آيات الحجاب في سورة الأحزاب وهل الجلباب يختصّ بالنساء؟

آيات الحجاب في سورة الأحزاب
مقدّمة: نظرة عامّة لآيات سورة الأحزاب

قبل البدء في دراسة آيات الحجاب في سورة الأحزاب، يُستحسن النظر إلى كلّ ما خاطبت السورة به النبي(ص) وأزواجه والمؤمنين، لا شكّ أنّ فهم المضامين التي سبقت آيات الحجاب وما بعدها له دور مهمّ في فهم كلام الله سبحانه وتعالى، وحقيقة آيات الحجاب، وسنجد التأكيد على الأخلاق والأهداف السامية المرسومة للإنسان في هذه الآيات مع قليل من التدبّر والتدقيق.

في الآية 59 من سورة الأحزاب نجد الآية تُخاطب الرسول(ص) بأمر صريح وقطعي في أزواجه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.

وآمّا الآيات 30 و32 و34 تُخاطب أزواج الرسول(ص) بشكل مباشر:

الآية 30: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}

الآية 32: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}

والآية 34: تُخاطب أزواج النبي(ص) وتذكّرهن بأُمور حول المسائل الاجتماعية، وكيفية تعاملهنّ مع تلك المسائل.

والآية 35 تُخاطب كلّ المسلمين والمؤمنين رجالاً ونساءاً، وتقوم بإعلان أحكام عدّة وتقول في نهايتها: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

وبعد عدّة آيات تختصّ بالرسول(ص) نفسه والمؤمنين، تتوجّه الآيات 50 – 52 إلى الرسول(ص) وتتحدّث في زواجه وبعض تفاصيله سيّما موضوع الصداق.

وفي الآية 53 نجد الكلام حول كيفية ارتباط المؤمنين ببيت الرسول(ص) ودخولهم إليه، وكيفية علاقتهم بأزواج النبي(ص)، ومن ضمن الكلام فقرة {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}.

الآيات 54 و55 تستمر في هذا البحث، والآية 55 تُخاطب زوجات النبي(ص)، أمّا الآية 58 تتحدّث حول مَن يُؤذون المؤمنين والمؤمنات، وتذمّ عملهم وتعتبره إثماً عظيماً.

ثمّ في الآية 59 ـ والتي هي موضوع بحثنا بما أنّها أحد أهم آيات الحجاب ـ تُخاطب النبي(ص)، والتي تتحدّث عن أحكام خاصّة بالنساء.

 

الفصل الأوّل: الآية 53 من سورة الأحزاب

{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}

 

شأن نزول الآية

قبل أن نبدأ بالبحث الفقهي في هذه الآية، وبما أنّ هذه الآية تُبيّن حكم الله سبحانه عقب حدث تاريخي، يجدر بنا أن نلاحظ الظروف والمقدّمات التي انتهت بنزول هذه الآية، ولهذا سنبحث شأن نزول الآية من وجهة نظر المفسّرين السنّة والشيعة.

 

شأن نزول الآية في كتب أهل السنّة

يطرح الآلوسي في تفسيره روح المعاني(1) هذه الرواية في شأن نزول الآية نقلاً عن صحيح البخاري: وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال، وكان عمر  رضي الله عنه يحبّ ضرب الحجاب عليهن، ويودّ أن ينزل فيه وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أُمّهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت(2).

هذه الرواية تقول في عمر واحتجاجه على الرسول(ص): وكان حريصاً على حجابهنّ، وما ذاك إلّا حبّاً لرسول الله(ص)(3).

فكان عمر أيضاً يؤكّد كثيراً على حجاب نساء النبي(ص) ويحرص على ذلك، وما كان هذا الحرص إلّا حبّاً ومودّة لرسول الله(ص).

 

وتنقل رواية أُخرى هذا الحدث نقلاً عن عائشة:

«أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كنّ يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع ـ وهو صعيد أفيح ـ وكان عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم : أحجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء، وكانت أمرأة طويلة، فناداها عمر رضي الله تعالى عنه بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله تعالى الحجاب، وذلك أحد موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة(4)».

فيقول الآلوسي بعد هذه الرواية: تلك أحد الموافقات الأربعة لعمر مع الله سبحانه وتعالى في الأحكام والقوانين المنزلة.

ومن المشهور أنّ عمر قال: «وافقت ربّي في أربع»، وهي مشهورة في كتب أهل السنّة بـ(موافقات عمر).

ثمّ يقول الآلوسي: «وعدّ الشيعة ما وقع منه رضي الله تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا : لما فيه من سوء الأدب، وتخجيل سودة حرم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وإيذائها بذلك»

لكن أهل السنّة يبرّرون فعل عمر ويقولون: «وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحّة الخبر، أنّه رضي الله تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنّه من ترتّب الخير العظيم عليه، ورسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك انتظاراً للوحي، وهو اللائق بكمال شأنه مع ربّه عزّ وجل»(5).

فنرى أنّ شأن النزول المذكور في كتب أهل السنّة يرد عليه اشكالات متعدّدة، وهي واضحة للقارئ العالم، منها:

أوّلاً: نصّ القرآن أنّ الحادثة حدثت في بيت الرسول(ص)، لا في خارج البيت، وعند ذهاب نسائه(ص) إلى أطراف المدينة.

ثانياً: كيف يمكن القبول أنّ الرسول(ص) لم يعلم بهكذا أمر مهمّ أو لم يلتفت إليه، فيما يتلفت إليه عمر ويعلم بأهمّيته، ويسبّب نزول الوحي أو التسريع في نزوله باحتجاجه؟

ثالثاً: صرّح أهل السنّة أنّ عمر كان يعمل بإجتهاده وظنّه في حياة الرسول(ص)، مع أنّ الرسول(ص) كان حاضراً ويعلم بالمصلحة والمفسدة، وكان ديدن التشريع على النزول التدريجي للأحكام.
شأن نزول الآية عند الشيعة

عن ابن عباس: أنّ رسول الله(ص) تزوّج زينب بنت جحش فأولم، وكان يدعو عشرة عشرة، فكانوا إذا انتهوا من الطعام استأنسوا إلى مجالسته وحديثه، واستغنموا من محضره، وكان رسول الله(ص) حديث الزواج بها، يشتهي أن يخلو له المنزل، وكان يكره أن يُؤذي المؤمنين بإخراجهم من بيته، فنزلت الآية(6).
ملاحظات حول الآية:

هنا نلخّص كلّ البحوث الفقهية المتعلّقة بهذه الآية الشريفة ـ وحتّى التفاسير المتعدّدة التي يمكن استنباطها من الآية ـ في ثمانية نقاط:
النقطة الأُولى: منع طلب شيء من أزواج الرسول(ص)

نفهم من سياق الآية أنّه لا يحقّ لأصحاب الرسول(ص) أن يطلبوا من أزواج الرسول(ص) شيئاً، بل عليهم أن يسألوه ذلك، وإذا اضطروا إلى أن يسألوا متاعاً منهن، يجب أن يسألوهنّ من وراء حجاب.
النقطة الثانية: هل التأكيد على «من وراء حجاب» تأكيد في إطار الموضوع أو الطريقة؟

يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: أنّه إذا كان للمؤمنين طلب من أزواج الرسول(ص) فعليهم أن يسألوهنّ من وراء حجاب أو ساتر، وهنا يوجد احتمالين:

الاحتمال الأوّل: السؤال من وراء حجاب وستار له موضوعية، أي مع إمكان أن يسترن زوجات الرسول(ص) أنفسهنّ، لكنّه مع ذلك لا ينبغي أن يكون ارتباطهن بالرجال بدون حجاب وحائط، فلعلّ لهذا الحكم حكمة معيّنة يراد منها إعلاء شأن أزواج الرسول(ص) ليبيّن قيمة الحجاب للناس.

الاحتمال الثاني: السؤال من وراء حجاب لا يكون له موضوعية، بل إنّه يتأطّر بإطار الطريقة، أي أنّ المقصود هو تستّر أزواج النبي(ص) كاملاً عند اللقاء بالمؤمنين، وربّما بسبب أنّ آيات الحجاب لم تنزل بعد أو بسبب أنهنّ لم يستعملن حجاباً يناسب شأنهنّ كأزواج النبي(ص)، فهذه الآية تأمر المؤمنين أن لا يلتقون مباشرة بهنّ، بل من وراء ستار أو حجاب.

يظهر أنّ الاحتمال الأوّل يختصّ بمرتبة محدودة من حجاب النساء.

فإنّ ظاهر الآية، سيّما اختصاص الآية بأزواج النبي(ص) ـ كما سيأتي ـ يجب القول أنّ السؤال من وراء حجاب له موضوعية وليس طريقة ويُرجّح الاحتمال الأوّل.
النقطة الثالثة: لمَن يتوجّه التكليف المذكور في الآية؟

هل أنّ التكليف يتوجّه للمؤمنين؟ أي أنّهم مكلّفين أن يسألوا أزواج النبي(ص) من وراء حجاب؟ أو أنّ التكليف مختصّ بنساء النبي(ص) وعليهن اللقاء بالرجال من وراء حجاب؟ أو أنّ كلاهما مكلّف بذلك والخطاب مختصّ بكلاهما، وهنا نجد ثلاثة احتمالات.

من الواضح أنّنا لو اعتبرنا التكليف متوجّه للمؤمنين، عندئذ لا يجب على أزواج النبي(ص) شيء إذا خالف أحد الصحابة وأراد اللقاء معهن وجهاً لوجه، ولا يكون عليهنّ جناح، والمخالف هو الذي يتحمّل الذنب لوحده.

من ناحية أُخرى نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يُخاطب المؤمنين «وإذا سألتموهن متاعاً» ، فيكون التكليف مختصّ بهم وليس بأزواج الرسول(ص)، لكنّه من ناحية أُخرى يُخاطب نساء النبي في الآية التالية ويقول: «لا جناح عليهنّ»، فنفهم منها أنّ التكليف كان مختصّاً بنساء النبي(ص)، وقد خاطب المؤمنين في الآية السابقة لأنّه من بداية الآية كان الخطاب متوجّهاً إليهم، وقد كلّفهم سبحانه وتعالى بأُمور أُخرى، وثانياً: من باب حرمة وشأن نساء النبي(ص) ـ «إويّاك أعني واسمعي يا جاره» ـ نزلت الآية بهذه الصورة لاعلامهن بهذا الحكم.

كلّ تلك القرائن تُبيّن أنّ التكليف يتوجّه لنساء النبي وليس للمؤمنين، فكأنّ الآية تقول: >لا ينبغي  لنساء النبي إعطاء شيء للمؤمنين إلّا من وراء حجاب< وتُحرّم عليهنّ هذا الفعل.

وإذا أردنا الجمع بين المجموعتين من القرائن، فيكون التكليف للطرفين، أي كلّ من المؤمنين والنساء مكلفّون بتنفيذ الحكم، فلا يكون الرجل الذي سأل زوجات النبي(ص) وجهاً لوجه مذنباً لوحده، بل يكون كلاهما مذنب في تلك الحالة، وتقول الآية في نهايتها: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، وهذه قرينة مؤيّدة لما قلناه.
النقطة الرابعة: هل السؤال من وراء حجاب ينحصر بطلب حاجة؟

إذا كانت الآية تدلّ على أنّ الكلام عند الحاجة، والسؤال يكون من وراء حجاب وستار، فالأولى أن يكون كذلك عند عدم الحاجة.

فنستنتج أنّه بناءاً على ما قيل في هذه الآية، يجب أن تكون علاقات نساء النبي(ص) من وراء حجاب في كلّ الظروف، سواءً عندما يكون للمؤمنين سؤال، أو في الظروف غير الضرورية الأُخرى.
النقطة الخامسة: هل تختصّ الآية بنساء النبي؟

يوجد رأيان في هذا المجال:

الرأي الأوّل: يقول بعضهم أنّ الآية تختصّ بنساء النبي(ص) ولا يجب على غيرهنّ الالتزام بالحجاب عند اللقاء بالرجال، وأيضاً لا يجب على الرجال الالتزام  في لقائهم بالنساء بكونه من وراء حجاب، إلّا مع أزواج النبي(ص).

