الإجماع على ضوء المذاهب المختلفة
الإجماع على ضوء المذاهب المختلفة
د. محمد كمال الدين إمام
الإجماع من أهم المصادر الأصلية للفقه الإسلامي، ويأتي في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة، ويعده رجال الفقه والقانون مصدراً خصباً لاستنباط الأحكام الشرعية وتطويرها، والدعوة اليوم إلى الفقه الجماعي ليست إلا محاولة عصرية لضبط منهج الفقيه حتى لا يسود الاضطراب في الفهم، والفوضى في التشريع.
1 ـ تعريف الإجماع:
الإجماع في اللغة يعني العزم والإحكام والتصميم، وقد يكون من الجماعة كما في قوله تعالى: (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً) وقد يكون من الفرد كما في قول الرسول (ص): ((مَن لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له))، ويطلق في اللغة أيضاً على الاتفاق، يقال أجمع القوم على كذا أي اتفقوا عليه.
أما الإجماع في الاصطلاح الشرعي، فنفضل تعريف شيخنا العلامة (محمد مصطفى شلبي)، لأنه في اختياره وصياغته قدَّم تعريفاً محكماً للإجماع وهو: ((اتفاق مجتهدي أمة محمد (ص) بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي اجتهادي)).
فليس من الإجماع إذن اتفاق بعض المجتهدين مع مخالفة غيرهم، ومن باب أول ليس من الإجماع قول مجتهد واحد ـ خلافاً ((للنظام)) المعتزلي ـ ، وليس من الإجماع الأصولي اتفاق المجتهدين حال حياته (ص)، لأنه لا إجماع في عصر الرسول (ص) فالقرآن والسنة وحدهما مصدر الأحكام في هذا العصر. وليس من الإجماع اتفاق غير المجتهدين لأن المقلد والعامي ليسا من أهل الاجتهاد، وليس من الإجماع اتفاق المجتهدين من غير أمة محمد (ص)، لأنه ليس حجة في شريعتنا. وقيد التعريف الإجماع بعد ذلك بقيدين هما:
الأول: اتفاق المجتهدين في عصر من العصور فحسب، لأن اشتراط اتفاق المجتهدين في كل العصور استحالة مادية تمنع قيام الإجماع في كل العصور.
الثاني: أن يكون الاجتهاد في المسائل الاجتهادية، لأن القطعي من النصوص لا مجال للاجتهاد فيه، فالقاعدة الشرعية لا اجتهاد مع النص القطعي.
فالإجماع المعتبر حجة هو إجماع كل مجتهدي الأمة، لأن المعصية التي هي أساس حجية الإجماع تتحقق في الكل لا الجزء، وهذا يقتضي النظر في اتفاق بعض مجتهدي الأمة وهل هو إجماع أم لا؟
أ ـ إجماع أهل المدينة:
يرى الإمام (مالك) أن اتفاق أهل المدينة من الصحابة والتابعين هو إجماع شرعي تقوم به الحجة وتلزم به الأمة، وسنده في ذلك قول الرسول (ص): ((المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد))، وسنده أيضاً أن العادة تقضي بأن هؤلاء ـ وهم أجلاء الصحابة والتابعين ـ لا يجتمعون إلا على دليل راجح.
والجواب أن الاجتماع على دليل راجح لا يختص بأهل المدينة، بل كما يكون فيهم يكون في غيرهم من المجتهدين، والحديث النبوي الشريف إنما يدل على فضل مدينة رسول الله، لا على قصر الاجتهاد على من بها، وقد قال البعض إن قوم الإمام (مالك) محمول على أن روايتهم مقدمة على رواية غيرهم، وقيل محمولة على حجية إجماعهم في المنقولات المستمرة، كالآذان والإقامة دون غيرها.
ب ـ إجماع الخلفاء الراشدين:
قال به بعض العلماء ونسب إلى الإمام (أحمد)، وإجماع (أبي بكر) و (عمر) وحدهما قال به بعض العلماء أيضاً، واستدلوا على الأول بقوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)).
وعلى الثاني بقوله (ص): ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)).
والقول بهذا اللون من الإجماع لا يسنده دليل، لأن الحديثين يدلان على أن الخلفاء الأربعة أهل للاقتداء بهم، وليس فيهما دليل على قصر الاجتهاد عليهم مع وجود غيرهم من المجتهدين.
ج ـ إجماع أهل البيت:
ويخصون به فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً، ويستدل الشيعة على ذلك بقوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) ويفسرون الرجس بأنه الخطأ في الاجتهاد، وبزوال الرجس تثبت الحجية، والحقيقة أن مدار الأمر كله فكرة العصمة، فإذا أثبتناها للأمة ـ وهي ثابتة بنصوص كثيرة ـ فإجماعها أولى بأن يكون هو الإجماع الأصولي.
