من تراث الإمام الحسين (ع) الرائع ـ القسم الأول

للإمام الحسين ( ع ) تراث رائع خاض في جملة منه مجموعة من البحوث الفلسفية والمسائل الكلامية التي منيت بالغموض والتعقيد ، فأوضحها وبين وجهة الاسلام فيها ، كما خاض في كثير من كلماته أصول الأخلاق وقواعد الآداب ، وأسس الاصلاح الاجتماعي والفردي ، ونعرض فيما يلي لبعض ما اثر عنه :

 

القدر :

من أهل المسال الكلامية وأعمقها مسألة القدر فقد أثير حولها الكلام منذ فجر التاريخ الاسلامي ، وقد تصدى أئمة أهل البيت ( ع ) لبيانها ودفع الشبهات عنها ، وقد سأل الحسن بن الحسن البصري الإمام الحسين عنها ، فأجابه ( ع ) برسالة هذا نصها :

” اتبع ما شرحت لك في القدر مما أفضى إلينا أهل البيت ، فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره كفر ، ومن حمل المعاصي على الله عز وجل فقد افترى على الله افتراء عظيما ، وان الله لا يطاع بإكراه ، ولا يعصى بغلبة ، ولا يهمل العباد في الهلكة ، لكنه المالك لما ملكهم ، والقادر لما عليه أقدرهم ، فإن ائتمروا به فعل فليس هو حملهم عليها قسرا ، ولا كلفهم جبرا ، بل بتمكينه إياهم بعد اعذاره وانذاره لهم واحتجاجه عليهم طوقهم ومكنهم وجعل لهم السبيل إلى ما اخذ ما إليه دعاهم ، وترك ما عنه نهاهم عنه ، جعلهم مستطيعين لاخذ ما أمرهم به من شئ غير آخذ به ، ولترك ما نهاهم عنه من شئ غير تاركيه ، والحمد لله الذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة ، وما نهاهم عنه ، وجعل العذر لمن لم يجعل له السبيل حمدا متقبلا ، فأنا على ذلك اذهب ، وبه أقول انا وأصحابي أيضا عليه وله الحمد . . . ” ( 1 ) .

وقد عرض هذا الكلام الشريف إلى بحوث كلامية مهمة . والتعرض لها يستدعي الإطالة والخروج عن الموضوع .

 

الصمد :

كتب إليه جماعة يسألونه عن معنى الصمد في قوله تعالى : ” الله الصمد ” فكتب ( ع ) لهم بعد البسملة :

” أما بعد : فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه ، ولا تتكلموا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدي رسول الله ( ص ) يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ، وان الله سبحانه قد فسر الصمد فقال ( الله أحد الله الصمد ) ثم فسره فقال : ” لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) ( لم يلد ) لم يخرج منه شئ كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شئ لطيف كالنفس ، ولا يتشعب من البدوات كالسنة والنوم ، والخطرة والهم والحزن والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء ، والرغبة والسأمة والجوع والشبع ، تعالى عن أن يخرج منه شئ ، وان يتولد منه شئ كثيف أو لطيف ” ولم يولد ” :

لم يتولد منه شئ ، ولم يخرج منه شئ كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرهم والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع والثمار من الأشجار ، ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين والسمع من الاذن ، والشم من الانف ، والذوق من الفم ، والكلام من

اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر ، لا بل هو الله الصمد الذي لا شئ ، ولا في شئ ، ولا على شئ ، مبدع الأشياء وخالقها ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبناء بعلمه ، فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، ولم يكن له كفوا أحد . . ” (2) .

 

التوحيد :

وعرض الإمام الحسين ( ع ) في كثير من كلامه إلى توحيد الله فبين حقيقته وجوهره ، وفند شبه الملحدين وأوهامهم ، ونعرض فيما يلي لبعض ما اثر عنه :