واضح أنّه في حال قبول هذا الرأي، لا يمكننا استنباط حكم شامل حول الحجاب.

مع أنّه نجد بعض القرائن والشواهد التي تقوّي هذا الاحتمال، منها أنّ بعض التكاليف والأحكام التي ذكرتها نفس الآية، تختصّ بنساء النبي(ص)، مثل:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.

وجاء في الآية 53 التي هي موضوع بحثنا: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ}.

نظراً لهذه القرينة وأنّ ضمير >هنّ< ـ والذي جاء في هذه الآية الشريفة والآيات السابقة ـ يُشير إلى أزواج النبي(ص)، فيمكن القول: أنّ الحكم يختصّ بنساء النبي(ص)، ولا يشمل النساء الأُخريات.

ومن باقي الشواهد والقرائن على اختصاص الحكم بنساء النبي(ص)، هو شأن نزول الآية والذي فصّلناه في بداية الفصل.

الرأي الثاني: يقول بعضهم أنّ هذا الحكم صدر لجميع النساء المسلمات، ولا يختصّ بنساء النبي(ص).

ومن الأشخاص الذين أكّدوا على هذا الرأي وحاولوا إثباته، هو السيّد محمّد باقر الرضوي الكشميري القمّي اللكنهوي، الذي بيّن آرائه في الحجاب في كتاب بإسم >إسداء الرغاب في مسألة الحجاب<.

فإنّه يقول بأنّ الآية عامّة وشاملة لكلّ النساء، ويتمسّك بها ويُثبت ذلك بدليلين(7):
الدليل الأوّل

الآية في ذيلها تعلّل الحكم بوجوب الحجاب عند السؤال بأنّه {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، فإذا اتّفقنا أنّ حصول الطهارة القلبية هو علّة الحكم، فعليه يجب الإلتزام بكلّ ما يُسسبّب الطهارة لقلوب المؤمنين، وفي هذا الحكم إذا التزم باقي النساء المؤمنات بالحجاب في لقائهن بالرجال، فيكون ذلك أطهر لقلوبهنّ، فيجب عليهنّ الإلتزام بذلك.

وقد يسأل سائل عن كيفية حصول الطهارة في ذلك؟ الجواب: عندما يكون اللقاء مع النساء من وراء حجاب، أي لا يرى الرجل المرأة، تندفع كثير من الأخطار، ولا تحدث مقدّمات الخطأ، وبهذا تكون طهارة القلب محقّقة للرجل والمرأة.
الجواب:

يمكن الإشكال على هذا الاستدلال ومناقشته من جوانب عدّة:
الإشكال الأوّل

كيف نعرف أن ما ذُكر في ذيل الآية هو التعليل، لنقول >العلّة تعمّم وتخصّص<، وإذا كانت تلك هي العلّة، فيجب نفاذ الحكم معها وعدم نفاذه دونها، فقد يكون ما ذُكر هو حكمة الحكم، كما نرى في الآيات الأُخرى المرتبطة بالحجاب: >وذلك أزكى<، أو عبارات أُخرى والتي هي من حكم الحجاب وليست علّته، فإن كانت العبارة هي حكمة الحكم، لا نستطيع تعميم الحكم كما أراد المستدلّ على باقي المؤمنات.

ومن جهة أُخرى لا يمكن القول بأنّ الحكمة لا تُؤثّر في صدور الحكم، بل يجب القول بأنّ لها تأثير في الحكم إلى حدّ الاقتضاء، مع أنّه من الواضح أنّ هذا المقدار لا يكفي لتحققّ الحكم في باقي النماذج، وفي النتيجة مع أنّه لا ينعدم الحكم بانعدام الحكمة، لكن لا نستطيع القول أنّه يلزم من وجوده وجود الحكم في النماذج الأُخرى، وهنا إن كانت الأطهرية حكمة للحكم، لا نستطيع القول أنّ هذه الحكمة تستوجب سريان الحكم على باقي النساء(8).
الإشكال الثاني

ما هو فهمك لـ>الأطهر<؟ فإذا فهمت الأطهر بأنّه يقابل التلوّث بالذنب، وأنّ مراد الآية هو الطهارة من الذنب، أي بمعنى أنّه لو كان لقاء الرجال بالنساء من وراء حجاب فلن يرتكبا ذنباً، عندئذ يصحّ كلامك، وتستطيع إثبات الحكم بعلّة، أو بما ذكرناه من حكمة الطهارة.

لكنّ الطهارة ليست بمعنى النزاهة من الذنب والمعصية، بل أنّ الله يريد مستوى عالياً من الطهارة الروحية والقلبية، ولا يجب استحصالها شرعاً للجميع، وقد استنبطنا هذا المعنى من قوله تعالى الذي نزل بصيغة >أفعل التفضيل)، بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى أراد طهارة أكثر ـ ليست في مقابل الذنب والمعصية ـ لأصحاب النبي وأزواجه(ص).

وبهذا الاستدلال يصعب استنتاج العموم من الآية، وإثبات وجوب لقاء النساء من وراء حجاب.
الإشكال الثالث

لم يذكر الله سبحانه وتعالى مطلق الطهارة بأنّها علّة الحكم، بل يذكر متعلّقها وهو >الطهارة القلبية<، وفي بعض الآيات الكريمة ذُكرت الطهارة بصورة مطلقة، كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}(9)، وفي آية أُخرى: {وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}(10)، فنرى الطهارة مطلقة في هذه الآيات ويقوى احتمال أن تكون الطهارة هنا بمعنى الطهارة من الذنوب.

أمّا في قوله تعالى {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ}، فهذه الطهارة القلبية  للرجال ولأزواج النبي(ص) أثر قهري لعدم اللقاء المباشر بينهما، لذا لا يجب تحصيل هذه الطهارة للجميع، لنقول بلزوم تحصيل مقدّماتها ـ أي اللقاء من وراء حجاب ـ .

بناءاً على ذلك: لا يكون ذيل الآية لا في مقام بيان العلّة، ولا في مقام بيان الحكمة، بل هو ـ الطهارة القلبية ـ الأثر القهري والفائدة اللازمة لهكذا لقاء.

وبالنتيجة لا توجد ما يدلّ ويدعم تعميم الحكم على الآخرين.
الدليل الثاني

بناءاً على بعض الروايات التي تمنع المرأة من النظر إلى الرجل الأجنبي، نستطيع تعميم هذا الحكم على باقي النساء إضافة إلى زوجات النبي(ص)، ومنها رواية ابن أُمّ مكتوم، والتي ينقلها ثقة الإسلام الكليني:

>استأذن ابن أُمّ مكتوم على النبي(ص) وعنده عائشة وحفصة، فقال لهما: قوم فادخلا البيت، فقالتا: إنّه أعمى، فقال: إن لم يركما فإنّكما تريانه<(11).

ومثلها في مكارم الأخلاق عن أُمّ سلمة: >كنت عند رسول الله(ص) وعنده ميمونة، فأقبل ابن أُمّ مكتوم وذلك بعد أن أُمر بالحجاب، فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟<(12).

صاحب كتاب إسداء الرغاب يقول بعموم الآية بناءاً على هذه الروايات: جاء في رواية أُمّ سلمة: >بعد أن أُمر بالحجاب<، أي أنّ أمر النبي(ص) بالحجاب كان بعد أن أمر الله بذلك، وبعد هذه الملاحظة نستطيع استنباط قاعدة عامّة كما جاء في الآية الشريفة: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، وأنّه أمر عامّ بالحجاب، ولا يختصّ بأزواج النبي(ص)، وإلّا فكان على أُمّ سلمة أن تقول: >بعد أن أمرنا بالحجاب<، فبناءاً على قولها: >بعد أن أُمر بالحجاب<، معناه >أنّ أمر الحجاب غير مختصّ بنا<، وهو ما يتوافق مع المفهوم والمعنى الموجود في أذهان المسلمين حول كلّية وعمومية الآية.
الإجابة عن الإشكال الثاني:

توجد عدّة إشكالات على الاستدلال الثاني:

أوّلاً: كلا الروايتين مرسلتين، رواية الكافي ورواية أُمّ سلمة اللتان ذُكرتا في مكارم الأخلاق، فيكون الاستدلال بهاتين الروايتين بسبب ضعف السند موضع إشكال.

ثانياً: عبارة >بعد أن أُمر بالحجاب< لا توجد إلّا في رواية أُمّ سلمة وبنقل مكارم الأخلاق، لكن في باقي الكتب الروائية ـ سيّما في كتب أهل السنّة ـ نجد العبارة بأشكال أُخرى، منها: >بعد أن أمرنا بالحجاب<(13).

فيكون العموم الذي يريد المستدِلّ استخراجه من هذه العبارة موضع إشكال وترديد.

ثالثاً: لو افترضنا أنّ أُمّ سلمة قالت: >بعد أن أُمر بالحجاب<، وأنّ الرواية صحيحة من حيث الدلالة، مع هذا كيف يمكن الاستناد على استنباط غير المعصوم وجعله حجّة شرعية؟

ومع هذه الإشكالات لا يبقى مجال للاحتجاج والاستدلال بهذه الرواية.

هنا ملاحظة مهمّة حول دلالة هذه الرواية يجب الالتفات إليها:

لمَن تتوجّه رواية أُمّ مكتوم؟ مع أنّه مهما قلّت العلاقة واللقاء بين المرأة والرجل الأجنبي، كانت السلامة الفكرية والروحية لهما مضمونة أكثر من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، لكن عندما نبحث الرواية من الناحية الفقهية، وإن قلنا بصحّة سندها ودلالتها، يُطرح علينا سؤال مهمّ وهو: هل أنّ هذا الحكم ـ أي عدم رؤية المرأة للرجل الأجنبي ـ مختصّ بأزواج النبي(ص)؟ أو أنّه يشمل كلّ النساء؟

يدلّ ظاهر الرواية على أنّ الحكم يختصّ بأزواج النبي(ص)، كما أنّ لقاء المؤمنين بأزواج النبي(ص) يجب أن يكون من وراء حجاب، وهذا أيضاً من ما يختصّ بأزواج النبي(ص)، وإنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل للنبي(ص) شأناً رفيعاً وخاصّاً ولأزواجه.
النقطة السادسة: استنباط العموم بناءاً على قاعدة الاشتراك في التكليف

بحثنا في النقطة الخامسة استدلال كتاب >إسداء الرغاب< على عموم الآية لكلّ النساء المؤمنات.

وهنا نبحث شكلاً آخراً من الاستدلال لهذا المطلب، أساس هذا الاستدلال قاعدة الاشتراك في التكليف، فبعضهم أراد أن يعمّم حكم هذه الآية لكلّ النساء بناءاً على هذه القاعدة، ويقول: مع أنّ الآية الشريفة متعلّقة بأزواج النبي(ص) وتُبيّن حكماً لهنّ، لكنّه بناءاً على قاعدة الاشتراك في التكليف، كلّ النساء معنيّات بهذا الحكم، فإنّ هذه القاعدة تقول: بأنّ الأصل الأوّلي في التكاليف، هو اشتراكها بين الجميع، إلّا إذا وجدنا قرينة لإختصاصها، فإنّ كثيراً من الروايات الفقهية التي جاءت بشكل سؤال وجواب بين أحدهم والإمام المعصوم(ع)، تكون سنداً للحكم الشرعي بناءاً على هذه القاعدة، وإلّا فيجب اختصاص هكذا أحكام بنفس الشخص المخاطب من قبل الإمام(ع).

وفي هذه الآية أيضاً نستطيع أن نقول: أنّ قاعدة الاشتراك في التكليف، تُثبت مدلول الآية لكلّ النساء.
الجواب عن الإستدلال بقاعدة الاشتراك في التكليف

توجد عدّة اشكالات على هذا الاستدلال:

أوّلاً: قلنا سابقاً أنّ القرائن الموجودة قبل الآية وبعدها تُبيّن اختصاصها بأزواج النبي(ص) ومنها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}(14)، و{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}(15).

وكذلك الآيات التي تليها والتي تتعلّق بنكاح أزواج النبي(ص) أيضاً تُبيّن الاختصاص المذكور.

ونفهم من مجموع هذه الآيات ومنها الآية التي نبحثها، أنّ الله سبحانه وتعالى أراد بيان بعض ما يخصّ أزواج النبي(ص) من أحكام، وخاطبهن في بعضها وخاطب المؤمنين في البعض الآخر.

ثانياً: موضع قاعدة الاشتراك هو عندما نواجه حكماً ثابتاً في حياة الرسول(ص) وقد التزم به المؤمنون، ولا نعلم أيجب علينا الالتزام به أم لا؟ هنا نستطيع إثبات الحكم لللاحقين، بناءاً على قاعدة الاشتراك في التكليف، فتنحصر قاعدة الاشتراك فيما إذا كان الحكم شمل المخاطبين في ذلك الزمان، لكن هنا الحكم مختصّ بأهل النبي(ص)، وهناك شكّ في تشريعه لكلّ النساء في ذلك العصر، إذاً كيف يمكن الاستفادة من قاعدة الاشتراك في التكليف لإثبات عموم هذا الحكم؟
النقطة السابعة: هل الحكم المذكور في هذه الآية واجب على أزواج النبي(ص)؟

قلنا في النقطة الثالثة أنّه بالدرجة الأُولى المخاطب لهذه الآية هم المؤمنون الذين يتردّدون على بيت النبي(ص)، أي على الرجال الذين يتردّدون على بيت النبي(ص) أن يطلبوا ما يريدون من وراء حجاب، ولا يقابلوا نساء النبي(ص) وجهاً لوجه(16)، لكنّه بناءاً على قرائن مثل تنقيح المناط وروايات ـ كرواية ابن أُمّ مكتوم ـ نفهم أنّه عدا هذا الحكم هناك أحاكم أُخرى تختصّ بأزواج النبي(ص)، وهو ذهابهن خلف الحجاب والستار، وهذا ليس منطوق الآية، بل مفهوم مستنبط بواسطة القرائن.

وهنا يتركّز البحث على أنّه هل الحكم المختصّ بأزواج النبي(ص) أمر وجوبي، بحيث لو أراد رجل أن يطلب منهنّ شيئاً، أو يعطي أو يأخذ شيئاً منهنّ، يجب أن يكون من وراء حجاب مستور؟

لا يظهر من الآية وجوب الحكم، بل يظهر رجحانه، والدليل ما نستظهر من هذه الفقرة من الآية : {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}، فلا يظهر منها الوجوب أبداً، بل يظهر منها رجحان الانتشار والخروج من بين  يدي النبي(ص)، وتعبير {ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} أيضاً قرينة جيّدة على رجحان السؤال من وراء حجاب وليس وجوبه.

القرينة الأُخرى التي تقوّي احتمال الرجحان أمام احتمال الوجوب، هو أنّنا لا نستطيع الجزم بأنّ نساء النبي(ص) لم تُقابل ولو إحداهن رجلاً أجنبياً، ولم تره في حياة الرسول(ص)، والنظر في ما ذكرناه حول شأن نزول الآية دليل واضح على ما نقول.
إشكال:

>لا جناح< في الآية 55 قرينة على وجوب الآية التالية، أي في الآية 55 قد استثنى الله سبحانه بعضهم من هذا الحكم، وقال: أنّهم يستطيعون اللقاء المباشر بأزواج النبي(ص)، وبناءاً على استعمال >لا جناح< لبيان هذا الموضوع، قد يُشكل بعضهم أنّ هذا التعبير يُبيّن أنّ الآية السابقة التي تأمر المؤمنين بالسؤال من وراء حجاب تدلّ على الوجوب، وفي الآية 55 بيّن الاستثناء بعبارة >لا جناح<.

سنردّ على هذا الإشكال في المباحث المتعلّقة بالآية 55.
النقطة الثامنة: هل يمكن اعتبار هذه الآية من آيات الحجاب؟

مع ذكر لفظ >الحجاب< في الآية، لكنّه ليس المراد منها مصطلح الحجاب الذي نبحثه في الفقه، فهنا الحجاب لفظ يقابله اللقاء، يعني أنّه يجب عدم لقاء الرجال بأزواج النبي(ص) وسؤالهن وجهاً لوجه، بل يجب أن يكون ذلك من وراء >حجاب<، أي من وراء شيء يمنع رؤيتهما بعضاً لبعض، لكن الحجاب في الفقه يعني الستر، وبحث الحجاب هو في مقداره ومقياسه للرجل والمرأة.

إذاً لا ينبغي اعتبار هذه الآية من آيات الحجاب والاستناد بها كما فعل صاحب الجواهر+ متمسّكاً بإطلاقها بلزوم ستر الوجه والكفّين.

يستلزم حسن فهمنا لمراد الآية العلم بظروف الحياة الإجتماعية والمراودات المدنية في عصر نزولها، فإنّ الله سبحانه وتعالى يمنع المسلمين من إحدى تقاليد الجاهلية، كما فعل ذلك في آيات عديدة أُخرى؛ لأنّه في عصر الجاهلية كان الناس يأتون لبيوت بعضهم البعض دون الإنتباه إلى من هو أجنبي ومن هو محرم ويلتقون ببعضهم، ولا يستأذنون صاحب البيت عند دخوله.

إنّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية والآيات السابقة يوصي في كيفية دخول بيت النبي(ص) وكيفية التصرّف مع أهل بيته، ومقدار البقاء في بيته(ص)، وينتقد تقاليدهم المذمومة، ويدعوهم لإعادة النظر فيها، وتغيير تقاليدهم الجاهلية، فيقول: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}(17) ويقول: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}.

في كلّ تلك الآيات الهدف هو تغيير تلك التقاليد المذمومة في تعامل العرب مع أهل بيت النبي(ص)، وتعليمهم الاستئذان قبل دخول بيته، وعدم اللقاء بأزواجه(ص): {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، ثمّ يستثني المحارم في الآية التالية، والتي سنبحثها فيما بعد.

وقد لاحظنا أنّ في هذه الآية لا يوجد أي كلام حول ستر النساء وحتّى أزواج النبي(ص)، ولهذا لا يمكن اعتبارها إحدى آيات الحجاب، بل الكلام كلّه يتركّز حول كيفية تعامل ولقاء المسلمين بأزواج النبي(ص)، ومنعهم من بعض التصرّفات الجاهلية المذمومة وتأديبهم.
الفصل الثاني

سورة الأحزاب، الآية 55: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}.

بحثنا الآية 53 من سورة الأحزاب في الفصل السابق، فبعد أن يُبيّن الله سبحانه بعض الأُمور حول لقاء المؤمنين بأزواج النبي(ص) يقول: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

وهنا حول الآية 55 توجد عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: علاقتها بالآية 53

لا يمكن الاستناد لإحدى الآيات الكريمة أو روايات أهل البيت(عليهم السلام)، والحكم بناءاً عليها دون النظر إلى باقي الروايات والآيات، فهناك كثير من الآيات التي تُبيّن حكماً عامّاً، ثمّ يُخصّص ذلك الحكم في آية أُخرى أو رواية صحيحة، من تلك الآيات الآية 53 من سورة الأحزاب التي بحثناها في الفصل الأوّل، لتخصيص حكمها العام في الآية 55.

عندما نزلت الآية 53 فهمَ المؤمنون منها منع التقاء كلّ الرجال حتّى محارم أزواج النبي بهنّ، وأنّه يجب  اللقاء من وراء حجاب وستار إذا أرادوا الكلام معهنّ أو طلب شيء منهنّ.

إنّ الله سبحانه وتعالى يستثني سبعة مجاميع من ذلك الحكم العام ويقول: هؤلاء يمكنهم اللقاء والكلام مع أزواج النبي(ص) كما في السابق، ولا يجب عليهم الالتزام بالحجاب، وهم: الآباء، الأبناء، الإخوان، أبناء الإخوان، أبناء الأخوات، النساء، الإماء.
النقطة الثانية: ما المقصود من >نسائهنّ<؟

إحدى المجاميع المستثناة من الحكم العام في الآية 53 >نسائهنّ<، أي >نساء أزواج النبي<، لكن في الواقع ما المقصود منها؟ ومن هنّ النساء اللاتي تستثنيهنّ هذه الآية؟، ومن هنّ اللاتي تبقيهن في الحكم العام؟

ذكرت التفاسير الشيعية والسنّية معان متعدّدة في تفسير >نسائهنّ<.

وفي تفسير مجمع البيان يذكر احتمالين(18):

الاحتمال الأوّل: المقصود من >نسائهنّ< نساء المؤمنين، لا نساء اليهود ولا النصارى.

الاحتمال الثاني: المقصود من >نسائهنّ< جميع النساء، أي المؤمنات وغير المؤمنات.

وعلى الاحتمال الثاني فهذا ردّ على مَن يقول: إنّ الله قد يقصد كلّ المؤمنين والمؤمنات في الآية 53.

إذاً >نسائهنّ< تعني أنّ جميع النساء يجوز لهنّ اللقاء بأزواج النبي(ص)، والخطاب في الآية 53  مختصّ بالرجال فقط.

وللآلوسي في تفسيره >روح المعاني) قولين(19):

الأوّل: رواية ابن عباس، بأنّ المراد نساء المؤمنين.

الثاني: المقصود من >نسائهنّ< أقرباء أزواج النبي(ص) من أُمّهاتهن وأخواتهن وبنات أخواتهن ووصيفاتهن في البيت و… .

ومن بين هذه الاحتمالات الثلاثة نضعّف الاحتمال الثاني في مجمع البيان، سيّما أنّ >النساء< اُضيفت إلى أزواج النبي(ص)، ويتبيّن من ذلك اختصاص الحكم.

أمّا الاحتمالين الأُخريين، فالاحتمال الثاني للآلوسي بأنّ المقصود هو قريباتهن، يُناسب الفهم العرفي، لأنّهن كنّ يتردّدن على بيت النبي(ص) حتّى نزول هذه الآيات، كما اعتدن على ذلك، ولا يوجد سبب لمنعهن من اللقاء بأزواج النبي(ص)، خاصّة بالنظر إلى احتياج  كلّ من نساء النبي(ص) والوافدات لمثل هذه الزيارات، إلّا النساء الأجنبيات اللاتي يُمنع تردّدهن إلى بيت النبي(ص) لسببٍ ما.
النقطة الثالثة: أيختصّ حكم الآية 53 بالرجال فقط؟

تقول الآية 53: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ…} الخ وتضيف: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ…}، فالظاهر من الآية أنّها تُخاطب الرجال فقط، ويجوز للمؤمنات أن يواجهن أزواج النبي(ص)، كما يحلو لهنّ ويتردّدن إلى بيته(ص).

مع الاشكالات الواردة على هذا الاستظهار، وأنّ خطاب >يا أيّها الذين آمنوا< يعمّ الجميع رجالاً ونساءاً، واللفظ المذكور في الآية 55 >نسائهنّ< يؤكّد أنّ الآية 53 لا تختصّ بالرجال فقط، بل حتّى النساء لا يجوز لهنّ اللقاء بأزواج النبي(ص) كما يحلو لهنّ.
النقطة الرابعة: تغيير الخطاب في الآية 55

ذكرنا أنّ الآية 53 تُبيّن واجب وتكليف >الذين آمنوا< أمام النبي(ص) وأهل بيته، وأنّ الآية تُخاطب المؤمنين.

لكن في الآية 55 ينتقل الكلام إلى أزواج النبي(ص)، فإنّه يريد رفع بعض التكاليف عنهنّ، دون ما يضع على عاتقهنّ تكليف في الآية السابقة حسب الظاهر.

