اللطف(2)

   
المبحث الخامس: تنبيهات حول اللطف

1- إنّ الإنسان قد يخطىء في تشخيص اللطف، فيحكم على ما فيه مفسدة بأنّه من اللطف، وهو غير ملتفت إلى وجود المفسدة فيه.

ولهذا ينبغي أن لا يحكم الإنسان على شيء بأ نّه من اللطف إلاّ بعد بلوغ مرحلة اليقين بانتفاء المفسدة من ذلك الشيء(1).

2- إنّ اللطف لا ينحصر تحقّقه دائماً في فعل معيّن، بل قد تكون مجموعة أفعال تؤدّي كلّ واحدة منها دور اللطف المطلوب(2).

3 ـ إنّ للّه تعالى لطفاً لا يمنحه إلاّ لمن ينتفع منه.

وأمّا الّذين لا ينفعهم هذا النمط من اللطف، ولا يؤدّي بهم إلى فعل الطاعة وترك المعصية، فإنّه تعالى سيحرمهم من هذا اللطف(3).

بعبارة أخرى:

إنّ اللطف الإلهي ينقسم إلى قسمين:

أوّلاً: لطف عام

____________

1- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (12)، ص445.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص253.

2- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص133.

3- ذهب المحقّق الحلّي والشيخ سديد الدين الحمصي إلى حرمان الكافر من اللطف بصورة مطلقة، ولكن التقسيم المذكور لاحقاً أكثر دقّة وشمولية .

انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص102.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و…، ص303.
    الصفحة 322    

وهو من قبيل إرسال الرسل لهداية الناس.

وهذا اللطف يفعله اللّه لجميع المكلّفين إتماماً للحجّة عليهم.

ثانياً: لطف خاص

وهو من قبيل دعم المكلَّفين بما يجعلهم أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.

ويكون هذا اللطف للعباد الذين ينتفعون منه، وأمّا الذين لا ينتفعون منه فإنّهم هم الذين يحرمون أنفسهم من هذا اللطف، لأ نّه تعالى لو يعلم انتفاعهم من لطفه هذا لفعله بهم .

قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لاَ سْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }[ الأنفال: 23 ].

أي: لو علم اللّه انتفاع هؤلاء المشركين من اللطف، لألطف عليهم وأسمعهم الجواب عن كلّ ما يسألونه، ولكنه علم بأنّهم لا ينتفعون ولا يفيدهم هذا اللطف، فلهذا أهملهم.

وقال الشيخ الطبرسي حول تفسير هذه الآية: “وفي هذا دلالة على أنّ اللّه تعالى لا يمنع أحداً من المكلّفين اللطف، وإنّما لا يلطف لمن يعلم أنّه لا ينتفع به”(1).

ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول قوله تعالى: { تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمات لا يُبْصِرُونَ}[ البقرة: 17 ].

قال(عليه السلام): “إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال، منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم” (2).

____________

1- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج4، تفسير آية 23 من سورة الأنفال، ص 818 .

2- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق: ج1، باب 11، ح16، ص113.
    الصفحة 323    

 

المبحث السادس: اللطف والمفسدة

إنّ ما يقابل “اللطف” هو “الإفساد”.

وتطلق “المفسدة” على مايدعو المكلَّف إلى فعل المعصية وترك الطاعة، بحيث يكون المكلَّف مع هذه الدعوة أقرب إلى فعل ما نهاه اللّه تعالى عنه، وأبعد عن امتثال أوامره تعالى(1).
تنبيهات :

1 ـ لا يصح أبداً نسبة الإفساد إلى اللّه تعالى.

لأنّ الإفساد في جميع الأحوال قبيح، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح.

2- لا يمكن القول بأنّ اللّه تعالى بما أنّه خلق “الشهوة” في الإنسان، فإنّه المسبِّب في إفساده .

لأنّ الشهوة بحدّ ذاتها ليست مفسدة.

وإنّما الإفساد يكمن في طغيانها(2).

وطغيان الشهوة أمر يرتبط باختيار الإنسان.

وقد أمر اللّه تعالى الإنسان بضبط شهواته والسيطرة على زمامها.

ولهذا لو أدّت الشهوة إلى الإفساد بسبب طغيانها.

____________

1- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص130.

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص101.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف و…، ص298.

2- بعبارة أخرى: إنّ الشهوة بذاتها أمر ضروري للإنسان، وهي التي تدفع الإنسان إلى نيل متطلّباته في الحياة . ولا تعتبر الشهوة مصدراً للإفساد إلاّ بعد أن يطلق الإنسان العنان لها ويفسح لها مجال الطغيان وتجاوز الحدّ .
    الصفحة 324    

فإنّ الإنسان يكون هو المسؤول عن ذلك، لأنّه هو السبب في طغيانها.

ولا يصح نسبة هذا الإفساد إلى اللّه سبحانه وتعالى.

3- إنّ بعض المكلّفين ـ سواء كانوا من الجن والإنس ـ يسيؤون الاستفادة من الاختيار الذي مكّنهم اللّه تعالى منه، فيختارون سبيل الغي والضلال، ثمّ يصبحون بعد ذلك مصدراً لإفساد الآخرين.

ومثال ذلك: إبليس والشياطين وغيرهم من الإنس والّذين يفعلون ما يقرّب الآخرين إلى فعل المعاصي ويبعّدهم عن فعل الطاعات.

وينسب “الإفساد” في هذا المقام إلى هؤلاء العصاة، لأنّهم اتجهوا نحوه باختيارهم.

ولا يصح نسبة هذا الإفساد إلى اللّه تعالى.

لأنّه تعالى أمر الإنس والجن بفعل ما هو حسن، ونهاهم عن فعل ما هو قبيح، ويكون هؤلاء هم المسؤولون فيما لو اختاروا سبيل الإفساد.

فينسب الإفساد إليهم ولا ينسب إلى اللّه تعالى أبداً.

4- إنّ اللّه تعالى لا يفعل الإفساد أبداً، لأنّه حكيم، ولكنّه قد يحجب ألطافه عن البعض لدواع مختلفة من قبيل معاقبتهم إزاء ارتكابهم المعاصي أو نتيجة علمه تعالى بعدم انتفاعهم من اللطف فيما لو منحهم ذلك(1).

ومن هذا القبيل قوله تعالى:

{ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاْ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَة لايُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لايَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} [الأعراف: 146 ]

{ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }(2)

____________

1- سنبيّن هذا الموضوع بصورة مفصّلة في الفصل الثاني عشر: الهداية والإضلال .

2- ورد بيان معنى هذه الآية في المبحث السابق.
    الصفحة 325    

[الأنفال: 23 ].
    الصفحة 326    

 

المبحث السابع: الإشارة إلى اللطف الإلهي في القرآن الكريم

1-{ وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَد أَبَداً}[ النور: 21 ].

أي: لولا ألطاف اللّه بكم ومعونته لكم، لكنتم أقرب إلى المفسدة، ولكنه تعالى قد ألطف بكم وأعانكم من منطلق رحمته بحيث جعلكم أقرب إلى تزكية أنفسكم(1).

2-{وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً}[النساء:83 ].

أي: لولا الألطاف الإلهية بكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلاً(2).

3- { وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[المؤمنون: 75 ].

أي: إنّنا لو كشفنا الضرّ عنهم لاستمروا في طغيانهم يتردّدون، وهذا ما فيه فساد لهم، ولهذا فإنّنا نلطف بهم ولا نرفع هذا الضرّ عنهم(3).

4-{ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ }[ الزخرف: 33 ـ 34 ].

أي: لو فعل اللّه ما ذكره لاجتمع الناس على الكفر، ولكنّه تعالى لم يفعل ذلك لما

____________

1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج7، تفسير آية 21 من سورة النور، ص210 .

2- انظر: المصدر السابق: ج3، تفسير آية 83 من سورة النساء، ص126 .

3- انظر: المصدر السابق: ج7، تفسير آية 75 من سورة المؤمنين، ص181 .
    الصفحة 327    

فيه من المفسدة، بل يفعل اللّه ما فيه اللطف للعباد حفاظاً عليهم من الانجراف في أودية الكفر والضلال(1).

____________

1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطوسي: ج9 ، تفسير آية 43 و 44 من سورة الزخرف، ص72 .
    الصفحة 328    

 

المبحث الثامن: مناقشة رأي الأشاعرة حول اللطف الإلهي

يعتقد الأشاعرة بأنّ اللّه تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد سواء كانت هذه الأفعال طاعة أو معصية، ويذهب هؤلاء إلى “أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه تعالى وحده”(1).

ومن هذا المنطلق عرّف الأشاعرة اللطف بأنّه عبارة عن عدم خلق اللّه قدرة فعل المعصية في العبد.

ومن هنا لا يعصي الشخص الذي يشمله اللطف الإلهي “إذ لا قدرة له على المعصية”(2).

وعرّف بعض الأشاعرة اللطف بأنّه يعني: أن لا يخلق اللّه تعالى الذنب في العبد(3).
يرد عليه :

يستلزم هذا الرأي القول بالجبر، لأنّ من لا يمتلك القدرة على فعل المعصية يكون مجبوراً على عدم فعلها.

ويترتّب عليه عدم استحقاق الإنسان الثواب بتركه للمعصية، لأنّه كيف يستحق الثواب على تركه للمعصية وهو لا يمتلك القدرة على فعلها. وإنّما يكون الثواب لمن يمتلك القدرة على فعل المعصية، ولكنّه يتركها باختياره، فيكون مستحقاً للثواب

____________

1- المواقف، عضدالدين الايجي، ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 1، ص208 .

2- شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 6 ، المبحث 2، ص312 ـ 313 .

3- انظر: المصدر السابق.
    الصفحة 329    

إزاء هذا الاختيار(1) .

____________

1- للمزيد راجع في هذا الكتاب: الفصل السابع: الجبر والتفويض .