نبذة من سيرة الإمام العاشرعلي بن محمّد الهادي (عليه السلام) ـ2ـ

نبذة من سيرة الإمام العاشرعلي بن محمّد الهادي (عليه السلام) ـ2ـ
باسم دبوق


مرّ في الحلقة الماضية الحديث، عن ولادة الإمام الهادي (عليه السلام)، وعن نسبه ،وأولاده، وبعض كراماته وعلمه وأخلاقه، وكذلك ذكر طواغيت عصره.. ونتابع في هذه الحلقة، الحديث عن المرحلة الأخيرة من عمره الشريف، وما جرى له في سامراء..

استدعاء الهادي (عليه السلام) من المدينة إلى سامراء
استدعى المتوكل الإمام الهادي، في السنة العاشرة من خلافته، وأشخصه من (المدينة) في الحجاز، إلى (سرّ من رأى) (سامراء) في العراق، وكان سبب ذلك، تهمة افتراها عليه بعض أعداء الإمام (عليه السلام) وحسّاده، فوجّه المتوكل يحيى بن هرثمة، ومعه ثلاث مائة رجل إلى المدينة، ومعه رسالة إلى الإمام (عليه السلام)، يدعوه فيها إلى موافاته في (سرّ من رأى)، وأوصى يحيى أن يداهموا الإمام (عليه السلام) في بيته ويفتشوا داره، ليضبطوا ما فيها من أسلحة وأدوات وعدة حرب، كما أوصاه أو ينقلوا الإمام (عليه السلام) بغاية ما يمكن من الإجلال والتبجيل والاحترام، خوفاً من الشيعة ومن الرأي العام الإسلامي كله.

فلما وصل يحيى ودخل دار الإمام (عليه السلام)، وجده جالساً يقرأ القرآن، ولم يجد الجند في بيته، سوى مصاحف وكتب أدعية، فأكبره القوم واحترموه كثيراً، ولمّا سلّمه يحيى كتاب المتوكل بالتوجّه إليه، استمهلهم (عليه السلام) ثلاثة أيام استعداداً للخروج.

ولما علم الناس في المدينة بغرض يحيى بن هرثمة من زيارة الإمام، وبعزمه (عليه السلام) على الخروج إلى العراق، هاجوا هياجاً عظيماً، وقامت قيامتهم، فجعلوا يطالبون الإمام (عليه السلام)، وعدم الركون إلى الخليفة والذهاب معه، فجعل يحيى يسكّتهم ويسكّن رَوْعَهم، ويحلف لهم، أنه لم يؤمر بمكروه في حقه، وأنه (عليه السلام) لا بأس عليه، فلما كان بعد ثلاثة أيام، خرج الإمام الهادي (عليه السلام) معهم وظهرت منه في الطريق، كرامات كثيرة زادت من احترام هرثمة ومرافقيه له، وخجلهم منه، إلى أن دخل (عليه السلام) سامراء، سنة ثلاث وثلاثين ومئتين من الهجرة المباركة.

فلما دخل الإمام (عليه السلام) سامراء، احتجب المتوكل عنه، ولم يعين في يومه داراً لنزوله (عليه السلام)، حتى اضطر الإمام إلي النزول في خان يقال له (خان الصعاليك)، وهو محلّ نزول الفقراء من الغرباء، فدخل عليه صالح بن سعد وقال له: جعلت فداك! في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك، والتقصير بحقك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع؟ فأومأ (عليه السلام) بيده، فإذا بروضات آنفات، وأنهار جاريات، وجنات فيها خيرات عطرات، وولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون، فحار بصر صالح وكثر عَجَبه، فقال (عليه السلام): ((هذا لنا يا ابن سعد، لسنا في خان الصعاليك)).

