لمحات من مُثل الإمام الحسين (ع) / القسم الثاني

وتجسدت في شخصية أبي الأحرار الإمام الحسين (ع) جميع القيم الانسانية ، والمثل العليا والتقت به عناصر النبوة والإمامة ، فكان بحكم مثله وتهذيبه فذا من أفذاذ التكامل الانساني ، ومثلا رائعا من أمثله الرسالة الاسلامية ، فهو – بحق – الأطروحة الخالدة للاسلام بجميع طاقاته ومقوماته .

إن أية صفة من صفات أبي الشهداء أو نزعة من نزعاته الكريمة لترفعه عاليا على جميع عظماء العالم ، وتدفع إلى القول – بلا مغالاة – أنه نسخة لا ثاني لها في تاريخ البشرية على الاطلاق ما عدا جده وأبيه ، ونعرض – بإيجاز – إلى بعض خصائصه وذاتياته .

6 – الصبر :

من النزعات الفذة التي تفرد بها سيد الشهداء الصبر على نوائب الدنيا ومحن الأيام ، فقد تجرع مرارة الصبر منذ أن كان طفلا ، فرزئ بجده وأمه ، وشاهد الاحداث الرهيبة التي جرت على أبيه ، وما عاناه من المحن والخطوب ، وتجرع مرارة الصبر في عهد أخيه ، وهو ينظر إلى خذلان جيشه له ، وغدرهم به ، حتى أرغم على الصلح ، وبقي معه يشاركه في محنه وآلامه ، حتى اغتاله معاوية بالسم ، ورام أن يوارى جثمانه بجوار جده فمنعته بنو أمية فكان ذلك من أشق المحن عليه .

ومن أعظم الرزايا التي صبر عليها أنه كان يرى انتقاض مبادئ الاسلام ، وما يوضع على لسان جده من الأحاديث المنكرة التي تغير وتبدل شريعة الله ، ومن الدواهي التي عاناها أنه كان يسمع سب أبيه وانتقاضه على كل هذه الرزايا والمصائب .

وتواكبت عليه المحن الشاقة التي تميد بالصبر في يوم العاشر من المحرم فلم يكد ينتهي من محنة حتى تطوف به مجموعة من الرزايا والام ، فكان يقف على الكواكب المشرقة من أبنائه وأهل بيته ، وقد تناهبت السيوف والرماح أشلاءهم فيخاطبهم بكل طمأنينة وثبات : ” صبرا يا أهل بيتي ، صبرا يا بني عمومتي ، لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم ” .

وقد بصر شقيقته عقيلة بني هاشم ، وقد أذهلها الخطب ، ومزق الأسى قلبها ، فسارع إليها ، وأمرها بالخلود إلى الصبر والرضا بما قسم الله .

ومن أهوال تلك الكوارث التي صبر الامام عليها أنه كان يرى أطفاله وعياله ، وهم يضجون من ألم الظمأ القاتل ، ويستغيثون به من أليم العطش فكان يأمرهم بالصبر والاستقامة ، ويخبرهم بالعاقبة المشرقة التي يؤل إليها أمرهم بعد هذه المحن الحازبة .

وقد صبر على ملاقاة الأعداء الذين ملئت الأرض جموعهم المتدفقة ، وهو وحده يتلقى الضرب والطعن من جميع الجهات ، قد تفتت كبده من العطش وهو غير حافل بذلك كله .

لقد كان صبره وموقفه الصلب يوم الطف من أندر ما عرفته الانسانية يقول الأربلي : ” شجاعة الحسين يضرب بها المثل ، وصبره في الحرب أعجز الأوائل والأواخر ” ( 10 ) .

