محطات بين يدي قمر بني هاشم ( عليه السلام )
- نشر في
-
- مؤلف:
- أبو فاطمة العذاري
من حقها أن تقف
الأجيال بكل إكبار وإعظام إمام النهضة الإلهية الكبرى ، والملحمة الحسينية
الخالدة ، وتستشرق مستلهمة للقيم الربانيّة التي خطّها الحسين ومن معه بدمائهم
الطاهرة ، حتى تعرف الأجيال المعنى الحقيقي للعزة والكرامة والصمود .
في هذه العجالة نقف بكل إجلال وتقديس عند أحد أولئك الأفذاذ الذين كانوا من
مفاخر التاريخ الإسلامي ، ومن شهداء كربلاء العظام ،
نقف عند ذلك القمر الهاشمي ، والشبل العلوي والفدائي الحسيني ،
نقف عند من قال فيه صادق أهل البيت (عليه السلام ) :
(( كان عمُّنا العباس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد
الله ( عليه السلام ) ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً )) ، و يالها من شهادة كبيرة صدرت من المعصوم بحق رجل كان عماً للمعصومين
، وأخاً
لمعصومين ، وإبنا للمعصوم .
نقف متصاغرين متواضعين عند سيدنا ومولانا أبي الفضل العباس بن الإمام علي
بن أبي طالب (عليه السلام ) ،
وليس من الممكن أن نحتوي حياة بطل العلقمي في مقالة واحدة ، فهو كالبحر
من أين تأتيه تغترف علما وهديا وإيمانا ،
ولكننا نود الإشارة الى بعض المحطات من حياة كافل بنات الرسالة الكفيل
الشهم والغيور الأبي فنقول :
المحطة الأولى:
لُقب العباس (عليه السلام) بمجموعة من الألقاب الجليلة التي تعبر عن عظمة
شخصيته المقدسة ومن تلك الألقاب : (
السقَّاء ، أو ساقي العطاشى ) ...
فقد روي إنه لمّا اشتد العطش على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، أمر أخاه
العباس ( عليه السلام ) فسار في عشرين رجلاً يحملون القرب ، وثلاثين فارساً
، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلاً ، وأمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل
اللواء ، فقال عمرو بن الحجّاج ، من الرجل ؟ قال نافع ، قال ما جاء بك ؟ قال
: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه ، قال : فاشرب هنيئاً ، قال :
لا والله لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه ، فقالوا : لا سبيل
إلى سقي هؤلاء ، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء .
فقال نافع لرجاله : املؤا قربكم فملئوها ، وثار إليهم عمرو بن الحجّاج
وأصحابه ، فحمل عليهم العباس ونافع بن هلال فكشفوهم وأقبلوا بالماء ، ثمّ
عاد عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، وأرادوا أن يقطعوا عليهم الطريق فقاتلهم
العباس وأصحابه حتّى ردّوهم ، وجاءوا بالماء إلى الحسين ( عليه السلام )
، وكان هذا قبل يوم العاشر من المحرم ، وقال بعض المؤرخين كان ذلك في اليوم السابع
، ولذلك سُمي اليوم السابع بيوم العباس .
والموقف الأكبر لساقي آل الرسول هو موقفه يوم العاشر ، لمّا اشتدَّ العطش
بالحسين وأهل بيته وأصحابه ( عليهم السلام) ، وسمع بكاء
النساء والأطفال يشكون العطش ، بادر الساقي الغيور أبو الفضل العباس ( عليه
السلام ) ، وطلب من أخيه الحسين ( عليه السلام ) السماح له بالبراز لجلب
الماء ، فأذن له الحسين ( عليه السلام ) ، فحمل على القوم ، أحاطوه من
كلِّ جانب ، ثم قتل وجرح عدداً كبيراً منهم ، وكشفهم وهو يقول :
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رَقَا ** حتّى أواري في المصَاليتِ لُقَى
نفسي لنفسِ المُصطَفَى الطُّهر وَقَا ** إنّي أنا العبَّاس أغدو بالسقَا
ولا أخافُ الشرَّ يوم المُلتَقَى
وصل السّاقي إلى ماء الفرات ، فغرف منه غرفة ليطفئ لَظَى عطشه ، فتذكَّر
عطش الحسين (عليه السلام ) ، ورمى بالماء وهو يرتجز ويقول :
يَا نفسُ مِن بعد الحُسين هوني ** مِن بعدِهِ لا كُنتِ أن تَكُوني
هَذا الحسينُ وَارِدَ المَنونِ ** وتشرَبينَ بَاردَ المَعينِ
تاللهِ مَا هَذي فِعَال دِيني
فملأ القربة وعاد فحمل على القوم ، وقتل وجرح عدداً منهم ، ولكن
؛ حين جرى ما
جرى من قطع كفيه أخذ القربة بِفَمِه ، وبينما هو جاهد أن يوصلها إلى
المخيَّم ، إذ صُوِّب نحوه سهمان ، أحدهما أصابَ عينه الشريفة ،
وأما الآخر فقد أصاب القِربة فَأُرِيق ماؤها ، وعندها انقطع أمله من
إيصال الماء ، فصار يقاتلهم بشدة طالبا للشهادة ، حتى نالها عزيزا شريفا مهابا.
وأيضا كان يلقب بـ ( قمر بني هاشم) ...
فقد وصفه التاريخ انه كان رجلاً وسيماً جسيماً ، يركب الفرس المطهَّم ،
ورجلاه تخطَّان في الأرض ، ويمكن لنا أن نفهم إنه قمر بني هاشم معنويا ، بمعنى
أن إيمانه مشرقا ، وهو من الأولياء العارفين .
ولقب أيضا : ( بطل الشريعة ) أو ( بطل العلقمي ) أو ( سَبع القنطرة
) ...
لأنه خاض على ذلك النهر قتالاً لم ترى العرب
مثله ، حيث كان ينقّض على أعدائه كالنسر ، وهم يفرون من بين يديه كالخراف ، ولم
يجدوا حيلة لإيقافه إلا بأن يبارزوه جميعا دفعة واحدة ، ومن هنا نادى
المنادي : احملوا عليه من كل جانب ،
ورغم إنهم شنوا عليه هجوما من كل جانب ، إلا أن شبل علي كان فيهم كالصاعقة
ينقض عليهم من كل اتجاه ، حتى ظن أحدهم إنه يقاتل ألف رجل لا رجلا واحدا .
هذه الشجاعة الحيدرية والعزيمة التي أورثها إياه فارس بدر الكرار تجسدت في
يوم عاشوراء ، حتى ظن الناضر إنه علي بن أي طالب أحيي من جديد ، وقد كان دافعها
الأكبر إيمانا لا يلين ، وشوقا للشهادة وإصرارا في نصرة سيد شباب أهل الجنة
،
مما جعله أسداً مغواراً يطحنهم طحنا .
ولقب أيضا : أنه ( باب الحوائج ) ...
وما ذاك الا كرامة من الله أعطاها لسليل الكرار و وراث الأطهار ، ولعظيم
إيمانه وشدة إخلاصه ، حيث جعل الله مرقده الشريف شمسا للتائهين ، وبحرا
للواردين ، وغوثا للمظطرين ، وهناك العشرات بل المئات وربما الآلاف الذين حصلت
لهم الكرامات ، ممن قضى الله حوائجهم ببركة التوسل الى الله تعالى بمقام أبي
الفضل (عليه السلام ) .
ونذكر هذه القصة اللطيفة ، ففي كتاب أسرار الشهادة قال العلامة الدربندي عليه
الرحمة : أخبرني جمع من الثقاة في هذا الزمان ، إن أحد المؤمنين كان يزور الحسين ( عليه السلام ) في كل يوم ثلاث مرات
، وما
كان يزور العباس إلا في الأسبوع مرة ، وقد رأى في المنام الصديقة الطاهرة (
عليها السلام ) ، سلّم عليها فأعرضت عنه ؛ فقال : بأبي أنت وأمي لأي تقصير
تعرضين عني ؟ قالت : لإعراضك من زيارتك ابني ، قال : أنا أزور ابنك في كل يوم
،
قالت : تزور ابني الحسين ( عليه السلام ) ولا تزور ابني العباس إلا قليلا .
********************
المحطة الثانية:
حينما نذكر اخو زينب وكافلها ، لا يمكن نسيان تلك الأم التي ربته وتلك
الأحضان الطاهرة التي أرضعته الولاء لآل الرسول ، وتلك المرأة المتيّقنة بأمر
ربها ، التي أرسلته مع أخوته للشهادة ، أقصد طبعا السيّدة فاطمة بن حزام
العامرية الكلابية ، المعروفة بأمِّ البنين ( عليها السلام ) .
وقد روي أنّ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال لأخيه عقيل ـ وكان
نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم ـ : (( اختر
لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ؛ لأتزوّجها لتلد لي غلاماً فارساً )) ، فقال له : أين أنت عن فاطمة
بنت حزام الكلابية العامرية ، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس
، فتزوّجها أمير المؤمنين ، فولدت له وأنجبت ، وأوّل ما ولدت العباس ( عليه
السلام ) ، وبعده عبد الله ، وبعده جعفراً ، وبعده عثمان .
ولا ينسى التاريخ موقفها الزهرائي الزينبي حين سمعت بمقتل أولادها فلم
تكترث ؛ وكان اهتمامها منصبا في السؤال عن الحسين (عليه السلام) ، وحين علمت بشهادته
أقامت عليه الحزن ثم على أولادها ، بل كان مقتل أولادها مسليا لها ، أن قدمتهم
فدائيين دون ريحانه المختار ، وسليل الزهراء البتول.
*****************
المحطة
الثالثة:
من المواقف الكبرى التي رويت عن سليل حيدر الكرار ما روي ، أنه لمَّا أخذ عبد
الله بن حزام ابن خال العباس ( عليه السلام ) أماناً من ابن زياد للعباس
وأخوته من أُمِّه ، قال العباس وأخوته : لا حاجة لنا في الأمان ، أمانُ
الله خير من أمان ابن سمية .
وفي يوم عاشوراء لمَّا نادى الشمر : أين بنو أختنا ؟ أين العباس وأخوته ؟ فلم
يجبه أحد ، فقال الحسين ( عليه السلام) :
(( أجيبوه وإن كان فاسقاً ، فإنَّه
بعض أخوالكم )) ، فأجابه العباس ( عليه السلام ) : ( ماذا تريد ) ؟ فقال : أنتم يا بني أُختي
آمنون ، فقال له العباس ( عليه السلام) قولاً يدهش منه أهل العالم : لعنك الله
، ولعن أمانك ، أتؤمِّننا وابن رسول الله لا أمان له ؟! ، وهذا موقف الأخ الأصيل والموالي النبيل
، فقد كان يرى أن الحسين إمام مفترض
الطاعة ، وطاعة الله في طاعته .
*****************
المحطة
الرابعة:
ولقد أكرمه الله أيما كرامة ، ومن هنا أثنى عليه المعصومون ( عليهم السلام )
،
فقد قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : (( رحم الله العباس ، فلقد
آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه ، فأبدله الله عزّ وجل بهما
جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وإنّ
للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة ))
.
وليت شعري أي منزلة هذه التي يغبطها عليها الشهداء
، وهم أصحاب المنازل الجليلة يوم القيامة ، فقد ورد أن الزهراء ( عليها السلام ) ستخرج تطالب
بمظلوميته في عرصات المحشر .
فمما جاء في مقام أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ومنزلته عند أهل البيت
( عليهم السلام ) ، هو ما ذكره العلامة الدربندي في كتابه أسرار الشهادة ، قال :
إنه إذا كان يوم القيامة واشتد الأمر على الناس ، بعث رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى فاطمة ( عليها السلام )
لتحضر مقام الشفاعة ، فيقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
(( يا فاطمة ما
عندك من أسباب الشفاعة ، وما ادّخرتِ لأجل هذا اليوم الذي فيه الفزع الأكبر
)) ؟ ، فتقول فاطمة ( عليها السلام ) :
(( يا أمير المؤمنين كفانا لأجل هذا المقام ،
اليدان المقطوعتان من ابني العباس )) .
نسال الله بحق
اليدين المقطوعتين أن يوفقنا لخدمة صاحبهما في الدنيا ، ولشفاعته في الآخرة
.
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .