من عقائدنا – الإمام المهدي (ع)

ما رأيت كاتبا كتب عن الشيعة إلا واتخذ من عقيدتهم بالمهدي وسيلة للسخرية والتهريج ووضع للفكرة حواشي ورتب عليها لوازم وأشرع سلاحه وتفيهق بكلامه وصال وجال كأنه اكتشف كشفا ضخما وأنه وحده العبقري وأن الآخرين بلهاء ، ولنر من أين جاءت فكرة المهدي وهل أخذها الشيعة من مصدر ديني سليم أم لا ؟ وهكذا نمشي مع الفكرة ، إن الذين كتبوا عن المهدي ربطوا مصدر هذه الفكرة بأمرين أحدهما الفكر الوضعي والآخر العقيدة الدينية ، والذين ربطوا العقيدة بالفكر الوضعي انقسموا أيضا . وسنذكر أقوالهم حسب الشق الذي مالوا إليه ورجحوا أنه المصدر لهذه الفكرة :

 

1 – القسم الأول :

الذين ربطوا فكرة الإمام المهدي بالفكر الوضعي في بعده النفسي يرون أن عقيدة المهدوية ليست وقفا على الفكر الشيعي ولا على المسلمين فقط بل ولا على الديانات السماوية كلها إنما هي على مستوى الشعوب وذلك أن العامل المشترك بين كل هذه الفئات هو عامل نفسي موحد : وهو الشعور بوضعية غير عادلة من حكم قائم بالفعل وخزين متراكم من حكام سابقين عاشوا مع شعوبهم على شكل قاهر ومقهور ، ومتسلط ومسحوق ، ورزحوا تحت نيز الظلم والطغيان . ولذا كانت هذه العقيدة عند الشعوب الشرقية ونظائرها ممن يشترك مع الشعوب الشرقية بأنه مسحوق ، وحيث أن بعض هذه الشعوب عنده عقيدة دينية تبشر بالمهدي أيضا : فإن هذه العقيدة مهمتها تدعيم هذا العامل النفسي وخلق لون من المشروعية لهذه النزعة في نفوس الناس وهذا هو المعنى الذي عبر عنه برتراند رسل بقوله :

ليس السبب في تصديق كثير من المعتقدات الدينية الاستناد إلى دليل قائم على صحة واقع كما هو الحال في العلم ، ولكنه الشعور بالراحة المستمد من التصديق فإذا كان الإيمان بقضية معينة يحقق رغباتي فأنا أتمنى أن تكون هذه القضية صحيحة وبالتالي فأعتقد بصحتها ( 1 ) .

إذا فالقدر الجامع بناء على هذا هو الأمل بظهور مخلص من واقع سيئ تعيشه الجماعة ، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد محمود : إن الاعتقاد بظهور مسيح أو انتظار رجعة مخلص وليد العقل الجمعي في مجتمعات تفكر تفكيرا ثيوقراطيا في شؤونها السياسية ، وبين شعوب قاست الظلم ورزحت تحت نير الطغيان ، سواء من حكامهم أم من غزاة أجانب ، فإزاء استبداد الحاكم وفي ظل التفكير الديني تتعلق الآمال بقيام مخلص أو محرر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ( 2 ) .

فهذه العقيدة بالرغم من وجود مصادر دينية لها عند المسلمين واليهود والمسيحيين إلا أن هذه المصادر ليست هي العامل الأساسي في نظر هؤلاء بالاعتقاد بها ، وإنما تلعب دورا مبررا ثانويا ، ويرى الدكتور أحمد محمود أن عقيدة السنة بالصبر على الظالم وعدم الخروج عليه عمقت نزعة المهدي وتركت الوسط الديني السني الذي يعتقد بموضوع المهدي يعيش بين عامل الألم من الواقع الفاسد الذي عاشه أيام الأمويين وما تلاها من عصور ، وبين ضرورة الخلاص ، فمال إلى الخلاص في المدى الأبعد الذي وجده في عقيدة المهدي وقد حاول إشراك الشيعة في ذلك باعتبارهم صابرين على الظلم حيث قال : إن هذه العقيدة لا يؤمن بها إلا أولئك الذين يعانون صراعا نفسيا نتيجة السخط على تصرفات الحكام وعدم استحقاقهم لقب الخلافة لفسقهم ، ونتيجة خضوعهم من ناحية ثانية للأمر الواقع أما خشية الفتنة كما هو عند السنة ، الذين لا يرون الخروج على أئمة الجور استنادا إلى أدلة عندهم ، أو نتيجة للتخاذل بسبب فشل كثير من الحركات الثورية كما هو عند الشيعة الذين يرون الصبر على الخلفاء تقية فعقيدة المهدي مخرج لهذا الصراع ، أما الفرق التي تجعل من أصول مبادئها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف كالخوارج والزيدية : فإن هذه العقيدة عندهم غير ذات موضوع ، إلى أن قال : ولذا لا تبلغ أهمية المهدي عند فرقة من الفرق كما تبلغ عند الشيعة الاثني عشرية الذي يتطرف حكمهم على الخلفاء من ناحية كما يتطرف تحريمهم الخروج على الخلفاء من ناحية أخرى ( 3 ) .

هذا ملخص ما قاله الدكتور أحمد محمود ولنا على مضامين هذا الفصل الملاحظات التالية :

 

1 – الملاحظة الأولى :

أن هذا خلط بين السبب وبعض نتائجه ذلك لأن الشعوب المرتبطة بدين معين تربط مظاهرها العقائدية بدينها في الجملة ، فإذا لم يوجد مصدر ديني لذلك المظهر يبحث عندئذ عن سببه الآخر ، ولا شك أن الأديان الثلاثة بشرت بفكرة المخلص وهو إما واحد للجميع يوحد به الله تعالى الأديان في الخلاص من الظلم ، أو متعدد لكل أمة من الأمم مهديها ، والهدف منه ومن التبشير به أن يوضع أمام كل أمة مثل أعلى يجسد فكرة العدل ولتكون الشعوب على تماس مباشر مع الفكرة الخيرة والمثل الأعلى كما هو متصور فالأصل في فكرة المهدي النصوص الدينية ، وساعد على ترسيخها في النفوس ارتياح النفوس إليها ، خصوصا إذا لم تقو على تجسيد العدل لسبب ما . ولكنها إذ تتخذ من فكرة المهدي وسيلة تعويضية تمسخ الغرض الأصلي من فكرة المهدي وهو أن تكون حافزا يدفع الناس إلى السعي إلى دفع الظلم وفكرة قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصا إذا كانت النصوص الدينية قائمة في تحميل الإنسان مسؤولية الدفاع عن نفسه وعن مقدساته بغض النظر عن قيام المهدي وعدمه كما هو واقع التعاليم الدينية ، فلا ينبغي أن تتحول فكرة الإمام المهدي من نصب مثل أعلى لاستشعار سبل ومناهج الحياة الكريمة إلى مخدر يميت في النفوس نزعات التطلع ووثبات الرجولة ، أو من محفز إلى منوم .

 

2 – الملاحظة الثانية :

إن إشراك الشيعة مع السنة بأنهم لا ينهضون ضد الظالم تقية مغالطة صريحة ، وذلك لأن عامل صبر السنة على الظلم عامل اختياري نتيجة تمسك بأحاديث يرون صحتها في حين أن صبر الشيعة على الظلم نتيجة عامل قهري لعدم وجود قدرة ووسيلة للنهضة ، وهذا عامل عام عند كل الناس ، أما لو وجدت عوامل النهضة فلا ينتظر الشيعة خروج المهدي ليصلح لهم الأمر بدليل أن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما قائم عندهم فعلا ، وكذلك الجهاد بكل أقسامه بوجود نائب الإمام الخاص أو العام في رأي بعضهم قائم بالفعل ، أما دفاع الظالم عن النفس والمقدسات فلا يشترط فيه وجود إمام أو نائبه على رأي جمهور فقهاء الشيعة لأنه دفاع عن النفس ويتعين القيام به في كل وقت من الأوقات ( 4 ) .

