلة في جملة أشكال، و منها الفن الأدبي مثلاً، و هذا بدوره ينشطر إلى نمطين، الأدب الموضوعي الذي يتم إلحاقه أيضاً بالعلوم الإنسانية كنظرية الأدب و النقد الأدبي و البلاغة و ما إلى ذلك، و أما الشطر الثاني فهو الفنون الذاتية متمثلة في الشعر و ما إلى ذلك.
و من خلال ذلك يتسم البحث العلمي بتبويب خاص و بترتيب خاص من خلال الأبواب و الفصول و الملاحق و ما إلى ذلك، كل ذلك نعرفه جميعاً، و لكن هل أن القرآن الكريم عندما يطرح مادة معرفية سوف يطرحها وفق هذا المنهج؟ كلا بطبيعة الحال، إذن: للقرآن الكريم استقلاليته تفرده و تميزه، و هذا ما نود أن نؤكده أكثر من مرة لأسباب كثيرة و منها ما نريد أن نطرحه الآن و هو أننا كبشر و ظفنا الله سبحانه و تعالى لممارسة الخلافة في الأرض تبعاً لقوله تعالى: { و ما خلقت الجنّ و الإنس إلّا ليعبدون} ، حينئذ فإن الممارسة العبادية أو الخلافية تقترن دون أدنى شك بعملية اختبار واضحة كقوله تعالى: { الّذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم}  الإبتلاء و الاختبار يظل هو الظاهرة التي تمرر التجربة البشرية من خلالها و هذا أمر من الوضوح بمكان، حينئذ فإن أحد موارد هذا الاختبار هو الاختبار العلمي أو الثقافي حيث أن الله سبحانه و تعالى كان بمقدوره مثلاً أن يرسم لنا مبادءه التي يطالب بأن نلتزم بها، كان بمقدوره تعالى أن يرسمه لنا وفق بنود واضحة كل الوضوح لا يحتاج إلى التأليف العلمي و ألى أية جهود ثقافيه.
لقد كان بمقدور القرآن الكريم مثلاً أن يطرح في نطاق ما هو عقائدي المسائل التي تردم كل خلاف. و هكذا بالنسبة إلى المسائل الأخلاقية. إلا أنه سلك طرائق متنوعة تركها لنا نحن المعنيين بالشأن الثقافي أن نتوفر على دراستها من حيث اللغة والمنهج و المادة و ما إلى ذلك، على سبيل المثال إن كل واحد منا يعرف أن الأحكام الفقهية التي رتبت حاليا كالباب المتصل مثلاً بالطهارة و الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و ما إلى ذلك ، هذه الأبواب لم ترد مباشرة عن الكتاب (و السّنة) و لكن المعنيين بالشأن الثقافي إنما تلقفوا مادتها الأصلية من الكتاب والسنة ثم اضطلعوا بصياغتها بهذا النحو العلمي الذي نعرفه، و كما قلنا كان بإمكان أن يتوفر القرآن الكريم أو الحديث الشريف على صياغة هذه المباديء علمياًَ و لكنه تركها لنا نحن المعنيين بهذا الشأن ليشكل هذا النمط من التكليف واحداً‌من أشكال الاختبار الإلهي، هنا لا نجد معنىً البتة لأن نتحدث عن المادة المعرفية في القرآن الكريم، لا نجد معني لأن نتحدث عن العلم أو المنهج  و ما إلى ذلك، بقدر ما ينبغي أن نتحدث عن المبادئ فحسب، وكما قلنا إنّ المبادئ المعرفية في القرآن الكريم تصب في أنحاء مختلفة. إلا أن هناك ثلاثة محاور هي المحور الفقهي، و المحور العقائدي، و المحور الأخلاقي، و هذه المحاور كما هو واضح تجسد في الواقع أسلوب تعاملنا مع الظواهر المشار إليها، أي المبادىء التي رسمها الله سبحانه و تعالى لنا حتى نلتزم بتنفيذها، و لكن مقابل هذه المحاور الثلاثة مادة معرفية لها حيادها، بيد أن هذا الحياد العلمي ينبغي أيضاً أن يوظف عبادياً بالنحو الذي يوظف أيضاً إلى المحور الأخلاقي أو المحور الفقهي أو المحور العقائدي.