الهادي (عليه السلام) يُبكي المتوكل
قال المسعودي في مروج الذهب: سُعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد (عليه السلام)، أنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا على داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، (وفي رواية من شعر) وهو جالس على الرمل والحصى، وهو متوجه إلى الله تعالى، يتلو آيات من القرآن، وفي رواية أخرى إنه كان يصلّي، وهو يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فحُمل على حاله إلى المتوكل، وقالوا له لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل في مجلس الشرب فدخل عليه (عليه السلام)، والكأس في يد المتوكل في مجلس الشرب، فلما رآه هابه وعظّمه، وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال (عليه السلام): والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ فاعفني، فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً، فقال (عليه السلام): إني قليل الرواية للشعر، فقال: لابد، فأنشده الإمام (عليه السلام) وهو جالس عنده:

(( بـاتوا عـلى قُـلَلِ الأجـبال iiتـحرسهم      غـلب  الـرجالَ فـما أغـنتهم(1) iiالـقُلَلُ
واسـتَـنزلوا بـعـد عـز عـن 
iiمـعاقلهم      فـأُودِعوا(2) حـفراً يـا بـئس مـا iiنزلوا
نـاداهم صـارخ مـن بـعد مـا 
iiقُبروا(3)      أيــن الأســرة(4) والـتيجان iiوالـحُلَلُ
أيــن  الـوجـوه الـتي كـانت 
iiمـنعّمة      مـن  دونـها تـضرب الأسـتار iiوالـكُلَلُ
فـأفـصح  الـقبر عـنهم حـين 
iiسـاءلهم      تـلك  الـوجوه عـليها الـدود iiيـنتقل(5)
قـد طـالما أكـلوا دهـراً ومـا 
iiشربوا(6)      فـأصبحوا  بـعد طـول الأكـل قـد أُكِلوا
وطـالـما  عـمّـروا دوراً 
iiلـتحصنهم(7)      فـقـارقوا  الــدور والأهـلين iiوانـتقلوا
وطـالـما  كـنـزوا الأمـوال 
iiوادّخـروا      فـخـلّفوها(8) عـلى الأعـداء وارتـحلوا
أضـحـت مـنـازلهم قـفـراً 
iiمـعـطلةً      وساكنوها إلى الأجداث(9) قد رحلوا(10) ))

قال فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع إلى علي (عليه السلام) (أي الهادي) أربعة آلاف دينار ثم ردّه إلى منزله مكرماً.

دعاء الإمام الهادي (عليه السلام) على المتوكل
كان الخليفة العباسي (المتوكل) أشدّ الخلفاء عداوة لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان تعامله مع الأئمة (عليه السلام)، لا يدل إلاّ على كره وبغض وحسد... والتاريخ يشهد بنصبه العداوة لأهل البيت (عليهم السلام)، فتارة كان يحاربهم بالوسائل التي تمنع عنهم كل أسباب الرزق والعيش! وأخرى تراه وقد هدم قبر الحسين (عليه السلام) والبيوت التي كانت حوله، كما منع الزائرين عنه، ناهيك عن سخريته من الإمام علي (عليه السلام)، بجعل وسادة على بطنه وربطها وهو يقول ساخراً: أنا الأنزع البطين، وهو الذي شِتم علياً وفاطمة (عليها السلام)، وأمثال ذلك من ضروب التجني.

وظلّ دأبه (أي المتوكل) مدة أربع سنوات يعمل التدابير، والحيل في قتل الإمام الهادي (عليه السلام)، وازدادت وقاحته وعتوّه، حتى دعا عليه الإمام الهادي (عليه السلام)، فقتل في اليوم الثالث من دعائه (عليه السلام)، والتحق بركب الذين ظلموا الأئمة وآل الرسول (صلّى الله عليه وآله) من قبله، وكان هذا الرحيل إلى جهنم، في السنة السابعة والعشرين من إمامة الهادي (عليه السلام).

الرواة عن الإمام الهادي (عليه السلام)
قال ابن شهر آشوب في المناقب: بوّابه محمد بن عثمان العمري، ومن ثقاته أحمد بن حمزة بن اليسع، وصالح بن محمد الهمداني، ومحمد بن جول الجمال، ويعقوب بن يزيد الكاتب، وأبو الحسين بن هلال، وإبراهيم بن اسحق، وخيران الخادم، والنظر بن محمد الهمداني، ومن وكلائه جعفر بن سهيل الصقيل.