إن أي واحدة من رزاياه لو ابتلى بها أي انسان مهما تدرع بالصبر والعزم وقوة النفس لأوهنت قواه واستسلم للضعف النفسي ، ولكنه ( ع ) لم يعن بما ابتلي به في سبيل الغاية الشريفة التي سمت بروحه أن تستسلم للجزع أو تضرع للخطوب ، يقول المؤرخون : إنه تفرد بهذه الظاهرة ، فلم توه عزمه الاحداث مهما كانت ، وقد توفى له ولد في حياته فلم ير عليه أثر للكآبة فقيل له في ذلك فقال ( ع ) :

” إنا أهل بيت نسأل الله فيعطينا ، فإذا أراد ما نكره فيما نحب رضينا ” ( 11 )

لقد رضى بقضاء الله واستسلم لامره ، وهذا هو جوهر الاسلام ومنتهى الايمان .

 

7 – الحلم :

أما الحلم فهو من أسمى صفات أبي شهداء ( ع ) ومن أبرز خصائصه فقد كان – فيما أجمع عليه الرواة – لا يقابل مسيئا بإسائته ، ولا مذنبا بذنبه ، وإنما كان يغدق عليهم ببره ومعروفه شأنه في ذلك شأن جده الرسول ( ص ) الذي وسع الناس جميعا بأخلاقه وفضائله ، وقد عرف بهذه الظاهرة وشاعت عنه ، وقد استغلها بعض مواليه فكان يعمد إلى اقتراف الإساءة إليه لينعم بصلته واحسانه ، ويقول المؤرخون : إن بعض مواليه قد جنى عليه جناية توجب التأديب فأمر ( ع ) بتأديبه ، فانبرى العبد قائلا :

” يا مولاي ، إن الله تعالى يقول : ” الكاظمين الغيظ ” .

فقابله الامام ببسماته الفياضة وقال له : ” خلوا عنه ، فقد كظمت غيظي . . . ” .

وسارع العبد قائلا : ” والعافين عن الناس ” . ” قد عفوت عنك . . . ” .

وانبرى العبد يطلب المزيد من الاحسان قائلا : ” والله يحب المحسنين ” .

” أنت حر لوجه الله . . . ” .

ثم أمر له بجائزة سنية ( 12 ) تغنيه عن الحاجة ومسألة الناس .

لقد كان هذا الخلق العظيم من مقوماته التي لم تنفك عنه ، وظلت ملازمة له طوال حياته .

 

8 – التواضع :

وجبل الإمام الحسين ( ع ) على التواضع ومجافاة الأنانية والكبرياء ، وقد ورث هذه الظاهرة من جده الرسول ( ص ) الذي أقام أصول الفضائل ومعالي الأخلاق في الأرض ، وقد نقل الرواة بوادر كثيرة من سمو أخلاقه وتواضعه نلمع إلى بعضها :

1 – انه اجتاز على مساكين يأكلون في ( الصفة ) فدعوه إلى الغداء فنزل عن راحلته ، وتغذى معهم ، ثم قال لهم : قد أجبتكم فأجيبوني ، فلبوا كلامه وخفوا معه إلى منزله ، فقال ( ع ) لزوجه الرباب : اخرجي ما كنت تتدخرين ، فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم ( 13 ) .

2 – مر على فقراء يأكلون كسرا من أموال الصدقة ، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم ، فجلس معهم ، وقال : لولا أنه صدقة لأكلت معهم ثم دعاهم إلى منزله ، فأطعمهم ، وكساهم ، وأمر لهم بدراهم ( 14 ) .

لقد اقتدى ( ع ) في ذلك بجده الرسول ( ص ) وسار على هديه فقد كان – فيما يقول المؤرخون – يخالط الفقراء ويجالسهم ، ويفيض عليهم ببره واحسانه ، حتى لا يتبيغ بالفقير فقره ، ولا يبطر الغنى ثراؤه .