و هذه المادة العلمية المحايدة تتمثل كما أشرنا سابقاً تتمثل في ضروب من المعرفة التي اعتاد البشر أن يقسمها إلى علوم بحتة و علوم طبيعية، إذ أن هذه الأنماط من العلوم تحمل طابعاً حيادياً كعلم الفلك مثلاًَ أو علم الطب و حيئذ فإن التعامل مع هذه المادة المعرفية سظل حاملاًَ طابعه الحيادي. بيد أن الوظيفة العبادية للشخصية الإسلامية ينبغي دون أدنى شك أن توظف حتى هذا المبدأ الحيادي، توظفه من أجل المبدأ الإسلامي، أي توظف المعرفة الفلكية أو الطبية توظفها من أجل تمرير الأهداف الإسلامية المتمثلة في تقديم الخدمة البشرية من خلال الاستثمار أو الإفادة من هذه العلوم.
على أية حال في هذا النطاق و هو النطاق العلمي الصرف نجد أن القرآن الكريم طرح ظواهر متنوعة تتصل بهذا الجانب، و قد توفر كثير من المعنيين أو المختصين بشؤون هذه المعرفة توفروا على دراستها من خلال القرآن الكريم، و أثبتوا بما لا يتطرق الشك إلى الظاهرة الإعجازية، أي الظاهرة المتصلة بالإعجاز العلمي الصرف، و في هذا لانطاق يمكننا أن نقول بأن المعنيين بالبحث القرآني الكريم عندما تناولوا علوم القرآن و تاريخه أيضاً طرحوا هذه المسألة و جعلوها جزءاً من المسائل المتصلة بعلوم القرآن، بيد أن الملاحظ بأن المعنيين بهذا الشأن قد انشطروا إلى نمطين، أحد هذين النمطين يذهب إلى تخطئة هذا النحو من البحث العلمي و الضرب الآخر يقف على ضده تماماً، حيث يرى هذا الفريق الأخير أن الإعجاز العلمي من القرآن الكريم ينبغي أن نتوفر عليه حتي نثبت المشروعية التامة لرسالة الإسلام، وذلك من خلال الإشارات العلمية التي تضمنها القرآن في مختلف الميادين، و هذا ما يحقق تعميقاً لإيمان الشخصية بالإسلام و لكن مقابل هذا النفر من الباحثين وقف نمط آخر منهم يقرر بأن العلم ما زال خاضعاً للتطور و أن إثبات حقيقة علمية من الحقائق إذا تمت في جيل ما فسيأتي جيل آخر ويلاحظها، و حينئذ إذا قدر لنا أن نطبق المباديء العلمية الموجودة كونياً نطبقها في ضوء ما ورد في القرآن الكريم حينئذ فإن العلم إذا خطّأ هذه النظرية أو تلك، حينئذ فإن الطعنة تقع في القرآن دون أدنى شك ، و يستشهدون على سبيل المثال بالظاهرة الفلكية التي كانت بالسبة إلى علم الهيئة أو الفلك قديماً تختلف تماماًَ عما اكتشفه الفلك أو العلم الحديث، و هكذا بالنسبة إلى مسائل مختلفة تحقق خطؤها في الجيل المعاصر بالنسبة إلى الجيل الماضي و هكذا.
المهم أن هذين المحورين أو هذين الفريقين من الباحثين اللذين يقف كل واحد منها ضد الآخر يجعلنا نتحفظ في الإشارة إلى هذه الجوانب، ولكن مع ذلك يكفي من حيث التوكأ على الظاهرة العلمية أن يعتمد مثلاً على الظواهر التي تحققت علمياً في الأجيال جميعاً بالرغم من التطور العلمي، حيث أن التطور العلمي لا يعني أن كل ظاهرة هي خاضعة للتطور بالضرورة، إن هناك ظواهر أخذت طابع الثبات و هناك ظواهر تأخذ طابع التغير.
و في ضوء هذا من الممكن أن يتوفر المختص بهذا الضرب من المعرفة على الإشارة فحسب على ما هو يمثل ثابتاً ما مقابل ما يمثل المتغير. واذا تركنا هذا الجانب العلمي و اتجهنا إلى الجوانب الاُخرى نجد أن من بين الظواهر التي يتوفر الباحثون على دراستها هو الجانب الإنساني، أي العلوم الإنسانية المتمثلة في علم التاريخ و الاجتماع و النفس و الاقتصاد و السياسة و الإدارة و ما إلى ذلك.
و نحن نعتقد أن الحديث عن هذه الجوانب سوف يكتسب أهمية خاصة على عكس ما لا حظناه بالنسبة للجوانب العلمية البحتة و ذلك بسبب ارتباط هذه العلوم ارتباطاًَ وثيقاً بما يطرحه الإسلام من مبادىء تتصل بالمحاور الثلاثة التي أشرنا إليها، بصفة أن كلا من علم النفس مثلاً يتناول التركيبة البشرية و طريقة استجابتها للظواهر و أن علم الاجتماع يتناول المجتمع الإنساني، و هكذا بالنسبة إلى علم السياسة و الإدارة و ما إلى ذلك كل هذه الضروب من المعرفة تظل متصلة اتصالآً وثيقاً بالمحاور الثلاثة التي وظفنا بالالتزام لها.
من هنا يكتسب هذا الحديث طابعاً له أهميته، لذلك نجد أن المعنيين بهذا الشأن قد توفروا بدورهم على دراسة القرآن الكريم من خلال هذه الضروب من المعرفة الإنسانية، من هنا إذاً اُتيح لنا أن نتحدث عن المعرفة القرآنية الكريمة، أو المادة المعرفية في القرآن الكريم يحسن بنا أن نتناولها من خلال هذه المحاور الثلاثة أي المحور الفقهي و العقائدي و الاخلاقي على أن نصل بينها و بين ضروب المعرفة الإنسانية، التي أشرنا إليها متمثلة في علوم النفس و الاجتماع و التاريخ و .. الخ، حيث أن الباحثين الذين تناولوا موضوعات القرآن الكريم  إنما تناولوها من خلال هذه المحاور، إما مباشرة من خلال البحث المختص بالفقه أو العقائد أو الأخلاق أو يتناولها المعنيون بالمعرفة الإنسانية في العلوم المشار إليها بحيث يتعرضون للنصوص القرآنية الكريمة، التي تتناول جانب النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد و ما إلى ذلك، من هنا سوف نمر عابراً أيضاً و لا نفصل الحديث عن هذه الجوانب لأن الحديث عن كل جانب من هذه الضروب من المعرفة من الممكن أن يتناول من خلال عشرات المؤلفات كما هو واضح، على سبيل المثال في ميدان علم النفس نجد إن علم النفس عندما يتناوله باحث في القرآن الكريم يمكنه أن يتناول الخطوط العامة التي تعرض لها النص القرآني الكريم في التركيبة البشرية، ولكن الباحث في هذا المجال لا يكتفي بالإشارة العابرة التي ورد القرآن الكريم عبرها بقدر ما ينبغي عليه أن يفصل كل ما يرتبط بهذا الموضع من تفصيلات متنوعة يتناولها عشرات المؤلفات و ليس مجرد سطور أو صفحات تتناول هذا الشكل أو ذاك، و الأمر نفسه بالنسبة إلى ما يرد في سياق علم الاجتماع و علم السياسة و علم الإدارة و علم الاقتصاد ... الخ.
المهم يمكننا أن نتحدث عن هذه المحاور الثلاثة و أن نربطها بما توفر عليها الباحثون من طرح خاص على أن يتم العرض سريعاً لهذه الجوانب و نبدأ ذلك بالحديث عن الجانب الفقهي و هذا ما ندرجه ضمن عنوان:

 

القرآن و المحور الفقهي

يمكن الذهاب إلى أن القرآن الكريم يحتوي من حيث المادة الفقهية على ما قدره المعنيون بشؤون البحث الفقهي حوالي الخمسمائة آية ترتبط بمختلف الأحكام الفقهية، و من البين أن النص القرآني الكريم حينما يطرح مادة فقهية فإن هذا الطرح يظل بالشكل الذي أوضحناه سابقاً، من أن النص القرآني الكريم لا يطرح المادة وفق الترتيب الذي يطرحه المعنيون بالبحث الفقهي بقدر ما يطرح المادة ضمن سياق خاص و يترك لنا نحن المعنيين بالبحث الفقهي أن نمارس عملية خاصة لا ستخلاص الحكم الفقهي سواء أكان ذلك من خلال النص القرآني الكريم و نذكّر بأن القرآن الكريم عندما يطرح المادة الفقهية لا يطرحها بجميع مستوياتها من جانب و لا يدخل في التفصيلات من جانب ثان، لذلك فإن المادة الموجودة في القرآن الكريم فقهياً ينبغي أن تعرض في ضوء السنة الشريفة متمثلة في ما يرد عن الأربعة عشر معصوماً^ بالإضافة إلى أدلة اُخرى رئيسة أو ثانوية لا نريد أن نتحدث عنها الآن.