بعبارة أُخرى يقول الله في الآية 53: >يا أيها الذين آمنوا، افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا عند ذهابكم إلى بيت النبي<، وثمّ في الآية 55 يقول: >يجوز لأزواج النبي اللقاء بهؤلاء الأشخاص<.
السؤال هو:

لماذا لم يقل الله في الآية 55: >لا جناح على آبائهن<، أو بالعكس، لماذا لم يوجّه التكليف في الآية 53 إلى أزواج النبي(ص)، لتكون الآيتان بنفس السياق؟ ما هو دليل تغيير الخطاب؟ وهل يمكن القول: إنّ التكليف في الآية 53 أيضاً يتوجّه إلى أزواج النبي أوّلاً؟، ثمّ يتوجّه للمؤمنين؟

قلنا فيما سبق، أنّ ظاهر عبارة {فَاسْأَلُوهُنَّ} يوجّه التكليف للمؤمنين، ولا يكلّف أزواج النبي(ص) بشيء، وهنا نبحث احتمال كون {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} قرينة على كون التكليف متوجّه إلى أزواج النبي(ص) أوّلاً، من عدمه.
نقول في الإجابة:

أوّلاً: لا يكون تغيير الخطاب قرينة على أنّ الحكم السابق يتعلّق بأزواج النبي(ص)؛ لأنّ ظاهر الآية وخاصّة خطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو {فَاسْأَلُوهُنَّ} دليلان محكمان على أنّ التكليف كان متوجّهاً للمؤمنين وليس لأزواج النبي(ص).

ثانياً: يجب البحث في علّة تغيير الخطاب، وهنا توجد عدّة ملاحظات:

الأُولى: إنّ الآية {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ…} لا تكلّف أزواج النبي(ص) فقط، بل إنّها تُخبر المؤمنين أيضاً بتكليفهم قبالهنّ.

الثانية: قد يكون تغيير الخطاب قرينة على تكليف أزواج النبي(ص) بالآية السابقة، ولعلّ الله سبحانه وتعالى لم يخاطبهنّ مباشرة وبصراحة بسبب شأنهنّ الرفيع.

الثالثة: ذكر >نسائهن< و>ما ملكت أيمانهن< في المجاميع السبعة المستثناة، ويجب إضافتهما إلى أزواج النبي(ص)، وتستلزم بلاغة الكلام وفصاحته أن يبدأ الحكم بعبارة >لا جناح عليهنّ<، وليس >لا جناح على نسائهن<.
النقطة الخامسة: قرينة {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} على كون التكليف ملزِماً

قلنا: إنّه لا يمكن إثبات >وجوب< ذهاب أزواج النبي(ص) إلى وراء الحجاب، بناءاً على القرائن والشواهد الموجودة في الآية، وأنّ التكليف الملزِم يتوجّه للمؤمنين فقط.

لكنّه قد يُقال: إنّ {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} في الآية 55 قرينة على أنّ الحكم في الآية 53 ملزِم لأزواج النبي(ص) أيضاً؛ لأنّ كلمة {لَا جُنَاحَ} بمعنى عدم وجود أيّ إشكال واعتراض، وتأتي عندما تُعيّن للمستثنى منه تكليف ملزِم،  وعندما يكون التكليف غير ملزم لا يأتي تعبير {لَا جُنَاحَ}.
إجابة عن هذا الإشكال، نذكر ثلاثة أُمور:

الأوّل: أصل الإشكال يركّز على أنّ {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} يختصّ بأزواج النبي(ص) عدا المؤمنين، لكنّه ـ كما ذكرنا ـ يوجد إحتمال أنّ المؤمنين ـ أيضاً ـ مشمولون بهذه الآية، وأنّ تغيير الخطاب حدث بسبب البلاغة والضرورة.

الثاني: الحكم المستنبط من الآية 53 حول تكليف أزواج النبي(ص)، مأخوذ من مفهوم الآية لا منطوقها، ومن الواضح أنّ الاستثناء أو التخصيص يكون لمنطوق الكلام السابق لا لمفهومه.

الثالث: القاعدة في باب القرينة وذي القرينة هي: دائماً يكون ذيل الكلام ونهايته قرينة لصدره وبدايته، كما أنّ الشارع المقدّس يُبيّن حكماً بصيغة أمر، ويظهر من ذلك الوجوب، ثمّ يذكر شيئاً يكون قرينة على استحباب ذلك الأمر  وعدم وجوبه، إذاً لا يكون صدر الكلام قرينة لذيله مطلقاً.

وببيان أدقّ وأكثر شمولاً نقول: إنّ القرينة يجب أن تكون دائماً أوضح وأظهر من ذي القرينة، وإذا واجهنا أمراً كان فيه عدّة قرائن لانصراف ذي القرينة، يجب الأخذ بالقرينة الأظهر والأوضح، وتفسير الكلام على أساسها.

ومع بيان تلك الأُمور الثلاثة يتّضح الردّ على الإشكال المذكور.
الفصل الثالث: الآية 59 من سورة الأحزاب

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

نلاحظ في بعض الكتب حول آيات الحجاب يضيفون الآية 60 بعد الآية المذكورة، ويستدلّون بها(20)،  غير أنّ شأن النزول  بين الآيتين مختلف، فلا ينبغي ربطهما ببعض، وعليه سنكتفي ببحث الآية 59 في موضوع الحجاب؛ لأنّ الآية 60 ليس لها علاقة ببحث الحجاب.
المفهوم العام للآية

إنّ الله سبحانه وتعالى يأمر النبي(ص) في هذه الآية الشريفة أن يذكّر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين بأن: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}(21).

هذه الفقرة هي رسالة الآية، والأمر الأساسي فيها، وأمّا الفقرات التالية لها فهي للتوضيح وبيان فلسفتها.

إذاً البحث حول هذه الآية يتمحور حول ثلاثة أُمور:

1- معنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ}

2- معنى {جَلَابِيبِهِنَّ}

3- معنى >ذلك أدنى…< إلى آخر الآية.
التوجّهات والتحليلات المختلفة حول الآية

توجد ثلاث أنواع من التحليلات والبحوث حول هذه الآية الشريفة وعلاقتها بالحجاب:

1- إثبات أصل وجوب الحجاب للنساء.

اكتفى بعض الباحثين بهذه الآية لإثبات أصل وجوب الحجاب والاستدلال بها على ذلك.

2- تعيين مقدار ومدى الحجاب.

استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآية لإثبات وجوب ستر الوجه، وقالوا: إنّ إدناء الجلباب يقتضي ستر الوجه،  يُثبتون ـ أيضاً ـ  ستر الكفّين مع >عدم القول بالفصل<.

وتجدر الإشارة إلى وجود رؤيتين بين الفقهاء حول ستر الوجه والكفّين، فبعض يُوجب الستر، وبعض يُجيز الكشف، ولا يوجد قول ثالث بالتفصيل بين وجوب ستر الوجه، وجواز عدم ستر الكفّين مثلاً.

3- عدم دلالة الآية على وجوب الستر.

ويذهب بعض  إلى أنّ هذه الآية لا تدلّ إطلاقاً على وجوب الحجاب، وهذه الفقرة من الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} تريد بيان أحسن الحجاب للنساء فقط.
شأن نزول الآية

نجد اختلافاً حول شأن نزول الآية بين المذاهب الإسلامية، ولهذا السبب سنذكر تفاسير الشيعة وأهل السنّة في هذا المجال، وثمّ نبدأ البحث فيها.
أ: تفسير القمّي

ينقل في تفسير القمّي(قدس سره) حول شأن نزول الآية الشريفة:

>كان سبب نزولها أنّ النساء كنّ يخرجن إلى المسجد، ويُصلّين خلف رسول الله(ص)، وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاتي المغرب والعشاء والغداة، يقعد الشبّان لهنّ في طريقهنّ، فيؤذونهنّ ويتعرّضون لهنّ، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ  ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}<(22).

لتفسير هذه الآية ودراستها يجب الالتفات إلى الآية 33 من نفس السورة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وارتباط الآيتين ببعضها، ففي الآية 33 يمنع نساء النبي(ص) من الخروج من بيوتهنّ دون ضرورة، لكن في هذه الآية يذكر كيفية الخروج من البيت وآداب ذلك، دون التطرّق لمسألة ذهابهنّ إلى المسجد.

ومن هنا نعلم أنّ خروج النساء من بيوتهنّ للحضور في صلاة الجماعة ليس ممنوعاً، بل هو  أمر مستحبّ؛ بسبب كثير من الأُمور المذكورة في المجالات المرتبطة بهذا الشأن، أمّا بعض الروايات مثل >مسجد المرأة بيتها<(23)، التي تُؤكّد على صلاة المرأة في بيتها،  فهي فيما لو كان خروجها من البيت يُسبّب لهنّ أذى.

من ناحية أُخرى لا يوجد ارتباط بين هذه الآية والتي تليها في شأن النزول، لكنّ بعضهم يزعم أنّ مَن تذمّهم الآية التالية هم نفس الشبّان الذين كانوا يؤذون النساء، ويصفهم الله تعالى بـ >منافقون< و>الذين في قلوبهم مرض< و>مرجفون<.

ثمّ هناك شأن آخر ذكره المفسّرون في نزول هذه الآية جاء في تفسير القمّي:

>فإنّها نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله(ص) إذا خرج في بعض غزواته، يقولون: قُتل وأُسر<(24).
ب: تفسير الدرّ المنثور

نقرأ في تفسير الدرّ المنثور في شأن نزول هذه الآية:

>روي عن غير واحد، أنّه كانت الحرّة والأمَة تخرجان ليلاً لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل، من غير امتياز بين الحرائر والإماء، وكان فى المدينة فسّاق يتعرّضون للإماء، وربما تعرّضوا للحرائر، فإذا قيل لهم يقولون: حسبناهنّ إماءً، فأُمرت الحرائر يخالفن الإماء بالزي والتستر<(25).

و طبقاً لما ذُكر في شأن نزول الآية، فقد اختصّ أمر الله بإدناء الجلابيب بالحرائر، ولم يُلزم الإماء بذلك، بسبب ما ذُكر في ذيل الآية: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، فإنّه يمنع إيذاء الحرائر، أمّا الإماء فإنّهن بمنزلة الأموال والممتلكات، ولهذا يجب كشف شعورهن ووجوههن للمشتري عند البيع والشراء.

وقد ذُكر في بعض الروايات عن أهل السنّة: >كان عمر بن الخطّاب لا يدع في خلافته أمة تقنع، ويقول: إنّما القناع للحرائر لكيلا يؤذين<(26).
شأن نزول آخر في كتب أهل السنّة

في كتاب الدر المنثور أُعيد نفس شأن النزول هذا بعبارات أُخرى: >كانت نساء النبي(ص) يخرجنّ من بيوتهنّ لقضاء حاجاتهن ويتعرّضن لأذى المنافقين، وإذا قيل لهم يقولون: حسبناهنّ إماءً، حتّى نزلت الآية<.
البحث في تفاسير أهل السنّة

توجد عدّة إشكالات في شأن النزول المذكور في تفاسير أهل السنّة:
الإشكال الأوّل:

يقول المفسّرون من أهل السنّة في الآية السابقة : >وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ<(27)، أنّ عمر بن الخطّاب كان حريص على نزول آيات الحجاب، وكان يحتجّ على النبي(ص) لهذا السبب، ويتعرّض على  أزواجه(ص)(28).

ومن ناحية أُخرى يقولون في  ذيل هذه الآية: أنّه كان لا يدع في خلافته أمةً تتقنّع.

و قد ذكرت روايات أُخرى عن أهل السنّة أنّه كان يجلد الإماء التي كانت تتقنّع(29)، فكيف نستطيع الجمع بين هذين الأُسلوبين؟
الإشكال الثاني:

لا نرى في الآية الشريفة أيّ ذكر لعنوان الحرائر، بل أنّها تُخاطب >نساء المؤمنين<، وهذا العنوان يشمل كلّ النساء >حرائر وإماء)، مع أنّ الآية لا تشمل نساء الكفّار، وهذا ما سنبحثه لاحقاً، وأنّ هذه الآية إحدى أسباب استثناء نساء الكفّار.