3 – وجرت مشادة بين الحسين وأخيه محمد بن الحنفية ، فانصرف محمد إلى داره وكتب إليه رسالة جاء فيها ” أما بعد : فان لك شرفا لا أبلغه ، وفضلا لا أدركه ، أبونا علي لا أفضلك فيه ولا تفضلني ، وأمي امرأة من بني حنيفة ، وأمك فاطمة بنت رسول الله ( ص ) ولو كان ملء الأرض مثل أمي ما وفين بأمك ، فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وسر إلي ، وترضيني ، وإياك أن أكون سابقك إلى الفضل الذي أنت أولى به مني . . . ” .

ولما قرأ الحسين رسالة أخيه سارع إليه وترضاه ( 15 ) وكان ذلك من معالي أخلاقه وسمو ذاته .

 

9 – الرأفة والعطف :

ومن صفات أبي الأحرار أنه كان شديد الرأفة بالناس يمد يده لكل ذي حاجة ، ويسعف كل ذي لهفة ، ويجير كل من استجار به ، وقد فزع مروان إليه والى أخيه وهو من ألد أعدائهم ، بعد فشل واقعة الجمل ، وطلب منهما أن يشفعا له عند أبيهما ، فخفا إليه وكلماه في شأنه وقالا له : ” يبايعك يا أمير المؤمنين ” .

فقال ( ع ) : ” أولم يبايعني قبل قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته انها كف يهودية ، لو بايعني بيده لغدر بسبابته ، أما أن له امرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمة من ولده يوما أحمر ” .

وما زالا يلطفان به حتى عفا عنه ، إلا أن هذا الوغد قد تنكر لهذا المعروف وقابل السبطين بكل ما يملك من وسائل الشر والمكروه ، فهو الذي منع جنازة الإمام الحسن أن تدفن بجواز جده ، وهو الذي أشار على الوليد بقتل الإمام الحسين إن امتنع من البيعة ليزيد ، كما أظهر السرور والفرح بمقتل الإمام ( ع ) وحسب مروان أنه من تلك الشجرة التي لم تثمر إلا الخبيث الدنس وما يضر الناس .

ومن ألوان تلك الصور الخالدة لعطف الامام ورأفته بالناس أنه لما استقبله الحر بجيشه البالغ ألف فارس ، وكان قد أرسل لمناجزته وقتاله فرآه الامام وقد أشرف على الهلاك من شدة العطش فلم تدعه أريحيته ولا سمو ذاته أن لا يقوم بانقاذهم ، فأمر ( ع ) غلمانه وأهل بيته أن يسقوا القوم عن آخرهم ، ويسقوا خيولهم فسقوهم عن آخرهم ، وكان فيهم علي بن الطعان المحاربي الذي اشتد به العطش فلم يدر كيف يشرب فقام ( ع ) بنفسه فسقاه ، وكانت هذه البادرة من أروع ما سجل في قاموس الانسانية من الشرف والنيل .

 

10 – الجود والسخاء :

من مزايا الامام أبي الأحرار ( ع ) الجود والسخاء فقد كان ملاذا للفقراء والمحرومين ، وملجأ لمن جارت عليه الأيام ، وكان يثلج قلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه يقول كمال الدين بن طلحة :

” وقد اشتهر النقل عنه أنه كان يكرم الضيف ، ويمنح الطالب ، ويصل الرحم ، ويسعف السائل ، ويكسوا العاري ، ويشبع الجائع ، ويعطي الغارم ويشد من الضعيف ، ويشفق على اليتيم ، ويغنى ذا الحاجة ، وقل أن وصله مال إلا فرقه ، وهذه سجية الجواد وشنشنه الكريم ، وسمة ذي السماحة ، وصفة من قد حوى مكارم الأخلاق ، فأفعاله المتلوة شاهدة له بصنعه الكرم ، ناطقة بأنه متصف بمحاسن الشيم . . . ” ( 16 ) .

