أهم جهود النبي (ص) لقيادة الإمام علي (ع) 3

أحاديث الغدير

ذكرنا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكّد منذ الأيّام الأُولى التي صدع فيها بالرسالة ، على الإمامة ومستقبل الأُمّة من بعده ، وشهدت له المواطن جميعاً ، وهو يعلن ” الحقّ ” ، ويحدّد أمام الجميع الإمامة من بعده بأعلى خصائصها ، وبمزاياها المتفوّقة ، ولم يتوانَ عن ذلك لحظة ، ولم يُضِع فرصة إلاّ وأفاد منها في إعلان هذا ” الحقّ ” والإجهار به . وفي الحجّة الأخيرة التي اشتهرت ب‍ ” حجّة الوداع ” ، بلغت الجهود النبويّة ذروتها ، وقد جاءه أمر السماء بإبلاغ الولاية ، لتكتسب هذه الحجّة عنوانها الدالّ ، وهي تسمّى ” حجّة البلاغ ” ( 74 ) .

لنشاهد المشهد عن كثب ونتأمّل كيف تكوّنت وقائعه الأُولى . فهذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قصد التوجّه للحجّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وقد نادى منادي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يُعلم الناس بذلك ، فاجتمع من المسلمين جمع غفير قاصداً مكّة ليلتحق بالنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، ويتعلّم منه مناسك حجّه .

حجّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمسلمين ، ثمّ قفل عائداً صوب المدينة . عندما حلَّ اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة كانت قوافل الحجيج تأخذ طريقها إلى مضاربها ومواضع سكناها ؛ فمنها ما كان يتقدّم على النبيّ ، ومنها ما كان يتأخّر عنه ، بيد أنّها لم تفترق بعدُ ، إذ ما يزال يجمعها طريق واحد . حلّت قافلة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بموضع يقال له ” غدير خمّ ” في وادي الجحفة ، وهو مفترق تتشعّب فيه طرق أهل المدينة والمصريّين والعراقيّين .

الشمس في كبد السماء ترسل بأشعّتها اللاهبة ، وتدفع بحممها صوب الأرض ، وإذا بالوحي يغشى النبيّ ويأتيه أمر السماء ، فيأمر أن يجتمع الناس في المكان المذكور .

ينادي منادي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بردّ من تقدّم من القوم ، وبحبس من تأخّر ؛ ليجتمع المسلمون على سواء في موقف واحد ، ولا أحد يدري ما الخبر .

منتصف النهار في يوم صائف شديد القيظ ، حتى أنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحرّ ، فيما يلوذ آخرون بظلال المراكب والمتاع . راحت الجموع المحتشدة تتحلّق أنظارها بنبيّها الكريم وهو يرتقي موضعاً صنعوه له من الرحال وأقتاب الإبل . بدأ النبيّ خطبته ، فراحت الكلمات تخرج من فؤاده وفمه صادعة رائعة ، حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر للجمع المحتشد أنّ ساعة الرحيل قد أزفت ، وقد أوشك أن يُدعى فيُجيب ، على هذا مضت سنّة البشر قبله من نبيّين وغير نبيّين .

أما وقد أوشك على الرحيل ، فقد طلب من الحاضرين أن يشهدوا له بأداء الرسالة ، فهبّت الأصوات تُجيب النبيّ على نسق واحد : ” نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ؛ فجزاك الله خيراً ” .

ما لهذا جمَعَهم في هذه الظهيرة القائضة ، بل هو يعدّهم لنبأً مُرتقب ، ويُهيّئ النفوس لبلاغ خطير هذا أوانه ، تحدّث إليهم مرّات عن صدقه في ” البلاغ ” ، كما تكلّم عن ” الثقلين ” وأوصى بهما ، ثمّ انعطف يحدّثهم عن موقعه الشاهق العليّ في الأُمّة ، وطلب منهم أن يشهدوا بأولويّته على أنفسهم ، حتى إذا ما شهدوا له بصوت واحد ، أخذ بعضد عليّ بن أبي طالب ورفعه ، فزاد من جلال المشهد وهيبته ، ثمّ راح ينادي بصوت عالي الصدح قويّ الرنين : ” فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ” .

قال هذه الجملة ، ثمّ كرّرها ثلاثاً ، وطفق يدعو لمن يوالي عليّاً ، ولمن ينصر عليّاً ، ولمن يكون إلى جوار عليّ .

تبلّج المشهد عن نداء نبوي أعلى فيه رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) ولاية عليّ وخلافته ، على مرآى من عشرات الأُلوف ، وقد اجتمعوا للحجّ من جميع أقاليم القبلة ، وصدع ب‍ ” حقّ الخلافة ” و ” خلافة الحقّ ” .

فهل ثَمّ أحد تردّد في مدلول السلوك النبوي ، وأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نصب بهذه الكلمات عليّ بن أبي طالب وليّاً وإماماً ؟ أبداً ، لم يسجّل المشهد التاريخي يومئذ من استراب بهذه الحقيقة أو شكّ فيها ، حتى أُولئك النفر الذين أخطؤوا حظّهم ، وعتت بهم أنفسهم ، فأنفوا عن الانقياد ؛ حتى هؤلاء لم يستريبوا في محتوى الرسالة النبويّة ، ولم يشكّوا بدلالتها ، إنّما انكفأت بهم البصيرة ، فراحوا يتساءلون عن منشأ هذه المبادرة النبويّة ، وفيما إذا كانت من عند نفس النبيّ أم وحياً نازلاً من السماء .

انجلى المشهد عن عليّ بن أبي طالب وهو متوّج بالولاية والإمارة ، فانثال عليه كثيرون يهنّئونه من دون أن تلوح في أُفق ذلك العصر أدنى شائبة تؤثّر في نصاعة هذه الحقيقة أو تشكّك فيها ، فهذا هو عمر بن الخطّاب نهض من بين الصفوف المهنّئة ، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقوله : ” هنيئاً لك يا بن أبي طالب ! أصبحت اليوم وليّ كلّ مؤمن ” ( 75 ) .

بيد أنّ الأمر لم يمضِ إلى مداه وغايته على هذه الشاكلة ؛ إذ سرعان ما حصل الانقلاب بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتغيّر الواقع ، وراح البعض يقلب الأُمور وهو يسعى أن يُلبس رداء الخلافة غير أهله . لكن هيهات ! حيث لم يشقّ الشكّ طريقه إلى هذه الفضائل أبداً ، ولم ينفذ الظلام إلى هذا النور المتبلّج ، فراح القوم يبحثون عن ذرائع أُخرى فما الذي فعلوه ؟ لقد سَعوا بعد مدّة أن يشكّكوا من جهة في دلالة هذا الحديث الشريف على ” الإمامة والولاية ” ، ويثيروا الشبهات من جهة ثانية حول سنده .

لقد توفّرنا على إيراد نصوص كثيرة في المتن ، ونودّ الآن أن نسلّط الضوء على بعض الحقائق الكامنة في الحديث من خلال دراسة وتحليل محتواه وسنده ودلالته ، وذلك في إطار النصوص التي مرّت ومعلومات أُخرى .

