غزوة بدر الثانية

 غزوة بدر الثانية *
 

لقد جاء في طبقات ابن سعد : أنّها كانت في أوّل ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهراً من الهجرة .

وفي تاريخ الطبري ، وأبي الفداء ، وسيرة ابن هشام ، والبداية والنهاية ، أنّها كانت في شعبان . وسماّها المؤرخون بغزوة بدر الموعد ؛ لأنّ أبا سفيان حينما خرج من أُحد نادى في المسلمين أن : موعدنا معكم بدر في العام القادم . وهو يريد بذلك أن ينتقم لقتلى بدر في المكان الذي قُتلوا فيه ، وفي الموعد المذكور نذر النبيّ (ص) أصحابه إلى لقاء قريش ، وخرج في ألف وخمسمائة من المقاتلين واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة ، وأعطى لواءه لعليّ (ع) ، وسار النبيّ بمن معه حتى انتهى إلى بدر وأقام فيها ثمانية أيام ، وقيل : إنّها كانت مركزاً يجتمع فيها العرب في كلّ عام يبيعون ويشترون ، وقد خرج المسلمون معهم بضائع باعوها حيث صادف تجمع العرب ، فربح الدرهم درهماً وأقاموا بها ثمانية أيام ورجعوا ، وتخلّف أبو سفيان عن الموعد .

وموضع التساؤل في أنّ المسلمين ، كما جاء في كتب التاريخ ، كانوا قد خرجوا لملاقاة أبي سفيان حيث تهدَدَهم بالحرب في ذلك المكان ، فقد خرجوا إذن لحرب مرتقَبة مع قريش وأتباعها من العرب ، ومع ذلك فكيف ، يخرجون بأمتعتهم للتجارة في تلك الأيام التي يجتمع فيها الأعراب في كلّ عام يبيعون ويشترون كما تنصّ على ذلك بعض المؤلّفات في السيرة  ؟! وكيف يخرج النبيّ (ص) لحرب قريش في أيام تجمع الأعراب من مختلف النواحي للبيع والشراء وأكثرهم لا يزالون على الشرك ، ومن غير البعيد لو وقع قتال في هذه الحالات أن ينحاز أكثرهم مع المشركين ، وبذلك يتعرّض المسلمون لأشدّ المخاطر على أموالهم وأنفسهم ، وكلّ الاحتمالات لا بدّ وأن يضعها النبيّ في الحساب ويتحاشاها .

والذي أرجّحه أنّ الغزوة لم تكن في الموعد الذي تجتمع فيه الأعراب للبيع والشراء ، ولم يحمل المسلمون معهم في تلك الغزوة من أموالهم وبضائعهم شيئاً ، بل كانت غزواته لردّ كيد المعتدين والمشركين .

والذي حدث فيها أنّ النبيّ (ص) خرج في ألف وخمسمائة ، أو أقل من ذلك أو أكثر على اختلاف الروايات ، وكان أبو سفيان كارهاً للخروج ومتخوّفاً من ملاقاة النبيّ (ص) في ذلك المكان ، ووضع في حسابه أنّه سيلتقي بقوم موتورين وقد استفادوا من معركة أُحد دروساً ربّما توفّر لهم النصر على قريش وأحلافها ، ومع ذلك فقد التقى بنعيم بن مسعود الأشجعي في مكّة قبل خروجه وكان متعمّراً فيها ، فقال له: يا نعيم كيف تركت محمّداً في يثرب ؟ قال تركته على تعبئة لغزوكم ، فقال له أبو سفيان : يا نعيم ،  إنّ هذا العام جدب ولا يصلح لنا إلاّ عام ترعى في الإبل ونشرب فيه اللبن ، وقد جاء أوان موعد محمّد ، فالحق بالمدينة وثبّطهم وأعلمهم أنّا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا لكي يأتي الخِلف من قبلهم ، ولك منّي عشرة فرائض أضعها لك في يد سهيل بن عمرو وهو يضمنها لك ، فجاء إلى سهيل بن عمرو ، وقال له : يا أبا يزيد ، أتضمن هذه الفرائض لكي أذهب إلى محمّد ومعه فأثبّطه عن الخروج في هذا الموعد ؟ فقال له نعم ، إنّي ضامن لذلك .

