البحث القرآني ونظرية الاحتمال رؤية في العلاقة بين البحث القرآني والأُسس المنطقية للاستقراء

من الوضوح بمكان كبير جدّاً أهمِّيَّة المنهج الاستقرائي في الاستدلال على ظاهرة أو نظريّةٍ ما من خلال حساب الاحتمال ، ومن الواضح أيضاً أنّ هذا المنهج مِن أهمّ المناهج في إثبات الصانع تعالى ، بل لعلّه المنهج الفلسفي المعقّد الذي يعتمد في كثير من بحوثه على المجرّدات ؛ الأمر ( الذي أدّى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوّعة على إثبات الصانع )(1) .

( فكان من الطبيعي أنْ يتّجه القرآنُ الكريم إلى دليل القَصْد والحكمة بوصفه الدليل الذي يُمثّل المنهج الحقيقي للاستدلال العلمي ، ويقوم على نفس أُسُسِهِ المنطقيّة ، ويفضِّلُه على سائر الصِيَغ الفلسفيّة للاستدلال على وجوده تعالى )(2) .

قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )(3)(فصّلت : 53) , كلّ ذلك من أجل أنّ هذا المنهج أقرب إلى الفَهم البشري العام ، وأقدر على مَسْك وجدان الإنسان ـ أيّ إنسان ـ وعقله ، بالإتيان من البراهين الفلسفيّة ذات الصيغ النظريّة المجرّدة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم(4) .

وهذا أمر لا يُقاس فيه ، ولا نريد أنْ ندرس من خلال هذه المحاولة ما يتعلّق به من حيث استخدام القرآن الكريم له ، أو دعوته لاستخدامه في إثبات الصانع تبارك وتعالى , وإنّما نريد أنْ نبحث مدى إمكانيّة تطبيق هذا المنهج الاستقرائي ـ في خطواته المتعددة التي ترفّع القيمة الاحتماليّة للنظريّة المُفْتَرَضَة إلى درجة يقينيّة أو قريبة منها(5) ـ على البحوث القرآنيّة المختلفة :

* فهل من المفضّل أنْ نُعالج الآراء المتعارضة في أسباب النزول في مقام ترجيح أحدها ، وإيصاله إلى قيمة علميّة مقبولة من خلال تطبيق الأُسس المنطقيّة للاستقراء عليها مثلاً ؟

* أو هل يمكن إثبات ظاهرة الإعجاز في القرآن الكريم من خلاله أيضاً ، وكذلك الأمر في المَكِّي والمدني ، وغيرها من بحوث علوم القرآن ؟

ـ فهل هذا أمر عملي ومطلوب ؟

ـ أَمْ لا يمكن ذلك ؟

ـ أو أنّه على فرض إمكانه قد لا يكون أمراً عمليّاً ومطلوباً ؟

وربما نترقّى أكثر ، محاولين إدخال هذا المنهج في البحث التفسيري ؛ من أجل أنْ نثبت أنّ القيمة الاحتماليّة العُلْيا للرأي التفسيري المعيَّن هي التي تحقّقتْ من خلال هذا البحث ؛ لأجل إسقاط بقيّة الآراء التفسيريّة الأُخرى في هذا المجال ، والاعتماد على رأي واحد منها ليكون هو الرأي المعتمد دونما سواه .

في الحقيقة أنّ المسألة قد تكون محاطة بشيء من الغرابة أو الغموض ، خصوصاً وأنّ المنهج الاستقرائي يعتمد على : ( الحسّ والتجربة ) من خلال ملاحظة الظواهر الخارجيّة ، وأنّ تطبيق مثل هذا المنهج على البحث القرآني ـ وخصوصاً على البحث التفسيري ـ قد يحتاج إلى تكلّف كبير ؛ إذ إنّ المسألة في مقام البحث التفسيري تدور مدار الفهم العرفي للاُسلوب العربي ، وهذا يعتمد على :

ـ معرفة اللغة .

ـ وأساليبها .

ـ وخصوصيّاتها .

ولا علاقة له أصلاً بنظرية الاحتمال أو بالأسس المنطقيّة للاستقراء .

