الجبر الفلسفي وامتداداته في مجال أصول الفقه
الجبر الفلسفي وامتداداته في مجال أصول الفقه
إدريس هاني
كان من الضروري أن تعالج هذه الإشكالية من قبل الفقهاء ـ وهو أمر طبيعي ـ لو أدركنا المكانة التي تحتلها الفلسفة في مجمل التراث الإمامي، وخاصة الاجتهاد الفقهي عند الإمامية! إن الفقيه أو المجتهد الإمامي لا يصير كذلك حتى يكون على درجة من الاستيعاب والإحاطة بمبادئ الحكمة ومتقناً لمطالبها. ولو أنه ظهر مَن لا يرى ضرورة لذلك، بالنسبة للمجتهد ـ مثل السيد الخوئي من المعاصرين ـ إلا ما كان له علاقة بآليات الاستنباط، فإن واقع المجتهدين وأجواء البحث تجعلهم يولون أهمية خاصة بهذا الحقل المعرفي. ثم لا شك أيضاً، أن ثمة مفاهيم فلسفية، كانت قد فرضت نفسها على ميدان الفقه وأصوله. فالمجتهد الذي يقصد كتاباً في مستوى «كفاية الأصول»، شرحاً له أو تعليقاً عليه، سوف يجد نفسه مضطراً للجوء إلى دراسة مبادئ الفلسفة، من هنا حينما يتصدى فقهاء متأخرون إلى هذه الإشكالية من موقع البحث الفقهي والأصولي، فذلك، لأنهم يمثلون مرحلة ناضجة في تاريخ التأصيل الإمامي، ألا وهي مرحلة ما بعد الأستاذ الأنصاري، وهي مرحلة تلميذه الملا الخراساني حيث تم زواج جديد، بين الفلسفة وعلم الأصول، فأصبح تداول المفاهيم الفلسفية، أمراً طبيعياً، في دائرة علم الأصول. ويظهر من تتبع مباحث الفقه وأصوله، أن إشكالية الجبر عولجت ضمن مطالب كثيرة وبصورة مباشرة أو ضمنية، خصوصاً ما يتعلق بمسألة اتحاد الطلب والإرادة، وهو ما قال به الشيعة عموماً والمعتزلة، وأيضاً ضمن مطلب التجري، وهو مطلب يتعلق بمباحث «القطع» في علم أصول الفقه. وعموماً لاحظنا محاولة جماعية، وإن اختلفت طرائقها الاستدلالية، للتأكيد على الاختيار، وحتى لو ظهر أن بعضهم في مقام الاستدلال على اختيارية الإرادة، كان قد سقط في محذور الجبر. غير أن الجدل الذي شهدته المدرسة الإمامية في مجال الفقه وعلم الأصول، والاختلافات التي حصلت بين رجالات الفقه والاجتهاد ـ خصوصاً المتأخرين منهم ـ لم تكن واقعة فيما إذا ثبت اختيار المكلف، أم لا، من حيث دلّ العقل والسمع على اختياريته، لوجود التكليف. بل الخلاف فيما تراءى بعضهم البعض في طبيعة الاستدلالات، التي كانت إما عاجزة عن دفع المحذور وواقعة فيه من حيث لا يشعر المستدلون.
وأصل الخلاف، حول علاقة الطلب ـ الذي بمعنى الأمر ـ بالإرادة، فقد أنهى الأشاعرة هذا الجدل بتقرير عدم اتحادهما. وحجتهم في ذلك، أن القرآن كلام الله قديم، وهي صفة له، قديمة. وهو ليس الألفاظ، بل الكلام النفسي. فاللفظ مجرد مظهر له. وبهذا الخصوص، خالفهم المعتزلة بالقول بحدوث الكلام، وخلق القرآن. وبأنه لا وجود في النفس سوى للعلم وللإرادة وللكراهة. ولا وجود للكلام النفسي، هاهنا. وردّ الأشعري، أن ثمة أمراً آخر مغاير لهما، هو الطلب. وهذا هو منشأ القول بعدم اتحاد الطلب بالإرادة. وليس ذلك أمر الأشاعرة خاصة، بل هناك من الإمامية من نحى إلى هذا الرأي. وإن لم يكن ذلك على المشهور. فقد قال بذلك كل من الشيخ محمد تقي الاصفهاني، وأيضاً البروجردي.