 

سنمضي مع هذه الجولة التحليليّة من خلال العناوين التالية :
1 – سند الحديث

حديث الغدير من أبرز الأحاديث النبويّة وأكثرها شهرة ، صرّح بصحّته بل بتواتره عدد كبير من المحدّثين والعلماء ( 76 ) . على سبيل المثال : نقل ابن كثير عن الذهبي : ” وصدر الحديث ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) متواتر ، أتيقّن أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قاله ” ( 77 ) .

وقال الذهبي في رسالته : حديث ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” ممّا تواتر ، وأفاد القطع بأنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قاله ، رواه الجمّ الغفير والعدد الكثير من طرق صحيحة، وحسنة، وضعيفة، ومطّرحة، وأنا أسوقها:. . . (78).

وقد أحصى العلاّمة الأميني مائة وعشرة من أعاظم الصحابة رووا الحديث ، ثمّ ذكر في نهاية الجولة أنّ من فاته منهم أكثر من ذلك بكثير ( 79 ) .

أمّا المحقّق الراحل السيّد عبد العزيز الطباطبائي ( رحمه الله ) فقد ذكر في هامش على كلام صاحب الغدير ، أنّ هناك عدداً آخر من الصحابة رووا الحديث ، قد استوفاهم في كتابه ” على ضفاف الغدير ” ( 80 ) .

ثمَّ في موسوعة ” الغدير ” فهرس كبير تقصّى رواة حديث الغدير من التابعين .

أمّا العالم الغيور السيّد حامد حسين الهندي الذي أمضى عمره دفاعاً عن الولاية وحريم التشيّع بمثابرة عجيبة ومن دون تعب أو كلل ، فقد خصّص جزءاً كبيراً من موسوعته الخالدة ” عبقات الأنوار ” لحديث الغدير ، حيث كشف فيه عن أسانيد الحديث تفصيلاً ، وضبط طرقه ورواته ( 81 ) ، ثمّ استوفى الكلام في نقد من ذهب إلى عدم تواتر الحديث ، كاشفاً خطل هذه الدعوى وعدم صوابها بأدلّة دامغة وافية ( 82 ) .

على ضوء هذه المعطيات يبدو أنّ الكلام عن سند الحديث وصحّته هو من فضول الكلام ، وممّا لا جدوى من ورائه . لذلك كلّه سنكتفي بشهادات عدد من المحدّثين ، قبل أن نترك هذه النقطة إلى بُعد آخر من أبعاد البحث :

ذكر الحاكم النيسابوري الحديث في موضع من ” المستدرك على الصحيحين ” ، ثمّ كتب بعد ذلك : ” هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه ” ( 83 ) .

كما قال في موضع آخر بعد نقل الحديث : ” هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه ” ( 84 ) .

أمّا الترمذي فقد ذكر بعد أن نقل الحديث في ” السنن ” : ” هذا حديث حسن صحيح ” ( 85 ) .

وعند ترجمة الذهبي لابن جرير الطبري ، كتب : ” لمّا بلغه – ابن جرير – أنّ ابن أبي داود تكلّم في حديث غدير خمّ ، عمل كتاب الفضائل ، وتكلّم على تصحيح الحديث . قلت : رأيت مجلّداً من طرق الحديث لابن جرير ، فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق ” ( 86 ) .

وكتب ابن حجر : ” وأمّا حديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فقد أخرجه الترمذي والنسائي ، وهو كثير الطرق جدّاً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح حسان ” ( 87 ) .

أمّا كتاب ابن عقدة الموسوم ب‍ ” حديث الولاية ” فقد كان متداولاً بين العلماء حتى القرن الهجري العاشر تقريباً ، وعنه كتب السيّد ابن طاووس يقول : ” وقد روي فيه نصّ النبيّ صلوات الله عليه على مولانا عليّ ( عليه السلام ) بالولاية من مائة وخمس طرق ” ( 88 ) ( 89 ) .

ممّن أتى على نقل الحديث أيضاً ابن عساكر ؛ حيث ذكره في مواضع عدّة من مصنّفه العظيم ، ويكفيك أنّه ذكر له عشرات الطرق في موضع واحد فقط ( 90 ) .

وعلى النهج ذاته مضى عدد كبير من المحدّثين والمفسّرين والعلماء .

أفبعد هذا كلّه ، يجوز الشكّ في صدور الحديث أو في طرقه ؟ ! إنّ من يفعل هذا إنّما ينزلق إليه عن استكبار وعتوّ ورغبة في مناهضة الحقّ الصراح ، لا لشيء آخر .

 

2 – دلالة الحديث

يظهر ممّا ذكرناه في بداية البحث وما سنعمل تفصيله أكثر عبر نصوص جمّة ، أنّ أحداً لم يكن يشكّ أو يناقش في أنّ مدلول جملة : ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” إنّما كان يُشير إلى الرئاسة وتولّي الأمر ، وإلى الإمامة والزعامة ، على هذا مضت سُنّة السلف ومن عاصر الحديث ، دون أن يفهم أحد ما سوى ذلك . ولا جدال أنّ للفظ ” المولى ” في اللغة معاني أوسع من ذلك ( 91 ) ، لكن ليس ثمَّ شيء من تلك المعاني يمكن أن يكون هو المراد ، إنّما المقصود بمدلول الحديث هو الذي ذكرناه ، وفهمه الجيل الأوّل .

 

” المولى ” في الأدب العربي

إنّ تفحّص النصوص الأدبيّة القديمة ، ودراسة متون اللغة والتفسير ، ليدلّ دون ريب أنّ إحدى المعاني الواضحة ل‍ ” المولى ” هي الرئاسة والأولى بالتصرّف في أُمور ” المولّى عليه ” ، وهي بمعنى الزعامة والولاية .

وفيما يلي نستعرض بعض النصوص والشواهد اللغويّة والتفسيريّة الدالّة على ذلك :

* كتب أبو عبيدة معمر بن المثنّى البصري في تفسير الآية ( 15 ) من سورة الحديد ، عند قوله : ( هِي مَوْلَاكُمْ ) : ” أي : أولى بكم ” ( 92 ) .

ثمّ شيّد تفسيره وصوّبه على أساس بيت من الشعر الجاهلي استشهد به ، وهو :

فغدت كلا الفرجَين تحسبُ أنّهُ * مولى المخافةِ خلفَها وأمامَها لقد قصد شرّاح ” المعلّقات السبع ” على أخذ المولى في بيت لبيد المذكور بمعنى ” الأولى ” ، وعلى هذا مضوا في شرح الشعر ( 93 ) .

* كتب المفسّر والنسّابة المعروف محمّد بن السائب الكلبي ، في تفسير الآية ( 51 ) من سورة التوبة : ( قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ما نصّه : ” أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة ” ( 94 ) .

* وكتب الأديب والمفسّر الكوفي المشهور أبو زكريّا يحيى بن زياد بن عبد الله المعروف بالفرّاء ، في تفسير الآية ( 15 ) من سورة الحديد ، ما نصّه : ” ( هِيَ مَوْلَاكُمْ ) : أي أولى بكم ” ( 95 ) .

وإلى هذا ذهب أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وأبو إسحاق الزجّاج ، ومحمّد بن القاسم الأنباري وآخرون ( 96 ) .

ذكرنا أيضاً أنّ مجيء مولى بمعنى المتولّي والقيّم على الأُمور هو كذلك من بين أجلى استعمالات هذا اللفظ ، وقد صرّح به كثير منهم :

* أبو العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرّد في تفسير الآية (11) من سورة محمّد: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُواْ)، حيث كتب: ” والولّي والمولى معناهما سواء، وهو الحقيق بخلقه المتولّي لأُمورهم” (97).

