التشيع وهدم الإسلام

والأغرب من هذا وذاك ما نطق به أحمد أمين المصري حيث يقول : والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام . . . الخ ( 1 ) وكقوله : كأن العقول كلها أجدبت وأصيبت بالعقم إلا عقل علي بن أبي طالب ( ع ) وذريته ( 2 ) .

وأحمد أمين هذا من ألد أعداء الشيعة ولعل بغضه لهم يجره إلى الطعن في عظمائهم ورؤساء مذهبهم فإن له عليهم جنابات لا تغتفر وإساءات لا تحضر ومن أراد الوقوف عليها فعليه بكتابه ( فجر الإسلام ) ليرى الافتراء والبهتان بالعيان . فكيف فاه بها هذا الرجل وأي ذنب للشيعة تستوجب به هذا الخطاب وأي جناية لها تستحق بها هذا العذاب .

وقد سبقه بهذا الطعن على الشيعة صاحب ( الصواعق المحرقة ) ( 3 ) اسمعه يقول : وأما الرافضة والشيعة ونحوهما إخوان الشياطين ، وأعداء الدين ، وسفهاء العقول ، ومخالفي الفروع والأصول ، ومنتحلو الضلال ، ومستحقو عظيم العذاب والنكال ، فهم ليسوا بشيعة لأهل البيت المبرئين من الرجس ، المطهرين من شوائب النقص والدنس ، لأنهم أفرطوا في جنب الله فاستحقوا منه أن يبقيهم متحيرين في مهالك الضلال والاشتباه وإنما هي شيعة إبليس اللعين ، وخلفاء أبنائه المتمردين فعليهم لعنة الله وملائكته والناس أجمعين .

وكيف يزعم محبة قوم من لم يتخلق قط من أخلاقهم ولا عمل في عمره بقول من أقوالهم ولا تأسى في دهره بفعل من أفعالهم ولا تأهل لفهم شئ من أحوالهم . . . الخ .

لقد اطلعت في بحوث هذه على كثير من الغث والسمين ، ولكن من حسن الحظ وقفت على مقدمة لكتاب عقائدي ، كتبها أحد العلماء الأعلام والمربين الكرام وهو : الأستاذ حامد حفني داود المشرف على الدراسات الإسلامية بجامعة ( عليكرة ) بالهند ، فسرني تجرده عن العواطف ، وآمنت بعد ذلك أن هناك كتابا موضوعيين ، بعد أن كدت أن لا أصدق بوجود أمثاله لكثرة ما اطلعت عليه من مفارقات في كتابات الكثيرين من المتقدمين والمحدثين .

يقول الأستاذ حامد في مقدمته للكتاب العقائدي الإمامي : يخطئ كثيرا من يدعي أنه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم ، مهما بلغ هؤلاء الخصوم من العلم والإحاطة ، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى .

أقول ذلك جازما بصحة ما أدعى بعد أن قضيت ردحا طويلا من الزمن أدرس فيه عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصة وعقائد الشيعة بعامة ، فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحا في كتب المؤرخين والنقاد من أهل السنة بشئ ذي بال . وما زادني اشتياقا إلى هذه الدراسة ، وميلي الشديد في الوقف على دقائقها إلا بعدا عنها ، وخروجا عما أردت من الوصول على حقائقها . . ذلك لأنها دراسة بتراء أحلت نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب ، وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .

ومن ثم اضطرت بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت والحكمة حيث وجدت والحكمة ضالة المؤمن ، إن أدبر دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الاثني عشر ، إلى الناحية الأخرى ، تلك هي دراسة هذا المذهب في كتب أربابه ، وأن أتعرف عقائد القوم مما كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم .

ومن البديهي أن رجال المذاهب أشد معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة أو أوتوا حظأ من اللسن والإبانة عما في النفس ، وفضلا عن ذلك فإن الأمانة العلمية التي هي من أوائل أسس المنهج العلمي الحديث ، هو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ومؤلفاتي حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية .

هذه الأمانة المذكورة تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها فكيف لباحث بالغا ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم ؟

إذن لارتاب في بحثه العلمي على غير أساس متين ذلك ما دعاني أن أتوسع في دراسة الشيعة والتشيع في كتب الشيعة أنفسهم وأن أتعرف عقائد القوم نقلا عما كتبوه بأيديهم وانطلقت به ألسنتهم لا زيادة ولا نقص حتى لا أقع في الالتباس الذي وقع فيه غيري من المؤرخين والنقاد حين قصدوا للحكم على الشيعة والتشيع ، وأن الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها ومظانها الأصلية إنما يسلك شططا ويفعل عبثا ليس هو من العلم ولا من العلم في شئ . ومثل هذا ما وقع فيه العلامة الدكتور أحمد أمين حين تعرض لمذهب الشيعة في كتبه .

فقد حاول هذا العالم أن يجلي للمثقفين بعضا من جوانب ذلك المذهب فورط نفسه في كثير من المباحث الشيعية كقوله : أن اليهودية ظهرت في التشيع . وقوله : أن النار محرمة على الشيعي إلا قليلا .

وقوله : بتبعيتهم لعبد الله بن سبأ وغير هذا من المباحث التي تثبت بطلانها وبراءة الشيعة منها ، وتصدى لها علماؤهم بالنقد والتجريح ، وفصل الحديث فيها العلامة محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه ( أصل الشيعة وأصولها ) ( 4 ) .