* فكيف يتسنّى للباحث في القرآن أنْ يُطبّق هذا المنهج على موضوعه لكي يرجِّح طَرَفَاً من أطراف الاحتمالات الموجودة في المسألة القرآنيّة الواحدة ؟

ولكي نُجلِّي المسألة أكثر فنحن لنْ نقوم بأكثر مِن تطبيق منهج الأُسس المنطقيّة للاستقراء على أيّ مسألة من مسائل البحث القرآني التي نريد التعامل معها ؛ للخروج بنظريّة تتمتع بقيمة علميّة كبيرة تضطرّ الآخرين إلى قبولها والإذعان إليها ، والقناعة التامّة بالرأي الذي سُجِّل تجاهها .

وهنا لنْ نبذل جهداً كبيراً في معرفة الخطوات ، فهي كالتالي :

( إنّ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات ، يمكن تلخيصه إذا توخَّينا البساطة والوضوح في الخطوات الخمس التالية :

أوّلاً : نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة .

ثانياً : ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها ، والمطلوب في هذه المرحلة أنْ نجد فرضيّة صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً ، ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر : أنّها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلاً .

ثالثاً : نلاحظ أنّ هذه الفرضيّة إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ، ففرصة تواجد تلك الظواهر كلّها مجتمعةً ضئيلة جدّاً ، بمعنى أنّه على افتراض عدم صحّة الفرضيّة تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها , أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جدّاً ، كواحد في المئة أو واحد في الألف ، وهكذا .

رابعاً : نستخلص من ذلك أنّ الفرضيّة صادقة ، ويكون دليلنا على صِدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى .

خامساً : إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضيّة المطروحة في الخطوة الثانية ، تتناسب عكسيّاً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً على احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضيّة ، فكلّما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر ، حتّى تبلغ في حالات اعتياديّة كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضيّة )(6) .

وهذه الخطوات نقلناها كاملة عن مصدرها ، وتركنا تفاصيلها مع تطبيقاتها ليراجعها القارئ الكريم(7) .

وسنحاول أنْ نطبِّق هذا المنهج على بعض المسائل ؛ لننظر مدى فائدته التطبيقيّة فيها ، وسوف تكون هذه النماذج من : علوم القرآن ، ومن التفسير كذلك .

 

النموذج الأوّل : في الإعجاز القرآني :

لا يشكّ مسلمٌ البتّة في كون القرآن معجزَاً في كلّ أبعاده ـ بل يُتَيَقَّن بذلك ـ سواءً تمّ له ذلك الأمر عن طريق العقل أو النقل . بالإضافة إلى الكثير ممّا كُتب في هذا المجال ، بحيث يفوق حدّ الإحصاء .

ونحن هنا لنْ نثبت شيئاً لم يكن ثابتاً ، وإنّما نريد أنْ نُثير منهجاً علميّاً أثاره القرآنُ الكريم كما أشرنا في أوّل البحث ، محاولين تطبيقه على البحث القرآني ؛ لأنّ النتائج التي يُوصِل إليها هذا المنهج غير قابلة للردّ أصلاً ، إذ كما قال السيّد الشهيد في آخر كتابه الأُسس المنطقيّة :

فالإنسان بين أمرين :

ـ فهو إمّا أنْ يرفض الاستدلال العلمي ككل .

ـ وإمّا أنْ يقبل الاستدلال العلمي ، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي(8) .

 

* ولنبدأ الآن في تطبيق المنهج : فنلاحظ في الخطوة الأُولى من الخطوات الخمس السابقة :

أنّ القرآن الكريم يشتمل على عدّة ظواهر ، ومن باب المثال ـ لا الحصر والتتبّع التام ـ نذكر عدّة ظواهر :

الظاهرة الأُولى : عدم الاختلاف فيه : قال تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً )( النساء : 82 ) . وهذا أمر مفصّل في محلِّه ثابتٌ عقلاً ونقلاً .