إنما نستهدف الإشارة فحسب إلى أن ثمة صلة مهمة جداًَ بين المادة الفقهية في القرآن الكريم و بين المادة الحديثية الشريفة و أن هذه الصلة بينهما من الوثاقة بمكان حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. و بما أن الدخول في تفصيلات هذا الجانب ، يندرج ضمن البحث الاُصولي مما لا نعنى به الآن، حينئذ ندع هذا الجانب لنكتفي بالإشارة فحسب لوجود هذه الصلة. هذا من جانب، و من جانب آخر ثمة صلة أيضاً بين النص القرآني الكريم و بين المادة الفقهية من حيث الناسخ و المنسوخ، وصلة هذين الموضوعين بتكييف الحكم الشرعي وسواهما من علوم القرآن.
و من جانب ثالث هناك صلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية من حيث الأداة الاُصولية التي تتوكأ عليها حيناً من حيث استخلاصها من مادة القرآن الكريم ذاته، و أخيراً هناك صلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية من خلال عرض الأخبار المتضاربة على القرآن الكريم و الأخذ بما يوافق النصوص القرآنية الكريمة.
و بالنسبة إلى المحور الأول و نقصد به علاقة النص القرآني الكريم بالمادة الفقهية نقول أن هذا المحور يتمثل كما أشرنا إلى وجود مئات الآيات التي تتناول حكماً فرعياً ما، بيد ‌أن هذه الآيات الكريمة إما أن نتناول بشكل عابر و مجمل جداً مثل الآيات المتصلة بالصلاة و بالخمس و ما إلى ذلك، أو التي تتناول ذلك بشيء من التفصيل كآية المواريث مثلاً، و خلال ذلك يظل الحديث عن صلة المادة الفقهية للقرآن الكريم مرتبطاً كما قلنا بالسنة الشريفة حيث تتكفل السنة الشريفة بتوضيح ما هو مجمل و بتخصيص ما هو عام أو بتقييد ما هو مطلق... الخ.
و أما بالنسبة إلى المحور الثاني من العلاقة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية، و هي المادة المتصلة بما هو ناسخ و منسوخ، فقد سبق أن أشرنا إلى أن المعنيين بشؤون التفسير و بشؤون الفقه عندما يعرضون لآيات النسخ حينئذ ثمة اختلاف نجده بين هؤلاء الباحثين أي من حيث ذهاب بعضهم إلى أن النسخ هو متمثل في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة قبالة من يذهب إلى أن ثمة آيات معدودة جداً هي المنسوخة و بين من يذهب إلى الوسطية.
المهم يمكننا بنحو سريع أن نتحدث عن هذا الجانب فنقول: إن الحديث عن الناسخ و المنسوخ يظل مطبوعاً بجملة سمات، منها أن بعضا من الآيات التي يتحدث الباحثون عن كونها منسوخة أو غير منسوخة، لا تترتب عليها أحكام مهمة، و منها أن بعضا منها يحمل على التخيير أو الندب أو مطلق الجمع العرفي، و منها أن الكثير بخاصة الآيات التي تحدث الأقدمون عنها ترتبط بعملية التخصيص بحيث خلط أولئك بين مفهوم التخصيص و بين مفهوم النسخ، و لذلك نجد أن الباحثين المعاصرين لم يدرجوا العنصر المتقدم ضمن بحوثهم.
لكن في سياق ما نحن في صدده يمكننا الذهاب كما قلنا إلى أن قسماً من الآيات المنسوخة لا ثمرة عملية للبحث عنها و منها مثلاً آية: { اتّقوا الله حقّ تقاته}  المنسوخة كما يقال بقوله تعالى: { فاتّقوا الله ما استطعتم}  فسواء أقلنا بنسخها أو بعدم ذلك، فإن النص الشرعي و العقلي يحكمان بأن الشخص إنّما يمارس التقوى بقدر ما يطيق ذلك و لا يمكن أن يتجاوزه لما هو حق التقاة إلا من اصطفاهم الله، بل يمكننا أن نذهب إلى ما ورد عن الأئمة المعصومين أنفسهم حينما قالوا إن الله لا يعبد حق عبادته لأن الطاقة البشرية محدودة قبال لا محدودية النعم العظيمة التي يتسم بها الله سبحانه و تعالى.
و من الآيات الخاصة لهذا الجانب قوله تعالى: { و للّه المشرق و المغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم} حيث نسخت كما يقال بقوله تعالى: { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} ، و قد أشار المعنيون بشؤون التفسير إلي أنّ النبي‎’كان في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدّس، و عندما هاجر إلى المدينة عيرته اليهود حيث تحجّجوا بأن ذلك قبلتهم فاستاء النبي’ فأنزل الله عليه تعالى: { قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم} .