ترى أي جناية بحق الله ورسوله يقدم عليها كاتب مسلم مثل ( أحمد أمين ) عندما يدعي بأن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام . ماذا سيقول هذا الكاتب لربه غدا . . إنا لله وإنا إليه راجعون . . .

الكلمات كم هي سهلة ويسيرة على لسان ( أحمد أمين ) و ( ابن حجر ) وغيرهما في حين أنها مسؤولية خطيرة في ميزان الله ورسوله ، وأمانة كبيرة في معيار الإسلام وأخلاقه ! !

لست أدري هل راجع المدعو ( أحمد أمين ) نفسه عندما تلفظ بهذه العبارة النابية الوقحة التي لا يقرها مسلم ملتزم . . ؟ ! أم هي نفثات حقد دفين أراد ( أحمد أمين ) أن ينفس بها عن تصور خاص يحتفظ به في أعماقه إزاء هذه الطائفة من الأمة الإسلامية ؟ ! . .

ومنبع البلية كما يقول الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء :

أن القوم الذين يكتبون عن الشيعة يأخذون في الغالب مذهب الشيعة وأحوالهم عن ابن خلدون البربري الذي يكتب وهو في إفريقيا وأقصى الغرب عن الشيعة في العراق وأقصى المشرق ، أو عن أحمد بن عبد ربه الأندلسي وأمثالهم ، فإذا أراد كتبة العصر أن يتضلعوا ويتوسعوا في معرفة الشيعة رجعوا إلى كتبة الغربيين وكتبة الأجانب كالأستاذ ( ولهوسن ) أو الأستاذ ( دوزى ) وأمثالهم ، وهناك الحجة القاطعة والقول الفصل .

أما الرجوع إلى كتب الشيعة وعلمائهم فذاك مما لا يخطر على بال أحدهم ، ولكن الشيعي الذي هو على بينة من أمره ، وحقيقة مذهب إذا نظر إلى ما يكتبه حملة الأقلام ، في هذه الأيام عن الشيعة وعقائدهم وجدها من نمط النادرة التي يحدثنا بها الراغب الأصفهاني في كتابه المعروف ب ( المحاضرات ) ، قال ما يخطر ببالي : سئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان فقال : إنه خارجي معتزلي ، ناصبي ، حروري ، جبري ، رافضي ، يشتم علي بن الخطاب ، وعمر بن أبي قحافة ، وعثمان بن أبي طالب ، وأبا بكر بن عفان ، ويشتم الحجاج الذي هو والي الكوفة لأبي سفيان وحارب الحسين بن معاوية يوم القطايف – أي يوم الطف أو يوم الطائف – فقال له جعفر بن سليمان : قاتلك الله ما أدري على أي شئ أحسدك ؟ أعلى علمك بالأنساب ! أم بالأديان أم بالمقالات ؟ ( 5 ) .

ويورد المسعودي في ( مروجه ) قصة كهذه ، قال : قال لي رجل من أهل العلم سألني ذات يوم بعض العامة – كم تطنبون في فلان وفلان فقلت له : ما تقول أنت ؟ قال من تريد ؟ قلت : عليا ما تقول فيه ؟ قال : أليس هو أبو فاطمة امرأة النبي ( ع ) بنت عائشة أخت معاوية ، قلت : فما كانت قصة علي قال: قتل غزاة حنين مع النبي (6).

وكأنهم نسوا المستشرق ( فريد جيوم ) صاحب كتاب ( الإسلام ) الذي جاء فيه : أن محمدا في شبابه كان يقدم القرابين لللات والعزى ، مع أن محمدا ( ص ) لم يحلف بهما قط ، وقصته مع بحيرا الراهب مشهورة .

لقد طغى ( أحمد أمين ) في تهكمه على الشيعة ، وحقيقي أن كلماته تلك ليست من بنات أفكاره ، بل هي كلمات ابن حجر ، وابن تيمية وابن خلدون ، التي قد انخدع بها هو وغيره ممن يقولون : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ونحن على آثارهم مقتدون ) وكأن كتب الشيعة في حجر الأفاعي لا يستطيع الباحث الوصول إليها ، أو كأن على بصره غشاوة .

كيف ساغ له الخضوع إلى الأوهام وكتب الحديث بأجمعها تذكر ما بشر به النبي ( ص ) شيعة علي ( ع ) .

ومن الخير في هذه المناسبة أن أذكر الفتوى أصدرها شيخ الأزهر محمود شلتوت في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية ، قيل له : إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية ، فهل توافقون – فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مثلا ، فأجاب :

1 – أن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين بل نقول : إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادي ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره أي مذهب – كان ، ولا حرج عليه في شئ من ذلك .

2 – إن مذهب الجعفرية المعروف – بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية – مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب ، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات .
ـــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) فجر الإسلام : ص 238 .
( 2 ) نفس المصدر : ص 239 .
( 3 ) الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة : ص 92 .
( 4 ) عقائد الإمامية : المقدمة / الطبعة الثالثة ( 1968 م – النجف ) .
( 5 ) أصل الشيعة وأصولها : ص 105 – 106 .
( 6 ) مروج الذهب : ج 2 ص 73 .