ويقول المؤرخون إنه كان يحمل في دجى الليل السهم الجراب يملؤه طعاما ونقودا إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتى أثر ذلك في ظهره ( 17 ) وكان يحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتى يهب عامته ، وقد عرف معاوية فيه هذه الظاهرة فأرسل إليه بهدايا والطاف كما أرسل إلى غيره من شخصيات يثرب وأخذ يحدث جلساءه بما يفعله كل واحد منهم بتلك الألطاف فقال في الحسين :

” أما الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفين فان بقي شئ نحر به الجزور وسقى به اللبن . . . ” .

وبعث رقيبا يرى ما يفعله القوم فكان كما أخبر فقال معاوية : ” أنا ابن هند ، أنا أعلم بقريش من قريش ” ( 18 ) .

وعلى أي حال فقد نقل المؤرخون بوادر كثيرة من جود الامام وسخائه نلمع إلى بعضها :
1 – مع أسامة بن زيد .

ومرض أسامة بن زيد مرضه الذي توفي فيه فدخل عليه الامام عائدا فلما استقر به المجلس قال أسامة : وا غماه .

– ما غمك ؟ .

– ديني وهو ستون ألفا .

– هو علي .

– أخشى أن أموت قبل أن يقضى .

– لن تموت حتى أقضيها عنك .

وبادر الإمام ( ع ) فقضاها عنه قبل موته ( 19 ) وقد غض طرفه عن أسامة فقد كان من المتخلفين عن بيعة أبيه ، فلم يجازيه بالمثل وإنما أغدق عليه بالاحسان .
2 – مع جارية له :

روى أنس قال : كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحانة فحيته بها ، فقال لها : أنت حرة لوجه الله تعالى ، وبهر أنس فانصرف يقول :

– جارية تجيئك بطاقة ريحان ، فتعتقها ؟ ! !

– كذا أدبنا الله ، قال تبارك وتعالى : ” وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ” ، وكان أحسن منها عتقها ( 20 ) وبهذا السخاء والخلق الرفيع ملك قلوب المسلمين وهاموا بحبه وولائه .
3 – مع غارم :

كان الإمام الحسين ( ع ) جالسا في مسجد جده الرسول ( ص ) وذلك بعد وفاة أخيه الحسن ( ع ) ، وكان عبد الله بن الزبير جالسا في ناحية منه كما كان عتبة بن أبي سفيان جالسا في ناحية أخرى منه ، فجاء اعرابي على ناقة فعقلها ودخل المسجد فوقف على عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام ، فقال له الأعرابي :

” اني قتلت ابن عم لي ، وطولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئا ؟ ” .

فرفع عتبة إليه رأسه وقال لغلامه : ادفع إليه مائة درهم ، فقال له الاعرابي : ” ما أريد إلا الدية تامة ” .

فلم يعن به عتبة ، فانصرف الاعرابي آيسا منه ، فالتقى بابن الزبير فعرض عليه قصته ، فأمر له بمائتي درهم فردها عليه ، وأقبل نحو الإمام الحسين ( ع ) فرفع إليه حاجته ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ، وقال له :

هذه لقضاء ديونك ، وأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى وقال له : هذه تلم بها شعثك وتحسن بها حالك ، وتنفق بها على عيالك ، فاستولت على الأعرابي موجات من السرور واندفع يقول :

طربت وما هاج لي معبق * ولا لي مقام ولا معشق

ولكن طربت لآل الرسول * فلذ لي الشعر والمنطق

هم الأكرمون الأنجبون * نجوم السماء بهم تشرق

سبقت الأنام إلى المكرمات * وأنت الجواد فلا تلحق

أبوك الذي ساد بالمكرمات * فقصر عن سبقه السبق

به فتح الله باب الرشاد * وباب الفساد بكم مغلق ( 21 )


4 – مع اعرابي :

وقصده اعرابي فسلم عليه وسأله حاجته ، وقال : سمعت جدك يقول : إذا سألتم حاجة فاسألوها من أربعة أما عربي شريف ، أو مولى كريم ، أو حامل القرآن ، أو صاحب وجه صبيح ، فأما العرب فشرفت بجدك ، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم ، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل ، وأما الوجه الصبيح فاني سمعت رسول الله ( ص ) يقول : إذا أردتم أن تنظروا إلي فانظروا إلى الحسن والحسين .

فقال له الحسين ( ع ) : ما حاجتك ؟

فكتبها الأعرابي على الأرض ، فقال له الحسين ( ع ) : سمعت أبي عليا يقول : المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أجبت عن واحدة فلك ثلث ما عندي ، وان أجبت عن اثنين فلك ثلثا ما عندي وان أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي ، وقد حملت إلي صرة من العراق الأعرابي : سل ولا حول ولا قوة إلا بالله .

الإمام الحسين : أي الأعمال أفضل ؟

– الايمان بالله .

– ما نجاة العبد من الهلكة ؟ الثقة بالله .

– ما يزين المرء ؟ علم معه حلم .

– فان أخطأه ذلك ؟ مال معه كرم .

– فان أخطأه ذلك ؟ فقر معه صبر .

– فان أخطأه ذلك ؟ صاعقة تنزل من السماء فتحرقه .

فضحك الامام ورمى إليه بالصرة ( 22 ) .

 

5 – مع سائل :

ووفد عليه سائل فقرع الباب وأنشأ يقول :

لم يخب اليوم من رجاك ومن * حرك من خلف بابك الحلقه

أنت ذو الجود أنت معدنه * أبوك قد كان قاتل الفسقة

وكان الامام واقفا يصلي فخف من صلاته ، وخرج إلى الأعرابي فرأى عليه أثر الفاقة ، فرجع ونادى بقنبر فلما مثل عنده قال له : ما تبقى من نفقتنا ؟ قال : مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك ، فقال هاتها فقد أتى من هو أحق بها منهم ، فأخذها ودفعها إلى الأعرابي معتذرا منه وهو ينشد هذه الأبيات :

خذها فاني إليك معتذر * واعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا عصا تمد اذن * كانت سمانا عليك مندفقة

لكن ريب المنون ذو نكد * والكف منا قليلة النفقة

فأخذها الأعرابي شاكرا وداعيا له بالخير ، وانبرى مادحا له :

مطهرون نقيات جيوبهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

وأنتم أنتم الأعلون عندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور

من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في جميع الناس مفتخر ( 23 ) .

هذه بعض بوادر كرمه وسخائه وهي تكشف عن مدى تعاطفه وحنوه على الفقراء ، وأنه لم يبغ أي مكسب سوى ابتغاء مرضاة الله والتماس الاجر في الدار الآخرة . . . وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعاته وصفاته التي بلغ بها ذروة الكمال المطلق ، واحتل بها قلوب المسلمين فهاموا بحبه والولاء له .

 

عبادته وتقواه :

واتجه الإمام الحسين ( ع ) بعواطفه ومشاعره نحو الله فقد تفاعلت جميع ذاتياته بحب الله والخوف منه ، ويقول المؤرخون : إنه عمل كل ما يقر به إلى الله فكان كثير الصلاة والصوم والحج والصدقة وأفعال الخير ( 24 ) .

ونعرض لبعض ما أثر عنه من عبادته واتجاهه نحو الله :
أ – خوفه من الله

كان الإمام ( ع ) في طليعة العارفين بالله ، وكان عظيم الخوف منه شديد الحذر من مخالفته حتى قال له بعض أصحابه : ” ما أعظم خوفك من ربك ؟ ! ! ”

فقال ( ع ) : ” لا يأمن يوم القيامة الا من خاف الله في الدنيا . . . ” ( 25 ) .