الظاهرة الثانية : إخباراته عن المغيّبات ، خصوصاً التي تحقّقتْ فيما بعد ، أو اكتشفت بعد ، قال تعالى : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ... )( هود : 49 ) .

 

الظاهرة الثالثة :

المستوى المعرفي الراقي على مستوى المعارف الإلهيّة والفلسفيّة ، والأخلاق الفاضلة ، والقوانين الدينيّة الفرعيّة ، من عبادات ، ومعاملات ، وسياسات ، واجتماعيّات ، وكل ما يُعَدُّ مِنْ فعل الإنسان وعمله(9) .

 

الظاهرة الرابعة :

المستوى البلاغي المتميّز الذي لا يمكن أنْ يُسْبَك مثله على مستوى الكلام العربي ، كما شهد به المخالِف والمؤالف من أساطين العربيّة وأساتذتها .

 

الظاهرة الخامسة :

بيان بعض الحقائق العلميّة المتعلِّقة بالطبيعة والكون والنظام الكوني ، التي لا تخطر على بالِ بَشَر حين نزول القرآن .

إلى غير ذلك من الظواهر الأُخرى التي تُذْكَر مُفَصَّلة في مباحث الإعجاز القرآني ، وهي ظواهر محسوسة لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها بحالٍ من الأحوال ، إلاّ مكابرة ، أو مغالطة وجحوداً ، كما في قوله تعالى :

( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )( النمل : 14 ) .

وبهذا نكون قد انتهينا من الخطوة الأولى ، وحيث إنّنا نريد إثارة المنهج لم نتعمد رَصْدَ جميع الظواهر القرآنيّة التي تنسجم مع ما سنفرضه في الخطوة الثانية ؛ إذ إنّنا نريد أنْ نتعرّض إلى نماذج تطبيقية أُخرى ، فآثرنا الاختصار في البحث ومِن ثمّ ننتقل إلى :

 

* الخطوة الثانية ، وهي : ( مرحلة التفسير لتلك الظواهر ) :

وهنا توجد فرضيّة صالحة لتفسير اجتماع هذه الظواهر مع بعضها في كتاب واحدٍ قد نزل في مدّة طويلة تصل إلى الثلاث والعشرين سنة ، وهي فرضيّة أنّ هذا الكتاب نزل من عند الله تعالى على رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله) عن طريق الوحي الأمين ، فإنّ هذه الفرضيّة يمكن بها تبرير كلّ تلك الظواهر ، وتكون منسجمة معها ومُسْتَبْطِنَة لها :

أمّا الظاهرة الأولى ، وهي ظاهرة عدم الاختلاف :

فإنّها منسجمة تمام الانسجام مع كون المُرْسِل لهذا الكتاب إلهاً حكيماً مطلقاً قَيُّومَاً مشتمِلاً على جميع صفات الكمال ؛ إذ كما يقول الفلاسفة إنّ العلّة والمعلول لا بدّ وأنْ يكون بينهما تسانخ ، فإنّ الكامل لا يصدر إلاّ عن الكامل ، والثابت لا يصدر إلاّ عن الثابت .

والظاهرة الثانية وهي مسألة الإخبار بالغيب :

تستبطن الاطلاع على الغيب من جميع جهاته ، وهذا لا يتسنّى إلاّ لقوّة مطلقةٍ غير محدودةٍ ، بيدها الأسباب والمسبّبات على إطلاقها .

 

وأمّا الظواهر الثلاث الأخيرة :

فهي كاشفة عن مستوى علمي راقٍ لا تصل إليه أَفْهَام البَشَر ، فإذا كانت الفرضيّة تفرض إلهاً ـ كما في الخطوة الثانية ـ مثل الكمال المطلق في جميع صفاته ، فلا شكّ أنّه يكون مطلقاً من حيثيّة العِلْم ، فصدور مثل هذه المعارف والحقائق العلميّة والمستوى البلاغي الفارد في جماله وعلوّه ، ينسجم تمام الانسجام مع هذه الذات ؛ لذلك فإنّ هذه الفرضيّة سوف تستبطِن جميع الظواهر المحسوسة في الخطوة الأولى .