* كما جاء عن الفرّاء ، قوله : ” الوليّ والمولى في كلام العرب واحد ” ( 98 ) .

* كتب المفسّر والأديب والباحث القرآني المعروف في القرن الهجري الرابع الراغب الإصفهاني ، ما نصّه : ” والولاية تولّي الأمر ، والوليّ والمولى يستعملان في ذلك ، كلّ واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي المُوالي ، وفي معنى المفعول أي المُوالى ” ( 99 ) .

* كتب المفسّر والأديب المعروف في القرن الهجري الخامس أبو الحسن عليّ بن أحمد الواحدي النيسابوري ، في تفسير الآية ( 62 ) من سورة الأنعام : ( ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ) ما نصّه : ” الذي يتولّى أُمورهم ” ( 100 ) .

* في الواقع صرّح بهذه الحقيقة علماء كثيرون نذكر من بينهم أيضاً المفسّر المعتزلي الكبير جار الله الزمخشري ، الذي كتب في تفسير الآية ( 286 ) من سورة البقرة : ( أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا ) ما نصّه : ” سيّدنا ونحن عبيدك ، أو ناصرنا أو متولّي أُمورنا ” ( 101 ) .

* أمّا ابن الأثير فقد كتب في مصنّفه القيّم ” النهاية ” الذي تناول فيه غريب الحديث النبوي وألفاظه الصعبة ، ما نصّه في معنى ” المولى ” : ” قد تكرّر ذكر المولى في الحديث ، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة . . . وكلّ من وَليَ أمراً أو قام به فهو مولاه ووليّه . . . ومنه الحديث ” أيّما امرأة نُكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل ” ، وفي رواية ” وليّها ” أي متولّي أمرها ( 102 ) .

على هذا الضوء يتّضح أنّ ” الأولويّة في الأُمور ” ، و ” تولّي الأُمور ” و ” السيادة والرئاسة والزعامة ” هي حقائق ثابتة ومعروفة في معنى المولى ، كما أنّ تساوي معنى ” المولى ” مع ” الوليّ ” هي أيضاً حقيقة أكّد عليها العلماء والمفسّرون كما مرّت الإشارة لذلك ( 103 ) .

وبذلك نحن نعتقد – كما يتّفق معنا في ذلك أيضاً المنصفون وأتباع الحقّ من جميع الفرق والمذاهب ( 104 ) – انّ ما قصده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك المشهد العظيم الخالد ، من خلال هذه الجملة المصيريّة الخطيرة ، هو الإعلان عن ” ولاية ” عليّ بن أبي طالب و ” إمامته ” و ” زعامته ” وليس أيّ شيء آخر . لقد أُعدّ المشهد وتمّت تهيئة ذلك الحشد العظيم لغرض واحد فقط ، هو إعلان الولاية العلويّة للمرّة الأخيرة على مرآى الجميع ، هو إعلان أخير لكن احتشدت فيه كلّ عناصر التأثير والجاذبية لكي يستعصي على النسيان ويستوطن وعي الجميع وذاكرتهم ، حتى إذا ما أوشكت ساعة الرحيل ومضى النبيّ إلى ربّه ؛ لا يقول قائل: لم أدرِ ما الخبر؟ أو لم أكن أعلم بالأمر ولم أسمع به!

لهذا كلّه حرص النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على أن يأخذ من القوم العهد والميثاق ، وأقرّهم مرّات على ما أبلغهم به ، حتى إذا أقرّوا له ، عاد يخاطب الجمع : ” ألا فليبلّغ الشاهد الغائب ” .

أمّا الآن فقد آن لنا أن ندرس ملازمات قلب هذا المعنى ؛ فلو قلنا إنّ مدلول هذا الحديث النبوي لم يكن يعني الولاية وقيادة الأُمّة في المستقبل ، فما هي اللوازم التي تترتّب على هذا النمط من التفسير ؟ هل ترى العقل يذعن للمشهد بمثل هذا التفسير ؟ ثمّ ننعطف إلى تحليل الواقعة ودراسة مكوّناتها وتأمّل الكيفيّة التي انبثق على أساسها المشهد ؛ لنخرج من حصيلة ذلك كلّه إلى أنّ الحقيقة تكمن فيما ذكرناه أثناء التحليل الاصطلاحي واللغوي لذلك الجزء من الحديث النبوي وحسب ، وليس ثَمَّ شيء أو أشياء وراء ذلك . والله من وراء القصد .

 

قرائن دلالة حديث الغدير على الخلافة
أ : القرائن العقليّة

1 – الحصيلة التي تجمّعت بين أيدينا حتى الآن لا تدع – باعتقادنا – مجالاً للشكّ في أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد عيّن في ذلك المشهد المهيب قائد المستقبل ، وحدّد للأُمّة الإسلاميّة الإمام المرتقب . وما يمكن أن نضيفه الآن ، أنّ من يعتقد أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن قد صدع بالولاية في ذلك الجمع العظيم ، ولم يكن قد أعلن الخلافة عبر ذلك الخطاب الذي تفجّر حماساً وتركيزاً على هذه النقطة ، ومن ثَمّ فإنّ من يذهب إلى أنّ النبيّ قد اختار موقف الصمت إزاء مستقبل الأُمّة وغد الرسالة ، لا يسعه أن يدرك مِن الذي ذكرناه دلالته على المستقبل ، وسيكون عاجزاً عن أن يفهم منه تعييناً للإمامة التي تتبوّأ القيادة بعد النبيّ .

تماشياً مع قناعة هذا النظر ينبغي أنّ نفترض أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن قد فكّر في مستقبل الرسالة ، ولم يرسم لغد الأُمّة بعده مشروعاً محدّداً واضح المعالم والأركان ، ولم يحدّد موقع الإمامة بعد غيابه ، بل ترك الأُمّة كقطيع دون راع ، وكهباء ضائع في خلاء ، ومن ثمَّ فهو لم يجهر بالحقيقة الناصعة على هذا الصعيد ولم يعلنها بلاغاً صادعاً تتناقله العصور والأجيال ! هذا مع أنّنا رأينا في مطلع البحث أنّ الفرضيّات الأُخرى حيال مستقبل الأُمّة ، غير نظريّة النصّ على القيادة ، تتّسم بأجمعها بالسقم والاضطراب وعدم الصواب .

والسؤال مجدّداً : أيقبل العقل – أيّ عقل كان – هذه السلبيّة واللامبالاة على هذا ” الطبيب الدوّار ” ( 105 ) ؟ وهل يصدق هذا على نبيّ لبث شامخاً ناهضاً متفانياً لم يتلعثم عزمه قط ، ولم يكفّ عن التفكير في مستقبل الأُمّة والرسالة لحظة واحدة ؟ حاشا رسول الله أن يفعل ذلك ، وجلّت عن ذلك حكمته وصوابه ، وحزمه وثباته .

2 – كيفيّة انبثاق المشهد وانطلاق البلاغ : حجّ المسلمون مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهمّوا بمغادرة مكّة عائدين إلى ديارهم ومواضع سكناهم بعد أن انتهت المراسم . أفواج تتلوها أفواج ، وقوافل يتبع بعضها أثر بعض ، تترك البيت العتيق قاصدة العودة بأهلها من حيث أتوا . كذلك مضت قافلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ترسل خطاها الثابتة صوب المدينة .