1 – قال ( ع ) : ” أيها الناس اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم يضاهون قول الذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو الله ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، لا تدركه الابصار ، وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير ، استخلص الوحدانية والجبروت ، وأمضى المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن ، لا منازع له في شئ من امره ، ولا كفو له يعادله ، ولا ضد له ينازعه ولا سمي له يشابهه ، ولا مثل له يشاركه ، لا تتداوله الأمور ولا تجري عليه الأحوال ، ولا ينزل عليه الاحداث ، ولا يقدر الواصفون كنه عظمته ، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته ، لأنه ليس له في الأشياء عديل ، ولا تدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق ، ايقانا بالغيب لأنه لا يوصف بشئ من صفات المخلوقين ، وهو الواحد الصمد ، ما تصور في الأوهام فهو خلافه ، ليس برب من طرح تحت البلاغ ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء ، هو في الأشياء كائن ، لا كينونة محظور بها عليه ، ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها ، ليس بقادر من قارنه ضد أو ساواه ند ، ليس عن الدهر قدمه ، ولا بالناحية أممه ، احتجب عن العقول كما احتجب عن الابصار ، وعمن في السماء احتجابه كمن في الأرض ، قر به كرامته ، وبعده اهانته ، لا يحله في ، ولا توقته إذ ، ولا تؤامره إن علو من غير توقل ، ومجيئه من غير تنقل ، يوجد المفقود ، ويفقد الموجود ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت ، يصيب الفكر منه الايمان به موجودا ووجود الايمان لا وجود صفة ، به توصف الصفات لا بها يوصف ، وبه تعرف المعارف لا بها يعرف ، فذلك الله لا سمي له ، سبحانه ليس كمثله شئ ، وهو السميع البصير . . . ” ( 3 ) .

وحذر الامام من تشبيه الخالق العظيم بعباده أو بسائر الممكنات التي يلاحقها العدم ، ويطاردها الفناء .

ان الانسان مهما أوتي من طاقات فهي محدودة كما وكيفا ، ويستحيل ان يصل إلى ادراك حقيقة المبدع العظيم الذي خلق هذه الأكوان وخلق هذه المجرات التي تذهل العقول تصورها ، وما بنيت عليه من الأنظمة الدقيقة المذهلة . . . إن الانسان قد عجز عن معرفة نفسه التي انطوت على هذه الأجهزة العميقة كجهاز البصر والسمع والاحساس وغيرها فكيف يصل إلى ادراك خالقه ؟ !

وعلى اي حال فقد أوضحت هذه اللوحة الرائعة كثيرا من شؤون التوحيد ، ودللت على كيفيته ، وهي من أثمن ما اثر من أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال .

2 – يقول المؤرخون ان حبر الأمة عبد الله بن عباس كان يحدث الناس في مسجد رسول الله ( ص ) فقام إليه نافع الأزرق فقال له : تفتي الناس في النملة والقملة صف لي إلهك الذي تعبد ، فاطرق اعظاما لقوله ، وكان الإمام الحسين ( ع ) جالسا فانبرى قائلا :

– إلي يا بن الأزرق ؟

– لست إياك .

فثار ابن عباس ، وقال له :

” إنه من بيت النبوة ، وهم ورثة العلم . . . ” .

فاقبل نافع نحو الحسين فقال ( ع ) له :

” يا نافع من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس سائلا ناكبا عن المنهاج ، ظاعنا بالاعوجاج ، ضالا عن السبيل ، قائلا غير الجميل أصف لك إلهي ، بما وصف به نفسه ، وأعرفه بما عرف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب غير ملتصق بعيد غير منتقص يوحد ولا يبغض معروف بالآيات موصوف بالعلامات لا إله إلا هو الكبير المتعال . . . ” ( 4 ) .

فحار الأزرق ، ولم يطق جوابا ، فقد ملكت الحيرة أهابه ، وسد عليه الامام كل نافذة ينفذ منها ، وبهر جميع من سمعوا مقالة الامام ، وراحوا يرددون كلام ابن عباس ان الحسين من بيت النبوة وهم ورثة العلم .

 

الامر بالمعروف :

وجه الإمام ( ع ) هذه الكلمة النيرة إلى الأنصار والمهاجرين ، ونعى عليهم تسامحهم عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين بني عليهما المجتمع الاسلامي ، كما عرض إلى المظالم الاجتماعية التي منيت بها الأمة ، والتي كانت ناجمة عن تقصيرها في إقامة هذا الواجب الخطير ، وهذا نصها :

” اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول : ” لولا ينههم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم ” ( 5 ) وقال : ” لعن الذين كفروا من بني إسرائيل – إلى قوله – لبئس ما كانوا يفعلون ” ( 6 ) وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ، ورهبة مما يحذرون ، والله يقول : ” فلا تخشوا الناس واخشون ” (7) .

