زينب رمز المرأة المسلمة

بسم الله الرحمن الرحيم

 زينب رمز المرأة المسلمة *

محمد حبش

 رئيس مركز الدراسات الإسلامية ، عضو مجلس الشعب ـ دمشق

الحمد لله رب العالمين ، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وصلَّى الله على أخويه موسى وعيسى وعلى أبيهما إبراهيم ، وعلى آل كل وصحب كل أجمعين .

في الواقع يكرِّمنا الله سبحانه وتعالى لأنْ نقف عند مفاصل محدَّدة في حياة أهل البيت الكرام ، لنتحدَّث عن الدروس التي يمكن أن نقرأها في عطائهم وإقدامهم .

يقولون إنَّ التاريخ يكتب بيد المنتصر ... جاء رأس الحسين إلى الشام ونكته يزيد بن معاوية بقضيب كان في يده ، وأحضرت نساء أهل البيت سبايا إلى الشام ، وتحدَّث بنو أُميَّة بأنَّهم أنجزوا الانتصار المطلوب . ولا أشك أبداً في أنَّهم كتبوا التاريخ وفق إرادتهم ورغبتهم ، ولكن بعد ألف وأربعمئة عام ، كيف تجدون هذا التاريخ ؟ بكل تأكيد لقد قال الزمان كلمته ، وقالت الأيَّام كلمتها ، وانتصرت إرادة الخير وانكسرت إرادة الباطل . قد لا يبدو المشهد كفراً بأمجاد السابقين ، ولكنَّه توقيف إلى أنَّ إرادة الخير الغالبة هي التي تستمر .

لم نكن سعداء حين نبشت قبورهم ، لكنَّنا كنَّا سعداء حينما أنصف الزمان أهل البيت وأقامهم درةُّ في جبين التاريخ ، ومن أجل ذلك صلت دمشق صوب قبلتها ، إلى قرية اسمها راوية عاشت هادئة آمنة ترقد فيها السيدة الطاهرة الطيبة زينب ، من أجل أن تنبعث في ضياء التاريخ درس هدى ورحمة ونور يتجدَّد عطاؤها كل يوم .

أيُّها الإخوة ...

ربَّما كان ما يفصل بين الإيمان والإلحاد ، هو عقيدة أنَّ العاقبة للمتَّقين . نحن هنا في الشاطئ الإيماني من العالم ، نواجه الحضارة المادية بكل أشكالها القاسية ، ولكن ثَمَّة فارق منهجي واحد يفصل بين المعسكرين ، هو أنَّنا نُؤمن هنا أنَّ العاقبة للمتَّقين ، وأنَّ النهاية لصوت الحق . فيما يرى الآخرون ، أنَّ الصراع في الأرض ليس إلاَّ جزءاً من عبث الطبيعة ، وأنَّ الإنسان ، كما سائر الكائنات التي خلقت في هذه الأرض ، ماضية بغريزة البقاء ، وأنَّ البقاء للأشد بطشاً وظلم ، وأنَّ سُنَّة الكون أنَّ يأكل السمك الكبير السمك الصغير ، وأنْ يأكل الذئب الحمل ، ثمَّ تمضي الأيام على ذلك .

هذه هي ألفباء الثقافة المادية التي أسسها نيتشه في الغرب ، والتي يقول فلاسفتها وأنبياؤها بكل صفاقة : (اقهر الضعفاء ... اسحقهم ... اصعد فوق جثثهم ... إنَّ الأخلاق هي العائق الوحيد في وجه قيام حضارة قوية ... لا بد من قتل الضعفاء إذا ما أردنا أن نبني مجتمعاً قوياً وحضارة متينة ) ، هكذا يقرؤون الحياة في الشاطئ الآخر من العالم . ولكنَّنا هنا نقرأ الحياة من ضفاف أهل البيت ، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( الأحزاب : 33 ) .

حينما حُملت السيدة الطاهرة زينب الكبرى فقامت بين يدي يزيد بن معاوية ، كان الذين يقرؤون ذلك المشهد التاريخي يسجِّلون انتصار إرادة الشر ، ويتحدَّثون أنَّ الأخلاق والمُثُل العُليا ما هي إلاَّ مكر من أوهام الضعفاء ، ولكن كان علينا أن ننتظر حتى يقول الزمان كلمته ، وقد قال الزمان كلمته .