اقتربت القافلة النبويّة من ” وادي خمّ ” وهو واد موصوف بكثرة الوخامة وشدّة الحر ( 106 ) ، فجاء وحي السماء من فوره ، يأمر النبيّ أن يقف حيث هو . وراح منادي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمر من تقدّم أن يعود ، ويحبس من تأخر ؛ ليجتمع الناس سواءً في مكان واحد ، حيث لم تتشعّب بهم الطريق بعد .

أرض جرداء غير مسكونة مفتوحة على صحراء ممتدّة الشمس فوق الرؤوس حارّة لاهبة ، وقد أمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أن يصنعوا له موضعاً يرتقيه من أقتاب الإبل ، حتى إذا خطب بالحاضرين يراه الجميع ويسمعونه .

احتشد المكان بعشرات الأُلوف ( 107 ) ، أدّى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) صلاة الظهر ، ثمّ راح يستعدّ لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمّع ، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلى حيث يقف النبيّ مستعدّاً لأمر مهم . الشمس تستقرّ في كبد السماء فترسل بأشعّتها الحارقة ، فتتحوّل الصحراء في تلك الظهيرة إلى كتلة ملتهبة . الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علّها تقيهم شيئاً من الرمضاء الحارقة وأشعّة الشمس المتوهّجة ، وبعضهم يفىء إلى المتاع والرحال يلوذ بظلاله .

مشهد يقتحم الذاكرة ويستعصي على النسيان . رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصعد الموضع الذي صنعوه مِن الرحال وأقتاب الإبل ، وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ بكلماته الأفئدة والأسماع ، ويُلقي خطبته على عشرات الأُلوف من المسلمين الذين أنهوا الحجّ لتوّهم .

بدأ الخطبة ، حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ راح يُشهدهم مرّات ومرّات على جهده الحثيث في إبلاغ الرسالة ، وما بذله لهم من النصيحة في دين الله ، وبجهاده العظيم في سبيل الدعوة . فشهدوا له وشهدوا ، وردّدوا ذلك بصوت واحد . كان هذا كلّه كالتمهيد ، حتى إذا ما تطلّعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الكلام النبوي من مغزى ، أزِفت اللحظة الموعودة ، فما كان من النبيّ إلاّ أن أخذ بعضد عليّ ورفعه حتى بان بياض آباطهما ، وصدع يقول : ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” .

والآن هلمّوا نُبصر المشهد ، ونتأمّل فيه عن كثب . ما الذي كان يبتغيه النبيّ بكلّ هذا التمهيد ، وفي فضاء مثل هذا تحتشد فيه الأُلوف المؤلّفة ؟ وما الذي كان يُريده من إعلان هذا الكلام وسط جوّ حارّ ملتهب يتجمهر فيه هذا الجمع العظيم ؟

هل كان ما يقصده من قوله : ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” هو الإعلان عن حبّ عليّ ( عليه السلام ) وحسب ؟ ألم يتحدّث النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إلى الناس في أكثر من موضع من حجّته الأخيرة ؛ حجّة الوداع العظيمة ، عن أهل بيته ، ويركّز على مودّتهم من بين ما تحدّث به إلى المسلمين . أفتراه الآن جمع الأُلوف في هذه الرمضاء التي تشتعل النار في ترابها ، طالباً منها الإصغاء إلى كلامه ، وإلى أن يُبلّغ الشاهد الغائب ؛ لمحض أن يوصيها بحبّ عليّ !

أيحتاج حبّ عليّ إلى وصيّة وهو سيّد المؤمنين وأميرهم والشخصيّة الخارقة في مدرسة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) حيث لا تُضاهي مكانتها شخصيّة في هذا الدين ؟ ثمّ أليس المؤمنون مأمورون في كتاب الله بحبّ بعضهم بعضاً ، ومن ثمّ هم مأمورون بحبّ عليّ بالضرورة ؟ فهل يحتاج كلام كهذا إلى كلّ هذا التمهيد والإعداد ؟

سبق أن عرضنا أحاديث ” حبّ عليّ ” وقد ركّزنا هناك أيضاً إلى أنّها تنطوي على مدلول أعظم ، وغاية أسمى تتخطّى حدود الحبّ الصوري العادي . ولطالما تساءلنا عن هذا العناء الذي تجشّمه الناس في تلك الظهيرة الحارقة ؛ فهل كانت هذه المشقّة والأذى البليغ من أجل أن يسمع الناس كلاماً يوصيهم بحبّ عليّ ؟ !

تكشف هذه المؤشّرات بأجمعها أنّ ما كان يبتغيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بجملته تلك يتخطّى هذه التصوّرات العاديّة ، ويتجاوزها إلى مدلول أهمّ وأخطر ، هذا المدلول هو الذي أملى على النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أن يعدّ – بأمر الله – هذا المشهد العظيم بوقائعه الأخّاذة ، ومعانيه التي لا تُنسى ، كي يصدع مرّة أُخرى بذلك البلاغ الخطير ، بأُسلوب أوضح ، حتى يعود المسلمون إلى ديارهم ومواطن سكناهم وفي أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول ، وفي ضمائرهم والعقول يستقرّ ذلك البلاغ الخطير .

هل لعقل أن يفهم من المشهد غير هذا ؟ وهل ثمّ عقل يسيغ تلك التوجيهات والدعاوى الواهية التي ساقوها من حول الواقعة ! ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) ( 108 ) .

 

ب : القرائن في الواقعة نفسها    

1 – نزول الآيتين

لا جدال في أنّ الآيتين ( 3 ) و ( 67 ) من سورة المائدة نزلتا بشأن واقعة الغدير ، فقد نزل الأمر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالبلاغ ( الآية : 67 ) فأعدّ له ذلك المشهد المهيب الذي تجمّعت فيه آلاف الأُلوف ، حتى إذا ما انتهى النبيّ من البلاغ ، ومن قوله :

” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” نزلت الآية الأُخرى وهي تتحدّث عن إكمال الدين وتمام النعمة .

هذه حقيقة وثّقت لها كثرة كبيرة من الروايات والأخبار بحيث لم يعد فيها أدنى شكّ . والسؤال : لقد نزلت الآية ( 67 ) وهي تحتّم على النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إبلاغ أمر إذا ما تخلّف عنه فكأنّه لم يبلّغ الرسالة بالمرّة ، كما تُشير إلى أنّ ما ينبغي إبلاغه لهو من الخطورة بحيث يبعث الخيفة والتوجّس ، ويُثير خصومة المعاندين وعداوتهم ؛ فهل يتّسق هذا كلّه والزعم أنّ الآية نزلت بشأن شيء من الشرائع وبعض الحلال والحرام ! لقد كان واضحاً أنّ إبلاغ الشرائع وأحكام الحلال والحرام لا يستحقّ من النبيّ الخشية والتوجّس ، كما لا يستتبع من الآخرين المعارضة والعناد .

إنّه لأمر غريب ما ذهب إليه عدد من المفسّرين ! فعندما عجز هؤلاء عن رؤية الحقيقة – أو لم تكن لهم رغبة برؤيتها – تراهم جنحوا لمزاعم واهية وأقوال لا نصيب لها من الصواب .