فهنا نجد أن الباحثين يتفاوتون في ذهابهم إلى كون هذه الآية منسوخة حيث ذهب البعض كما قلنا إلى نسخها، و ذهب البعض الآخر إلى أنها غير منسوخة ذاهبا إلى أن الله سبحانه و تعالى أراد أن يوضح للمجتمع الرسالي آنئذ بأن الآفاق جميعاً لله سبحانه و تعالى ، لا يفترق غربها عن شرقها و أن الله سبحانه و تعالى أمر أولاً بالتوجه إلى البيت المقدس و له أن يأمر ثانياَ بالتوجه إلى‌البيت الحرام و هكذا.
و ذهب نمط ثالث إلى أن آية (لله المشرق و المغرب) تحمل على النافلة. لا الفريضة، لنلاحظ هنا أن البحث عن هذه المسألة يظل في الواقع يقترن باللاجدوى، ما دمنا جميعاً نعرف بأن الفريضة في الحالات جميعاً ينبغي أن تكون متجهة إلى البيت الحرام، إلا في حالات خاصة و يكفينا أن النصوص الواردة عن المعصومين^ سمحوا لنا بأن نصلي النافلة كيف شئنا، و من ثم فأن السماح بالنافلة بهذا النحو مقابل الفريضة التي ينبغي أن يكون التوجه فيها إلى البيت الحرام، نقول: إن هذا المستوى من التوجه في سياق ما هو فريضة و ما هو نافلة يظل محكماً من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت^ و حينئذ فإن الحديث عن النسخ و عدمه لا يحمل أهمية كبيرة كما قلنا.
و الآن: إذا تجاوزنا هذا الجانب الذي قلنا عنه أنه لا يترتب عليه آثار ذات أهمية، إذا تجاوزنا هذا الجانب أو هذا القسم من البحوث المتصلة بالناسخ و المنسوخ، و اتجهنا إلى قسم آخر و هو ضئيل بدوره، و لكنه في الواقع غير خاضع لعملية النسخ دون أدنى شك، و هذا من نحو الآية التي تتحدث عن كفارة الصوم لمن يلاقي الشدة كالشيوخ و سواهم ممن يعاني من العطش الشديد، حيث تقول الآية الكريمة: {و على الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ، حيث ذهب قسم من الباحثين إلى نسخها من خلال آية : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}، معللين ذلك بظاهرة التخيير بين الفدية في حالة عدم الصيام و بين الصيام، و هذا بالإضافة إلى من يحاول أن يلجإ إلى اللغة ليفرق بين عبارة : { يُطِيقُونَهُ } بمعني أن يسعهم أي يقدرون عليه و بين : { يُطِيقُونَهُ } بمعنى يتحملون ذلك مع الشدة. و من البين أنه لا قيمة لهذا الرأي و لا قيمة للرأي السابق الذي لا حظناه، ذلك لأن اللجوء ألى أهل البيت^ يحل لنا المشكلة بوضوح حينما يرد عنهم إن المقصود من عبارة تطيقونه هو المعنى الثاني و هذا ما ورد عن الإمام علي عليه السلام و الإمام الصادق عليه السلام  بينما فسر ذلك بالشيخ الكبير و الذي يأخذ، العطاش... الخ.
المستوي الثاني في الآيات المنسوخة نقصاً
نتجّه إلى الحديث عن المستوى الثاني من الناسخ و المنسوخ حيث نجد ‌أن هذا القسم في الواقع هو على عكس الحالة السابقة ، حيث يمكننا أن نستشهد ببعض الأمثلة و في مقدمتها الآية القرآنية الكريمة القائلة : { و الّذين يتوفّون منكم و يذرون أزواجاً وصية لازواجهم متاعاً ألى الحول} .
حيث نذهب نحن تباعا لما ورد عن المعصومين عليها السلام أن هذه الآية الكريمة قد نسختها الآية الكريمة القائلة: { والّذين يُتوفّون منكم و يذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر و عشراً } ...الخ.
و لكننا نجد قبالة ذلك من يذهب إلى أن هذه الآية غير منسوخة و ذلك من خلال ذهابه إلى أن آية المتاع إلى الحول خاصة في حالة ما إذا كانت  هناك وصية‌للزوجة بممارسة ذلك، و أما في حالة العدم فإن الآية القائلة بالأربعة أشهر والعشرة أيام، هي المعينة ، و حينئذ لا نسخ بالموقف، و لكننا نرد على هذا الرأي و نقول : لا قيمة لهذا الرأي ما دام المعصومون عليها السلام أوضحوا بأن الآية منسوخة و أن العصر الجاهلي كان قبل ذلك يمنع المرأة ألى الحول و جاءت الأية المتمثلة في أربعة أشهر ناسخة لذلك السلوك الجاهلي.