اعتراض القائلين بعدم الاتحاد، يستند إلى مثال الأمر الاختباري والاعتذاري، حيث يحصل فيها الطلب من دون إرادة، مع أننا لو قلنا بالاتحاد، وثبت أن الكفار مكلفون بإرادته، فذلك محال، لعدم تخلف إرادته عن المراد. فيلزم أنت كون هذه الصفة، هي الطلب. من هنا نشأ ذلك الخلاف بين فقهاء الإمامية فيما بينهم والقائلين بعدم الاتحاد أو بين القائلين بالاتحاد أنفسهم. وتتخلص تلك المطارحات في ما يأتي تقريره.
يرجع الآخوند سبب ميل مَن أسماهم بـ «بعض الأصحاب» ]أي الإمامية[ إلى ما ذهب إليه الأشاعرة في الاختلاف الحاصل بين الطلب والإرادة في أحوالهما اللفظية. فالطلب، كما يرى الآخوند، الذي يكون بمعنى الأمر، ليس هو الطلب الحقيقي، أي «الذي يكون طلباً بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائياً». وهو طلب يراد منه الإنشاء، حين إطلاقه. وهو ما يخالف حال لفظ الإرادة، حيث يدل إطلاقه على الإرادة الحقيقية. هذا الاختلاف هو سبب، ذلك الميل الذي ارتآه الآخوند، وسيعمل على دفعه في ضوء تحليل دقيق ينتصر فيه للموقف الإمامي المشهور. فالطلب والإرادة متحدان، ولفظاهما يفيدان مفهوماً واحداً. فالطلب المنشأ هو عين الإرادة الإنشائية، فهما «متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً». وهذا بالتأكيد لا يعني أن الطلب الإنشائي الذي ليس بحسب الحمل السابق يكون طلباً حقيقياً متحداً مع الإرادة الحقيقية. فالتغاير هنا ـ حسب الآخوند ـ بيّن وواضح. وعلى هذا الأساس لا يرى أي صفة أخرى قائمة في النفس غير الإرادة، يراها الأشاعرة، هي الطلب. أما ما تدرع به هؤلاء، بوجود الأمر دون الإرادة كما هو الحال في الاختبار أو الاعتذار، فقد بنى الآخوند دفعه لذلك على ما سبق بيانه في اختلاف لفظ الطلب بين الحقيقي والإنشائي. فكما أن في حالة الاختبار أو الاعتذار، لا نكون أمام إرادة حقيقية، فكذلك لا نكون أمام طلب حقيقي. فما هو حاصل هنا، ليس إلا مجرد طلب إنشائي. إذن لا مندوحة عند الآخوند من رفض هذا الاتحاد بين الطرفين. هذا دون أن يرفض الانفكاك بينهما في الحالة الأخرى، حيث يتعلق الأمر بحال اللفظين، فإن أريد بأحدهما الإنشاء والآخر الحقيقة، فلا مفر من القول بالمغايرة. لكن الآخوند هنا، سوف يعود إلى تثبيت نوع من المصالحة بين الطرفين، من خلال قوله: «ثم إنه يمكن ـ مما حققناه ـ أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً حقيقياً وإنشائياً. ويكون المراد بالمغايرة والإثنينية، هو إثنينة الإنشائي من الطلب، كما هو كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه، والحقيقي من الإرادة، كم هو المراد غالباً منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظياً، فافهم».
إلا أن إشكال الأشاعرة والقائلين بالمغايرة هنا، سيواصل استنطاقه لمذهب القائلين بالاتحاد. فإن قلنا باتحاد الطرفين، فكيف نفسر تكليف الكفار، بالإيمان؟! هل هذا معناه أننا أمام تكليف غير جدي؟! ما دام أن عدم وجود إرادة هناك، يعني، عدم وجود طلب حقيقي! أو، هل إننا أمام تكليف جدي، بإرادة؟ وهاهنا نسأل، كيف تتخلف الإرادة عن المراد؟
ولعل هذا التحدي هو ما كان اثر في ميل بعض الإمامية، لنفي الاتحاد. والآخوند إزاء هذا الاعتراض، لا يجد سبيلاً آخر، غير العمل على تقسيم الإرادة إلى قسمين: أحدهما تكويني والآخر تشريعي. فالأول يتعلق بالعلم بالنظام الأتم، بينما الثاني يتعلق بالمصلحة التي هي ملاك الحكم. والإرادة التشريعية هي ما يتعلق بالتكليف، وليس الإرادة التكوينية. وقد يحصل التوافق بين الإرادتين، وهاهنا لا يلزم التخلف، ويتحقق المراد، لا محالة. وإذا ما اختلفا، فيكون الاختيار للمكلف.