إنّ أهمّية الآيتين وتحديد زمن نزولهما ، يدفعنا إلى تخصيص بحث مستقلّ لكلّ واحدة منهما ( 109 ) .

 

2 – محتوى الخطبة

إنّ الطريقة التي بدأ بها النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) خطبته ، وكيفيّة إدامتها ، والطريقة التي اختار بها عرض الموضوع ، والنسق الحماسي المؤثّر الذي شاب كلمات الرسول وذلك الإيقاع المتحرّق الأخّاذ في كلماته ، كلّ ذلك لا يدع مجالاً للشكّ في أنّ الموضوع أهمّ وأخطر بكثير ممّا تصوّره البعض .

لنبقَ مع إحدى الصيغ التاريخيّة التي توفّرت على بيان النصّ ، ثمّ نتأمّل ما فيه من إيحاءات. عن حذيفة بن أسيد، قال:

” لمّا قفل رسول الله من حجّة الوداع نهى أصحابه عن شجرات بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهنّ ، ثمّ بعث إليهم فصلّى تحتهنّ ، ثمّ قام فقال : أيّها الناس ! قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله ، وإنّي لأظنّ أن يوشك أن أُدعى فأُجيب ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ، فجزاك الله خيراً .

قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ قالوا : بلى نشهد بذلك . قال : اللهمّ اشهد ، ثمّ قال : يا أيّها الناس ! إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ؛ من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه .

ثمّ قال : أيّها الناس ! إنّي فرطكم وإنّكم واردون على الحوض ، حوض أعرض ممّا بين بصرى وصنعاء ، فيه آنية عدد النجوم قِدحان من فضّة ، وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؛ الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا ، وعترتي أهل بيتي ؛ فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ” ( 110 ) .

إنّ نسق بيان الخطبة ليدلّ على أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) راح بادئ الأمر يهيّئ القلوب ويعدّها ، ويدفع بالأفكار إلى التأمّل ، ويحثّ الآذان على الانتباه والإصغاء ، حتى تنفتح بصائر القلوب ، فيملأ الأفئدة إيماناً ، وتستوطن كلماته النديّة الشجيّة  لأعماق ، ذلك كلّه لكي لا ينقلب أحد من الناس في الغد وما بعد الغد إلى إنكار ما سمع من خطاب الرسول إلاّ أن يكون ذلك عن ضلالة وعمى ، وعن عناد أمام الحقّ الصراح .

تحدّث النبيّ صراحة بأنّ ساعة الرحيل قد أوشكت ، وما أقرب أن يُودّع الأُمّة إلى الرفيق الأعلى ؛ كي يحفّز بذلك الأذهان ويستحثّها للتفكير بأمر الخلافة ، ويدفعها للتأمّل في الصيغة التي تستمرّ فيها القيادة من بعده .

لقد جاءت كلمات النبيّ : ” إنّي مسؤول ، وأنتم مسؤولون ” لتلقي شحنة مركّزة وقويّة على المسؤوليّة العامّة الملقاة على عاتق الجميع ، وكأنّه ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أنا مسؤول أن أصدع بالحقّ وأهتف بالحقيقة كما هي ، وأنتم مسؤولون أن تُصغوا وتتأمّلوا ثمّ تعملوا .

ثمّ انعطف يتساءل : لقد مكثت فيكم سنوات مديدة أُبلّغ رسالات ربّي فماذا أنتم قائلون ؟ أجاب الحشد بصوت واحد عالي الرنين ، رفيع الصدى : نشهد أنّك قد بلّغت وجاهدت ، فجزاك الله خيراً .

واستمرّ النبيّ يسترسل بتساؤلاته إلى الجمع المحتشد أمامه ، عن أُصول ما جاء به إليهم ، فشهدوا بالتوحيد والرسالة ، وأنّه الأولى عليهم من أنفسهم في جميع شؤون الحياة ، فأشهد الله عليهم قائلاً : اللهمّ اشهد .

هي ذي اللحظة الموعودة أزفت ، إنّ هذا كلّه كان كالتمهيد ، ترقّب عارم يحفّ بالمشهد ، الأبصار تطمح تلقاء المُحيّا النبوي ، الآذان مشدودة إليه ، وتساؤلات تسكن الأعماق : ما الذي يريد أن يقوله النبيّ من وراء ذلك ؟

تدفّقت الكلمات من فم النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : ” من كنت مولاه فهذا مولاه ” .

وطفق النبيّ بعدها يدعو لمن والاه ، وأنّ من يعتو عن هذا الأمر ، ويعلو عليه ، ولا يسلّم لصاحب الولاية بولايته ، فهو في الحقيقة يُعلن المعركة ضدّ الرسول ، ويشهرها حرباً على النبيّ نفسه .

أبعد هذا يسفّ بعاقل رأيه ، ويتداعى به حزمه ، فيزعم أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعل ذلك كلّه كي يوصي بحبّ علي ؟ !

رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعلم أنّ في قومه من لا يطيق هذه الحقيقة ، وأنّ فيهم من سيحرّض على ” المولى ” ويحشّد الصفوف لمواجهته ، جامحاً عن الحقّ ، فشدّد وحذّر ، ثمّ ما لبث أن تحوّل إلى جانب آخر ، ليعيد تأكيد الأمر من بُعد جديد .

ذكر القيامة ، وعاد ينبّه إلى لحظة الفراق ، مشيراً : إنّني أُوشك أن أُدعى فأُجيب ، لكنّي أتوجّس المستقبل ، فماذا أنتم فاعلون ! موعدنا هناك ، على الحوض ، ستجدوني أقف بانتظاركم ، أترقّبكم كيف ترِدون .

صلّى الله عليك يا ضياء العالم ، ويا سراج الوجود المنير ، لقد صدعت بكلمات الله ، وبلّغت رسالة السماء بما هي أهله ، وأدّيت حقّ ” الحقّ ” أُداءً شرُفت به الحياة ، وأضاءت به مقادير الإنسان .

صلّى الله عليك ، وقد صدعت بولاية عليّ بصدر مشحون بالغصص والآلام ، لعلمك بالمدى الذي ستبلغه مكائد القوم واحَنهم ، وهي توشك أن تنطلق قويّة ضارية ، تحيك المؤامرات والمتاعب من كلّ حدب وصوب . بيد أنّك حفظت للحقّ حرمته ، وأدّيت الأمانة .

فسلام عليك – نُزجيه خاشعين – عمّا أعطيت وهديت ، وعلى الذين نهجو نهجك الوضّاء ، وسلكوا سبيلك ، وبذلوا مهجتهم فيك .

 

3 – تتويج عليّ يوم الغدير

هو ذا نبيّ الله يضع عمامته على رأس عليّ ليزداد المشهد أُبّهةً وجلالاً ، فهو بحقّ : نور على نور .

رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يهبط من المكان الذي وُضع له لحظة أن صدع بأخطر بلاغات السماء ، تتهادى إلى نفسه المقدّسة عذوبة شفيفة ، تسكن روحه طمأنينة باذخة ، ورضى أحسّ به بعد أن انتهى من إبلاغ الأُمّة أمر ربّه . الناس يتجمهرون حول النبيّ حلقاً حلقاً . لا ريب أنّ القلوب تموج بمشاعر مختلفة لما حصل .