وقال : ” المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” ( 8 ) فبدأ الله بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ، وذلك أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفئ والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها . . . ثم أنتم أيتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفس الناس مهابة . يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ، ولا يدلكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها ، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر ، أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله ، وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون ، فاستخففتم بحق الأئمة ، فأما حق الضعفاء فضيعتم ، وأما حقكم بزعمكم فطلبتم ، فلا مالا بذلتموه ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها ، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله ، أنتم تتمنون على الله جنته ، ومجاورة رسله ، وأمانا من عذابه ، لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها ، ومن يعرف بالله لا تكرمون ، وأنتم بالله في عباده تكرمون وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون ، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون ، وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله محقورة ، والعمى والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون ، ولا في منزلتكم تعملون ، ولا من عمل فيها تعينون ، وبالأدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون ، وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك بأن مجاري الأمور والاحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة ولو صبرتم على الأذى ، وتحملتم المؤونة في ذات الله ، كانت أمور الله عليكم ترد ، وعنكم تصدر ، وإليكم ترجع ، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم ، واستسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات ، سلطهم على ذلك فراركم من الموت واعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم ، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور ، وبين مستضعف على معيشته ، مغلوب يتقلبون في الملك بآرائهم ، ويستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداءا بالأشرار ، وجرأة على على الجبار ، في كل بلد منهم لهم خول ، لا يدفعون يد لامس ، فمن بين جبار عنيد ، وذي سطوة على الضعفة شديد ، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد ، فيا عجبا ! : وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ، ومتصدق ظلوم ، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم ، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا ، القاضي بحكمه فيما شجر بيننا . . . ” ( 9 ) .

وحفلت هذه الوثيقة السياسية بذكر الأسباب التي أدت إلى تردي الأخلاق وشيوع المنكر في البلاد الناجمة من عدم قيام المهاجرين والأنصار بمسؤولياتهم وواجباتهم الدينية والاجتماعية ، فقد كانت لهم المكانة المرموقة في المجتمع الاسلامي لأنهم صحابة النبي ( ص ) وحضنة الاسلام ويمكنهم أن يقولوا : كلمة الحق ، ويناهضوا الباطل إلا انهم تقاعسوا عن واجباتهم مما أدى إلى أن تتحكم في رقاب المسلمين الطغمة الحاكمة من بني أمية الذين اتخذوا عباد الله خولا ، ومال الله دولا .

 

أنواع الجهاد :

وسئل الإمام أبو عبد الله ( ع ) عن الجهاد هل هو سنة أو فريضة فأجاب ( ع ) :

” الجهاد على أربعة أوجه : فجهادان فرض ، وجهاد سنة لا يقام إلا مع فرض ، وجهاد سنة ، فأما أحد الفرضين فجهاد الرجل نفسه عن معاصي الله ، وهو من أعظم الجهاد ، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض ، وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلا مع فرض فان مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة لو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب ، وهذا هو من عذاب الأمة ، وهو سنة على الامام وحده أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم ، وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في اقامتها ، وبلوغها واحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال لأنها احياء سنة ، وقد قال رسول الله ( ص ) : ” من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا . . . ” ( 10 ) .

 

تشريع الصوم :

سئل الإمام الحسين ( ع ) عن الحكمة في تشريع الصوم على العباد فقال ( ع ) : ” ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المساكين ” ( 11 ) .

 

الهوامش

( 1 ) فقه الرضا ( ص 55 ) بحار الأنوار 5 / 123 .

( 2 ) معادن الحكمة في مكاتيب الأئمة 2 / 48 – 49 .

( 3 ) تحف العقول ( ص 244 ) .

( 4 ) الكواكب الدرية 1 / 58 .

( 5 ) سورة المائدة : آية 63 .

( 6 ) سورة المائدة : آية 78 .

( 7 ) سورة المائدة : آية 44 .

( 8 ) سورة التوبة : آية 71 .

( 9 ) تحف العقول ( ص 237 – 239 ) .

( 10 ) تحف العقول ( ص 243 ) .

( 11 ) تاريخ ابن عساكر 13 / 56 .