د ـ إجماع الصحابة:
يرى الظاهرية أن الإجماع مقصور على الصحابة، فإمكانه موقوت بعصرهم، وحجيته ليست لاتفاق غيرهم، وسندهم في ذلك أن الإجماع لا يكون إلا عن توقيف من رسول الله (ص)، وصحابته هم الذين شهدوا ذلك دون غيرهم، فانحصر الإجماع فيهم وفي عصرهم، لأن العصمة من الخطأ كرامة يحتجون بها دون غيرهم من مجتهدي الأمة.
والذي يسنده الدليل أن أدلة حجية الإجماع وهي المفيدة لعصمة الأمة من الاتفاق على الخطأ جاءت عامة لا تخص عصراً دون عصر، فلا دليل على التخصيص ـ كما يقول بحق العلامة الشيخ محمد مصطفى شلبي ـ إلا ما قالوه: إنه لا إجماع إلا عن توقيف من رسول الله (ص)، أي إعلام منه بالأحكام، وهو لا يفيد القصر على الصحابة، لأن غير الصحابة قد نقلت إليهم أحاديث رسول الله وعلموا بها فلا فرق بينهم من هذه الناحية.
2 ـ حجية الإجماع:
اختلفت الأقوال في حجية الإجماع، ويكفي أن نعرض رأي جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة، فهم يرون أن الإجماع حجة مطلقاً لا فرق بين عصر وعصر، وأدلتهم في ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
أ ـ أدلتهم من الكتاب: منها قوله تعالى: (ومَن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
فالآية فيها وعيد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين، وضمه إلى مشاقة الرسول التي هي من أشد أنواع الكفر، فيكون أتباع غير سبيل المؤمنين محظوراً ومتى حظر وجب إتباع سبيل المؤمنين وهو الإجماع.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) فالآية تفيد أن ما تتفق عليه الأمة حق لا يرد.
ب ـ أدلتهم من السنة: وهي كثيرة يأتي في مقدمتها قوله (ص): ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وهذا الحديث وإن كان من أخبار الآحاد، إلا أنه ورد بألفاظ مختلفة على ألسنة كثير من ثقات الصاحبة مع اتفاق المعنى نحو قوله (ص): ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)) ومثل قوله: ((لا تجتمع أمتي على الخطأ)) وقوله (ص): ((يد الله مع الجماعة ولا يبالي الله بشذوذ من شذ)).
فهذه الأحاديث تدل على التواتر المعنوي الذي يفيد القطع بحجية الإجماع بناء على إثبات عصمة هذه الأمة.
ج ـ أدلتهم من العقل: الرسول خاتم النبيين وشريعته باقية إلى يوم الدين، وبقاء الشريعة بعد انقطاع الوحي يقتضي ضرورة عصمة الأمة، فإذا أجمع مجتهدوها على حكم كان ما أجمعوا عليه كالمسموع من رسول الله (ص)، والمسموع منه (ص) موجب للعلم قطعاً، فما أجمعوا عليه يأخذ حكمه.
وخلاصة القول في حجية الإجماع ـ كما يقول بحق العلامة مصطفى شلبي ـ أن هذه الأدلة في مجموعها تفيد ثبوت عصمة الأمة من الخطأ، فإذا اتفق أهل الرأي في الشريعة ـ وهم لا يتفقون إلا عن دليل شرعي ـ كان اتفاقهم حجة يجب العمل بها لا فرق بين عصر وعصر، لأن الأحاديث مصرحة بلفظ الأمة وهو صادق على المؤمنين من الصحابة وعلى مَن جاء بعدهم، فمن قصر حجية الإجماع على إجماع الصحابة، وقال إن الصحابة كانوا قليلين بالنسبة لغيرهم فيسهل معرفة آرائهم لأنهم كانوا مجتمعين في مكان واحد، ويمكن معرفة آراء الذين انتقلوا خارج المدينة، قلنا: إن هذا المعنى يفيد سهولة تحقق الإجماع في عصرهم لا أنه يقصر الحجية على إجماعهم لعموم الأدلة، فحجية الإجماع عامة متى تحقق، فلو فرضنا وسيلة في أي عصر لجمع المجتهدين أياً كان عددهم لتوقفنا على آرائهم فلا نمتنع عن القول بحجية ما اتفقوا عليه.
3 ـ سند الإجماع:
لابدّ للإجماع من سند شرعي وإن لم نطلع عليه، لأن الجرأة على الفتوى في أحكامه تعالى بدون دليل حرام لا يكون من المجتهدين.
وفائدة الإجماع تأتي من تعاضد الأدلة، فالمسألة الظنية بعد الإجماع تصبح قطعية، وتخرج بذلك من دائرة الخلاف، وهذا هو ما يسمى بأثر الإجماع في سنده.