ما الخبر ؟ عليّ أصبح خليفة النبيّ ؟ لم يكن قلّة أُولئك الذين تجاهلوا كلّ جهود النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وما بذله في سبيل هذا الأمر منذ أوّل أيّام البعثة حتى هذه اللحظة ، وما كان اصرارهم على العناد قليلاً ، لذلك شعر النبيّ أنّ مهمّته لم تكتمل بعد ، فلابدّ من المزيد إمكاناً في ترسيخ الأمر ، وإبلاغاً في الحجّة .

نادى على عليّ ( عليه السلام ) ، وتوّج رأسه بعمامته ” السحاب ” . لقد ألفت أعراف ذلك العصر تتويج من يتسنّم زمام الحكم ، وعلى هذا جرى الملوك والأُمراء ، والآن هو ذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد نصب عليّاً للحكم ، يضع على رأسه العمامة ؛ لأنّ ” العمائم تيجان العرب ” ( 111 ) .

كما حدّثوا عن ثقافة ذلك العصر أنّ العرب عندما كانوا يَنتخِبون شخصاً للإمارة ويسوّدونه عليهم ، كانوا يضعون على رأسه ” عمامة ” في سلوك كان يدلّ على تثبيت الحاكميّة والولاية ( 112 ) .

لقد تحدّث عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن هذه المكرمة النبويّة العظيمة ، بقوله : ” عمّمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم غدير خُمّ بعمامة ” .

كما وثّق المحدّثون والمؤرّخون مراسم هذا التتويج المهيب الذي ينبئ عن العظمة والجلال ، فكان ممّا كتبوه : ” أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) دعا عليّ بن أبي طالب يوم غدير خمّ ، فعمّمه وأرخى عذبة العمامة من خلفه ” .

وكتبوا أيضاً ( 113 ) : ” إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمّم عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) عمامته السحابة ” ( 114 ) .

لقد دلّل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بتتويج عليّ ( عليه السلام ) بعمامته ” السحاب ” على هذه الهيئة الخاصّة ، وفي ذلك المشهد وبعد البلاغ ، على أنّه لم يكن يقصد من وراء خطبته وكلماته السامية ، غير نصب عليّ للولاية ، ولم يكن له غرض يصبو إليه من جميع ذلك ، إلاّ أن يعلن إمامة أمير المؤمنين وزعامته للأُمّة ( 115 ) .

4 – التسليم بالإمارة

نزل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) من المنبر الذي صنعوه له من أحداج الإبل ، ثمّ أمر المؤمنين أن يُسلّموا على عليّ ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين . يقول بُريدة الأسلمي : ” أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن نُسلّم على عليّ ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين ” . ( 116 )

5 – التهنئة بالولاية والإمارة

لقد أسفرت تصريحات ذلك اليوم عن وجه الحقيقة ، حتى لم يفهم الحاضرون من الواقعة ومن البلاغ غير نصب عليّ ( عليه السلام ) للولاية ، لذلك اندفعوا صوب الإمام أمير المؤمنين يهنّئونه بالولاية . والطريف أنّ الذين تقمّصوا الأمر بعد ذلك كانوا في طليعة المبادرين لتهنئة الإمام ، ومن بينهم الخليفة الثاني الذي بادر الإمام بقوله : ” هنيئاً لك يا بن أبي طالب ! أصبحت اليوم وليّ كلّ مؤمن ” .

لقد توفّرت مصادر حديثيّة وتاريخيّة كثيرة على توثيق تهنئة عمر وضبطها بألفاظ عديدة ، كما توفّرت أيضاً على ضبط تهاني الآخرين ( 117 ) .

6 – شعر الشعراء

يحظى فهم الأُدباء والشعراء لمفردات اللغة وألفاظها بعناية خاصّة في جميع الثقافات ، فإذا ما تعددت احتمالات المعنى ترى العلماء يُهرَعون إلى فهم الأُدباء والشعراء ليستندوا إليه في الترجيح .

وفي يوم الغدير ، حيث كان النبيّ قد نزل المنبر للتوّ ، نهض حسّان بن ثابت من فوره ، واستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقول في الواقعة أبياتاً من الشعر ، فأذن له النبيّ ، فراح ينشد قصيدته العصماء ، ومطلعها :

يناديهُم يوم الغدير نبيّهم * بخمٍّ وأسمِع بالرسول مناديا

إلى أن قال :

فقال له قم يا عليُّ فإنّني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فلمّا فرغ قال النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : ” لا تزال يا حسّان مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ” .

يتّضح من غديريّة حسّان أنّه فهم من الواقعة ومن قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، النصَّ على إمامة عليّ بن أبي طالب ، وقد أيّده النبيّ ولم يُنكر عليه ( 118 ) . وعلى هذا مضى شعراء كثيرون بعد حسّان بن ثابت ؛ حيث استلهموا في شعرهم وقصائدهم إمامة عليّ وولايته من هذه الواقعة وما صدر فيها .

من جهته استند العلاّمة الشيخ عبد الحسين الأميني في موسوعته الضخمة ” الغدير ” على مثل هذا الشعر من بين ما استند إليه ، قاصداً تحليل محتواه ودراسة مراميه الدالّة على الولاية والإمامة . ( 119 )

7 – إنكار الولاية ونزول العذاب

صدور موبوءة بالحسد ، موغرة بالحقد والضغينة ، لا لشيء إلاّ لأنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أعلن اسم عليّ ونصبه للولاية وإمامة الأُمّة من بعده . راح هؤلاء يُرجِفون ، ويبثّون السفاهات ، لكن ندّ مِن بينهم رجل كان أكثرهم وقاحة ، وأجرأهم على الحقّ ، نظر بعين الشكّ إلى ما قام به النبيّ من نصب عليّ للإمامة ، فأسرع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تسبقه أحقاده ، فسأله بجلف وفجاجة ، عن الذي جاء به ، وفيما إذا كان منه أم من الله ، فردّ عليه نبيّ الله ثلاث مرّات مشفوعة بقسم أنّ ما جاء به هو من عند الله ، وهو أمر السماء لابدّ له فيه . لكنّ الرجل مضى بنفس متبلّدة داجية ، وروح منهوكة مهزومة تُحيط بها ظلمة حالكة من كلّ صوب ، وهو يسأل الله بتبرّم وسخط أن يُسقِط عليه حجارة من السماء أو يأتيه بعذاب أليم إن كان ما يقوله حقّاً .

لم يكد يبتعد عن النبيّ خطوات ، حتى نزل به العذاب ، إذ رماه الله بحجر قتله من فوره ، بعد أن وقع على هامته ، وأنزل الله سبحانه : ( سَأَلَ سائل بِعَذَاب وَاقِع ) ( 120 ) .

المهمّ في هذه الواقعة ما فهمه سائل العذاب ، فهذا الرجل فهم من قول النبيّ :

” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” دلالته على الإمامة والرئاسة والقيادة ، بدليل قوله في سياق ردّه على النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : ” ثمّ لم ترضَ حتى نصبت هذا الغلام ، فقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ” ! إذ من الجليّ أنّ حبّ عليّ وإظهار مودّته لو كانا هما المقصودين في كلام النبيّ ، لما استدعى الأمر كلّ هذا الحنق والغضب من الرجل ، ولما استتبع عصيانه وطغيانه ( 121 ) .