فخرج نعيم حتى قدم المدينة فوجد الناس يتجهّزون فاندسّ بينهم ، وقال : ليس هذا برأي ؛ ألم يخرج محمّد بنفسه إلى أُحد وقد قتل أصحابه فيها ؟! ومضى يخوّف المسلمين من نتائج هذه الغزوة ويصوّر لهم مخاطرها ، حتى تخوّف الكثير منهم وتردّد جماعة في الخروج . جمعهم وحثّهم على الخروج ، وقال : والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي ، ولمّا وجده المسلمون مصمّماً على الخروج خرجوا معه كما ذكرنا .

ولكن الواقدي وكاتبه ابن سعد صاحب الطبقات يؤكّدان أنّ المسلمين قد خرجوا معهم بضائع وأموالاً باعوها في بدر حيث يجتمع الناس في ذلك الموعد من كلّ عام .

وأمَّا أبو سفيان ، فلمّا يئس من تراجع النبيّ (ص) ، خرج من مكّة في ألفين من المشركين ومضى حتى انتهى إلى مر الظهران ، وفي رواية ثانية إلى مكان يدعى عسفان بعد مسيرة يومين من مكّة ، وكان متخوّفاً من لقاء المسلمين واضعاً في حسابه معركة بدر الكبرى ونتائجها التي أودت بحياة الأشراف من قريش ، ففضل الرجوع إلى متابعة المسيرة المحفوفة بتلك المخاطر ، فجمع أصحابه ونادى فيهم أنّ هذا العام عام جدب لا يصلح لنا الخرج في مثله ، ولا يصلح لكم إلاّ عام خصيب ترعون فيه أنعامكم وتشربون ألبانها وأنّي أرى الرجوع إلى مكّة خيراً لنا ، فاستجاب له أكثر من كان معه ، فرجع بهم إلى مكّة فسمّاهم أهل مكّة جيش السويق ، يعنون بذلك أنّهم خرجوا لشرب السويق لا للحرب .

ويدّعي المؤلّفون في السيرة أنّه خلال الأيام التي كان النبيّ (ص) ينتظر فيها أبا سفيان في بدر أتاه مخشي بن عمرو الضمري وكان قد أودعه النبيّ (ص) في بعض غزواته ، فقال له يا محمّد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ، فأحسّ النبيّ منه الاستغراب والسخرية ، فقال له : نعم ، يا أخا بني ضميرة ، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ، ثم جادلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك ؟! فقال لا والله يا محمّد : ما لنا بذلك من حاجة .

ولولا أنّ النبيّ أحسّ منه الاستهزاء والسخرية ، لم يكن ليقابله بهذا الأسلوب ؛ لأنّه لم يكن داعية حرب ، بل كان موادعاً لا يقوم على منابذة أحد وحربه إلاّ إذا اضطرّته الظروف لذلك ، وكان مع ذلك ليّن الطبع كريم النفس ، قد بلغ الغاية من النُبل والأخلاق الكريمة ، حتى أنزل الله :(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) . [ سورة القلم : 4 ] .

ولمّا يئس النبيّ من ملاقاة قريش وعلم برجوعهم إلى مكّة ، رجع بمن معه إلى المدينة مستريحاً إلى هذا النصر الذي أعاد للمسلمين شيئاً من هيبتهم التي فقدوها في معركتهم مع المشركين في أحد ، ومضى النبيّ ينظّم أمور المسلمين حسبما يوحى إليه تنظيماً دقيقاً يتناول يوم ذاك عدّة ألوف من المسلمين ، وهو على ثقة بأنّ ذلك النظام الذي يستمدّه من وحي السماء سيصبح بعد ذلك دستوراً ونظاماً لمئات الملايين من البشر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجاء في بعض المؤلّفات في السيرة أنّ الآيات التالية نزلت على رسول الله (ص) بمناسبة هذه الغزوة :

( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