 

* الخطوة الثالثة :

( وهنا نلاحظ أنّه على افتراض أنّ الفرضيّة المتقدِّمة في الخطوة الثانية غير صحيحةٍ ، فلا بدّ مِن استبعاد اجتماع كلّ تلك الظواهر ؛ إذ حينئذٍ سوف تكون مجموعة من الصُدَف التي ليس بينها ترابط مفهوم ، فاحتمالُ تواجدها جميعاً على تقدير عدم صحّة النظريّة المذكورة ضئيلٌ جدّاً ؛ لأنّ هذا الاحتمال يتطلّب منّا مجموعة كبيرة من الاحتمالات والافتراضات لكي نفسّر تلك الظواهر جميعاً )(10) .

فإذا لم تصحّ الفرضيّة في الخطوة الثانية فلا بدّ أنْ نفرض أنّ عدم الاختلاف في القرآن الكريم مستند إلى العقل البشري ، سواء كان ذلك العقل هو عقل النبي (صلّى الله عليه وآله) ، أو عقل سلمان الفارسي ، أو عقل أهل الكتاب أو غيرها من الدعاوى التي ادّعاها المشركون .

وهذه الفرضيّة تجرّنا إلى فرضيّة أنّ العقل البشري يمكن أنْ يتّصف بالكمال والثبات ، ولا يتّصف بالتكامل ، ثمّ إنّه أيضاً لا بدّ أنْ نفرض أنّ هذا الثبات والتكامل يختصّ بعقلٍ واحد دون العقول الأخرى ، وعليه فلا بدّ أنْ ننقض القاعدة القائلة : بـ ( أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ) ، وغير ذلك من الصُّدَف التي لا يمكن أو يوجد بينها ترابط مفهوم .

وكذلك الأمر بالنسبة إلى قضيّة الإخبار بالمغيّبات ، فلا بدّ مِن فرض كون المُخْبِر ليس إلهاً مطلقاً محيطاً بعوالم الإمكان ، بل نفرض إمّا أنْ يكون بشراً ، أو جِنّاً ، أو غير ذلك ممّا يمكن فرض إخباره عن المغيّبات ، وهذا يلزمنا أنْ نفرض ما بالغير ما بالذات ؛ وذلك لأنّ العالِم بالغيب المطلق هو العالِم بالذات وغيره يتعلّم منه ، ويلزمنا أنْ نفرض أنّه يمكن أنْ يكون فاقد الشيء قادراً على إعطائه ، إلى غير ذلك من الصدف التي لا يمكن أنْ يكون بينها ترابط مفهوم ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الظواهر الثلاث الأخيرة ، أعني :

ـ المستوى المعرفي .

ـ والبلاغي .

ـ والإخبار عن الحقائق الدقيقة .

فإنّه على تقدير خطأ الفرضيّة التي أخذناها في الخطوة الثانية ، فإنّ المسألة تحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف بحيث يُعتبر احتمال وجودها مجتمعةً ضئيلاً جدّاً ، بينما فرضيّة كون هذا الكتاب العزيز من عند الله تعالى تُفَسِّر كلّ تلك الظواهر والربط بينها ؛ إذ إنّ هذه الظواهر مجتمعةً تحتاج إلى سلطة قاهرة فوق طوق الممكنات ، وهي السلطة الإلهيّة المتصرّفة في كلّ شيء كما تشاء ، وهذا معناه استبطان الفرضيّة للظواهر المحسوسة .

* وهنا تتحقق الخطوة الرابعة في المسألة :

وهي أنّه عندما تكون هذه الظواهر المحسوسة في القرآن مجتمعةً ، من حيث التحقّق والوجود ضعيفة الاحتمال ، على فرض أنّ القرآن ليس من عند الله ، فَمِن المُرَجَّح بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً ـ من خلال اجتماع هذه الظواهر كلّها ـ أنْ يكون هذا القرآن من عند الله تعالى .