فالجمهور على أنه لا يجوز الإجماع إلا على سند من دليل أو أمارة لأن عدم السند يستلزم الخطأ إذ الحكم في الدين بلا دليل خطأ، ويمتنع إجماع الأمة على الخطأ. ولا يعني البحث عن سند للإجماع أنه ليس دليلاً أصلياً، بل الإجماع دون نظر في سنده يكفي لاستنباط الأحكام منه. وسند الإجماع إما الكتاب الكريم أو السنة النبوية وهذا محل اتفاق الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في القياس هل يكون مستنداً أم لا؟ والأقوى أنه يصح بدليل أن الصحابة أجمعوا على صحة إمامة أبي بكر بقياسها على الصلاة، وأجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياساً على لحمه.
أ ـ الإجماع الذي سنده القرآن: ومثاله إجماع العلماء على تحريم الزواج بالجدة مهما علت، وسواء أكانت من جهة الأب أو من جهة الأم، وسندهم قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) فالمراد بالأمهات في هذه الآية الأصول من النساء مهما علون، والجدة أصل كالأم.
ب ـ الإجماع الذي سنده السنة: ومثال إجماع الصحابة على إعطاء الجدة السدس في الميراث، وسندهم في ذلك ما رواه ((المغيرة بن شعبة)) أن النبي (ص) أعطى الجدة السدس.
ج ـ الإجماع الذي سنده القياس: وفيه خلاف بين الفقهاء، والجمهور يرى جواز ذلك، ومثاله إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر قياساً على إمامته للصلاة، وإجماع الصحابة في عصر عمر بن الخطاب على جلد الشارب ثمانين جلدة قياساً على حد القذف.
د ـ الإجماع الذي سنده المصلحة:
وقد اختلف الفقهاء فيه، والأصح جوازه لأن وقائع التاريخ الفقهي في عصر الصحابة تؤكد وقوعه، فقد أجمعوا على جمع القرآن في مصحف واحد، وهو إجماع سنده المصلحة، إلا أن الإجماع القائم على المصلحة إجماع مؤقت، فإذا تغيرت المصلحة تغير الإجماع المستند إليها. واحتاج الأمر إلى إجماع جديد، ولا حرج في ذلك لأن الإجماع جائز في كل عصر في كل ما ليس فيه نص أو إجماع دائم.
4 ـ أقسام الإجماع:
الإجماع نوعان: إجماع صريح بيدي فيه كل مجتهد رأيه ويعلنه، وإجماع سكوتي أو ضمني حيث يكتفي المجتهد فيه بالصمت بعد أن يعلم بما حكم به الآخرون.
أ ـ الإجماع الصريح: ويكون باتفاق المجتهدين على حكم شرعي اجتهادي، سواء تمّ ذلك في مجلس واحد، أو بالتشاور عن بعد، ولا يتحقق إلا بإفصاح كل واحد منهم عن قبوله للحكم وموافقته عليه. ولا يهم بعد ذلك أن يعلنوا موقفهم فرادى أو مجتمعين طالما تمّ اتفاقهم على الحكم وصرح الجميع بذلك الاتفاق.
ول خلاف عند جمهور المسلمين في أن الإجماع الصريح حجة قطعية في ثبوت الأحكام.
ب ـ الإجماع السكوتي: وصورته إعلان فتوى من أحد المجتهدين في مسألة اجتهادية عرفت أمامه، وعلم بها بقية المجتهدين فسكتوا ولم يعلنوا رفضها، فالسكوت هنا إقرار بالفتوى لأن المفروض في المجتهد العدالة، والعدالة تقتضي إعلان المخالفة متى وجدت دواعيها. فالسكوت هنا رضاء معتبر. والإجماع السكوتي حجة عند أكثر الحنفية والحنابلة بشرطين:
الأول: ضرورة إطلاع المجتهدين على الفتوى الجديدة وقائعها وأدلتها.
الثاني: مضى فترة تكفي للبحث والمراجعة حتى يمكن تفسير الصمت بأنه رضا، والسكوت بأنه موافقة، ولا يكون السكوت كذلك إلا إذا فهم المجتهد الأمر، وأمن من الجور. والمثبتون لحجية الإجماع السكوتي يختلفون في درجة حجيته.
فبعضهم يرى أن الإجماع السكوتي حجة قطعية، متى ثبت فهو كالإجماع الصريح سواء بسواء، والبعض الآخر يقولون بأنه حجة ظنية، لأن ثبوت الإجماع السكوتي أساسه رجحان احتمال الموافقة على المخالفة، وهو يورث الشبهة في دلالة الإجماع ومع الشبهة لا وجود للقطعية، فيترجح القول بأنه حجة ظنية.
5 ـ هل يشترط انقراض العصر لحجية الإجماع؟
يرى جمهور الفقهاء أن الإجماع متى وجد في عصر من العصور، اكتسب الحجية وأفاد الإلزام، لأن اتفاق المجتهدين على حكم واقعة لا نص فيها يعطيها حكماً ثابتاً لا يجوز الرجوع عنه.
وقال الإمام ((الشافعي)) يشترط انقراض المجمعين لتحقق الإجماع، لاحتمال رجوع بعضهم عن إجماعه قبيل وفاته.
ورأي الجمهور أقرب إلى روح التشريع، وحاجات الفقه، ومنطق الاستنباط