ثمة إشكال آخر وارد في هذا التخريج. ذلك إن كانت الطاعة والإيمان، مرادين له تعالى، فكيف يصح التكليف بهما، مع أن الاعتبار قائم على وجود الاختيار في المكلف وهو موقف الآخوند نفسه؟! لكنه، يجد مخرجاً لذلك الإشكال، عن طريق القول بالمقدمات الاختيارية. فلولا وجود الإرادة المسبوقة بمقدماتها الاختيارية، لثبت الإشكال، وهو ما لا يجوز عليه تعالى. لكن يبقى الإشكال موجوداً، إذ ماذا يعني التكليف ما دام المكلف في نهاية المطاف، مسلوب الاختيار، ومقهوراً للإرادة الأولى؟
نكاد نقول، أن الآخوند، في جوابه على هذا الإشكال، لم يكن قوي الحجة. بل قصارى ما انتهى إليه، هو الوقوع في المحذور. وذلك أنكر عند قومه، من القول بانفكاك الطرفين ـ الإرادة والطلب ـ فهو يرجع العقاب إلى الكفر والعصيان، ويرجع هذين الأخيرين إلى الذات. فالكفر والعصيان ناتجان عن الاختيار، الناشئ عن مقدماته. وحتى هنا، ظل التوهيم قائماً، باختيارية المكلف. لكنه، يعود مرة أخرى إلى نسبة تلك المقدمات الاختيارية إلى الشقاوة الذاتية لهما، حيث الذاتي لا يعلل. وهنا يتوقف الآخوند، ولا يسمح بالتمادي في السؤال عن هذه الشقاوة الذاتية، التي اعتبرها من فعل الخالق، وكفى! يقول: «قلت: العقاب إنما بتبعه الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن (السعيد سعيد في بطن أمه والشقي في بطن أمه) و (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)، كما في الخبر، والذاتي لا يعلل، فانقطع سؤال: إنه لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى.
نلاحظ هنا أن الآخوند على الرغم مما انتهى إليه، كان يرى تعلق التكليف بالاختيار. لكن، صعب عليه أن يحل إشكال الاتحاد، ومفهوم الإرادة الذاتية، التي ظهر أنه تبنى فيها مذهب الفلاسفة. وهذا ما سوف يدفع بالكثير من المتأخرين إلى تجاوز هذا المأزق، باجتراح طرائق أخرى في معالجة إشكالية الاتحاد أو الانفكاك بين الإرادة والطلب. وقد نجد الآخوند في موقع آخر، بنى عليها موقفاً آخر في مسألة «التجري» في مبحث «القطع» حيث انتهى بما انتهى به في المبحث السابق، بالتوقف عند سؤال «اللم» سواء فيما يعني إيجاد الخالق للشقاوة الذاتية أو فيما يتعلق باختيار الكافر، للكفر، والمؤمن للإيمان! فالعلة في ذلك إذن، هي الشقاوة الذاتية أو القرب والبعد منه تعالى. أما التجري، ويعني به هنا، العمل بخلاف القطع، مع عدم الإصابة. فإن المتجري رغم أنه مستحق للعقاب بسبب سوء سريرته وقصده العصيان، فهو غير مختار. وهذا القصد يتم إلا بما يقطع «أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي». فالعقاب يقع عليه من جهة قصد العصيان، وليس على الفعل اللا إختياري.
فالآخوند هنا كان يرى نفسه في موقع المدافع عن الاختيار المتعلق به التكليف، وهو في الوقت نفسه كان يؤكد على صور أخرى للجبر. ومردّ هذا الغموض فيما يظهر من طبيعة التحليل الآخوندي، هو تلك الطريقة التوليفية، وأيضاً منهجية التخريج، التي تمنح العالم مرونة زائدة، في الانزياح والتخريج، لكنها تقوده غالباً إلى الباب المسدود. وهذا ما سوف نلاحظه عند مَن أتى بعده من فقهاء، وكيف أنهم حاولوا إعادة النظر في صميم مفهوم الإرادة وعلاقتها بالعلم، من جهة، أو بالطلب، من جهة أخرى.