إن الرجوع إلى تاريخ الشيعة يشكل أدلة قائمة على ما ذكرناه لكثرة ثوراتهم على الباطل في مختلف العصور والجهاد مع باقي فرق المسلمين في ساحات الجهاد ضد الكفر والظلم ولست بحاجة للإطالة بذلك لوضوحه .

 

3 – الملاحظة الثالثة :

لا ينهض اشتراك الشعوب في عقيدة المهدي دليلا على وحدة العامل ، لأننا نرى كثيرا من المظاهر السلوكية سواء كانت مظاهر دينية أم لا تشترك بها شعوب دون أن تصدر عن علة واحدة . خذ مثلا ظاهرة تقديم القرابين فهي عند معتنقي الأديان السماوية شعيرة أمر بها الدين بهدف التوسعة على الفقراء والمعوزين في حين نجدها عند بعض الشعوب بهدف اتقاء سخط الآلهة ، وعند البعض الآخر لطرد الأرواح الشريرة وعند البعض الآخر تقدم الضحايا من البشر بهدف استدرار الخير كما هو عند قدماء المصريين ، فلم تكن العلة واحدة عند الشعوب كما ترى ، إذا فمن الممكن أن تكون فكرة الإمام المهدي ليست عملية تعويض أو تنفيس وإنما هي فكرة تستهدف وضع نصب يظل شاخصا دائما يذكر الناس بأن الظالم قد يمهل ولكنه لا يهمل لأن الناس إذا تقاعسوا عن طلب حقوقهم فإن السماء لا تسكت بل لا بد من الانتقام على يد مخلص ، مع ملاحظة أن الأصل في مثل هذه الحالات أن يتصدى الناس لتقويم الإعوجاج ولذلك يقول الله تعالى : * ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) * الرعد / 12 فإذا غلب عليهم التخاذل فإن الله تعالى لا يهمل أمر عباده ولذلك تشير الآية الكريمة وهي قوله تعالى * ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) * يوسف / 110 وقد حام المفسرون حول هذا المعنى الذي ذكرناه عند تفسيرهم للآية المذكورة ( 5 ) وذكروا أن السماء تتدخل عندما يطول البلاء وتشتد الحالة ويهلع الناس إلى حد اليأس .

 

2 – الشق الثاني :

الذين ربطوا فكرة الإمام المهدي ( ع ) بالأخذ التقليدي وقالوا إنها عبارة عن اقتباس أخذه المسلمون عن بعض الشعوب من دون أن يكون هناك عامل شعوري مشترك وسواء أخذت هذه العقيدة من هذا الشعب أو ذاك فإن جولد تسهير ، وفان فلوتن : المستشرقان قالا إنها مقتبسة من اليهود بشكل وبآخر ، ويؤكد فان فلوتن أنها جاءت من تنبؤات كعب الأحبار ووهب بن منبه فهي من الأفكار الإسرائيلية التي نشرت بين المسلمين ( 6) . في حين يذهب أحمد الكسروي إلى أنها مقتبسة من الفرس حيث يقول :

لا يخفى أن قدماء الفرس كانوا يعتقدون بإله خير يسمى يزدن ، وإله شر يسمى أهريمن ، ويزعمون أنهما لا يزالان يحكمان الأرض حتى يقوم ساوشيانت ابن زرادشت النبي ، فيغلب أهريمن ويصير العالم مهدا للخير وقد تأصل عندهم هذا المعتقد فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون العراق وإيران واختلطوا بالإيرانيين سرى ذلك المعتقد منهم إلى المسلمين ونشأ بينهم بسرعة غريبة ولسنا على بينة من أمر كلمة المهدي من وضعها ومتى وضعت . إنتهى بتلخيص ( 7 ) .

إن هذا الرأي لا يستحق المناقشة في الواقع لأسباب كثيرة منها : افتراضه تساهل المسلمين بحيث يعتقدون بأمور لا يعرفون مصدرها ومنها عدم وجود صلة بين فكرة إلهي خير وشر وفكرة مخلص ، ومنها أن حجم مسألة المهدوية ليس بهذه البساطة فالفكرة من الفكر الكبيرة الحجم بالعقيدة الدينية .

