الأئمة الاثنا عشر

وهنا قد يثار سؤال ثالث يرتبط بهذا الموضوع ، وهو أنه إذا كان استمرار الإمامة في أهل البيت عليهم السلام ضروريا ، فماذا عن تعين عدد الأئمة الهداة في الاثني عشرإماما فقط ، دون أن يكون باب الإمامة مفتوحا في أهل البيت بصورة عامة ، كما يذهب إلى ذلك بعض فرق الشيعة ، كالإسماعيلية والزيدية ، فما هو تفسير هذه الظاهرة التي يتبناها خصوص الإمامية الاثني عشرية ، حيث أنهم يتبنون ضرورة استمرار النبوة في الإمامة ، كما يتبنون استمرار ضرورة أن تكون هذه الإمامة في خصوص أهل البيت ، ويتبنون في الوقت نفسه أن تكون الإمامة في أثني عشر دون التوسع في أعداد الأئمة ؟

وعندما أتحدث عن الإمامة – طبعا – أتحدث عن الإمامة المعصومة التي تكون في هذا العدد الخاص ، فما هو تفسير هذه الظاهرة ؟

وفي هذا الموضوع يوجد جانبان من البحث :

 

أدلة العدد المحدود

الجانب الأول : جانب يرتبط بعلم الكلام ، وهو جانب مهم جدا ، يذكر في هذا المجال مجموعة من الأدلة والقرائن التي تؤكد هذه الحقيقة ، وسوف نتناول – إن شاء الله في القسم الثاني من البحث – هذه الأدلة والقرائن ، ولكن أشير إلى بعض عناوينها :

أولا : هناك نصوص عديدة يجمع عليها المسلمون وردت عن النبي صلى الله عليه وآله ، تؤكد أن الخلفاء بعد رسول الله هم هذا العدد ، أي أثنى عشر خليفة ( 1 ) ، وهذه النصوص يمكن أن يستدل بها على ثبوت هذه الحقيقة .

ثانيا : أن هناك نصوص أخرى – أيضا – وردت عن أهل البيت عليهم السلام تؤكد هذه الحقيقة ( 2 ) ( وأهل البيت أدرى بما فيه ) ، أي أن عليا عليه السلام لا يشك أحد من المسلمين في صدقه ومعرفته ، وهكذا بالنسبة إلى فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، لا يشك أحد من المسلمين في صدقهم وعلمهم ومعرفتهم ، فعندما ترد النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تجدهم موضع الاحترام والتصديق المطلق من قبل المسلمين ، وهي تؤكد – أيضا – هذه الحقيقة ، وهذا يمكن – أيضا – أن يشكل قرينة ودليلا وبرهانا على صحتها .

ثالثا : يؤكد ذلك – أيضا – شخصية أئمة أهل البيت عليهم السلام التي تتميز هذه الشخصية بمواصفات لا نعرف لها نظيرا في التاريخ الإسلامي ، في خصائصها ومواصفاتها ، والحديث في هذا الموضوع – كما قلت – له مجاله الخاص ، وسوف نشير إلى هذه الخصائص والمواصفات ، بحيث يتبين بصورة واضحة أن هؤلاء الأئمة الاثني عشر يتصفون بمواصفات وخصائص لا يشبههم فيها أحد من الناس .

رابعا : أن دراسة الجماعة الصالحة – التي التزمت بهذه العقيدة وآمنت بها – في خصائصها ومواصفاتها وطبيعة حركتها ونموها وتطورها المستمر في خطها البياني يؤكد – أيضا – هذه الحقيقة ، وهذا بحث يحتاج إلى شرح وتوضيح ، يأتي في محله – كما قلنا – إن شاء الله .

وهذه الأمور الأربعة نؤجل البحث فيها إلى وقت آخر .

 

تفسير العدد المحدود

ولكن يبقى عندنا الجانب الآخر ، وهو ما نريد أن نبحثه في عرض النظرية وهو تفسير هذه الظاهرة مع قطع النظر عن هذه الأدلة ، ما هو تفسير أن يكون العدد محدودا بهذه الصورة ، مع أن الرسالة الإسلامية رسالة خاتمة ، والأمة الإسلامية أمة باقية حتى تقوم الساعة ؟ ولماذا توضع الإمامة محصورة بعدد معين من الناس ، ويكون هذا العدد هو أثني عشر ؟

هذه القضية تحتاج إلى تفسير كبقية الظواهر الكونية والاجتماعية ، بما ينسجم مع نظام الحكمة الإلهية ، ومع قطع النظر عن الأدلة السابقة المشار إليها التي نستدل بها في علم الكلام ، من أجل تصديق هذه الظاهرة ، وبيان نسبتها إلى الإسلام وإلى الرسالة الإسلامية .