وكانت هذه سيرة المتقين الذين أضاؤا الطريق ، وفتحوا آفاق المعرفة ، ودللوا على خالق الكون وواهب الحياة .
ب – كثرة صلاته وصومه :

كان ( ع ) أكثر أوقاته مشغولا بالصلاة والصوم ( 26 ) وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة – كما حدث بذلك ولده زين العابدين – ( 27 )

وكان يختم القرآن الكريم في شهر رمضان ( 28 ) وتحدث ابن الزبير عن عبادة الامام فقال : ” أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا في النهار صومه ” ( 29 ).
ج – حجه :

كان الإمام ( ع ) كثير الحج وقد حج خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه ( 30 ) وكانت نجائبه تقاد بين يديه ( 31 ) وكان يمسك الركن الأسود ويناجي الله ويدعو قائلا :

” إلهي أنعمتني فلم تجدني شاكرا ، وابتليتني فلم تجدني صابرا ، فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر ، ولا أدمت الشدة بترك الصبر ، إلهي ما يكون من الكريم إلا الكرم . . . ” ( 32 ) .

وخرج ( ع ) معتمرا لبيت الله فمرض في الطريق فبلغ ذلك أباه أمير المؤمنين ( ع ) وكان في يثرب فخرج في طلبه فأدركه في ( السقيا ) وهو مريض فقال له :

” يا بني ما تشتكي ؟ ” . ” أشتكي رأسي ” .

فدعا أمير المؤمنين ببدنة فنحرها وحلق رأسه ورده إلى المدينة ، فلما أبل من مرضه قفل راجعا إلى مكة واعتمر ( 33 ) هذا بعض ما أثر من طاعته وعبادته .
د – صدقاته :

كان ( ع ) كثير البر والصدقة ، وقد ورث أرضا وأشياء فتصدق بها قبل أن يقبضها ( 34 ) وكان يحمل الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة ( 35 ) لم يبتغ بذلك إلا الاجر من الله ، والتقرب إليه ، وقد ألمعنا – فيما سبق – إلى كثير من ألوان بره واحسانه .

 

الهوامش

( 10 ) كشف الغمة .

( 11 ) الإصابة 2 / 222 .

( 12 ) الحسين 1 / 117 .

( 13 ) تاريخ ابن عساكر 13 / 54 .

( 14 ) أعيان الشيعة 4 / 110 .

( 15 ) نهاية الإرب 3 / 260 ، الف باء 1 / 467 .

( 16 ) مطالب السؤول ( ص 73 ) .

( 17 ) ريحانة الرسول ( ص 71 ) .

( 18 ) عيون الاخبار 3 / 40 .

( 19 ) أعيان الشيعة 4 / 104 .

( 20 ) الفصول المهمة لابن الصباغ ( ص 184 ) .

( 21 ) عقد الآل في مناقب الآل للبحراني .

( 22 ) فضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 268 .

( 23 ) تاريخ ابن عساكر 4 / 323 – 324 .

( 24 ) تهذيب الأسماء 1 / 163 .

( 25 ) أعيان الشيعة 4 / 104 ، ريحانة الرسول ( ص 85 ) .

( 26 ) تهذيب الأسماء 1 / 163 ، خطط المقريزي 2 / 285 .

( 27 ) تاريخ اليعقوبي 2 / 219 ، تاريخ ابن الوردي 1 / 173 .

( 28 ) سير أعلام النبلاء 3 / 193 .

( 29 ) تاريخ الطبري 6 / 273 .

( 30 ) تاريخ ابن عساكر 13 / 254 ، سير أعلام النبلاء 3 / 193 مجمع الزوائد 9 / 201 ، تهذيب الأسماء 1 / 163 ، مناقب ابن المغازلي رقم الحديث 64 ، مختصر صفوة الصفوة ( ص 62 ) .

( 31 ) صفوة الصفوة 1 / 321 ، طبقات الشعراني 1 / 23 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 54 .

( 32 ) الكواكب الدرية 1 / 58 .

( 33 ) دعائم الاسلام 1 / 395 .

( 34 ) دعائم الاسلام 2 / 337 .

( 35 ) تذكرة الخواص ( ص 264 ) .