إنَّ السيدة زينب التي يسكن عشقها في أفئدتنا اليوم ، يمكنِّنا أنْ نتحدَّث عنها بفخر ، كمجد لسورية وللعرب ولهذه الأرض المباركة ... للشام الشريف . لا يوجد في العالم كله على اتساعه ضريح امرأة حظي من المكانة والمجد بما حظي به ضريح السيدة الطاهرة زينب . إنَّنا حينما نتحدَّث عن ذلك الضريح الذي تؤمُّه الملايين من أجل الوصول إلى قراءة الدرس الكامل ، يمكننا أن نجد في هذه الزيارة وحدها جواباً وافياً عن منزلة المرأة في الإسلام ، إنَّها لون آخر من البشر ، لا يشبه في شيء تلك المرأة المائتة المسحوقة التي يصوِّرها لنا فقه الانحطاط على أنَّها رمز للمرأة المسلمة ، زينب هي رمز المرأة المسلمة ، عندما كانت تقف أمام الطغاة وتطالبهم بأن يمكروا مكرهم ، وكانت تواجه سيوفهم الصارمة بلسانها الصادق ونظراتها الحادة ، فكانت حينئذ تثلِّم أسلحتهم ببريق عينيها .

لم تكن تلك السيدة الهادئة الوادعة التي أقامت في جنوبي دمشق تُؤدِّي رسالة عظيمة وكبيرة وشريفة ، لم تكن راغبة في أن تنال قسط الراحة التي تطمع بها النساء ثمَّ تمضي بعدئذ إلى قراءة ما ترغب به من مجد شخصي ، لقد أرادت أن تُقيم هنا ، وكان الفضاء في هذا العالم رحباً أمامها ، وقد بُسطت لها المدائن وفُرشت لها المطارف ، ولكنَّها اختارت أن تُقيم هنا ، أرادت أن تعلِّم العالم أنَّه لا يستطيع أحد أن يُطفئ حب أهل البيت في قلوب أهل الشام .

لقد جاءت السيدة زينب واحدة في سبايا كان يطاف بهنَّ في مدائن بني أُميَّة ، يقال للناس : إنَّ خطاب محمد الذي جاء بقصد أن تحلِّق مقاصد المثل الأعلى فوق رغائب حطام الدنيا قد تولَّى ، ولكنَّها جاءت لتقول : بل لا زالت الفضيلة هي غاية الإنسان في الأرض ، وأنَّ الإنسان لم يُخلق في هذا العالم ليكون حطاماً أو متاعاً. صرخاتها التي جَبَهْت بها في جبين الطغاة ، لا تزال إلى اليوم تُلهم الأحرار رسالةَ الثورة . عندما كانت ترى رأس أخيها الحسين وهو يطاف به في مدينة دمشق ، في إرادة بائسة عاجزة تتحدَّث عن انتصار الشر على الخير ، كانت السيدة زينب تزرع زرعها في باطن الأرض . حينما جاؤوا بها من كربلاء ، حسبوها أنَّها لحم وطين! عميت أبصارهم ، ما شاهدوا في حناياها يقين المرسلين . لقد جاءت لتقول كلمة الحق ولتخلِّد فكرها وتراثها .

هنا نتعلَّم من أهل البيت ... هنا كانت السيدة الطاهرة زينب تعلِّم الدنيا كيف تصمد المرأة المسلمة التي توقن بخلد الله عزَّ وجلَّ ، هنا كانت السيدة زينب تقضُّ مضاجع الطغاة لتقول لهم كلمة الحق وهي معتصمة بالله تناجي :

 ( يا عماد مَن لا عماد له ، يا ذخر مَن لا ذخر له ، يا سند مَن لا سند له ، يا حرز الضعفاء ، ويا كنز الفقراء ، سبحان مَن لبس العز وتردَّى به ، سبحان مَن تعطَّف بالمجد والكرم ، سبحان مَن لا ينبغي التسبيح إلاَّ لجلاله ، سبحان مَن أحصى كل شيء عدداً بعلمه وخلقه وقدرته ) .

 كانت تعيش مع عبد الله بن جعفر ، وهو رجل موسر باذل كريم ، ولكنَّها على الرغم ممَّا تقلَّب في يمينها من بريق الذهب ، لم يكن يبيت في دارها شيء من متاع الدنيا ، وما ادخرت شيئاً من يومها لغدها أبداً ، ومع أنَّها كانت تترحَّل إلى روضة جدِّها محمد (ص) ، ولكنَّها كانت تدرك أنَّ رسالتها هنا في الشام ، في عاصمة الحضارة الإسلامية ، لتبعث المرأة المسلمة شريكاً كاملاً في هذا البنيان الحضاري .