في تفسير هذه الظاهرة يمكن أن نشير إلى أمرين رئيسيين :

 

التفسير الغيبي للظاهرة

الأمر الأول : هو الأمر الغيبي ، فقد ذكرنا في حديثنا عن النظرية وهنا – أيضا – نذكر ذلك ، وسوف نبقى نؤكد هذا الموضوع أن الرسالة الإسلامية وكل الرسالات الإلهية هي ظواهر غيبية ، مرتبطة بعالم الغيب ، وحياة الإنسان الذي أرسلت إليه هذه الرسالات – أيضا – فيها جانب غيبي ، لأن الله تعالى وإن كان قد خلق الإنسان من طين لازب ، ومن ثم ففيه هذا العنصر المادي ، فهو لحم وعظم ودم ، وغير ذلك مما يتمثل فيه الجانب المادي في الإنسان ، ولكن الله تعالى قد خص الإنسان بخصوصية دون غيره من المخلوقات المنظورة ، وهو أنه نفخ فيه من روحه ، وهذه الخصوصية لا نراها في أي موجود آخر يتحدث عنه القرآن الكريم ، وقد تكون موجودة في مخلوقات عالم الغيب التي لا نعرفها ، وهي خارج النظام الكوني المشهود .

كما أن حياة الإنسان ليست مختصة بهذه الحياة المادية وهي الحياة الدنيا ، وإنما الحياة الحقيقة لهذا الإنسان الدائمة الأبدية المستمرة هي الحياة الآخرة وهي حياة غيبية .

ثم أن هذه الحياة الدنيوية فيها جانب غيبي في مستقبل زمانها وتاريخها ، وهو ما تشير إليه بعض الآيات والروايات العديدة عن أهل البيت ، من ( الرجعة ) التي قد تمثل دورة ومرحلة جديدة للحياة الإنسانية ، تعبر عن الكمال فيها ( 3 ) إذن ، فالرسالة رسالة غيبية ، والإنسان نفسه فيه جانب غيبي ، وحياة الإنسان – أيضا – فيها جانب أعظم وأهم وهو الجانب الغيبي ، فعنصر الغيب لا بد أن ننظر إليه دائما عندما نريد أن نفسر الظواهر ذات العلاقة بالإنسان وحركته ، ولا يمكن أن نفسر الظواهر ذات العلاقة بحركة الإنسان بالتفسيرات المادية المحضة ، أو المدركة والمشهودة وحدها ، وإنما يمكن أن يكون وراء الكثير من الظواهر القائمة في حياة الإنسان أسباب وعناصر غيبية ، لا يمكن للإنسان أن يعرف كل أبعادها وكل خصوصياتها .

وفي هذه الظاهرة يمكن أن نفترض وجود العنصر الغيبي – أيضا – لأن الله سبحانه وتعالى يصطفي من عباده من يشاء وله في أولياءه أحكام خاصة ، ذات علاقة بهؤلاء الأنبياء ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في عدة آيات .

كما أن هذا الأمر ليس أمرا غريبا في تاريخ الرسالات الإلهية ، فمثلا نلاحظ أن الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة ، وقد يطرح هذا السؤال : لماذا لم يكونوا ستة أو سبعة أو عشرة ، أي لماذا كان اختصاص النبوة بهذه الدرجة العالية خاصة بهذا العدد من الأنبياء المعين ، فنحن نعرف من خلال حركة النبوات أن الأنبياء أولي العزم الذين أشار إليهم القرآن الكريم هم خمسة ( نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله ) ، قال تعالى : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) ( 4 ) ونرى أن هذه ظاهرة في النبوات أشار إليها القرآن الكريم ، قد لا نعرف لها تفسيرا محددا إلا التفسير الغيبي في رؤية حركة التاريخ الرسالي .

وهكذا نلاحظ ذلك في الكثير من الظواهر التي نراها في الإسلام من قبيل اختصاص العبادات بهذه العبادات الخاصة ، ولم تكن هناك عبادات أخرى ، واختصاص الصلوات اليومية الواجبة بالصلوات الخمسة ، واختصاص هذه الصلوات الخمسة بالركعات السبعة عشر ، إلى غير ذلك مما نراه من اختصاصات في الإعداد ، الذي يمكن أن يكون له تأثير في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية ، ولكنه تأثير في الغيب غير المنظور والمعروف لنا بصورة كاملة ، كما أن ظاهرة وجود الإعداد المعينة الخاصة في الاصطفاء ليست ظاهرة مختصة بهذه القضية وفي هذه الأمة حتى يقال أن هذه ظاهرة غريبة ، وإنما توجد ظواهر أخرى مماثلة لها في الأمم السابقة .

ومن هذه الظواهر التي تقرب هذا المعنى ، ظاهرة النقباء الاثني عشر في بني إسرائيل ، والذين يشير إليهم القرآن الكريم في عدة مواضع ، منها قوله تعالى : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنت تجري من تحتها الأنهر فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) ( 5 ) وقضية النقباء الاثني عشر – أيضا – هذه قد تكون المثال لما يجري في الأمة الإسلامية الخاتمة ، حيث أشرت في حديث سابق ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله من تطابق الأحداث في الأمة الإسلامية بما يجري في الأمم السابقة حذو النعل بالنعل ، كما جاء في تعبير بعض النصوص أو القذة بالقذة كما جاء في بعض آخر منها ، وهي نصوص متواترة يرويها جميع المسلمين بهذا المضمون .

وقد تكون ظاهرة الاثني عشر إمام متطابقة مع تلك الظاهرة التي شهدتها أمة بني إسرائيل التي هي – أيضا – من الأمم المصطفاة والمنتخبة والتي فضلها الله سبحانه وتعالى في بعض أدوار التاريخ ، وجعل منهم أنبياء وملوكا ، وخصهم – أيضا – بهذه الظاهرة الاثني عشرية – إذا صح التعبير – في خصوصية بني إسرائيل ، وهي نكتة أخرى يمكن أن تؤكد الجانب الغيبي ، أو تضيف إليه بعدا آخر .

وكذلك يؤكد هذه الظاهرة في بعدها الغيبي ، ما ورد في شأن انتخاب رسول الله صلى الله عليه وآله للنقباء الاثني عشر من الأنصار في بيعة العقبة ، من قوله صلى الله عليه وآله – على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد – : ( أخرجوا إلي اثني عشر منكم ، يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون بعيسى بن مريم ولا يجدن أحدكم في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل ) ( 6 ) وبذلك يشير هذا الحديث إلى خصوصيتين :

إحداها : ذات علاقة بالعدد المذكور من تاريخ الأنبياء ، وهو عدد الحواريين الاثني عشر ، الذي يؤكد – أيضا – هذه الظاهرة ، وقد ورد تأكيد هذا العدد فيهم في روايات أخرى .

ثانيها : أن هذا الاختيار هو اختيار غيبي ، يرتبط بقرار إلهي يبلغه جبرائيل عليه السلام .

إذن ، فهذا الجانب الغيبي يمكن أن يكون تفسيرا لهذه الظاهرة .

 

التفسير التاريخي للظاهرة

الأمر الثاني : الذي يمكن أن نذكره بهذا الصدد في تفسير هذه الظاهرة ، هو أمر له بعد مادي ، بعد في فهم حركة التاريخ ، وتفسير هذه الحركة ، وذلك بأن نفترض بأن المدة ( الاعتيادية ) لهؤلاء الأئمة الاثني عشر الذين تحدث عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله ( الأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم السلام ) هي بين ( 350 – 400 ) سنة ، إذا كانت أعمارهم أعمار اعتيادية بالنسبة إلى الظروف التي كان يعيشها الناس في الآباء والأبناء .

وإذا كان الأمر كذلك ، فيمكن أن نقول أن هذه المدة تمثل الدورة الزمنية التي يمكن أن يتم فيها إعداد الأمة الخاتمة إعدادا كاملا في جميع أبعادها ، بحيث تصبح أمة مؤهلة لاستلام الخلافة الإلهية كأمة وجماعة ، وذلك عندما تصبح أمة متكاملة اجتماعية بدرجة يكون التكامل فيها كصفة ثابتة ، وتنتقل بذلك – حينئذ – إدارة الحياة الاجتماعية من الأشخاص المنتجبين الأصفياء الذين كانوا ينتخبون لها كأنبياء وأئمة للقيام بدور الخلافة والحكم إلى الأمة الجماعة ، أي عندما تبلغ الأمة مرحلة دور الوحدة الإنسانية الكاملة في تطبيق الرسالة الإلهية ، ودور تجسيد إرادة المستخلف الذي هو الله الذي يؤهلها لهذه الخلافة الإلهية ، بعد أن كانت البشرية قد مرت بأدوار الوحدة الفطرية والاختلاف في العبادة والاختلاف في الرسالة ، ويبقى دور الإمامة فيها – عندئذ – دور المحافظة على هذا التكامل والشهادة والرقابة على مسيرة الأمة وإقامة الحجة على الناس ، وكذلك المحافظة على العلاقة والرابطة بين السماء والأرض في حفظ النظام والحياة . . إلى غير ذلك من الخصوصيات الأخرى التي أشارت إليها النصوص الشريفة ( 7 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) راجع بحار الأنوار 36 : 226 – 373 ، باب نصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأئمة عليهم السلام ، وصحيح البخاري 5 : 90 و 92 ، صحيح الترمذي 2 : 35 ، وغيرها من الصحاح .
( 2 ) البحار 36 : 373 – 414 .
( 3 ) الرجعة فكرة ورد تأكيدها في روايات أهل البيت عليهم السلام إلى حد التواتر أو التظافر ، وأشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) ، غافر : 11 ، ويوجد فيها تفاصيل لا تبلغ حد القطع واليقين ، ولا مجال لبحثها في هذا العرض ، ولعلنا نوفق لذلك في كتاب آخر لهذه الموسوعة ، نتناول فيه عدد من القضايا والأفكار .
( 4 ) الأحزاب : 7 .
( 5 ) المائدة : 12 .
( 6 ) كنز العمال : 103 ، برقم : 465 .
( 7 ) هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من البحث والتوضيح لخصوصياته وتفاصيله ، قد نوفق لتناوله عند تناول موضوع ( الرجعة ) ، حيث يتبين من خلال ذلك البحث تفسير عدة قضايا مهمة : 1 – حقيقة الرجعة .