و على كلّ تقدير، فعندما قبلنا أنّ الآية الشريفة تُخاطب الإماء كما الحرائر، فالأحكام المطروحة في هذه الآية تشمل الإماء أيضاً.
الإشكال الثالث:

بناءً على شأن النزول المذكور عند أهل السنّة يجب القول: أنّ الشارع المقدّس يمنع أذى الحرائر بوجوب الستر والحجاب عليهنّ، لكنّه لا يشير إلى الإماء، ويسمح للفسّاق أن يتعرّضوا لهنّ، فهل يتناسب هكذا حكم مع أُصول الإسلام؟
النتيجة:

نستنتج من البحث المتعلّق بشأن نزول الآية الشريفة أنّ هذه الآية لا تختصّ بفريقٍ خاصّ من النساء، بل تشمل كلّ نساء المسلمين، إماءاً وحرائراً.

وحتّى لو قبلنا بشأن النزول المذكور في كتب أهل السنّة، فلا يمكن القول بإختصاص الآية بالحرائر؛ لأنّه مع  كون الآية ونزولها في شأن تعرّض الحرائر للأذى، إلّا أنّه لقاعدة >الموضوع لا يخصّص بشأن النزول) ـ المتّفق عليها بين الشيعة والسنّة ـ لا يمكن حصر الحكم بالحرائر، ممّا يعني أنّ العموم الموجود في الآية يشمل كلّ النساء المسلمات، ولا مجال للتخصيص.
دراسة وبحث مفاد الآية

البحث الأوّل: صدر الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
النقطة الأُولى: مفهوم لفظ >أزواج<

في الآيات السابقة وبمناسبات مختلفة تمّت الإشارة إلى أزواج النبي(ص)، وقد ذكرنا ذلك في مقدّمة هذا البحث.

أمّا في هذه الآية فإنّها تأمر النبي(ص) ببيان أُمور لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين.

فهنا يتركّز بحثنا حول ما هو المقصود من >أزواج<؟ وهل يصحّ إطلاق لفظ >الزوج< على المرأة؟

يقول بعض علماء اللغة: إنّ إطلاق لفظ >الزوج< على المرأة من مقتضيات الفصاحة، وجاء عن الأصمعي في لسان العرب: هي زوج لا غير(30)، ولهذا لا يصحّ تسمية المرأة بالـ >زوجة<، ولفظ >الزوجة< يخالف الفصاحة.

أمّا القرآن الكريم أطلق لفظ الزوج على المرأة والرجل أيضاً، فمثلاً يقول في الآية 35 من سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، فيطلق لفظ >الزوج< على حوّاء، وفي سورة الأحزاب ـ التي نبحثها ـ يقول الله سبحانه وتعالى: >أمسك عليك زوجك<.

فيمكن أن نستفيد من هذه الآيات أنّ إطلاق الزوج على المرأة مطابق للفصاحة، أمّا عدم صحّة إطلاق لفظ >الزوجة< على المرأة يدخل في إطار البحوث اللغوية، وهذا ما لا يسعه بحثنا.
النقطة الثانية: مفهوم عبارة {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ}

جاء في كتب اللغة: أنّ >أدنى< و>يدني< لو أُقرنا بحرف >إلى< كانتا بمعنى التقريب، وإذا تعدّتا بحرف >على< كانتا بمعنى تغطية الشخص لجسمه، أو تعليقه شيئاً على جسمه، فـ {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} تعني تعليق شيء أو تغطية الجسم بشيء.

يجب التنبيه أنّ بعض المفسّرين فسّروا {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} بمعنى تقريب شيء على بدنهن، وقالوا: كانت النساء تلبس الجلابيب الفضفاضة والتي لا تلامس الجسم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يأمرهنّ في هذه الآية بتقريب الجلباب إلى إجسامهن، لكنّه نعلم أنّ فعل >يدنين< لو اقترن بـ >على< فيصبح معناه >يسدلن< من باب الإسدال، ويُرخين من باب الإرخاء، ولهذا لا يكون الفعل هنا بمعنى  التقريب.

جاء في كتاب مجمع البحرين: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} أي يرخينها ويُغطّين بها وجوههنّ أو أعطافهنّ(31).

ويقول الآلوسي في روح المعاني: >الإدناء: التقريب، يقال: أدناني أي قرّبني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عُدّيَ بـ >على) على ما يظهر لي<(32).

وجاء في كتاب مفردات الراغب ومصباح المنير، أنّ >يُدنين< تعني >يقربن<، ويقول المصنّف: >أي يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهن<.

وقد ذكرنا بطلان هذا الكلام سابقاً.

يقول الشهيد مطهّري& في كتاب مسألة الحجاب(33) >أن يُدنين< بمعنى التقريب، و{ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ} تعني >يُعرفن بأنّهنّ أهل العفاف والحجاب< .

لكن جمهور المفسّرين يفسّرون {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ} بـ >يُعرفن بأنّهنّ حرائر<، ويقولون: إنّ وجه التمايز بين الحرائر والإماء هو الجلباب.
الامتناع عن التفسيرات الذوقية

النقطة التي يجب على طلّاب العلم، لا سيّما  طلّاب علوم أهل البيت(عليهم السلام) التنبّه عليها، أنّه لا يوجد مجال للتفسيرات والاستنباطات الذوقية والشخصية في إطار العلم، ويجب أوّلاً تعلّم أُصول ومباني كلّ علم، ومن ثَمّ السير طبقاً لتلك الأُصول والمباني وصولاً للنتيجة.

جاء في إحدى الكتب المؤلّفة حول الحجاب أن {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} تعني >يجب على النساء تقريب جلابيبهنّ إلى أنفسهن لإيجاد علقة قلبية بينهنّ وبين الجلباب!!<، واضح أنّ هذا المعنى والاستنباط من الآية هو استنباط ذوقي وشخصي، وليس فيه أيّ علاقة بظاهر الآية، أو شأن نزولها، فينبغي الامتناع عن هكذا استنباطات وعدم ترويجها في المجتمع تحت عنوان الفقه.

ويقول بعضهم: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} تعني : يُقربن جلابيبهن لئلّا تظهر وجوههن، وليسترن وجوههن قدر المستطاع.

بناءاً على ما قاله أبو حفص في تفسير غريب القرآن، فمع أنّ >يُدنين< بمعنى الإرخاء، لكنّه لا يمكن القول بعدم وجوب ستر الجسم كلّه؛ لأنّه إذا فسّرنا >يُدنين< بمعنى >الإرخاء< الشامل، فيجب ستر الجسم كلّه حتّى العينين وهذا باطل، إذاً مع أن >يُدنين< تعني هنا الإرخاء والتعليق، لكنّها تتضمّن معنى >يقرّبن< أيضاً.

بناءاً على ما قيل، إنّ تفسير >يُدنين< ليس >يقرّبن< ـ كما قال الشهيد مطهري ـ ولا هو بمعنى >يسترن< كما قال العلّامة الطباطبائي، بل إنّ الستر والتغطية يجب أن يكون مع لحاظ مادّة >الدنو<، يعني أنّه لا يجب ستر تمام الوجه.

وأمّا البعض الآخر من الفقهاء الذين فسّروا >يُدنين< بمعنى >يسترن< و>يرخين< يقولون بوجوب ستر الوجه كلّه حتّى العينين، لكنّه لا يمكن استنباط هذا المفهوم من هذه الآية.
النتيجة

قلنا: إنّ المفسّرين فسّروا عبارة >يُدنين< بمعنى >يقرّبن< أو >يرخين< أو >يُعلّقن<.

و بناءاً على ما ذكرناه فإنّ معنى >الإرخاء< هو الأصحّ؛ لأنّه أوّلاً يتضمّن معنى الإدناء، فيكون جامعاً للقولين، وثانياً إذا كان >يُدنين< بمعنى >يقرّبن< سنصل إلى مفوم إجمالي لا يوضّح حدّ تقريب الجلباب، لكن إذا قلنا إنّ الإدناء والتقريب يتضمّن معنى الإرخاء والتعليق، يمكن استنباط الستر كما يمكن استنباط تقريب الجلباب إلى الوجه، بحيث تستطيع المرأة الرؤية أمامها.

النقطة الأُخرى التي يجب بحثها هنا، هي أنّه هل نستطيع الحكم بوجوب ستر الوجه بناءاً على هذه الآية دون الاستفادة من الأدلّة الأُخرى؟

يقول الشهيد مطهّري&: >لم أرَ فقيهاً استنبط وجوب ستر الوجه من هذه العبارة من الآية<(34)، مع هذا فإنّ بعض المفسّرين يستدلّون بهذا القسم من الآية لإثبات وجوب ستر الوجه.

فجاء عن ابن عباس في تفسير الجلالين: >قال ابن عباس وعبيدة: أمر الله النساء المؤمنات أن يُغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب ويُبدين علينا واحدة<(35).

ويقول ابن جوزي في كتاب زاد المسير في تفسير هذا القسم من الآية: >يُغطّين رؤوسهن ووجوههنّ<(36).

ويقول أبو حيّان في تفسير بحر المحيط: >قوله تعالى >يُدنين) شامل لجميع أجسادهن، والمراد بقوله >عليهنّ) أي على وجوههنّ، لأنّ الذي كان يبدوا منهنّ في الجاهلية هو الوجه<(37).

وجاء في تفسير أبي السعود: >يُدنين يعني تغطي إحدى عينيها وجبهتها<(38).

إذاً وكما قلنا سابقاً، نستطيع الحكم بوجوب ستر الوجه من هذه الآية، ويظهر من عبارة >يُدنين عليهنّ< وجوب كلّ الجسم، لكنّه يجب لحاظ معنى التقريب والإدناء أيضاً، فإنّ الستر هنا ليس بمعنى ستر الوجه كلّه، بل بمعنى تقريب الجلباب إلى الوجه.
النقطة الثالثة: هل الحجاب حقّ أو تكليف؟

يقول بعض: إنّ الآية المذكورة ليست في مقام تكليف النساء، بل أنّها تُبيّن حقّاً للنساء، سيّما بالنظر إلى شأن نزولها في كتب أهل السنّة، فإنّهم يقولون: إنّ آيات الحجاب هي التي نزلت في سورة النور، وأمّا هذه الآية فإنّها تهدي النساء إلى طريق للوقاية من الأذى.
يجب أن نذكر هنا عدّة ملاحظات

أوّلاً: كان يمكن تميّز الأمة عن الحرّة تقريباً قبل نزول هذه الآية، ولا يمكن القول: إنّ الحياة في تلك الفترة كانت على نحو لا تمتاز الحرائر عن الإماء فيها.

ثانياً: إذا قبلنا بشأن نزول الآية، فيجب القول: إنّ الله سبحانه وتعالى قبل عذر الفسّاق الذين كانوا يؤذون نساء المؤمنين وأعراضهم، وبدل أن يمنعهم من هذا الذنب، بيّن طريقة للنساء تحول دون أذى أُولئك الفاسقين، مع أنّنا نعلم أن ما كان يطرحه هؤلاء الفاسقين من أعذار غير مقبولة.

ثالثاً: أمر الله تعالى أزواج النبي(ص) وبناته ونساء المؤمنين بارتداء الجلباب، وهذا أوسع من شأن نزول الآية، وكما قلنا سابقاً فإنّ هذا الخطاب يشمل كلّ النساء المؤمنات، حرائر وإماء، وإذا تأمّلنا في سياق الآية نفهم أن الله سبحانه وتعالى يُبيّن حكماً شاملاً في هذه الآية، ويأمر النبي(ص) أن يبدأ بأزواجه ونسائه، ومن ثم يأمر نساء المؤمنين بأن يلبسن الجلباب.

رابعاً: أكثر الأحكام التنفيذية في صدر الإسلام كانت تبدأ بعبارة >يا أيها الذين آمنوا<، ويُكلّف المؤمنين بأمرٍ بناءاً على إيمانهم السابق، والآية التي نبحثها أيضاً تُخاطب نساء المؤمنين، والآية في سياق الأمر والتكليف، والموضوع هو أزواج وبنات النبي(ص) وكلّ نساء المؤمنين، ولا يختصّ الحكم بالحرائر ليُقال: إنّ الله ميّز بين الحرائر وغيرهن وأمرهنّ بإدناء الجلباب؛ ليُميّز بذلك الحرائر عن الإماء، أو ليُقال: إنّه لا يوجد إشكال في أذية الإماء، والإشكال فقط في أذية الحرائر، وأنّ الآية تُخاطب الحرائر خاصّة بأن يُدنين عليهنّ علامة ليَمنعن الفسّاق من الشباب وغيرهم من إيذائهن.
النقطة الرابعة: لا يُكلّف الكفّار بالفروع

بعض الفقهاء ومنهم آية الله العظمى فاضل اللنكراني& يقولون: إنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأُصول، لكنّه بناءاً على هذه الآية الشريفة يُمكن القول: إنّ الكفّار ليسوا مكلّفين بالفروع، وإحدى القرائن هي عبارة >نساء المؤمنين< في الآية.
النقطة الخامسة: مفهوم كلمة >جلباب<

ألف: الجلباب في كتب اللغة:

1- معجم مقاييس اللغة

جاء في معجم مقاييس اللغة: >الجيم واللام والباء >أصلان): أحدهما الإتيان بالشيء من موضع إلى موضع، والآخر شيء يغشّي شيئاً<(39).

>ومن هذا اشتقاق جلباب، وهو القميص، والجمع جلابيب<.

يظهر من هذا التعبير أنّ القميص هو الوشّاح ومصداق للجلباب؛ لأنّه يتضمّن خصوص التغطية.

2- صحاح اللغة

يقول الجوهري في صحاح اللغة: >الجلباب الملحفة<(40).

فيجب علينا تفسير معنى >الملحفة<.

يقول الجوهري: اللحاف: اسم ما يُلتحف به، وكلّ شيء تغطيتَ به فقد التحفتَ به.

ولكنّه يقول أيضاً: إلتحفت بالثوب: تغطّيت به.

يعني يمكن تسمية الثوب واللباس باللحاف، وذكر الثوب هنا كمثال لأصل التغطية.

3- لسان العرب

>الجلباب ثوب أوسع من الخمار، دون الرداء، تُغطّي به المرأة رأسها وصدرها<.

الرداء نفس لباس الإحرام والذي يُغطّي كلّ الجسم، وبناءاً على قول لسان العرب، الجلباب أقصر منه، فيمكن القول: إنّ الجلباب يُغطّي حتّى الركبة.

وبناءاً على قول ابن منظور في لسان العرب، الجلباب ما تُغطّي به المرأة رأسها وصدرها، فيكون أوسع من القناع، لأنّ القناع يُغطّي الرأس والرقبة تقريباً.

ويذكر لسان العرب احتمالاً ثانياً: >قيل: هو الثوب الواسع دون الملحفة تلبسه المرأة<.

والاحتمال الثالث المذكور في لسان العرب، هو أنّ الجلباب هو الملحفة أو ما يُشبهها.

>وقيل: هو الملحفة، وقيل: وهو ما تُغطّي بها المرأة الثياب من فوق كالملحفة<.

الاحتمال الرابع: >قيل: هو الخمار<.

يقول في لسان العرب: >قال ابن السكّيت: قالت العامرية: الجلباب الخمار؛ وقيل: جلباب المرأة مُلاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب<.

ثمّ يذكر لسان العرب تعابير وشواهد أُخرى لمعنى الجلباب، ولا نحتاج لذكرها هنا.

4- مقامات الحريري

مقامات الحريري من الكتب القيّمة في الأدب العربي، وإنّه يفيض بالكلمات العربية وغني بها، بحيث كُتب كتاباً آخر باسم >معجم كلمات مقام الحريري< حول الكلمات المذكورة فيه، جاء فيه حول >الجلباب<: الجلباب هو العباءة، والثوب الفوقاني، وسيع ولا يكون فيه أردان، ويُغطّي كلّ أجزاء جسم المرأة.

ثمّ يقول: الجلباب هو عباءة تلبسها النساء، ويُسمّيها العرب ملحفة أو ملحف.

ثمّ يذكر الآية التي نبحثها ويقول: والمراد من {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} في القرآن، نفس هذا اللباس الفوقاني أو العباءة التي تُغطّي كلّ الجسم(41).

5- المصباح المنير

>الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء<(42).

يظهر أنّ المقصود شيء يشبه الوشّاح الذي يُستعمل كثيراً في البلاد العربية، ويُغطّي الجسم حتّى الركبة، وهذا نفس الاحتمال الأوّل في لسان العرب، وقد مرّ ذكره.

6- القاموس المحيط

جاء في هذا الكتاب حول كلمة الجلباب: >الجلباب القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة<(43).

7- روح المعاني

يقول الآلوسي في تفسير روح المعاني: >والجلابيب جمع جلباب، وهو على ما رُوي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير: المقنعة، وقيل: الملحفة، وقيل: كلّ ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها<(44).

وبناءاً على كلامه، فيجب لبس الجلباب فوق باقي الثياب ولا يكفي لبسه فقط، في الحقيقة أنّ الجلباب ليس هو الثوب، ويجب أن يكون فوق كلّ الثياب الأُخرى، إذاً لا يكون تغطية الجسم بالجلباب، دون أن يكون تحته ثياب أُخرى، ما تقصده الآية من الحجاب والستر.
نتيجة البحث اللغوي

بناءاً على البحث السابق نواجه خمس إحتمالات لمعنى كلمة جلباب:

الاحتمال الأوّل: الذي نستنتجه من كتب اللغة وهو أقوى الاحتمالات ما ذكره الجوهري في >صحاح اللغة< وأيّده ابن منظور وآخرين.

يقول الجوهري: إنّ الجلباب هو الملحفة، والملحفة ما يُغطّي الجسم كلّه، كما يُغطّي اللحاف كلّ الجسم، وليس ما يُغطّي الصدر وما تحته أو الرأس.

الاحتمال الثاني: الجلباب أوسع من المقنعة ودون الرداء، ويُغطّي الجسم من الرأس حتّى الركبتين.

الاحتمال الثالث: الجلباب هو المقنعة، وهذا ما ذكره لسان العرب وغيره كأحد الاحتمالات .

الاحتمال الرابع: الجلباب هو القميص، والقميص هو اللباس العربي الطويل الذي يشبه >الدشداشة<، ولا يُطلق القميص على الثوب القصير.

الاحتمال الخامس: ما قاله الآلوسي، بأنّ الجلباب ثوب تلبسه النساء فوق ثيابهن، وعلى هذا المعنى فيكون المعطف وما يشابهه مصداقاً للجلباب.
الجلباب في الروايات

تكرّرت كلمة جلباب أكثر من 60 مرّة في بحار الأنوار، وقد نُقل عن أمير المومنين× هذا الحديث، وقد ذكره لسان العرب فقال: >مَن أحبّنا أهل البيت فليستعد للفقر جلباباً<(45)، وجاء في بعض الروايات: >فليعد للفقر…<(46).

يعني يجب على مَن أحبّنا أن يُعد لنفسه جلباباً من الفقر، أي أنّه يستر فقره إذا كان كذلك، ولا يُظهره.

وعلى كلّ حال فإنّ الجلباب في هذه الرواية يعني الستر الكامل، إن اعتبرنا الفقر جلباباً أو غيره.

وقال رسول الله(ص) في رواية أُخرى: >مَن ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له<(47).

نفهم من هذه الرواية والروايات المشابهة التي تُلحق الجلباب بإحدى الصفات الإنسانية، أنّ الجلباب هو ثوب شامل كما أنّ صفات الإنسان تشمل كلّ وجوده وليس جزءاً محدّداً منه، كما أنّ الحياء أو الفقر كلاهما صفات تشمل كلّ وجود الإنسان.
هل الجلباب يختصّ بالنساء؟

النقطة الأُخرى التي يجب ذكرها وهي: أنّ الجلباب لا يختصّ بالنساء، بل كان العرب يلبسونه رجالاً ونساءاً، وفي الحقيقة أنّ الجلباب ليس المقنعة أو الخمار ليكون مختصّاً بالمرأة، بل أنّه كان قسم من الثياب.

جاء في محاسن البرقي أنّه قال عقبة بن خالد:

>دخلت أنا ومعلّى بن خنيس على أبي عبد الله(ع) فأذن لنا وليس هو في مجلسه، فخرج علينا من جانب البيت من عند نسائه وليس عليه جلباب، فلمّا نظر إلينا رحّب فقال: مرحباً بكما وأهلاً…<(48).

ويظهر من هذه الرواية أنّ الجلباب لم يكن المقنعة أو الخمار أو ثوب يختصّ بالنساء، وبناءاً على هذه الرواية يمكن القول: إنّ الجلباب كان ثوباً يشبه العباءة التي يلبسها اليوم الرجال والنساء على اختلاف أنواعها، وأنّ الجلباب كان يستر كلّ الجسم، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً.
الجلباب في كلام المفسّرين وما كُتب في الحجاب

1- تفسير مجمع البيان

يُفسّر الشيخ الطبرسي في كتاب مجمع البيان الجلباب بأنّه الخمار أو المقنعة: > الجلباب خمار المرأة التي يُغطّي رأسها ووجهها إذا خرجت لحاجة<(49).

هنا نجد اختلاف بين تفسير الطبرسي للمقنعة عن ما ذُكر في كتب اللغة، فقد قلنا في البحث السابق أنّ الجلباب في كتب اللغة هو أوسع من الخمار والمقنعة، والمقنعة هي >ما تقنع به المرأة رأسها<، ولا يُغطّي باقي أجزاء جسمها، وقال بعض أهل اللغة: أنّ >القناع أوسع من المقنعة<(50).

وقد قال بعض المفسّرين في تفسير الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} أنّ الـ >خُمُر< جمع الخمار، مثل >القُنع< التي هي جمع >القناع<، والـ >خُمُر< نفس المقانع.

يقول مجمع البحرين: >ومقانعهن، جمع خمار وهي المقنعة، سُمّيت بذلك لأنّ الرأس يخمر بها، أي يُغطّى، وكلّ شيء غطّيته فقد خمرته<(51).

و الخَمر سُمّي خمر؛ لأنّه يحجب العقل.
إشكال على مجمع البيان:

كما قلنا سابقاً، فإنّ كلام كثير من اللغويين في معنى الجلباب لا يطابق ما قاله صاحب مجمع البيان؛ لأنّه حتّى الذين لم يفسّروا الجلباب بأنّه الملحفة، يؤكّدون على أنّ الجلباب أوسع من المقنعة.

وبغض النظر عن هذا الإشكال، فإنّ هذا القسم من الآية {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، علّةً كانت أو حكمة للحكم، لا يناسب تفسير الجلباب بالمقنعة؛ لأنّ النساء كنّ يلبسن المقنعة قبل الإسلام أيضاً، ولم يكن ارتداء المقنعة لوحده سبباً لمعرفة عفاف المرأة وحجابها.

2- تفسير الميزان

ذكر العلّامة الطباطبائي& احتمالين في تفسير الجلباب: >ثوب تشتمل به المرأة فيُغطّي جميع بدنها، أو الخمار الذي تُغطّي به رأسها ووجهها<.

فإنّ الترديد واضح في كلام العلّامة، ولا يعني كلامه أنّنا نستطيع إطلاق كلمة الجلباب على كلا التفسيرين.

3- كلام الشهيد مطهّري

يُفسّر الشهيد مطهّري في كتاب >مسألة الحجاب<(52) الجلباب بأنّه >وشّاح واسع<، وقد نقل هذا المعنى عن مجمع البيان، مع أنّ الشهيد مطهّري ذكر العباءة في مكان آخر من هذا الكتاب، ولكنّه فسّر الجلباب بالوشّاح الواسع.

فيرد على كلامه نفس الإشكال الذي ذكرناه على مجمع البيان.

4- الجامع في تفسير القرآن

يقول القرطبي في الجامع في تفسير القرآن: >الجلباب هو ثوب أكبر من الخمار<(53).

ثمّ يقول: >قيل إنّه القناع، والصحيح أنّه الثوب الذي يستر جميع البدن<.

كلام القرطبي يتناسب مع {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ}؛ لأنّه لو أرادت المرأة أن تُعرف بالحياء والعفاف، ينبغي أن تلبس ثوباً يُغطّي كلّ جسمها، لاسيّما بالنظر إلى ما قلناه بأنّ الجلباب ثوب يُلبس فوق باقي الثياب، فإنّ ارتداء الجلباب ـ والعباءة أحد مصاديقه ـ يستطيع تعريف المرأة بالعفاف والحياء، لئلّا تكون عرضةً لأذى الآخرين.
هل يتغيّر معنى الجلباب بتغيّر الزمان؟

البحث الآخر الذي يجب التطرّق إليه، هو أنّه هل نستطيع القول: >جلباب كلّ امرأة بحسبها في زمانها<؟ وبعبارة أُخرى: هل نستطيع القول: كما أنّ مصاديق البيع وآليّاته تختلف في كلّ زمان، لكنّها جميعاً مشمولة بـ {أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ}، فهل يكون للجلباب مصاديق متعدّدة في كلّ زمان، ونستطيع إطلاق لفظ الجلباب على كلّ تلك المصاديق؟

واضح أنّ هذا الكلام باطل، فإنّ البيع مفهوم عام، وواضح عند العقلاء، وتختلف مصاديقه، لكنّنا لو عرفنا مصداق الجلباب في زمن النبي(ص)، لا نستطيع افتراض مصاديق أُخرى له، كما لا نستطيع افتراض مصاديق أُخرى للصلاة وحدودها، ويجب إقامة الصلاة كما كان يُقيمها رسول الله(ص) .

أمّا البيع، فلم يكن له مصداق معيّن في زمن الرسول(ص)، وقد استُثنيت بعض مصاديقه في ذلك الزمان، أمّا الجلباب فكان له مصداق معيّن وواضح في زمن الرسول(ص)، فيجب علينا البحث عنه وإيجاده.
نتيجة البحث عن الجلباب

وعلى هذا فإنّ العباءة هي أبرز مصداق للجلباب؛ لأنّها تُغطّي كلّ البدن، ويُعرف حياء المرأة وعفّتها بواسطة ارتداء العباءة، ومن الناحية اللغوية فإنّ العباءة تُناسب ما نقلناه عن كتب اللغة والمعاجم.
أدلة أُخرى

1- جاء في كيفية ذهاب السيّدة فاطمة÷ إلى المسجد لاسترداد وثيقة فدك: >لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها<(54).

يظهر من هذه الرواية ولفظ >اشتملت<(55) أنّها÷ ارتدت شيئاً يُغطّي كلّ بدنها.

2- ابن عباس& هو أحد مفسّري القرآن، وله شأن عند الشيعة وأهل السنّة، وكثيراً ما يكون كلامه فصل الخطاب في الخلافات؛ لأنّه تتلمذ عند أمير المؤمنين× في علم تفسير القرآن.

و قد نُقلت عدّة روايات عن ابن عباس وابن مسعود بأنّ: >الجلباب هو الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل<(56).

وقد ذكر القرطبي في تفسيره هذه الرواية: >وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّه الرداء، واختلف الناس في صورة إرخائه<(57).

ثمّ يذكر القرطبي اختلاف الناس حول كيفية ارتدائه أو إرخائه، ثمّ ينقل عن ابن عباس: >قال ابن عباس وعبيدة السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتّى لا يظهر منها إلّا عين واحدة تبصر بها<.

ثمّ ينقل رواية أُخرى عن ابن عباس: >ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشدّه، ثمّ تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنّه يستر الصدر ومعظم الوجه<.

وعلى قول ابن عباس فإنّ الجلباب ثوب شامل وكامل لا يُظهر إلّا العينين.

3- ينقل السيوطي في الدرّ المنثور عن أُمّ سلمة رواية مشابهه لما نُقل عن ابن عباس وعائشة: >لمّا نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} خرجت نساء الأنصار وكان على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها<(58).

4- الشاهد الآخر، ما نُقل في صحيح مسلم عن عائشة: >خمرت وجهي بجلبابي<(59).

ومع هذه الرواية فلا نستطيع تفسير الجلباب بأنّه قميص أو مقنعة ومعطف، فإنّ المعطف والقميص لا يخمّران الوجه.

5- ينقل الشيخ الطبرسي في مجمع البيان هذه الرواية النبوية في ذيل هذه الآية: >لغير ذي محرم أربعة أثواب: درع وخمار وجلباب وإزار<(60).

وعلى هذه الرواية فالجلباب يختلف عن الخمار.

6- جاء في أحكام القرآن لإبن العربي المالكي: >اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة، عمادها أنّه الثوب الذي يستر به البدن<(61).

وقد فسّرت بعض التفاسير الجلباب بأنّه العباءة، مثل تفسير النسفي، وتفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير الشريف اللاهيجي، وعدد من التفاسير الأُخرى.

وبما أنّ الحديث عن كشف الحجاب بدأ من مرحلة المشروطة، فإنّ كثيراً من المحقّقين والفضلاء كتبوا رسالات في الحجاب، وطُبعت تلك الرسائل تحت عنوان >الرسائل الحجابية<، وإحداها رسالة >سدول الجلباب في فوائد الحجاب< للسيّد عبد الله البلادي البوشهري.

ورسالة أُخرى كتبها عدد من أصحاب المشروطة، ورسالة أُخرى في ردّ كشف الحجاب، كتبها >أسد الله الخرقاني<، وفي مقدّمة تلك الرسائل كلّها فُسّر الجلباب بأنّه العباءة .
شواهد ومؤيّدات للرأي المطروح

وأيضاً ممّا يؤيّد رأينا ضمير >هن< في {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ}، الذي يدلّ على وجوب تغطية كلّ جسم المرأة، وإلّا لكان ينبغي أن يُقال: >يُدنين على رؤوسهنّ<.

والشاهد الآخر لفظ >من< في {مِن جَلَابِيبِهِنَّ}.

فقد طرح المفسّرون عدّة احتمالات في العبارة:

الاحتمال الأوّل: أنّه يجب على المرأة ارتداء الجلباب، وأن ترتدي إحدى جلابيبها في كلّ مرّة تخرج من البيت، لكي لا تُعرف من جلبابها أو عبائتها.

يُضعف هذا الاحتمال عدم تمكّن الناس في تلك المرحلة من ذلك.

الاحتمال الثاني: >من< في {مِن جَلَابِيبِهِنَّ} للتبعيض من جلباب واحد، أي يضعن بعضاً من الجلباب أو العباءة على رؤوسهن، وثمّ يخرجن من البيت.

وبعبارة أُخرى: إنّ الإرخاء يختصّ ببعض الجلباب  لا كلّه، وبناءاً على هذا المعنى فلا نستطيع اعتبار المعطف أو المقنعة والخمار مصاديقاً للجلباب؛ لأنّ هذه الثياب لا يمكن إرخاؤها أو تعليقها على البدن، وعدم إمكانية وضع بعضاً منها على الرأس فهو محال بالأولى.

أمّا في تفسير الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}، فإنّه لا نرى >من خمرهنّ< بل >بخمرهن<، عكس الآية التي نبحثها وهي {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، إذاً >من< هنا للتبعيض، يعني بعض جلباب واحد وليس جلابيب متعدّدة، وهذه قرينة على أنّ الجلباب ليس مقنعة ولا خمار ـ والذي يعتبره البعض قناعاً ـ ولا المعطف، بل الجلباب هو العباءة المتعارفة اليوم، والتي يمكن تعليقها على الجسم.

الاحتمال الثالث: أن تكون >من< زائدة وهذا ما يخالف الظاهر.
البحث الثاني: تفسير وتوضيح {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}

كثير من كتب التفسير وكتب آيات الأحكام اعتبرت هذا القسم من الآية علةً للحكم.

جاء في أحد كتب أهل السنّة وهو آيات الأحكام للصابوني: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} فيه ذكر للعلّة أي >الحكمة< التي فُرض من أجلها الحجاب، والأحكام الشرعية كلّها مشروعة لحكمة(62).

فيكون {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} علّة للحكم المذكور في صدر الآية.

أمّا مجمع البحرين يقول في معنى كلمة >أدنى<: >الأدنى  يصرف على وجوه: فتارةً يعبّر به عن الأقل فيقابل بالأكثر والأكبر، وتارةً على الأذلّ والأحقر فيقابل بالأعلى والأفضل، وتارةً عن الأقرب فيقابل بالأقصى، وتارةً عن الأوّل فيقابل بالآخر، وبجميع ذلك ورد التنزيل<(63).

واضح أنّ المراد في الآية الشريفة هو المعنى الثالث أي : >ذلك أدنى< بمعنى >ذلك أقرب<.

قد اعتبر المؤيّدون لشأن نزول الآية الحرائر كمتعلّق لـ >يُعرفن< ، ومع البحوث السابقة تبيّن أنّ شأن النزول فيه إشكالات كثيرة.

ونرى في ما ذكره أبو حيّان في تفسير بحر المحيط، واختاره الصابوني في آيات الأحكام وجه مناسب في التبيين والتفسير:

{ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} أي يُعرفن بأنّهن أهل العفاف والعفّة، أهل الحجاب والعفاف، أي يُعرفن لتسترهنّ بالعفّة فلا يُتعرض لهنّ؛ لأنّ المرأة إذا كانت في غاية التستّر لم يقدم عليها، بخلاف المتبرّجة فإنّها مطموع فيها<(64).

ويؤيّد هذا الرأي الشهيد مطهّري ويؤمن بهذا.
هل {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} حكمة أو علّة؟

أحد المباحث الموجودة حول هذه الآية هو: أنّ فقرة {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} هل هي علّة الحكم أو حكمته؟ فإن كانت العلّة فيدور الحكم مدارها، أي يكون وجوب ارتداء الجلباب متعلّق بإحتمال أذى النساء في المجتمع، وإذا ارتفعت العلّة، لا يجب ارتداء الجلباب.

أو أنّ هذه الفقرة تُبيّن حكمة الحكم، ومع انتفاء الحكمة، لا ينتفي الحكم، كما أنّ عدم اختلاط المياه في عدّة الطلاق حكمة، وحتّى لو لم يمس الرجل زوجته خلال عشر سنين وثمّ طلّقها، يجب عليها الالتزام بالعدّة.
ما هو منشأ الظهور في كون العبارة علّةً للحكم أو حكمة له؟

قد نشكّ في كون عبارة حكمة للحكم أو علّة له، في هذه الحالة يقول بعض الفقهاء: إنّ العبارة لها ظهور في العلّية، فينبغي أن نسأل: ما هو منشأ الظهور؟

مثلاً في تعبير >لا تشري الخمر لأنّه مسكر<، هل نستطيع استنباط العلّية بسبب وجود >لام< التعليل في >لأنّه<؟ بينما نعلم أنّ اللام التعليلية في كثير من العبارات تُبيّن فائدة الحكم فقط، وهناك فرق شاسع بين فائدة الحكم وعلّته.

مثلاً في الآية الشريفة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاء وَالمُنكَرِ}، إنّ نهي الإنسان عن الفحشاء والمنكر بفضل إقامة الصلاة، غير إنّ النهي عن الفحشاء والمنكر ليس علّة لوجوبها، فإنّها ـ أيّ الصلاة ـ واجبة سواء نهته عن الفحشاء أو لم تنهه، أمّا في علّة الحكم فيكون وجود العلّة وعدمها سبب في تغيير الحكم، عكس الفائدة والحكمة.

أمّا في الآية التي نبحثها، هل الظهور في العلّة أو الحكمة؟

نرى أنّه لا يوجد منشأ عقلي لهذا الظهور، وبمراجعتنا لدأب الشارع نفهم أنّ العلّة في بيان الشارع، ليست العلّة المصطلحة في علم الأُصول، بل في كثير من العبارات، العلّة المبيّنة هي في الحقيقة حكمة الحكم وفائدته، وليست علّته الأُصولية.
لنتأمّل في هذه الآيات:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(65).

في هذه الآية، التقوى فائدة الصيام وليس علّته.

{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الالبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(66).

{وَأْتُواْ البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(67).

{لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(68).

{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(69).

{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(70).

في كلّ هذه التعليلات التي ذُكرت بلفظ >لعلّ< بيّنت فائدة الحكم وحكمته، وليس العلّة أو الملاك من تشريعها.

وإذا شككنا في عبارة، واتّبعنا قاعدة >الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب< ـ مع أنّه لنا رأي في هذه القاعدة ـ فيجب حمل هذه العبارة النادرة على الأعمّ الأغلب، ولا نعتبرها علّة بل هي حكمة، أو يجب الرجوع إلى القرائن، وإن لم نجد قرينة على العلّية، يجب اعتبارها حكمة.

في الآية الشريفة: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، وبناءاً على ما قلنا فإنّ كثير من التعليلات المذكورة للأحكام من قبل الشارع المقدّس هي حكمة، وفائدة في الحقيقة، ولم نجد قرينة على كون هذه الفقرة من الآية علّة للحكم.

إذاً هذه الفقرة هي حكمة وفائدة للحكم وليست علّته، بحيث لو لم يُؤذين النساء بدون ارتداء الجلباب، يجب عليهنّ ارتدائه أيضاً كما يظهر من سياق الآية، والأمر العام الذي ذكرته الآية للنبي(ص) وأزواجه وبناته ونساء المؤمنين وحكمة الحكم أن يُعرفن بالعفاف والحياء ولا يُؤذين.
هل للعباءة موضوعية في الحجاب؟

إذا اعتبرنا >ذلك أدنى أن يُؤذين< علّة للحكم، نستطيع القول: إنّه لو ارتدت المرأة ثوباً غير العباءة، بحيث يسترها ويكون علامةً لعفافها وحجابها، فإنّها نفّذت الأمر المذكور في الآية، ولا يجب عليها ارتداء العباءة إلزاماً.

لكنّنا بينّا في البحث السابق أنّ هذه الفقرة ليست علّةً للحكم، بل حكمته وفائدته، فيختصّ الحكم بالجلباب أو العباءة.

وقد اعتبر بعض العلماء الكبار {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} بأنّه علّة مؤقّتة للحكم، بمعنى أنّه: لدينا نوعين من علل الأحكام، الأوّل: العلّة الدائمة التي تكون علّة في كلّ الظروف والأزمنة، والثاني: العلّة المؤقّتة، مثلما نقول: >لا تأكل الرمّان لأنّه حامض<، فهذه العلّة دائمية، أمّا لو قيل >لا تأكل الرمّان، فإنّك مريض<، فإن علّة النهي عن أكل الرمّان هو المرض، والمرض مؤقّت فتكون العلّة مؤقّتة، والحكم مؤقّت تباعاً للعلّة.

وبهذا الاستدلال يقولون: إنّ علّة وجوب ارتداء الجلباب أذيّة الشباب الفاسق لهنّ، وبما أنّ العلّة مؤقّتة فيزول الحكم في حال عدم أذيّة النساء، ويستنتجون من ذلك بعدم إمكانية استنباط وجوب الحجاب من هذه الآية.

الجواب: لو افترضنا أنّ هذه الفقرة هي علّة الحكم، هل أنّ الأذية هي العلّة أو فرع منها؟ فإنّ الله تعالى يقول: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} ولم يقل: {أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، بل فرّع >يُؤذين< بالفاء لـ >يُعرفن<، وحتّى لو افترضنا أنّ هذه الفقرة هي العلّة، فنقول: إنّ علّة معرفتهن بأنّهن أهل الحجاب والعفاف هو >يُعرفن<، وعبارة >فلا يُؤذين< فرع للعلّة، وليست العلّة ذاتها.

ومع كلّ ما قيل، فإنّنا لا نملك دليل على انحصار علّة الحكم أو حكمته بما ذُكر في الآية؛ لأنّه لو أراد الله سبحانه وتعالى ذكر كلّ الحِكَم والفوائد لكلّ حكم، قد يستلزم ذلك تنزيل كتاب مستقلّ لكلّ حكم.
لون الجلباب

لا يوجد ذكر للون الجلباب في أيّ من الروايات، ولم تذكر كتب اللغة أيضاً لوناً خاصّاً للجلباب، لكن الحديث الذي ذكرناه حول نزول الآية يدلّ على سواد الثياب التي ارتدينها بعد نزول الآية، فجاء في الحديث:

>لمّا نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها<(71).

فمع أنّنا لا نستطيع ترجيح لون خاص من الناحية اللغوية، ومن ظاهر آيات القرآن، لكن من منظور عرف المتشرّعة يمكن القول: إنّ اللون الأسود هو الأنسب للجلباب.
ملاحظات أُخرى حول الآية الشريفة

النقطة الأُولى: الأمر في >قُل<

تبدأ بعض الآيات والأحكام التي يوحيها الله إلى نبيّه بكلمة >قل<، وتترتّب عليها عدّة أحكام، فقال البعض في حكمة بدء هذه الآيات بـ >قل<:

1- البدء بفعل >قل< يدلّ على أهمّية المسألة.

2- عندما لا يكتفي الشارع بالقول مرّة واحدة، ويريد تكرار التذكير من قبل النبي(ص)، يبدأ الحكم بفعل >قل<.

بعض نتائج قبول الاحتمال الثاني

إحدى المسائل التي تُطرح في مجال الحجاب، هي إمكان تدخّل الحاكم في موضوع الحجاب، وهل أنّ الحجاب أمر فردي  لا يمكن للحاكم التدخّل فيه؟

نظراً للإحتمال الثاني الذي ذكرناه في بدء الحكم بفعل >قل<، قد يمكننا القول: إنّ الله يأمر بتكرار وتذكير مسألة الحجاب، وعليه فعلى الحاكم أيضاً أن يذكّر وينبّه النساء بمسألة الحجاب ويعاقبهنّ إن امتنعن عن ارتدائه.

مع أنّ هذا البحث يحتاج إلى تحقيق وتدقيق أكثر، وذكرناه هنا كاحتمال ومقدّمة فقط، ويمكن طرحه وبحثه في مجال آخر.

ـــــــــــــــ
1ـ روح المعاني 11: 247.
2ـ مدارك التنزيل وحقايق التاويل 3: 453.
3ـ روح المعاني 11: 247.
4ـ روح المعاني 11: 248.
5ـ روح المعاني 11: 248.
6ـ البرهان في تفسير القرآن 4: 482.
7ـ راجع: إسداء الرغاب 1: 61-62.
8ـ في دروسنا في البحث الخارج لعلم الأُصول فرّقنا بشكل تفصيلي بين الحكمة والعلّة، وجعلنا التفريق بينهما على أساس التفريق بين الحيثية التقييدية والحيثية التعليلية.
9ـ التوبة: 108.
10ـ المائدة: 6.
11ـ الكافي 5: 534، ح2، وسائل الشيعة 20: 232، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، باب 129، ح1.
12ـ مكارم الأخلاق: 233، وسائل الشيعة 20: 232، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، باب 129، ح4.
13ـ تاريخ دمشق لابن عساكر 54: 436، الكشّاف 3: 229.
14ـ الأحزاب: 32
15ـ الأحزاب: 33
16ـ سنذكر في الفصل التالي أنّ الخطاب ليس مختصّ بهؤلاء الرجال، بل أنّه واجب على كلّ المؤمنين و المؤمنات.
17ـ الأحزاب: 53
18ـ مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 577.
19ـ روح المعاني 11: 251.
20ـ الآية 60: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾.
21ـ سنبحث معنى (الجلباب) و(يدنين) بصورة مفصّلة، وهنا نكتفي بنقل أصل الآية.
22ـ تفسير القمّي 2: 196.
23ـ من لا يحضره الفقيه 1: 238، باب فضل المساجد وحرمتها و ثواب مَن صلّى فيها، و1: 374، باب أدب المرأة في الصلاة، وتهذيب الأحكام 3: 253، باب فضل المساجد والصلاة فيها وفضل الجماعة وأحكامها.
24ـ تفسير القمّي 1: 34.
25ـ الدرّ المنثور 5: 221، روح المعاني 11: 263.
26ـ المصنّف 2: 135، الدرّ المنثور 5: 221.
27ـ الأحزاب: 53.
28ـ روح المعاني 11: 247.
29ـ الدرّ المنثور 5: 221.
30ـ لسان العرب 2: 292 نقله عن الأصمعي، وأيضا قال: قال بعض النحويين: أمّا الزوج فأهل الحجاز يضعونه للمذّكر و المؤنّث وضعاً واحداً، تقول المرأة: هذا زوجي، و يقول الرجل: هذه زوجي، قال الله عزّ وجل: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}.
31ـ مجمع البحرين1: 148.
32ـ روح المعاني 11: 264.
33ـ مسألة الحجاب 158 ـ 160.
34ـ فقه وحقوق، مجموعه آثار 19: 614.
35ـ جامع البيان في تفسير القرآن 2: 33، والدرّ المنثور 5: 221، والكشف والبيان 8: 64، تفسير القرآن العظيم (ابن كثير) 6: 425.
36ـ زاد المسير 6: 422.
37ـ البحر المحيط 7: 250.
38ـ روح المعاني 11: 264، الكشّاف 3: 560، تفسير روح البيان 7: 240، البحر المحيط 8: 504، إرشاد العقل السليم 7: 115.
39ـ معجم مقاييس اللغة 1: 469.
40ـ الصحاح 1: 101.
41ـ فرهنگ لغات مقامات حریری
42ـ المصباح المنير: 104.
43ـ القاموس المحيط 1: 63.
44ـ روح المعاني 11: 264.
45ـ نهج البلاغة.
46ـ بحار الأنوار 25: 15.
47ـ تحف العقول: 45، الاختصاص: 242، مشكوة الأنوار: 234، عوالي اللئالي 1: 264 و169.
48ـ المحاسن 1: 169.
49ـ مجمع البيان 8: 578.
50ـ الصحاح 3: 1273، لسان العرب 8: 300.
51ـ مجمع البحرين 3: 292.
52ـ فقه وحقوق، (مجموعه آثار) 19: 502.
53ـ الجامع لأحكام القرآن 14: 243.
54ـ الإحتجاج 1: 98.
55ـ الشملة: كساء يُشتمل به، والشملة: مصدر مَن اشتمل بثوب يديره على جسده كلّه، لا يخرج منه يده.
56ـ الكشّاف 3: 559.
57ـ الجامع لأحكام القرآن 14: 243.
58ـ الدرّ المنثور 5: 221.
59ـ صحيح مسلم 8: 114، صحيح البخاري 6: 6.
60ـ تفسير مجمع البيان 7: 271.
61ـ أحكام القرآن 3: 625.
62ـ روائع البيان 2: 379.
63ـ مجمع البحرين 2: 61.
64ـ البحر المحيط 8: 504، روح المعاني 11: 265.
65ـ البقرة: 183.
66ـ البقرة: 179
67ـ البقرة: 189.
68ـ آل عمران: 130
69ـ الأنعام: 152.
70ـ التوبة: 122.
71ـ الدرّ المنثور 5: 221.