أولئك الذين كانت تتقصَّف رُكَبُ الرجال إذا قاموا بين أيديهم ، كانت تتقصَّف رُكَبهُم إذا قامت أمامهم زينب الكبرى لتقول لهم كلمة الحق ... أولئك الذين كانت ترجف لهم قلوب الرجال ، كانوا يرجفون أمام هيبة زينب وهي تتحدَّث عن قراءتها للمجد الباقي ، مجد الحقيقة . كانت النساء تتجمَّع هناك ، ومن أجل ذلك أفرز الإمام ابن حجر في تقريب التهذيب (824) امرأة كلهنَّ صُنِّفنَ عالمات وحكيمات وفقيهات في صدر الإسلام الأول . لقد كان مجتمعاً فيه سيدة كزينب تمد يقين الأُمَّة بخيط الرجاء الذي كان موصولاً حتى بتحقيق النصر والأمل .

 لم تكن السيدة زينب صوتاً عالياً في وجه الطغاة فحسب ، لقد واجهت السلطة السياسية ، ولكنَّها كانت تواجه أيضا السيطرة الدينية . السيدة زينب كانت تتحدَّى طغاة بني أُميَّة ، كان يقف أمامها أولئك القادة العسكريون الذين كانوا يضربون في كل وجه ويبطشون بكل مخالف ، وكانوا ينقلبون إلى أفراخ صغيرة عندما تقوم السيدة زينب بمواجهتهم بكلمة الحق .

عفواً زينب ... إنَّنا اليوم نقرأ مجدك كتاباً في سفر التاريخ ، إنَّنا نقرأ كلماتك اليوم ، ولكن بوسعي أن أسأل : أين هي زينب اليوم ؟ أين هي زينب اليوم في حلقات الثقافة والتربية التي أحالت المرأة المسلمة إلى ركام خامد ، ليس له مجد صرخة في وجه الحياة ؟!

عفواً زينب ... إنَّ روحك المتوثِّبة التي ملأت بها الأُمهات والأخوات والبنات الفاضلات ، لا نكاد نحسُّ بريقها اليوم . إنَّ من أسف الدنيا على الأحرار أن يقرؤوا في هذه الأيام العصيبة ، أنَّ حركة تحرُّر المرأة لا تتحرَّك كما تعوَّدنا في أيَّام المجد الإسلامي من وراء العمائم ، يتحرَّك اليوم خطاب تحرُّر المرأة عبر قراءات مستوردة ، في حين أنَّ من حقه ورسالته أن يكتشف ذاته في ضياء السيدة العظيمة زينب.

 لماذا نتحدَّث عن تحرُّر المرأة في التجربة الفرنسية والبريطانية والإيطالية ولا نقرأ عن تحرُّر المرأة في التجربة الزينبية ؟! إنَّنا نختزل تحرُّر المرأة في شكل من أشكال الزي ! ، ومتى كان الزيُّ رمزاً لتحرُّر العقل أو هموده ؟ فالزيُّ محايد ولا يمكن قراءته إلاَّ هكذا . وقد استطاعت السيدة زينب أن تقدِّم صورة للمرأة المسلمة المتحرِّرة ، تفد إليها الناس من كل وجه لتُؤدِّي رسالتها في التربية والنهضة والبناء ، ولا أشكُّ أبداً أنَّ هذا الزحف الذي نشهده اليوم على ضريح السيدة زينب ، هو ذاته الزحف الذي كانت تعرفه فتيات النهضة الإسلامية على دار زينب يوم كانت تنفح بكلماتها يقين الحياة في حركة النهضة .

إنَّ زينب ليست محض قبر ... إنَّها ليست محض ضريح ... إنَّها تراث وفكر ، وإنَّ رسالتها على باطن الأرض ليست أكبر من رسالتها في ظاهر الأرض ، إنَّها اليوم في قبرها تُؤدِّي الرسالة ، ولكنَّنا نظلمها إذا ظننَّا بأنَّها كانت في حياتها محض عابدة هامدة ولم تكن ذلك الباعث الذي ينفخ في روح الثورات .

إنَّها اليوم لا تزال تمسك بيمينها جزءاً غير قليل من اقتصاد سوريا وثقافتها وتاريخه ، هذا القبر الساكنة أحجاره يلتهب بالحركة والعطاء ، ويجعل من تلك القرية الوادعة في جنوب دمشق ، مركزاً للحديث عن مستقبل بلاد الشام و قراءة هويتها . لا أستطيع أن أتصوَّر أنَّ السيدة زينب قبل رحيلها كانت مجرَّد وعد في ضمير الشرفاء ، بل كانت أيضاً قصة ثورة تلتهب لتنبعث من تحت الرماد كما رأيناه في عصر النهضة الإسلامية.

لم تكتم السيدة زينب كلمة نصح لأخ شفيق ورقيق ، ولم تكتم كلمة تحدٍّ في وجه الظلمة الطغاة . لقد كانت تقرأ مجد الدنيا في إرادة حديدية من فولاذ ، وكان علينا أن ننتظر إلى أين سيمضي مكرهم في كتابة التاريخ . لقد استطاعت تلك الدفينة في ضريحها أن تُعيد كتابة التاريخ بقلم أخضر ، وأن تسجِّل انتصارَ الدم على السيف ، وأن تسجِّل انتصارَ الإرادة الطيِّبة على مكر الطواغيت .

هكذا أقرأُ السيدة زينب ، ولكنَّّني أملك أن أتساءل : أين أجد روح السيدة زينب اليوم ؟ أأجده في المرأة العربية التي بلغت نسبة الأُمِّـيَّة فيها(47%) ؟! أأقرأه في المرأة اليمنية التي وصلت نسبة الأُمِّـيَّة فيها إلى (70%) ؟! ووصلت في السودان إلى (75%) ؟! ووصلت في أفغانستان إلى (78%) إنَّهن يبحثن عن جلباب زينب ، ولكنَّني لا أجد تلك النساء اللاَّتي يبحثن عن روح زينب ... وعقل زينب ... وإرادة زينب ، إرادة لاهبة في وجه الطواغيت . إنَّهن يقرأن اليوم أوراد السيدة زينب ، فيذكرنني بما سجَّله محمد
إقبال :

مساجدُكمْ عَلَتْ في كلِ حيِّ   =   ومسْجدُكم من العبّاد خالي

منائرُكم عَلَتْ في كلِّ أرضِ   =   ولكن أينَ صوتٌ من بلالِ

وعندَّ الناسِ فلسفةٌ وفكرٌ   =   ولكن أين تلقين الغزالي

أين هي تلك المرأة التي تعرف عفافها وكرامتها واستقرارها ووقارها في بيتها ، ولكنَّها تعرف أيضاً متى تحمل الراية وتقف في وجه الطواغيت ، لتقول كلمة الحق وروحها بين كفيها ، لا يعجلها إلى آجالها شجاعة ، ولا يؤخِّرها عن آجالها خور ؟

أُشاهد اليوم الكثيرات ممَّن يَزُرن ضريح السيدة زينب ، وممَّن ينحرن الأضاحي عنده ، ولكن أين هي تلك المرأة المتوثِّبة التي تقرأ أمام ضريح السيدة زينب اتفاقية منع كل أشكال التمييز ضد المرأة ؟ وتنبعث بإرادة تشريعية مفعمة بالحياة من أجل أن تحوِّل ذلك التراث الزينبي إلى إنصاف للمرأة ؟ لماذا تأتي صيحات تحرُّر المرأة من واشنطن ولا نقرؤها في ضريح السيدة زينب ؟ لقد طالبتُ في العام الماضي ، أنْ يقوم الاتحاد النسائي والهيئة السورية لشؤون الأُسرة ، بإطلاق مؤتمرات دولية حقيقية من أعتاب ذلك الضريح ؛ في إشارة إلى الرسالة التي يمكن أن تلعبها المرأة .

 إنَّ السيدة زينب جزء من أهل بيت طيِّبين وطاهرين ، ولكنَّها رمز للمرأة المؤمنة التي لا تغيب إرادتها عن مسرح الحياة مهما اشتدَّت بها وطأة الظالمين .

أيُّها الإخوة ...

لديَّ ورقة كنتُ أعددتُها عن السيدة زينب ، ولكنِّي أستبق الحديث لمحاسبة الذات ، أُريد المرأة الزينبية . في مجتمعنا آلاف الفتيات اللواتي تسمَّين باسم زينب ، ولكن أي تلك الزيانب تمكَّنت من تأسيس حزب للدفاع عن الفضيلة ؟ من إطلاق تجمُّع للوقوف في وجه الطواغيت ؟ من إطلاق رسالة تجوب العالم بصوت المرأة المسلمة ، لتقول ما قالته من قبل زينب الكبرى في مسمع الطواغيت ؟! أي تلك الزيانب التي نتعرُّفها اليوم تملك الإرادة التي تثوي اليوم في قرية راوية ، في الضريح الكريم للسيدة الطاهرة زينب ؟!

إنَّنا نقرؤها الآن رسالة تحرُّر وبعث وحياة ، وبإمكاننا ـ من الأرقام التي أوردتها ـ النظر كيف تحوَّلت زينب عبر التاريخ إلى درس يتعلَّم منه الأحرار درس الحياة ، ويقرأ فيه الطواغيت درس الموت.

رحمة الله عليك أيَّتها السيدة الطيبة الطاهرة ، وشكرا لكم أيُّها الأحبَّة.

ـــــــــــــــــــــــ

* تنسيق وتقويم شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي . منقول عن بيت النجمة المحمدية ، http://www.al-najma.org