القرآن الكريم والطريق نحو الكمال ( شبهات وحلول )

إذا كان المصير الواقعي للانسان رهيناً بعمل الانسان نفسه، ولا يمكن لايّ أحد أن يتدخّل في مصير الاخرين، وكانت هذه قاعدة شاملة لا يشذّ عنها مورد كما صرّح القرآن الكريم قائلاً: (وَأنْ لَيْسَ لِلانْسانِ إلاّ مَا سَعَى)([13]). وقال: (ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى)([14]). فهنا قد يورد للنقض على كلّية هذه القاعدة العامّة عدّة موارد جاءت في القرآن الكريم نفسه: 1 ـ لقد أقرّ القرآن الكريم مبدأ الشفاعة في الاخرة. ووجه النقض أنّ الشفيع يتدخّل لانقاذ الانسان من ورطته، و إذاً وُجد عنصر آخر دخيل في مصير الانسان غير عمل نفسه. 2 ـ قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِها)([15]). فإذا تفضّل اللّه سبحانه بإثابة الحسنة بعشر أمثالها، فإذاً تسعة أمثالها من باب التفضّل الذي يزيد على عمل الانسان نفسه، وليس العمل هو وحده الدخيل في حصول هذا المصير. 3 ـ إنّ مبدأ المغفرة من اللّه سبحانه وتكفير السيّئات أيضاً مبدأ يبتني على التفضّل واللطف الالهيين، فلا دخل لفعل الانسان فيه. 4 ـ صرّح القرآن الكريم بأنّ الذين يُضلّون الاخرين ويكونون سبباً في غوايتهم فإنّهم سوف يتحمّلون أوزار أنفسهم وأوزار الذين يضلّونهم. وهذا معناه أنّ الانسان قد يتحمّل تبعة الاخرين، فإنّ الذي يَضلّ إنّما يضلّ بحسب إرادته واختياره، فلماذا يتحمّل غيرُه وزرَه أيضاً وقد قال تعالى: (ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى)([16])؟ وعلى هذا فكيف يمكن إقرار كليّة هذا المبدأ الثالث وشموليّته بحيث يكون عمل الانسان هو الطريق الوحيد لتحقّق مصيره؟ والجواب عن النقض بالشفاعة أن يقال: إنّ الشفاعة و إن لم تكن بمعنى التجاوز عن الذنب أو التقصير بدل عمل اختياري، ولكن استحقاق الفرد للشفاعة لا يكون إلاّ بعمل اختياري يقوم به الذي يتوقّع الشفاعة ليستحق الشفاعة، ولهذا لم يُدّعَ بأنّ الشفاعة تشمل كلّ إنسان بل لا بدّ من تحقّق مواصفات خاصّة يحصل عليها الفرد خلال عمله وسلوكه الارادي، قال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إلاّ لِمَن ارْتَضى)([17]). وأمّا الجواب عن النقض بتعويض الحسنة بعشر أمثالها بل أكثر من هذا قوله تعالى: (وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ)([18]) أو قوله: (إنّما يُوفّى الصّابِرونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِساب)([19]) فكلّ هذه الموارد تبتني على نفس المبدأ الشامل حيث أنّ هذه الاثابة مشروطة بإتيان الحسنة أو الصبر أو أيّ عمل إرادي آخر. وليس هذا التعويض من باب التعويض بلا استحقاق، بل الاستحقاق إنّما يحصل عليه الفرد بعد القيام بعمل خاصّ يستدعي ويستتبع مثل هذا الجزاء. وأمّا تكفير السيّئات والمغفرة فإنّ مثل قوله تعالى: (إنّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السيّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرين)5([20]) يرشدنا إلى أنّ المغفرة والتكفير إنّما يحصلان بالقيام بعمل إرادي يستدعي أو يستلزم محو السيئة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها»([21]). وأمّا حمل المضلّين أوزار الضالّين فإنّ التأمّل في الاية يرشد إلى جوابها حيث يقول: (لِيَحْمِلُوا أوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزارِ الّذينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم ألا سَاءَ ما يَزِرون)([22]) فإنّ الاية لا تقول: إنّهم يحملون كلّ أوزار الضالّين بل تقول: (وَمِنْ أوْزارِ الّذينَ يُضِلّونَهُم) وهذا يعني أن الضالّ يتحمّل تبعة ضلاله الاختياري، والمضلّ إنّما يتحمّل من وزره بمقدار ما يكون دخيلاً في ضلاله وغوايتِه. وكأنّ هذا المقدار هو النتيجة الطبيعيّة لعمله و إضلاله، فالانسان يحصل على كل نتائج عمله المباشرة وغير المباشرة بلا استثناء. إذاً لم تبطل كليّة هذا المبدأ الثالث، بل الايات تؤكّد أن مصير الانسان رهين بعمله لا غير. وهكذا يتّضح لنا أن العمل الارادي لايّ إنسان هو طريقه الطبيعي للحصول على مصيره الذي يترتّب على مجموع أعماله. فلا يمكن الحصول على الكمال اللائق بالانسان إلاّ عن طريق العمل والسّلوك الذي يصلح لمثل هذا الهدف الاقصى. ومن هنا كان الايمان والعمل الصالح شرطين أساسيين لبلوغ هذه الغاية كما سوف يأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى. ومن هنا نعرف كيف أنّ العاقل لا يتّكل على المُنى ولا يتواكل في أمر مصيره و إنّما يكدح ويجتهد طوال حياته لانـّه لا يجني إلاّ ثمار عمله، ولا سعادة من دون دليل كما لا شقاء من دون سبب. فعلى العاقل أن يبحث عمّا يؤدّي إلى السعادة وعمّا يؤدّي إلى الشقاء بعد أن اتّضح انّ العمل هو الطريق فحسب.

________________________________________

([13]) النجم: 39.
([14]) النجم: 38.
([15]) الانعام: 160.
([16]) النجم: 38.
([17]) الانبياء: 28.
([18]) البقرة: 261.
([19]) الزمر: 10.
([20]) هود: 114.
([21]) بحار الانوار 69 : 357.
([22]) النحل: 25.