المهم أن هذه المستويات من الآيات التي دار الخلاف فيها من حيث النسخ و عدمه بالنحو الذي تحدثنا عنه و نتحدث عنه، نقول: لا أهمية لأمثلة هذه المستويات التي وقعت في خلاف ما دامت إما لا ثمرة عملية لها، و إما أن النص الشرعي و نقصد به السنة الشريفة تكفلت بحل المسألة بهذا النحو أو ذاك، و لكن يبقي النمط الأخير من الآيات التي تتحدث عن الناسخ و المنسوخ، و تترتب عليه الآثار الشرعية هو بدوره قليل إلا أنه يتسم بالأهمية نظرا لكون الآثار الشرعية تترتب عليه، لكن لحسن الحظ إن الحمل على الندب أو التخيير في الايات المدعى نسخها يهون من الأمر و هذا من نحو الآية القائلة: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين و الأقربين} ...الخ.
حيث حملت هذه الآية على الندب مقابل الآية التي قيل أنها نسخت الآية المتقدمة ، و نعني بها آية المواريث.
و يمكن أن نستشهد بأمثلة اُخرى تتوافق مع هذا النمط من المستوى الذي يتحدث أو لنقل يحمل الآية على وجه الندب دون أن يرتب أثراً على نسخها، و لكن كما قلنا أن أمثلة هذه الآيات لقليل و من ثم فإن الأمر ليهون دون أدنى شك حينما يكيف الحكم فقهيا بعملية ندب و ليس بعملية وجوب، و هذا على العكس مما لو ترتبت الآثار الفقهية على ما هو محرم أو محلل، و لكن كما قررنا لحسن الحظ أن الحديث عن هذه الآيات المدعى نسخها أو المدعى عدم نسخها بالشكل الذي أو ضحناه يظل موسوماً بالشكل الذي لا تترتب عليها أية أهمية أو ترتب عليها الأهمية و لكنها في نطاق محدود جداً...
ما تقدم يتصل بالمستوى الثاني من مستويات الصلة بين المادة الفقهية ، و بين القرآن الكريم حيث كان المستوى الأول يتحدث عن صلة القرآن الكريم بالأحكام بالشكل العام، كان المستوى الثاني يتحدث عن صلة القرآن الكريم ما هو ناسخ و منسوخ من الأحكام الفقهية، و أما المستوي الثالث هو الصلة بين النص القرآني الكريم و بين المعرفة أو المادة الفقهية، فيتمثل أولاً في وجود صلة بين الأداة الاُصولية في بعض نطاقاتها، و بين النص القرآني الكريم، ثم الصلة بين بعض الأحكام و بعض الروايات المتضاربة من خلال الذهاب إلى عرضها على القرآن الكريم، العمل بما يوافق القرآن الكريم و ترك ما يخالفه.
بالنسبة للمستوى الثالث و هو الأداة المادة الاُصولية، من الممكن أن يتوكأ الاُصوليون على المادة القرآنية الكريمة لإستخلاص بعض القواعد الاُصولية أو بعض القواعد الفقهية كقاعدة (لا حرج) مثلاً أو الإستخلاص الاُصولي كالإعتماد على ( الخبر الواحد) مثلاً من خلال الاستشهاد بآية: { إن جاءكم فاسق بنبأ} ... الخ.
من الممكن أن يفيد الاُصوليون و الفقهاء من قاعدة فقهية أو اُصولية يستنبطونها من النص القرآني الكريم.
و أما المستوى الأخير فهو كما قلنا التضارب حيناً بين (الفتاوى) الواردة ، أو بين ( الأخبار) المتضاربة بحيث لا يمكن أن يؤلّف بينها من خلال ما يسمى بالجمع العرفي بقدر ما يكون التضارب محكماً على نحو التضاد أو التناقض، و من هنا أمرنا المشرع الإسلامي أن نعرض هذه الأخبار على النص القرآني الكريم و نأخذ بما يوافقه و ما يخالفه نتركه. و هذا لا يحتاج إلى التعقيب.
وبهذا ينتهي حديثنا عن المحور الأول، و نعني به محور الصلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية.