التكليف(4)

المبحث الثامن: التكليف بما لا يطاق

ذكرنا فيما سبق بأنّ من شروط حسن التكليف أن يكون المكلَّف قادراً على ما يُكلَّف به، لأنّ تكليف ما لا يطاق قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح، ولكن ذهب الأشاعرة إلى عكس هذا القول ، ولهذا تطلّب الأمر تسليط المزيد من الأضواء على هذا الموضوع .

 

أدلة قبح التكليف بما لا يطاق :

1- إنّ العقل يحكم على نحو البداهة والضرورة بقبح التكليف بما لا يطاق(1) .

2- إنّ المكلَّف عاجز عن امتثال التكليف بما لا يطاق ، وتكليف العاجز ومؤاخذته عليه ينافي العدل والحكمة الإلهية(2) .

3- إنّ غاية التكليف هي أن يفعل المكلَّف ما كُلِّف به، وتنتفي هذه الغاية فيما لو كان التكليف فوق استطاعة المكلَّف، فيكون التكليف ـ في هذه الحالة ـ عبثاً، والعبث قبيح(3) .

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في الاستطاعة و … ، ص100 .

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل وما يتّصل بذلك ، ص99 .

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة في التكليف ، ص112 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في تكليف ما لا يطاق ، ص203 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، قبح تكليف … ، ص98 ـ 99 .

نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المطلب الثامن ، ص99 .

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، قبح تكليف من ليس بقادر، ص105 .

3- انظر: إشراق اللاهوت ، عميد الدين العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة ، ص389 .
    الصفحة 278    

نفي التكليف بما لا يطاق في القرآن الكريم :

ورد في القرآن الكريم جملة من الآيات الدالة بوضوح على أنّ اللّه تعالى لا يكلِّف العباد إلاّ قدر وسعهم وطاقتهم ، منها قوله تعالى :

1 ـ { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها }[ البقرة: 286 ]

2 ـ { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها }[ الطلاق: 7 ]

3 ـ { وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج }[ الحج: 78 ]

4 ـ { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185 ]

 

نفي التكليف بما لا يطاق في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) :

ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) العديد من النصوص الدالة بوضوح على أنّ اللّه تعالى لا يكلّف العباد إلاّ قدر وسعهم وطاقتهم ، ومن هذه الأحاديث الشريفة :

1- الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): “ما كلّف اللّه العباد إلاّ ما يطيقون”(1) .

2- الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): ” … ليس من صفته [ عزّ وجلّ ] الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون”(2) .

3- الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): ” … كلّ شيء أُمر الناس بأخذه فهم متّسعون له، وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم …”(3) .

4- الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): ” … إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، ولا يحمّلها فوق طاقتها …”(4).

5- الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): سأله الراوي عن اللّه عزّ وجلّ هل يكلّف

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح66، ص41 .

2- المصدر السابق: ح29، ص19 .

3- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح51، ص36 .

4- التوحيد ، الشيخ الصدوق: باب 59: باب نفي الجبر والتفويض، ح9، ص352 .
    الصفحة 279    

عباده ما لا يطيقون؟ فقال(عليه السلام): “كيف يفعل ذلك وهو يقول: { وَما رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } “(1) .
تنبيهان :

1 ـ إنّ التكليف بما لا يطاق قبيح ، من غير فرق بين :

أوّلاً: أن يكون نفس التكليف بذاته محال .

ثانياً: أن يكون التكليف ممكناً بالذات، ولكنّه خارج عن إطار قدرة المكلَّف .

2- إنّ القيام بالتكاليف الإلهية يختلف باختلاف طاقة العباد، وكلّ إنسان مكلّف بأداء الواجبات وترك المحرمات بقدر طاقته .

 

رأي الأشاعرة حول التكليف بما لا يطاق :

جوّز الأشاعرة أن يكلّف اللّه تعالى العباد بما لا يطيقون ، وقالوا بأنّ التكليف بما لا يطاق جائز، ولا يمتنع عليه تعالى أن يكلّف العباد بما هو فوق وسعهم وطاقتهم وما لا يقدرون عليه(2) .
تنبيه :

ذكر بعض الأشاعرة بأنّ مرادهم من القول بجواز تكليف اللّه العباد بما لا يطيقون هو “إمكان الوقوع” فقط، وأمّا “الوقوع” فإنّه لم يقع في نطاق التشريع، وذلك لقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها } (3) .

بعبارة أُخرى :

إنّ اللّه تعالى يجوز له أن يكلّف العباد فوق وسعهم وطاقتهم ، ولكنه لم يفعل

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح17، ص11 .

2- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 7 ، ص290 و292 .

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5، المبحث 4، ص296 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 3 ، المبحث 11، المطلب 1، مناقشة الفضل ، ص327، والمطلب 8 ، مناقشة الفضل ، ص425 .

3- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 7، ص291 و293 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 3 ، المبحث 11 ، المطلب 8 ، مناقشة الفضل، ص425 .
    الصفحة 280    

ذلك .

 

أدلة الأشاعرة على جواز التكليف بما لا يطاق ومناقشتها :
الدليل الأوّل :

إنّ اللّه تعالى يمتلك الحرّية المطلقة، فلهذا يجوز له أن يكلّف العباد بأيّ وجه أراد ، ولو كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق، لأ نّه تعالى يفعل ما يشاء(1) .

يرد عليه :

إذا كان الأمر كذلك ، فينبغي القول بأنّ اللّه تعالى يجوز له الكذب على العباد ، لأ نّه يمتلك الحرّية المطلقة، ويفعل ما يشاء ، فتزول حينئذ الثقة بأنبيائه وكتبه السماوية.

ولكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ اللّه تعالى على رغم امتلاكه الحرية المطلقة في الفعل ، فإنّه حكيم وعادل ، ولا يصدر منه ما ينافي جلالة قدره وعظمة شأنه(2).

بعبارة أُخرى :

إنّ أيّ دليل يتمسّك به الأشاعرة لإثبات عدم إخباره تعالى بالكذب ، فهو دليل على عدم تكليفه تعالى بما لا يطاق.

الدليل الثاني :

لو كان تكليف اللّه العباد بما لا يطيقون قبيحاً، لما وقع ذلك ، ولكنه وقع، ومنه أنّ اللّه تعالى كلّف أبا لهب بأن يؤمن بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويصدّق بكلّ ما أخبر به ، ومن جملة ما أخبر به(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنّ أبا لهب لا يؤمن، فيكون تكليف أبي لهب: “أن يؤمن بأ نّه لا يؤمن” ، وهو جمع بين النقيضين ، وهذا تكليف بما لا يطاق، وقد وقع من قبل اللّه

____________

1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6، المقصد 7، ص290 .

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 4، ص296 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 3، المبحث 11، المطلب 8 ، مناقشة الفضل، ص425 .

2- انظر: كنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي: ج1، قبح التكليف بما لا يطاق ، ص108 ـ 109 .
    الصفحة 281    

تعالى ، فيثبت عدم قبح تكليف ما لا يطاق(1) .

يرد عليه :

ورد في مقام الردّ على هذا الدليل مجموعة آراء، منها:

1 ـ إنّ الإخبار عن أبي لهب بأنّه لا يؤمن وقع بعد موته لا قبله(2).

2- إنّ اللّه تعالى لم يخبر بأنّ أبا لهب لا يؤمن أو أ نّه سيموت كافراً، وإنّما أخبر بأ نّه سيصلى ناراً ذات لهب ، وهذا لا يستلزم الكفر، لأنّ العذاب الإلهي أيضاً يشمل الظالم ولو كان مسلماً(3).

3- كان أبو لهب مكلّفاً بالإيمان من حيث كونه مختاراً وقادراً على الإيمان ، وهذا الإيمان أمر ممكن وليس مما لا يطاق .

وأمّا إخباره تعالى بعدم إيمان أبي لهب فهو من حيث العلم، والعلم ـ كما ذكرنا ـ يكشف عن الواقع كما هو عليه، وقد كشف علم اللّه تعالى بأنّ أبا لهب لا يؤمن باختياره .

ولو كان أبو لهب مختاراً للإيمان، لكان في علم اللّه تعالى بأ نّه يؤمن ، والعلم تابع للمعلوم، وليس له أي تأثير على الواقع الخارجي(4).