ومن أصحابه داوود بن زيد، وأبو سليمان زنكان، والحسين بن محمد المدائني، وأحمد بن إسماعيل بن يقطين، وبشر بن بشّار النيسابوري الشاذاني، وسليم بن جعفر الموزوي، والفتح بن يزيد الجرجاني، ومحمد بن سعيد بن كلثوم ـ وكان متكلّماً ـ، ومعاوية بن الحكيم الكوفي، وعلي بن معد بن معبد البغدادي، وأبو الحسن بن رجاء العبرتائي.

وروى عنه جماعة منهم إسماعيل بن مهران، وأبو جعفر الأشعري والخيراني.

مؤلفاته (عليه السلام)
الأول: رسالته (عليه السلام) في الرد على أهل الجبر والتفويض، وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين، أوردها بتمامها الحلبي في تحف العقول، واللواساني في الدروس البهية.

الثاني: أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله، أوردها الحلبي في تحف العقول،

الثالث: مجموعة من أحكام الدين، ذكرها ابن شهر آشوب من المناقب عن الخيري أو الحميري في كتاب مكاتبات الرجال عن العسكريّين (عليه السلام).

وقد روي عنه في أجوبة المسائل، في الفقه وغيره، من أنواع العلوم الشيء الكثير، مما تكفّلت به كتب الأخبار.

من أدعيته (عليه السلام) القصيرة
في أمالي الشيخ أبي علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، أنه (عليه السلام) علم بعض أصحابه هذا الدعاء وقال: ((هذا الدعاء كثيراً ما أدعو الله به، وقد سألت الله أن لا يخيب من دعا به في مشهدي بعدي، وهو: يا عدتي عند العدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسند، ويا واحد يا أحد، يا قل هو الله أحد، أسألك اللّهم بحق من خلقته من خلقك، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً، أن تصلي عليهم، وتفعل بي كيت وكيت))(11).

ومن دعائه (عليه السلام) أيضاً: ((يا بارُّ، يا وصُول، يا شاهد كلِّ غائب، ويا قريب غير بعيد، ويا غالبٌ غير مغلوب، ويا من لا يعلم كيف هو إلا هو، يا من لا تبلغُ قدرتُه، أسألك باسمك المكنون المخزون المكتوم عمن شئت، الطاهر المطهّر، المقدّس النور، التام الحيّ القيوم العظيم، نور السماوات ونور الأرضين، وعالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال العظيم، صلِّ على محمد وآل محمد)).

ولقد أورد زيارته (عليه السلام) الشيخ القمّي في مفاتيح الجنان في يوم الأربعاء ( ص90 ) والزيارة الخاصة ( ص581).

حرزه (عليه السلام)
ذكره ابن طاووس في مهج الدعوات وهو: ((بسم الله الرحمن الرحيم، يا عزيز في عزّه، يا عزيز أعزّني بعزّك، وأيّدني بنصرك، وادفع عني همزات الشياطين، وادفع عني بدفعك، وامنع عني بصنعك، واجعلني من خيار خلقك، يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد)).

مما مدح به (عليه السلام)
ذكر ابن شهر آشوب في المناقب، فقال: أنشدني أبو بديل التميمي في الإمام الهادي (عليه السلام):

أنت من هاشم بن عبد مناف ب      ن قـصيّ فـي سرّها iiالمختار
في  اللباب اللباب والأرفع 
iiالأر      فـع منهم وفي النضار iiالنضار

ضعف الحكم العباسي
بعد موت المتوكّل، وحكم المنتصر والمستعين، جاء المعتزّ خليفة، ويبدو من تاريخ حياة الإمام الهادي (عليه السلام)، أن السنين السبعة التي قضاها في عهد المنتصر والمستعين والمعتزل، لم يشهد فيها ما شهده في عهد المتوكل، من التحديات والوشايات بين الحين والآخر، وقد اكتفى الحكام الثلاثة، بفرض الإقامة الجبرية عليه في سامراء، ولو لا ذلك، لما كان ليختار على مدينة جدّه (صلّى الله عليه وآله) بلداً غيرها، ولعلّ مردّ ذلك، إلى أن سلطة الحكام في تلك الفترة من تاريخ خلافة بني العباس، قد تلاشت تقريباً، ولم يعد يملك الخليفة منها غير الإسم، وأصبح الحكم للقوّاد من الأتراك وغيرهم، فكانوا يأمرون وينهون ويعزلون الخليفة أو يقتلونه إذا غضبوا عليه، ويولّون غيره كما حدث للمستعين، بعد ثلاث سنين وتسعة أشهر من ولايته، حيث اضطروه لاعتزال الخلافة، وبايعوا المعتز سنة إحدى وخمسين ومائتين، بعد أن كان معتقلاً مع أخيه المؤيد، إلى كثير من الأحداث التي تؤكد ضعف الخلفاء، في تلك الفترة من التاريخ، وقد وصف بعض شعراء عصرهم، الحالة التي انتهت إليها الخلافة بقوله:

خـلـيـفة  فـــي iiقـفـص      بــيـن  وصـيـف iiوبـغـا
يـقـول  مــا قــالا 
iiلــه      كــمـا  تــقـول iiالـبـبغا

وقال شاعر آخر، قيل إنه البحتري كما جاء في مروج الذهب:

لـلـه درّ عـصـابة تـركـية      ردّوا  نـوائب دهـرهم بالسيف
قـتلوا  الـخليفة أحمد بن 
iiمحمّد      وكسوا جميع الناس ثوب الخوف
وطـغوا  فـأصبح ملكنا 
iiمتقسّماً      وإمـامنا فـيه شـبيه الـضيف

وفاته ودفنه (عليه السلام)
توفي الإمام الهادي أبو الحسن الثالث (عليه السلام)، في مدينة سامراء التي نقله المتوكل إليها ـ كما أسلفنا ـ والتي أبقاه هو والخلفاء بعده فيها عشرين سنة، ليكون قريباً منهم، خاضعاً لمراقبتهم، بعيداً عن كل الذين يُحتمل أن يتحرّكوا لطلب الخلافة له، ورغم أن الإمام (عليه السلام)، كان في الواقع رهينة عندهم، فإنهم لم يتوانوا عن العمل للتخلّص منه نهائياً، ويعزو المؤرّخون السبب في وفاته، إلى سُمٍّ دسّه له الخليفة المعتز، الذي توفي الإمام (عليه السلام) في السنة الثانية من عهده، وقد كانت وفاته في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، من السنة الرابعة والخمسين بعد المئتين(13).

ولما حضرته الوفاة أحضر ابنه الحسن العسكري (عليه السلام)، وسلّم إليه الودائع والمواريث، وأوصى إليه بالإمامة بعده، وقضى نحبه شهيداً مسموماً، فجهّزه ابنه الحسن العسكري (عليه السلام)، وصلّى عليه، وحملت جنازته في تشييع مهيب، حافل بكل طبقات الناس، وخرج الإمام الحسن (عليه السلام) يمشي خلف الجنازة، باكياً حزيناً.

وطافوا بالجنازة في بعض شوارع سامراء وأسواقها، ثم أعادوها إلى الدار حيث دُفن (عليه السلام) في منزله الخاص، وهو مكان قبره وحرمه الشريف القائم اليوم في سامراء، ودُفن فيه بعده ابنه الحسن (عليه السلام) إلى جنبه، وفي هذه الدار أيضاً، قبر السيدة حكيمة أخت الإمام الهادي (عليه السلام)، وقبر السيدة نرجس أمّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وقبور أخرى، من أفراد الأسرة المكرّمة.

------------------------------------------

مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام للتراث والفكر الإسلامي

ــــــــــــــــــــــ

1 ـ وورد: فلم تنفعهم.

2 ـ وورد: فأسكنوا.

3 ـ وورد: من بعد دفنهم.

4 ـ وورد: الأساور.

5 ـ وورد: يقتتل.

6 ـ وورد: وقد شربوا.

7 ـ وورد: لتسكنهم.

8 ـ وورد: ففرّقوها.

9 ـ وورد: الأحداث.

10 ـ وورد: نزلوا.

11 ـ طبعاً تسأل حاجتك.

12 ـ وورد أنه توفي في الثالث من رجب أو الثالث عشر منه.

13 ـ لأن المعتزّ بويع في سنة اثنتين وخمسين ومئتين.