صور مشوهه من مسرح كربلاء

إن ثورة الحسين لا تفهم من السرد المأساوي الحزين حسب ، ولا يُنظر إليها من وراء سياقات محدودة تبعث على التشذرم الفكري الذي ينحصر في السياق السائد من القول: إن الإمام الحسين (ع) كان قد خرج بناءً على دعوة وجُهت إليه فقام بتلبيتها, وفي مقابل ما قام به (ع) من التزام, فان من قدم هذه الدعوة لم يلتزم فتنصل عما تعهد به وكان الأجدر بمن دعا أن يكون اكثر إيفاءً باعتباره الداعي , بل إن الطرف الثاني لم ينقض العهد حسب ، بل عمد إلى اعتماد الدم لنقض ما كُتب بالقلم وبصورة بشعة لم يشهد لها التاريخ مثيلا, إذ يصور لنا التاريخ فيما خط لنا من بعض ملامح هذه المأساة المشوهة كماً كبيراً من السيميائية متعددة الأغراض لترتسم مجموعة من الصور نلحظ من ورائها الهدف الرئيس ، ونستعرض هنا طائفة من الصور المؤلمة التي ترسم لمجتمعها فرحة الدين, ولعل بمستطاعنا أن نقرأ طائفة من هذه الصور:

۱ـ صورة الطفل الذي يتمزق عطشاً لا لذنب اقترفه بل لسبب موقف ابائه , فعندما يطلبون الماء وبعد مرور يومين من العطش فيجابون بالنار ، وهل للكبار ان يتحملون عطش يومين كي يتحمل الصغار ذلك؟! ومن هنا كانت هذه الصورة المشوهة لطفل ذي ستة اشهر عطش ليومين فطُلب له الماء فكان الكرم العربي والشجاعة الضاربة في اطناب الفروسية ان اجابته بسهم الموت ، وعلى الرغم من ذلك فان الطفل لم يكترث بالسهم , إذ انه لم يطلبه وطلب ماءً ولكن جواب السهم شق طريقه في الجسد الطري فاحس السهم بحرارة ظمأ الجسد ولم يحس الجسد بحرارة السهم حتى اذا سال الدم قريبا من الفم المترقب للماء تصوره ماءً وهو ليس بماء بل قربة تحمله الى الماء الاخروي.

۲ـ واما الصورة المشوهة الثانية فهي صورة المرأة المدللة التي عاشت في كنف اب وام وانحدرت من ارقى العائلات اجتماعيا ودينيا ، وكان لجدها “صلى الله تعالى عليه واله وسلم” الفضل في انقاذ البشرية من ذل الانحطاط الفكري والانحدار الاخلاقي ، فكان ان انقذ المجتمع العربي من تمزقاته ، والتي كان من ضمنها امتهان المرأة ووأدها في التراب وسبيها وبيعها كبضاعة شأنها كشأن باقي البضائع ، فكان جدها ان وفرّ الاحترام للنساء العربية وحفظ لهن كرامتهن ، وكان من العرب ان ردّوا له جميل صنعه بقبيح فعلهم في سبي نسائه وحملهن من بلد الى بلد .

۳ـ صورة النخوة الاصيلة التي تمثلت في قمر بني هاشم الذي سارع الى تلبية ما ُطلب منه من الماء بذهابه الى قلب العدو, فكان ان انتزعه العدو من قلبه… ذهب لجلب الماء وابان رجوعه نلحظ الصورة المشوهه ،إذ ُشوهت بالسيوف والسهام التي حَبَت بسرعة نحو تمزيق القمر الذي يرسم صورة جميلة وهو بين بساتين النخيل المطلة على ضفاف النهر يلبي حلم الاطفال بحصولهم على الماء ,فالماء حلم !!! وتبدأ الصورة بسيف يقتطع الكف الايمن ثم ليعرج على الايسر ، بعدها يتلقف القمر قربة الماء بساعدين من غير كفين ثم ليحل سهم في عين القمر فكيف لنا ان ننظر الى شاب قطعت كفيه وفي عينه سهم قد استقر؟

ولا ضير في كل ما جرى اذ ان ايصال الماء والالتزام بما قطع على نفسه من عهد هو مطلبه حتى اذا تمز المطلب بسهم يقصد ما وصل اليه فاسال الماء …صرنا امام فارس بلا هدف ، فلا من عين يستعين بها في النظر ولا من يدين يقاتل بهما ولا من هدف والأقسى هو الأخير , ثم ليأتي عمود لايعرف الغدر ويحمل مختزلا كل مواصفات الفروسية والرجولة العربية التي لا تعرف الغدر قط من خلف القمر ليردي القمر من أعلى الفرس نحو الارض فبماذا يستقبل الارض؟؟ لا من كفين له ؟! ثم هل للقمر ان ينزل ارضاً، ام ان القمر مكانه في السماء؟ ان الشعوب ترقى برموزها واقمارها نحو العلى لتخلدهم فهم سفرها وتاريخها الشاهد , ويأبى صناديد العرب وجهابذتهم الا ان يردوا اقمارهم في اسفل القاع.

۴ـ صورة رمز الامة المتمثل بالسيد الشيخ الحسين (ع) الذي يدعو قومه للخير فيدعونه للشر , ويقدم الخير بين ايديهم فيقدمونه بين ايدي الموت , ويدعوهم للصور الجميلة فيردونه بشتى الصور المشوهه ومنها :صورتهم وهم يعاملون فيها شيخهم وبقية نبيهم ورمز امتهم الحقيقي وذلك عندما اشتد تعبه وعطشه وارهاقه الذي اسقطه على تراب الارض الصحراوية الممتلئة بالرمل المتناثر الذي لسق بملبس الامام الطاهر ، ثم ليأتي شرار القوم فيضربه بسيفه على حاجبيه وليطبق حاجبيه على عينيه وليضيف جراحا الى جراحات كثر عديدها وليتسلق في بطون هذه الجراحات رمل كربلاء الناعم ويأتي آخر ليضربه اثنتي عشرة ضربة تردفها شتائم لوالده امير المؤمنين (ع) الذي اصدر هويتهم الثقافية و آخر من حكم المسلمين بالعدل بعد رسول الله (ص).

ان البشاعة لا تكمن في مشهد القتل الدامي حسب , بل انها تكمن في التعامل اللاخلاقي مع اهل بيت الرسول (صلوات الله وسلامه عليهم ) , فقد نقل عن منتقدي المسيحية الذين ينتقدهم لفيف العرب ,انهم اقاموا كنيسة لحافر نعل دابة عيسى (ع) ليخلدوا رمزهم ووفاء منهم لنبيهم ,وبمثل ما عاملوا نبيهم من احترام عاملت جهابذة العرب وصناديد قريش نبيها “ص” في ابنائه وبناته بضدٍ لم تألفه المجتمعات الانسانية ، و من هنا تكمن دقة التشويه والصورة الممزقة.

ولكن على الرغم من ذلك فلا يكمن المنظر في هذه الزاوية حسب اذ ان البعد الاشمل للثوة الحسينية هو رفض يزيد والحجاج والمتوكل وصدام وجميع من يحتكر الناس لعبادته دون عبادة الله (عز شانه) وليؤسس الحسين (ع) الخط الحسيني للحرية وعبادة الباري جل شأنه وليصادق بدمه على الهوية الاسلامية التي اصدرها جده (ع).