4- إنّ إخباره تعالى بعدم إيمان أبي لهب ورد بعد أن لم يؤمن أبو لهب بما كُلّف به، فأخبر اللّه تعالى بأ نّه لا يؤمن ، لأ نّه أصبح نتيجة أعماله ممن خُتم على قلبه

____________

1- انظر: شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 5 ، ص297 .

محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين ، فخر الدين الرازي: مسألة الحسن والقبح ، ص202 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 31، المبحث 11، المطلب 1، مناقشة الفضل، ص327.

2- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، احتجاج الأشاعرة، ص257 .

3- انظر : دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر : ج 1 ، المسألة 3 ، المبحث 11 ، المطلب 1 ، مناقشة المظفر ، ص 328 .

4- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المقصد السادس، المبحث الأوّل ، ص234 .

تلخيص المحصّل، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثالث ، ص340 .

إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدلي: المقصد السابع، المسألة الأُولى ، ص310 .
    الصفحة 282    

وسمعه وبصره(1) .

 

الآيات القرآنية التي استدل بها القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق :

استدل بعض الأشاعرة بآيات قرآنية ظنّوا أ نّها تدل على جواز التكليف بما لا يطاق ، مع أ نّها بعيدة كلّ البُعد عما ذهبوا إليه ، وأبرز هذه الآيات(2):

الآية الأولى :

{ أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ}[هود: 20 ]

وجه الاستدلال :

إنّ الكافرين أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكُلّفوا به مع أ نّهم { ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } ، فدلّ ذلك على جواز التكليف بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ سبب عدم استطاعة هؤلاء الكافرين على السمع والبصر المعنوي هو تماديهم في الظلم والغي وإحاطة ظلمة الذنوب على قلوبهم وأعينهم وأسماعهم ، حيث أمات العصيان والطغيان قلوبهم وأصمّ أسماعهم(3) .

بعبارة أُخرى :

إنّ هذه الآية لا تدل على فقدان الكافرين السمع والبصر المعنوي في بداية الأمر ، بل تدل على أ نّهم حرموا أنفسهم من هذا السمع والبصر بذنوبهم ، فصارت

____________

1- انظر: الإنصاف، جعفر السبحاني: ج3، أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين، ص32، 33 .

2- انظر تفاسير علماء أهل السنة، كما أشار سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد، وأشار ميمون بن محمّد النسفي في كتابه بحر الكلام إلى هذه الآيات ووجه الاستدلال بها، وقد بيّن التفتازاني والنسفي في هذا المجال عدم صحّة الأدلة التي احتج بها القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق.

انظر: شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 5، ص299 ـ 301 .

وانظر: بحر الكلام، ميمون بن محمّد النسفي: الباب الرابع، الفصل الأوّل، المبحث الثالث، ص199ـ201 .

3- انظر: الفوائد البهية، محمّد حمّود العاملي: ج1، الفصل الأوّل ، الباب الخامس ، الأمر الثاني، ص305 .
    الصفحة 283    

الذنوب التي ارتكبوها سبباً لئلا يسمعوا وأن لا يبصروا الحقائق المعنوية .

الآية الثانية :

{ رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ }[ البقرة: 286 ]

وجه الاستدلال :

إنّ هذه الآية تدل بوضوح على جواز تكليف ما لا يطاق ، فلو لم يكن التكليف للعاجز جائزاً لم يكن لهذا الدعاء معنى وفائدة .

يرد عليه :

هذه الآية :

لا تشير إلى “تكليف” ما لا يطاق .

وإنّما تشير إلى “تحميل” ما لا يطاق .

وهناك فرق بين “التكليف” و”التحميل” .

والفرق هو :

إنّ في “التكليف” يطلب المكلِّف من المكلَّف أن يقوم بفعل معيّن .

ولهذا يشترط في هذا المقام أن يمتلك المكلَّف القدرة والطاقة على ذلك الفعل .

ولكن “التحميل” ليس فيه طلب، وإنّما هو عبارة عن مصائب وابتلاءات وكوارث يحمّلها اللّه تعالى على الإنسان لأغراض حكيمة .

وهذه المصائب التي يواجهها الإنسان :

قد يطيقها ويتمكّن من الوقوف بوجهها والمحافظة على تعادله .

وقد لا يطيقها فتربك توازنه وتشل حركته وتدمّر قدراته وقواه .

النتيجة :

الكلام يدور في هذه الآية حول “تحميل المصائب” التي لا يطيق الإنسان صدّها وإبعاد نفسه عنها، وليس الكلام حول “التكليف” بما لا يطاق .
    الصفحة 284    

الآية الثالثة :

{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }[ البقرة: 31 ـ  32 ]

وجه الاستدلال :

إنّ اللّه تعالى كلّف الملائكة بأن يذكروا أسماء ما كانوا عالمين بها، ولا طريق لهم إلى علمها، وهذا ما يدل على أ نّه تعالى كلّفهم بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ الأمر في قوله تعالى: { أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ } للتعجيز لا للتكليف ، وهذا نظير قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}[ البقرة: 23 ] .

بعبارة أُخرى :

إنّ الغرض من أمره تعالى في هذا المقام بيان عجز المخاطبين ، وليس هذا الأمر من قبيل الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ولهذا لم يستحق الملائكة العقاب عندما لم ينبئوا ويخبروا اللّه تعالى بهذه الأسماء ، ولم يعدّ عدم تلبيتهم لهذا الأمر الإلهي ذنباً أو عصياناً(1) .

الآية الرابعة :

{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ}[القلم: 42ـ43]

وجه الاستدلال :

إذا جاز تكليف هؤلاء في الآخرة بما لا يستطيعون جاز ذلك في الدنيا .

____________

1- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في تكليف ما لا يطاق، ص205 .
    الصفحة 285    

يرد عليه :

ليس الغرض من هذه الآية التكليف الحقيقي الذي يشترط فيه القدرة، بل الغاية منه إيجاد الحسرة والندامة في نفوس التاركين للسجود على ما فرّطوا في الدنيا عندما كانت أبدانهم تتمتّمع بالصحة والسلامة .

بعبارة أُخرى :

إنّ الآية بصدد بيان أنّ هؤلاء رفضوا امتثال أوامر اللّه تعالى في الدنيا عندما كانوا يستطيعون ذلك ، ولكنهم بعدما كُشف الغطاء عن أعينهم، ورأوا العذاب همّوا بالطاعة والسجود، ولكن أنّى لهم ذلك في الآخرة، فهم لا يستطيعون ذلك لعدم سلامة أبدانهم، أو نتيجة القبائح التي ارتكبوها في الدنيا، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم(1) .

 

الآية الخامسة :

قال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً }[ النساء: 3]

وقال تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}[النساء:129 ]

وجه الاستدلال :

إنّ اللّه عزّ وجلّ جوّز تعدّد الزوجات، وكلّف كلّ من يتزوّج أكثر من واحدة أن يراعي العدل بين زوجاته، ولكنه تعالى بيّن في الآية الثانية بأنّ مراعاة العدل بين الزوجات أمر لا يقدر عليه الإنسان . فنستنتج بأنّ “المتزوّج أكثر من واحدة” مكلّف من قبل اللّه تعالى بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ المقصود من العدالة في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا } غير المقصود من العدالة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا}.

____________

1- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 1/305 ـ 306 .
    الصفحة 286    

توضيح :

 

أقسام العدالة بين الزوجات :

1- عدالة يمكن مراعاتها ، وهي العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من حقوق الزوجية التي تقع في دائرة اختيار الإنسان ، وهذه العدالة هي المقصودة في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا } .

2- عدالة لا يمكن مراعاتها، وهي العدالة في إقبال النفس وما يرتبط بالقلب وغيرها من الأُمور التي لا تقع في دائرة اختيار الإنسان ، وهذه العدالة هي المقصودة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا } .

 

التكليف الإلهي حول مراعاة العدالة بين الزوجات :

إنّ “المتزوّج أكثر من واحدة” مكلّف فقط بمراعاة “العدالة” التي يقدر عليها، (وهي العدالة المذكورة في القسم الأوّل) ، وهو غير مكلف بمراعاة “العدالة” التي لا يقدر عليها (وهي العدالة المذكورة في القسم الثاني) . ولهذا لا يوجد في هاتين الآيتين ما يدل على وقوع التكليف بما لا يطاق .