 

3 – الشق الثالث :

ربط فكرة المهدي بالفكر الوضعي في بعده السياسي ويقول أصحاب هذه الفكرة أن فكرة المهدي اخترعها بعض الحكام الذين حكموا ولم تتوفر فيهم صفات يفترضها المسلمون في الحاكم ، فافترضوا أن هناك إماما غائبا محررا سيظهر بعد ذلك وقد عهد إليهم بالقيام بالحكم إلى أن يظهر وقالوا إلى المختار الثقفي ممن سلك هذا الطريق وادعى أنه منصوب من قبل المهدي من آل محمد ، وممن أكد هذا الرأي المستشرق وات ( 8 ) وهذا الرأي يضع الأثر مكان المؤثر فإن الذين اتخذوا من فكرة المهدي سنادا لهم على فرض وجودهم بهذه الكثرة : لا بد أن تكون فكرة المهدي شائعة عند الناس قبل مجيئهم فاستفادوا منها وركبوا ظهر العقيدة ، على أن نسبة هذا الرأي للمختار باعتباره جزءا من العقيدة الكيسانية فنده كثير من المحققين ، وحتى مع فرض صحته يبقى متأخرا عن وجود عقيدة المهدي كما ذكرنا . وليس للمختار تلك المكانة الكبيرة عند فرق المسلمين حتى يأخذوا عنه ويتأثروا بآرائه مع التفات المسلمين لهدفه .

 

عقيدة المسلمين بالمهدي

إن فكرة الإمام المهدي في نطاق العقيدة الدينية بغض النظر عن تفاصيلها موضع اتفاق جمهور المسلمين فإن روايات المهدي وانتظار الفرج على يديه وظهوره ليملأ الأرض عدلا وردت عند كل من الشيعة والسنة ، وممن رواها من أئمة السنة :

الإمام أحمد في مسنده ، والترمذي في سننه ، وأبو داوود في سننه ، وابن ماجة في سننه ، والحاكم في مستدركه ، والكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان وابن حجر العسقلاني في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر ، ويوسف بن يحيى الدمشقي في عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر ، وأحمد بن عبد الله أبو نعيم صاحب الحلية في نعت المهدي ، ومحمد بن إبراهيم الحموي في مشكاة المصابيح ، والسمهودي في جواهر العقدين وعشرات من أعلام السنة وغيرهم ( 9 ) لا أريد الإطالة بذكرهم .

وقد أخرج أئمة السنة أحاديث المهدي عن طريق الإمام علي ( ع ) وابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وطلحة ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وأم سلمة ، وغيرهم .

ومن تلك الأحاديث ما رواه ابن عمر بسنده عن النبي ( ص ) : يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، ذلك هو المهدي ، وكقول النبي ( ص ) : المهدي من عترتي من ولد فاطمة ، وقد صحح هذه الأحاديث وغيرها مما ورد في الإمام المهدي : ابن تيمية مستند إلى مسند الإمام أحمد بن حنبل وصحيح الترمذي ، وسنن أبي داوود ( 10 ) .

وقد ذهب ابن حجر تبعا للنصوص إلى تكفير منكر المهدي فقد أجاب في الفتاوى الحديثية حين سئل عمن ينكرون خروج المهدي المنتظر فقال : فهؤلاء المنكرون للمهدي الموعود به آخر الزمان وقد ورد في حديث عن أبي بكر الإسكافي أن النبي ( ص ) قال : من كذب بالدجال فقد كفر ، ومن كذب بالمهدي فقد كفر ، إلى أن قال : ونملي عليك من الأحاديث المصرحة بتكذيب هؤلاء وتضليلهم وتفسيقهم ما فيه مقنع وكفاية لمن تدبره : أخرج أبو نعيم أنه ( ص ) قال : يخرج المهدي وعلى رأسه عمامة ومعه مناد ينادي هذا خليفة الله فاتبعوه ، ثم أخذ يورد الأحاديث الواردة في المهدي ( 11 ) .

هذه بعض المأثورات السنية في الإمام المهدي ، أما الشيعة فرواياتهم في موضوع الإمام المهدي بكل جوانبه كثيرة واردة عن النبي ( ص ) وأهل بيته ، وقد ألفوا في ذلك كتبا كثيرة استوفت وغطت كل التساؤلات حول موضوع الإمام المهدي : مثل كتاب الغيبة لمحمد بن إبراهيم النعماني ، وكمال الدين وتمام النعمة لمحمد بن علي بن بابويه القمي ، وكتاب الغيبة لمحمد ابن الحسن الطوسي ( 12 ) وغيرهم كثير وقد تناولها فكتب بالمهدي كل من الصدوق في علل الشرائع ، والمرتضى في تنزيه الأنبياء والمجلسي في البحار والمفيد في الفصول ، وفي الإرشاد ومن المتأخرين كتب عشرات المؤلفين بالمهدي وأشبعوا الموضوع . وقد استعرضوا الأدلة في موضوع المهدي وأذكر من أدلتهم دليلين فقط :

1 – فمن الأدلة العقلية التي أوردوها دليل اللطف ومفاد هذا الدليل : أن العقل يحكم بوجوب اللطف على الله تعالى وهو فعل ما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية ويوجب إزاحة العلة وقطع العذر بما لا يصل إلى حد الإلجاء لئلا يكون للناس على الله حجة فكما أن العقل حاكم بوجوب إرسال الرسل وبعثة الأنبياء ليبينوا للناس ما أراد الله منهم وللحكم بينهما بالعدل : كذلك يجب نصب الإمام ليقوم مقامهم تحقيقا لنفس العلة ، فإن الله لا يخلي الأرض من حجة ، وليس زمان بأولى من زمان في ذلك ، إلى آخر ما أوردوه .

2 – أما من الأدلة النقلية فذكروا ما يلي : قال الله تعالى * ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم ) * فقد فسرت هذه الآية كما عن الإمام الصادق ( ع ) بخروج المهدي وتحقيق هذه الأشياء على يديه ( 13 ) وقد قيل إن لسان هذه الآية عام يشير إلى تحقيق هذه الأمور على أيدي المسلمين فأجابوا أن القرائن تفيد أن هذه الأمور لم تتحقق على النحو الذي ذكرته هذه الآية من مجئ الإسلام حتى يومنا هذا ، ووعد الله لا بد من تحقيقه ، وتلك قرينة على تحققه في المستقبل ، يضاف لذلك أن من أساليب القرآن الكريم أن يعبر عن الخاص بصيغة العام وعن المفرد بالجمع في كثير من الموارد ، ولذلك قال الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى : * ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) * الخ المائدة : / 57 .

قال : إنها نزلت في أبي بكر بقرينه أنه هو الذي قاتل المرتدين مع أن لسان الآية عام ( 14 ) ، ومن الأحاديث التي استدل بها الشيعة في موضوع المهدي ما رواه الطوسي في الغيبة عن النبي ( ص ) : لا تذهب الدنيا حتى يلي أمتي رجل من أهل بيتي يقال له المهدي ( 15 ) ، هذه فكرة موجزة أردت بها الإشارة إلى إجماع المسلمين على موضوع المهدي . وحينئذ لا يبقى قيمة لأقوال المهرجين الذين يريدون إبعاد الفكرة عن الإسلام غير عابئين بما ورد فيها من آثار ونصوص ، وإذا كان البعض قد استغل الفكرة عبر التاريخ فما ذلك بموجب لنكرانها ورمي من يعتقد بها بالتخريف ، وما أسهل نفي فكرة إذا كانت لا تلتقي مع مصلحة شخص أو كان يجهلها . على أنني لا أصحح جميع ما أحاط بها من ذيول بل لا بد من الاقتصار على ما تثبت صحته بالطرق المعتبرة ويجدر بالبعض أن يبتعد عن التهريج الذي يصل ببعضهم إلى القول :

ما آن للسرداب أن يلد الذي * صيرتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفاء لأنكم  *  ثلثتموا العنقاء والغيلانا

إن هؤلاء تسرعوا فقالوا بما لا يعرفون وإننا نقول لأمثال هؤلاء سلاما كما أمر القرآن الكريم .
المردود الإيجابي في عقيدة المهدي

بقي أن نعرف ما هي حصيلة عقيدتنا بوجود المهدي فإن تقييم مثل هذه الأمور يصحح كثيرا من التصورات الخاطئة عن أمثال هذه العقائد خصوصا إذا عرفنا أن العقائد فواعل بالنفوس .

 

1 – المردود الأول :

فأول المردودات الإيجابية بهذه العقيدة حصول الامتثال لأمر الله تعالى بهذه العقيدة ككل العقائد ، فإن المفروض أن النصوص تحتم الإيمان بها كما ذكرنا آراء العلماء بذلك .

 

2 – المردود الثاني :

الشعور بقيام الحجة على العباد لله تعالى بوجود الإمام إذ لو حصلت الكفاية بغيره لما حصل الخلاف بين المسلمين ، فإن قيل إن الخلاف حاصل بالفعل قيل : إن ذلك ناتج من عدم الالتزام بإمامته ، بالإضافة إلى الشعور بالتسديد في آراء العلماء لوجود الإمام بين أظهرهم وإن لم يعرفوه .

3 – المردود الثالث :

في وجود المهدي لطف يقرب العباد إلى الله تعالى لشعورهم بأن الله تعالى يهيئ لإقامة العدل ورفع الظلم ، فإن قيل إن رفع الظلم يجب أن يحدث بالأسباب الطبيعية من قبل الناس : قيل إن ذلك صحيح ولكن إذا تهاونوا بذلك فلا بد أن يدافع الله تعالى عن الذين آمنوا ، فإن قيل إن ذلك يحصل بالآخرة ، قيل إن مثل ذلك كمثل إقامة الحدود في الدنيا مع أن المجرم لا يترك بالآخرة ، هذه بعض الفوائد في موضوع الإمام المهدي وليست هي علة تامة بل حكمة ونحن نتعبد بما ورد في النصوص ، وهناك فوائد أخرى ذكرتها المطولات وغطت أبعاد المسألة يمكن الرجوع إليها .

 

المردود السلبي في عقيدة المهدي

1 – المردود الأول :

إن أول المردودات السلبية أن هذه الفكرة تشل الإنسان وتمنعه عن القيام بواجباته وتخدر الإنسان وتتركه خائفا ذليلا بانتظار ظهور الإمام ليأخذ له بحقه ، وقد صور بعضهم شدة لهفة الشيعة لانتظار ظهور الإمام بأن قسما من الشيعة لا يصلون مخافة أن يخرج الإمام وهم مشغولون بالصلاة فلا يستطيعون اللحاق به ( 16 ) وهذا التصور مردود جملة وتفصيلا فلا أحتاج إلى إكثار القول فيه بل ألفت النظر إلى كتب فقه الإمامية فإن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب الدفاع عن النفس قائم بالفعل ولا يرتبط بالمهدي من قريب أو بعيد ومن ادعى خلاف ذلك فليدلنا على المصدر ، أما الدعاوى الفارغة والقول البذئ فمردود على القائل وهو به أولى ، ومن قفا مؤمنا بما ليس فيه حسبه الله تعالى في ردغة الخبال ، كما يقول الحديث النبوي الشريف ( 17 ) .

2 – المردود الثاني :

أن الإيمان بفكرة المهدي يؤدي إلى الازدراء بالعقل لما في ذلك من مفارقات مثل طول العمر غير المعتاد ، وغيبته من الأبصار ، وعدم وجود فائدة في إمام كهذا وغير ذلك . والجواب على ذلك بالاختصار : أن الشيعة لا يجعلون بقاءه هذه المدة أمرا طبيعيا وإنما هو معجزة لأنهم يقولون لما ثبت بالأدلة وجوده وغيبته والوعد بظهوره فلا بد والحالة هذه من الإيمان بذلك بالإضافة لعدم خلو الزمان من إمام مفترض الطاعة ، وبناءا على أن وجوده معجزة ينقل حينئذ الكلام إلى المعجزات ككل فأما أن تصدق أو تكذب وإذا كذبناها كذبنا الثابت في الإسلام أما أنه لا يرى فليس بمعلوم بل يجوز أن يرى ولا يعرف ويستفاد بآرائه لأنه يشترك مع الناس بالآراء ويلقي بالرأي الصحيح ، يبقى الكلام على عدم تعليل اختفائه ، وما أكثر العقائد والأحكام التي لا نجد لها علة ونقول بمضمونها مثل رمي الجمرات في الحج ، والهرولة ، ومعاقلة المرأة الرجل إلى ثلث الدية وأعداد ركعات الصلاة وهكذا . فإنها كلها أحكام غير معللة بل معظم الأحكام هكذا ، وكذلك كثير من العقائد .

3 – المردود الثالث :

الازدواجية التي تحصل من وجود إمام تجب طاعته ولا يحكم وآخر يحكم ولا تجب طاعته ، والجواب أن فقهاء الإمامية بالجملة في حال غيبة الإمام يقرون حكومة الحاكم العادل الذي يرعى مصالح المسلمين ويحمي ثغورهم ويجاهد عدوهم ويرتبون المشروعية على تصرفاته بالجملة .

أما بعد فهذه إلمامة موجزة بفكرة الإمام المهدي أردت أن أذكر من يكتبون عنها فيصورون الشيعة كأنهم اقتبسوا أحكامهم من كسرى وقيصر مع وفرة ما أوردناه من أحاديث حول فكرة المهدي فهل يسع مسلما يؤمن بالله نكرانها أو رميها بعيدا عن الإسلام ، اللهم إلا أن يقال إن أحاديث المهدي دسها الشيعة في كتب السنة كما قيل ذلك في موارد أخر فإن بعضهم إذا لزمته الحجة بحديث قال ذلك ، وعليه يجب أن نرمي كل كتب التراث بالبحر إذا كانت قابلة لهذا التصور ولا يبقى بها ثقة إرضاء لسواد عيون بعض من لا يروق له الإذعان للحق ويطربه أن يتأصل الخلاف بين المسلمين إننا مدعوون إلى حمل شعار القرآن : * ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) * الأنبياء / 92 وما أروع إيماءة القرآن بالأمر للأمة بعبادة الله عقب ذكر وحدة الأمة ففي الآية إشارة إلى أن كثيرا من الناس يعز عليهم وحدة الأمة لأن مصلحتهم المادية في فرقتها ولأن أصناما من العصبية في رؤوسهم يعبدونها وقد أمرهم الله تعالى بنبذها وعبادته وحده لأنه وحد الأمة وصهرها بكلمة التوحيد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) نظرية الإمامة ص 420 .
( 2 ) نفس المصدر السابق ص 399 .
( 3 ) نظرية الإمام ص 127 .
( 4 ) شرح اللمعة للشهيد الثاني ج‍ 2 ص 381 ، وكنز العرفان للمقداد ج‍ 1 ص 342 .
( 5 ) صفوة البيان لمخلوق ج‍ 1 ص 397 ، ومجمع البيان للطبرسي ج‍ 3 ص 271 .
( 6 ) نظرية الإمامة ص 399 .
( 7 ) التشيع والشيعة ص 35 .
( 8 ) تاريخ الإمامية وأسلافهم ص 165 .
( 9 ) راجع أعيان الشيعة ج‍ 4 ص 348 .
( 10 ) نظرية الإمامة ص 405 .
( 11 ) الإمام الصادق ج‍ 6 ص 146 .
( 12 ) أعيان الشيعة ج‍ 4 ص 388 .
( 13 ) أعيان الشيعة ج‍ 4 ص 389 .
( 14 ) تفسير الرازي ج‍ 3 ص 416 .
( 15 ) أعيان الشيعة ج‍ 4 ص 390 .
( 16 ) منهاج السنة لابن تيمية ج‍ 1 ص 29 .
( 17 ) تفسير الفخر الرازي عند قوله تعالى * ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) * الخ .