* ولم يبقَ شيء سوى أنْ نطبّق الخطوة الخامسة والأخيرة :

وهي عمليّة الربط بين ترجيح كون القرآن من عند الله تعالى ، وبين ضعف الاحتمال المشار إليه في الخطوة الرابعة ، وهو عدم كونه من عند الله تعالى .

والمراد بالربط بين هاتَين الخطوتَين : أنّه كلّما كانت ضآلة الاحتمال أشدّ بالنسبة إلى عدم كون القرآن من عند الله ، فإنّ الترجيح الذي يكون في جانب كون القرآن من عند الله أكبر ، إلى أنْ يصل حدّ القناعة اليقينيّة التي تطلب في مثل هذا الموضوع(11) .

وبهذا يتّضح كيفيّة استخدام المنهج الاستقرائي المعتمد على حساب الاحتمال ، في إيجاد القناعة الكاملة بأنّ هذا القرآن هو الكتاب المنزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قِبل الله ، وهو كلام الله وليس كلام البشر ، وإذا كان كذلك فإنّ البشر لا يتمكّنون من الإتيان بمثله أبداً , فهو المُعْجَز بكلّ ظواهره ومظاهره ، غير قابل للإنكار كما اتّضح من خلال استخدام المنهج السابق .

ونحن نكتفي بتطبيق هذا المنهج على ذلك النموذج ، داعين إلى إثارته واستخدامه في كلّ علوم القرآن ؛ لتتّصف بالدرجة العالية من الاحتمال التي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة اليقين .

 

النموذج الثاني :

وأمّا محاولة إثارة هذا المنهج وتطبيقه في مجال البحث التفسيري ، فقد يكون أكثر غموضاً ممّا سبق ؛ إذ إنّ المسألة في المنهج تعتمد على رَصْد ظاهرة محسوسة أو مُدْرَكَة بالتجربة كما في خطوته الأُولى ، ومِن ثَمّ الانطلاق في تطبيق بقيّة الخطوات وإجرائها للوصول إلى المطلوب .

ونحن هنا ـ أعني في البحث التفسيري ـ أمام ألفاظٍ عربيّة وأساليب كلاميّة يتمكّن مِن فَهْمها كلّ مَنْ فَهِمَ المفردة العربيّة ، واقتدر على تمييز طرق رَبْطها بالمفردات الأُخرى . فقد يُتَصَوَّر أنّ المنهج الاستقرائي غير قابل للتطبيق هنا , إلاّ أنّ المسألة على العكس من ذلك ، فإنّه لو طُبّق على البحث التفسيري ذلك المنهج لأَمْكَنَ أنْ تتمتّع النظريّات والفرضيّات التفسيريّة بقيمة علميّة أكبر ممّا هي عليه ، عندما يكون المنهج المُسْتَخْدَم في التفسير منهجاً غيره .

* ولكي تُحَل مشكلة الخطوة الأولى في المنهج ، فإنّنا لا بدّ لنا من ملاحظة الظواهر القرآنيّة المختلفة من خلال ما يلي :

أوّلاً : ملاحظة الموضوع الواحد المتكرّر في القرآن الكريم مِن أوّله لآخره ، عبر مناسبات مختلفة ، وللإجابة على أسئلة متباينة . وهذه تمثّل ظاهرة محسوسة تسهل ملاحظتها .

ثانياً : متابعة المفردة المتكرّرة بمختلف اشتقاقاتها واستعمالاتها بلحاظ سياقاتها المختلفة . وهذه تمثّل ظاهره أُخرى محسوسة أيضاً .

ثالثاً : ملاحظة الصور المختلفة ، والمتعدّدة ، وكذلك ملاحظة الأساليب البلاغيّة والفنيّة ، وهي ظاهرة ثالثة .

رابعاً : ملاحظة العلاقات المتعدّدة بين الجمل والآيات من خلال وحدة السياق ، أو وحدة الموضوع .