8 – اعتراف الصحابة

لم يكن ثمّةَ من الصحابة في ذلك العصر مَن فهم من الكلام النبوي غير دلالته على مفهوم الإمامة والقيادة . حتى مرضى القلوب أظهروا الذي أظهروه لضعف اعتقادهم، وإلاّ لم يشكّ منهم أحد قط في مدلول الكلام النبوي ومعناه.

منذ ذلك المشهد وبعده – حيث استمرّ الأمر بعد ذلك سنوات أيضاً – كان هناك على الدوام من يُطلق على الإمام عليّ عنوان المولى ، ويخاطبه ويسلّم عليه به .

وعندما كان الإمام عليّ ( عليه السلام ) يستوضح هؤلاء ويسألهم عن هذا الاستعمال ، كانوا يُجيبوه : ” سمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم غدير خُمّ يقول : من كنت مولاه فإنّ هذا مولاه ” ( 122 ) .

وقد أكّد عمر بن الخطّاب نفسه على هذه النقطة مرّات ، كما فعل ذلك عدد آخر من الصحابة أيضاً . والسؤال : هل أراد هؤلاء بمناداتهم عليّاً بالمولى ، استناداً إلى الواقعة وإلى مدلول حديث الغدير ؛ هل أرادوا بذلك ” الحبيب ” و ” النصير ” ؟ إنّ الجنوح إلى مثل هذا الفهم لا تبرّره إلاّ اللا أُباليّة كما ينمّ عن عدم الانصياع إلى أبسط الحقائق اللغويّة والبيانيّة وأوضحها .

9 – مناشدة الإمام

عندما رأى الإمام عليّ ( عليه السلام ) أنّ الجهاز السياسي الحاكم راح ينتهز الفرصة في تجاهل الواقعة وكتمانها ، بادر إلى أُسلوب فاعل لمواجهة ذلك . لم يلجأ الإمام إلى مواجهة الوضع الجديد على أساس صدامي مباشر ، ولم يَر من المناسب أن يلتحم في معركة حامية تثير الفتنة والاضطراب ، لأسباب كان يقدّرها ، ومرّت إليها الإشارة في موضعها . بيد أنّه لم يكفّ يده قط عن إظهار الحقّ ، والإجهار بالحقيقة وبما كان قد حصل يوم الغدير مستفيداً من أيّة فرصة تؤاتيه لإعلان ذلك . فإذا ما واجه أحدهم الإمام بسؤال كان يُجيبه بصراحة ، وإذا ما كان بين الناس ورأى الأجواء مؤاتية بادر هو للحديث عن واقعة الغدير طالباً ممّن كان حضر الواقعة من الحاضرين أن يشهدوا بما أبصروا ورأوا .

كما كان يحصل أحياناً أن يقسم الإمام على أشخاص لاذوا بالصمت خوفاً أو طمعاً ، ويحثّهم على إظهار الحقّ والصدع به ، حتى لا تضيع الحقيقة وتندثر في مطاوي النسيان .

إنّ الوقائع من هذا القبيل كثيرة ، وقد اشتهرت في تصانيف المحدّثين والمؤرّخين ب‍ ” المناشدة ” ، وقد حصلت بوفرة سواء في عهد عزلة الإمام أو في عصر خلافته ، لكي لا يضيع الحقّ على الجيل الجديد ، ولا تلتبس عليه الحقيقة ، ويصير ضحيّة التجهيل والتضليل .

من ذلك ما ذكروه ، من أنّ الإمام حضر في مجتمع الناس بالرحبة في الكوفة واستنشدهم بحديث الغدير ، حيث قالوا : نشد عليّ ( عليه السلام ) الناس في الرحبة من سمع النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) يقول يوم غدير خُمّ ما قال ، إلاّ قام . فقام بضعة عشر رجلاً من الصحابة ( 123 ) .

لقد دأب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على تأكيد هذه الحقيقة دائماً وفي كلّ مكان ، حيث راح يحثّ من حضر الواقعة على الإدلاء بشهادته ، كي لا يضيع حقّ ” الحقّ ” ولا يلفّه النسيان . على هذا كانت شهادة هؤلاء القوم مهمّة بالنسبة إلى الإمام ، وعندما اختار بعضهم – ممّن لم يُرتقب منه ذلك أبداً – الكتمان والامتناع عن إبداء الشهادة ، دعا عليهم الإمام بألم وتوجّع ( 124 ) .

أفيكون كلّ هذا الحثّ والإصرار ، والحرص والتحرّق على إضاءة المشهد وإبقاء الواقعة حيّة لا تُنسى ، لمحض أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال في جملة : أحبّوا عليّاً وانصروه ! ثمّ هل لنا أن نتصوّر أنّ الجهاز الحاكم فرض السكوت على تلك الجموع الكثيرة التي حضرت الواقعة ، بحيث كان الإمام عندما ينشدهم لم تنهض منهم إلاّ قلّة ضئيلة فيما تلوذ الأكثريّة بالصمت خوفاً أو طمعاً ، إنّما كان من أجل أن يحولوا بين القلوب والنفوس وبين جملة أوصى بها النبيّ بحبّ عليّ ؟
كلام المعصومين في تفسير الحديث

ذكرنا مراراً أنّ الذين حضروا مشهد الغدير فهموا من قول النبيّ : ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” دلالته على الولاية والإمامة والرئاسة ، على هذا الأساس انطلقوا لتحيّة الإمام بالإمارة وتهنئته بالولاية ، على المسار ذاته تحرّك الأُدباء والشعراء ، فضمّنوا شعرهم وقصائدهم هذه الحقيقة التي فهموها وتركوها وثيقة للتاريخ ، كما يشذّ عن ذلك الفهم حتى أُولئك الضُّلاّل الذي تعثّرت بهم بصيرتهم فاختاروا الضلالة على الهدى .

ما نودّ التأكيد عليه في خاتمة هذه القرائن ، أنّ الأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ) أعلنوا هذه الحقيقة في تفسير الحديث مرّات ومرّات .

أجل ، لم يصدر عن أُولئك الكرام ، وهُم هُم في البلاغة والعلم ، وهم ” أهل البيت ” ، و ” أدرى بما في البيت ” ؛ لم يصدر عنهم في مواضع متعدّدة قط سوى هذا التفسير .

ونختم بنصّ من هذه النصوص الوضيئة التي تتضوّع مسكاً – وختامه مسك – حيث سأل أبو إسحاق الإمام عليّ بن الحسين ، بقوله : ما معنى قول النبيّ : ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ؟ ” .

قال : ” أخبرهم أنّه الإمام بعده ” .

إنّ أمثال هذه النصوص التفسيريّة كثير في ميراث أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولا جدال أنّ تفسيرهم مقدّم على كلّ تفسير ( 125 ) .

 

بعد الغدير

قفل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عائداً إلى المدينة بعد أن انتهى من الحجّ وأبلغ ولاية عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) . لم يعترض على البلاغ النبوي علناً وبشكل صريح إلاّ شخص واحد ، أمّا البقيّة فقد انطوت على الصمت ولم تجهر بخبيئة نفسها . تفرّق الناس في البوادي والصحاري قاصدين ديارهم ، ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة مع أصحابه .
محاولة لتثبيت محتوى ” الغدير “

راح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يُمضي أيّامه الأخيرة في المدينة ، وموجات السرور تطفح بالبشر على وجهه الأقدس ، وهو يشعر بالرضى وقد انتهى من أداء آخر المسؤوليّات وبلّغ آخر كلمات السماء وأخطرها . بيد أنّه كان يعرف بعلمه الذي يستمدّه من وراء الملكوت ، ما يجري في داخل المجتمع ، وله دراية بجميع المؤامرات والمكائد والعداوات التي توشك أن تنطلق في المستقبل القريب قويّة ضارية . لذلك كلّه راح يستفيد من الفرصة المتبقّية لكي يُحكم ما كان قد بلّغه ويرسّخه أكثر فأكثر . لقد سجّل الجهد النبوي على هذا الصعيد مبادرتين عظيمتين على الأقلّ ، نشير إليهما في الفصل الآتي .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
( 74 ) راجع : كتاب ” الغدير ” : 1 / 9 .
( 75 ) راجع : حديث الغدير / التهنئة القياديّة .
( 76 ) راجع : نفحات الأزهار : 6 / 377 .
( 77 ) البداية والنهاية : 5 / 214 .
( 78 ) رسالة طرق حديث ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” للذهبي : 11 .
( 79 ) الغدير : 1 / 60 .
( 80 ) هذا الكتاب مخطوط ولم يطبع حتى الآن ، راجع : هامش الغدير ( طبعة مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة ) : 1 / 144 .
( 81 ) راجع : نفحات الأزهار : ج 6 – 9 .
( 82 ) نفحات الأزهار : 6 / 377 – 415 .
( 83 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 118 / 4576 .
( 84 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 613 / 6272 .
( 85 ) سنن الترمذي : 5 / 633 / 3713 .
( 86 ) تذكرة الحفّاظ : 2 / 713 / 728 . ولمزيد الاطّلاع حول كتاب الطبري وأهمّيته راجع : كتاب ” الغدير في التراث الإسلامي ” : 35 .
( 87 ) فتح الباري : 7 / 74 .
( 88 ) الإقبال : 2 / 240 .
( 89 ) راجع : كتاب ” الغدير في التراث الإسلامي ” : 45 ، حيث توفّر المؤلّف على بيان أهمّية كتاب ابن عقدة وتأثيره في الكتب التالية له بدقّة كافية .
( 90 ) راجع : تاريخ دمشق : 42 / 204 – 238 .
( 91 ) راجع : الغدير : 1 / 362 ، حيث استعرض عدداً من هذه المعاني .
( 92 ) مجاز القرآن : 2 / 254 .
( 93 ) شرح المعلّقات السبع للزوزني : 210 ، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات للأنباري : 565 وراجع الغدير : 1 / 345 .
( 94 ) البحر المحيط : 5 / 53 .
( 95 ) معاني القرآن : 3 / 124 ، تفسير الفخر الرازي : 29 / 228 .
( 96 ) راجع : نفحات الأزهار : 8 / 86 – 140 والغدير : 1 / 345 .
( 97 ) الشافي : 2 / 271 .
( 98 ) معاني القرآن : 2 / 161 ؛ الشافي : 2 / 271 .
( 99 ) مفردات ألفاظ القرآن : 885 .
( 100 ) الوسيط في تفسير القرآن المجيد : 2 / 281 .
( 101 ) الكشّاف : 1 / 173 .
( 102 ) راجع : النهاية : 5 / 228 . والطريف أنّ ابن الأثير عدّ حديث الغدير منطبقاً على هذا المعنى ، وقد استشهد في ذلك بكلام عمر : ” أصبحت مولى كلّ مؤمن ” ، حيث قال : ” أي وليّ كلّ مؤمن ” .
( 103 ) راجع : نفحات الأزهار : 6 / 16 والغدير : 1 / 345 . لقد وثّق هذان العالمان الجليلان المنافحان عن حياض الحقّ ، هذه الحقيقة التي ذكرناها من خلال عشرات المصادر اللغويّة والأدبيّة والتفسيريّة .
( 104 ) من الحريّ أن نشيد بالباحث المصري الجاد محمّد بيّومي مهران ، أُستاذ جامعة الإسكندريّة ، الذي سلّم بهذه الحقيقة دون أدنى تردّد ، وسجّل صراحة أنّ المعني ب‍ ” المولى ” جزماً هو الأولى بالتصرّف . راجع : الإمامة وأهل البيت : 2 / 120 .
( 105 ) إشارة إلى كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يصف فيه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، بقوله : ” طبيب دوّار بطبّه ” . راجع : نهج البلاغة : الخطبة 108 .
( 106 ) وفيات الأعيان : 5 / 231 .
( 107 ) حول عدد الحاضرين في واقعة غدير خُمّ وردت أقوال مختلفة ، منها : 1300 ، 10000 شخص ( المناقب لابن شهر آشوب : 3 / 26 ) ، 10000 ، 12000 شخص ( تفسير العيّاشي : 1 / 333 / 153 وص 329 / 143 ) ، 17000 شخص ( جامع الأخبار : 47 / 52 ) ، 40000 ، 70000 ، 90000 ، 114000 ، 124000 شخص ( السيرة الحلبيّة : 3 / 257 ) ، 70000 شخص ( الاحتجاج : 1 / 134 / 32 ) ، 120000 شخص ( تذكرة الخواصّ : 30 ) . وراجع الغدير : 1 / 9 وبحار الأنوار : 37 / 139 وص 158 و 165 .
( 108 ) ق : 37 .
( 109 ) راجع : بحث حول آية التبليغ ، وبحث حول آية إكمال الدين .
( 110 ) البداية والنهاية : 7 / 349 .
( 111 ) مسند الشهاب : 1 / 75 / 47 ، النهاية في غريب الحديث : 1 / 199 .
( 112 ) تاج العروس : 17 / 506 .
( 113 ) فرائد السمطين : 1 / 76 / 42 .
( 114 ) نظم درر السمطين : 112 .
( 115 ) ذكرت بعض المصادر أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وضع العمامة على رأس عليّ في البداية ، ثمّ قال : ” من كنت مولاه فعليّ مولاه ” ويمكن أن يكون ذلك قد حصل تكراراً ، وليس للمرّة الأُولى . راجع : التتويج يوم الغدير .
( 116 ) راجع : التحيّة القياديّة .
( 117 ) راجع : التهنئة القياديّة .
( 118 ) تأتي غديريّة حسّان في طليعة شعره ، وهي من أطول قصائده وأشهرها . راجع : الغدير : 2 / 34 .
بيد أنّ الذي يثير الأسف أنّ الدكتور محمّد طاهر درويش وضع كتاباً ضخماً في حسّان تحدّث عن شعره ومختلف أبعاد حياته ، لكنّه لم يذكر هذا الشعر قط . راجع : كتاب ” حسّان بن ثابت ” .
( 119 ) راجع : أبيات حسّان بن ثابت ، والقسم التاسع / عليّ عن لسان الشعراء .
( 120 ) المعارج : 1 .
( 121 ) لقد اكتنفت الواقعة روايات ونصوص كثيرة ، راجع : سؤال عذاب واقع .
( 122 ) مسند ابن حنبل : 9 / 143 / 23622 .
( 123 ) راجع : مناشدات عليّ .
( 124 ) راجع : الدعاء على الكاتمين .
( 125 ) لمزيد الاطّلاع على تفسير كلمة ” المولى ” ، راجع : مجلّة تراثنا / العدد 21 ، البحث المهمّ المعنْون ؛ الغدير وحديث العترة الطاهرة .