فهذه تمثّل مجموعة من الظواهر المحسوسة التي نتمكّن مِن جَعْلها موضوعاً للخطوة الأُولى ، بحيث يمكن أنْ نفترض ـ على أساس اجتماع هذه الظواهر ـ نظريّة تفسيريّة معيّنة ( رأي تفسيري معيّن ) يكون مُسْتبطِناً لتفسير اجتماع كلّ تلك الظواهر المرصودة في الخطوة الأولى ، من أجل مقارنته بالآراء التفسيريّة الأُخرى التي يمكن افتراضها ( عند تقدير الخطأ في الرأي المعيّن ) ، بحيث يحتاج افتراضها إلى فرض مجموعة من الصدف الفاقدة لحالة الترابط بينها ، لنصل بالنتيجة من خلال العلاقة بين قيمتَي احتمالي الرأْيَين التفسيريَّين ، أعني :

ـ التفسير المستبطن لاجتماع تلك الظواهر .

ـ والتفسير الآخر المتوقّف على تقدير الكثير من الصدف ، حتّى يكون قادراً على تفسير الظواهر .

نصل إلى رفع درجة الاحتمال في النوع الأوّل من التفسير وتقليل الاحتمال في النوع الثاني منه .

* ولكي لا يكون البحث مُحاطاً بهالةٍ من الغموض ، فإنّنا نتمكّن أنْ نطبّق المنهج الاستقرائي على أحد المصاديق لنتحقّق من النتيجة في نهاية المطاف :

فعندما نلاحظ ظاهرة الدعوة للصلاة في القرآن الكريم في الكثير من الآيات ، كقوله تعالى : ( ... وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ... )( البقرة : 3 ) .

( وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ... )( البقرة : 43 ) .

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ... )( البقرة : 45 ) .

( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ... )( البقرة : 238 ) .

والتوسّع في ذكر أحكامها وصورها ، ﮐ : صلاة المسافر ، وصلاة الخوف ، وذمّ التاركين لها والمتهاونين فيها ، وتوعّدهم بالنار وبجهنّم ، وبيان المقدّمات المتعلِّقة بها كالطهارات ، والنتائج المترتّبة عليها كالنهي عن الفحشاء والمنكر وتزكية النفس ، وغير ذلك ممّا يتعلّق بها .

فمِن خلال استقراء هذه الظواهر القرآنيّة المختصّة بشأن الصلاة من خلال الملاحظة المُعْتَمَدَة على الحسّ ، والتتبّع لآيات القرآن الكريم ، نحقِّق : الخطوة الأولى في المنهج الاستقرائي .

ثمّ ننتقل وبشكل مباشر للخطوة الثانية ، وهي الفرضيّة التي يمكن أنْ تفسّر بها كلّ تلك الظواهر مجتمعةً ، بحيث تستبطنها على تقدير واقعيّتها ، وهذه الفرضيّة هي أنّ الصلاة أمر واجب يُلْزَم به المكلّف ، ولا يحقّ له تركه بحال من الأحوال أصلاً(12) .

وبعد ذلك نصير إلى الخطوة الثالثة ، وهي ملاحظة ضآلة اجتماع تلك الظواهر كلّها ، على فرض عدم صحّة الفرضيّة المقرّرة في الخطوة الثانية ؛ إذ سوف تكون تلك الظواهر مجموعة من الصدف التي ليس بينها ترابط مفهوم ، كما قرّرناه في النموذج الأوّل .

فعندما لا يكون المستفاد من مجموع هذه الآيات الوجوب ، فإنّه لا محالة ينتقل الأمر إلى الاستحباب ، وعندها لا بدّ لنا أنْ نفرض مسلكاً جديداً في التحاور ، وهو أنّ المتكلِّم عندما لا يهتمّ بالشيء كثيراً ، فإنّه يؤكّد على فِعْله ويحذّر مِن تركه ، مع أنّه لا يريد الإلزام بفعله ، وهذا يدعونا إلى أنْ نفرض أنّ الحكيم مع كونه حكيماً يستخدم اُسلوباً غير حكيم في كلامه ، الأمر الذي يجعل تحقّق تلك الظواهر كلّها مع بعضها مسألة ضئيلة الاحتمال جدّاً .

وفي الخطوة الرابعة نستخلص من ذلك : أنّ فرضيّة كون الصلاة واجبة فرضيّة صادقة ، ويكون الدليل على صدقها هو وجود الظواهر التي لاحظناها في الخطوة الأولى .

وبعدها نطبّق الخطوة الخامسة التي تبيّن : أنّ العلاقة بين الفرضيّة المأخوذة في الخطوة الثانية ـ من خلال إثبات تلك الظواهر لها ـ مع نسبة وجود تلك الظواهر على فرض عدم صدق الفرضيّة هي علاقة عكسيّة ، وعليه فكلّما كانت درجة الاحتمال في كون الصلاة واجبة أكبر كانت درجة احتمال عدم كونها واجبة أقل ، إلى أنْ يتلاشى هذا الاحتمال الأخير ، ويبقى الاحتمال الأوّل لا يزاحمه أيّ احتمال أصلاً .

وتوجد هنا مشكلة عبَّر عنها السيد الشهيد ( رحمه الله ) بمشكلة ( الاحتمال القبلي ) وهي يمكن أنْ تتحقّق هنا ، وقد عالجها ( رحمه الله ) في كتاب الأُسس المنطقيّة معالجةً مفصَّلة ، فليراجع .

وبعد ، فهذه محاولة أو دعوة قد تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث ، من أجل التحقّق التام من صلاحيّتها ؛ لتكون مُساهِمة في خدمة البحث القرآني ، سواءً كان على مستوى بحث علوم القرآن أو كان في مجال البحث التفسيري ؛ فإنّها قد تَحلّ مشكلة أساسيّة في المجال التفسيري خصوصاً ، وهي مشكلة الظواهر التي تدلّ عليها الألفاظ ، والتي تُشكّل نسبة احتماليّة عالية نتمكّن من رفعها إلى درجة اليقين عندما يكون المنهج هو منهج الأُسس المنطقيّة للاستقراء .

 وقد نحتاج إلى رفع هذه الدرجة الاحتماليّة في المسائل العلميّة البحتة ، كالتي تتعلّق بالنظام الكوني بشكل عام ، وكذلك في المسائل التي ترتبط بالعقيدة ، والتي يتطلّب فيهما القناعة التامّة واليقين الجازم .

الهوامش :

_______________

(*) اقتباس وتنسيق قسم المقالات ، في شبكة الإمامين الحسنَين (عليهما السّلام) للتراث والفكر الإسلامي ، من مجلّة : رسالة القرآن ، العدد الثالث عشر .

1 و 2 و 3 و 4 ـ الأُسس المنطقيّة للاستقراء (508) .

5 ـ الرسول ـ الرسالة ، الشهيد الصدر ، ص21 ـ 41 .

6 ـ يراجع : كتاب المرسل ـ الرسول ـ الرسالة ، الشهيد الصدر ، ص23 ـ 24 .

7 ـ المصدر السابق : وكتاب الأُسس المنطقيّة للاستقراء : ص355 ـ 410 .

8 ـ الأُسس المنطقيّة للاستقراء : ص507 .

9 ـ الميزان ، الطباطبائي : 1 ص62 .

10 ـ المرسل ـ الرسول ـ الرسالة : ص30 .

11 ـ يُرَاجَع : المصدر السابق ص33 .

12 ـ طبعاً يلاحظ هنا ضمّ التفصيلات المستفادة من بيان الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الطاهرين (عليهم السّلام) في جزئيّات مسائل الصلاة بعد ثبوت وجوبها ، من خلال البحث التفسيري ؛ لأنّه (صلّى الله عليه وآله) قال : ( صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّي ) .

وقال :

( إنّي تَارِكٌ فِيْكُم الثَقَلَيْن ؛ كِتَابَ اللهِ وَعِترَتِي أَهْلَ بَيْتِي ، وإنّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْض ) .

فإنّ القرآن الكريم بنفسه قد دعا لهذه المسألة في قوله تعالى : (... مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... )( الحشر : 7 ) .

 

وقال تعالى :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ... )( الأحزاب : 36 ) .

لكن من الواضح أنّ هذه المسألة تتم بعد استنباط الوجوب من خلال الآيات القرآنيّة وحدها .