لقد انبرى عدد من الفقهاء، للرد على فكرة الاتحاد. مستشكلين على الآخوند في كثير من النقاط. فالنائيني، يرى انفكاكاً بين الطفين، ويعزو ذلك إلى اختلاف المفهوم. لأن الإرادة كيف نفساني، بينما الطلب تصدي. أما من ناحية المصداق فهناك اختلاف من حيث المقولة. فالإرادة كيفية بينما الطلب فعل! وبذلك حاول النائيني أن يبرهن على فساد القول بالاتحاد، لذا اعتبر الطرفين منفكين. أما استشكال البروجردي على الاتحادن فهو لا يختلف عن سابقه، من حيث اعتبار الإرادة تختلف مفهومياً عن الطلب، إلا أنه زاد عليه، أن ذلك لا يعني وجود صفة أخرى في النفس على طريقة الأشعري. ذلك أن الطلب عند الأشعري هو صفة نفسانية أيضاً. فالبروجردي، ينفي هذا القول، استناداً إلى استدلال الآخوند بخصوص الإرادة في الأمر الامتحاني، بكون الإرادة حاصلة في مقدماته.
أما ما يتعلق باستحقاق العاصي للعقاب مع ثبوت عدم اختياريته الحقيقية، فقد سلك الأصبهاني، الطريق ذاته، باعتبار العقاب منشأه ملكة النفس الرديئة «فإن المهية موجودة في العلم الأزلي، طالبة الدخول في عالم الوجود، فيجب على الواجب إفاضة الوجود».
كما ذهب إلى تأكيد اتحاد العلم والإرادة، على أساس التصور نفسه الذي سبق معنا في تحليل القدرة والإرادة عند الفلاسفة. فالمعلوم «إذا كان صلاحاً بحسب النظام الكلي، فنفس العلم علة للتكوين، فإن المحل قابل يسأل بلسان استعداده، الدخول في دارا لوجود، والمبدأ تاماً لإفاضة. فلا محالة يفيض الوجود. وذكر مثله في التشريعية، حيث إن مقتضى العناية: سوق الأشياء إلى كمالاتها، وإعلام المكلفين بصلاحهم».
ونكتشف في أبحاث العلامة طباطبائي، تفسيراً جديداً لهذه المشكلة، أي قضية الجبر والاختيار، بشكل عام. وفرادته بالنسبة للمتأخرين، كونه فقيهاً وفيلسوفاً، عنده من الإحاطة بالجانبين، ما يكفيه لتفادي الوقوع في المحاذير، التي قد تجعل ما يتقرر في دائرة الفقهن يناقض ما قد يحصل في الفلسفة. فهو من ناحية يقر بمبدأ اختيار الإنسان المضطر في اختياره، لكنه يمنحها تفسيراً آخر، يكاد يختلف عن سابقيه ومعاصريه. فليس كونه مضطراً راجع إلى وجود إرادة أخرى سابقة، ينتهي إليها التسلسل. بل في كونه مخلوقاً مختاراً، لكن ليس باختيار منه، فـ «المراد بكونه مضطراً في اختياره، أنه جعل مختاراً لا باختيار منه. بل خلق كذلك. والمراد بكونه مجبوراً في أفعاله، أن لغيره دخلاً في تمام فاعليته. فليس يختار الفعل عن استقلال من نفسه من غير دخل من مسخر أو داع زائد، سواء في ذلك أفعاله الاضطرارية والاختيارية. وليس المراد بالجبر، ما يقابل التفويض والأمر بين أمرين».
فطباطبائي هنا، يقدم تفسيراً للجبر عند الفلاسفة، يختلف عما هو وارد عند المتكلمين. فلا هو بجبر حقيقي ـ كما ذهب الأشعري ـ ولا هو اختيار حقيقي ومستقل. وذلك كله تأكيداً على الوسطية المذكورة. ودفعاً لشبهة الجبر عن أفعال الإنسان، يوجد تخريجاً آخر في ضوء مفهوم العلية. ذلك أن الأفعال تنسب تارة إلى علتها التامة، فتكون واجبة (جبراً) وتارة إلى أجزائها، فتكون ممكنة (اختياراً).
إن السيد طباطبائي، يعيدنا إلى أصل الإشكالية، وذلك بفك نزاعها داخل حقل الفلسفة نفسه. فيجري تحليلاً إيضاحياً ونقدياً، لما تقرر عند الحكماء. فهو من جهة، يتبنى مذهب الفلاسفة في نفي القدرة ـ بالمعنى الفلسفي ـ عن غير واجب الوجود. لكنه يعرب عن نوع من التحفظ في القول باتحاد العلم بالإرادة. إذ يرى ذلك مما هو غير مسلم، ولا دليل يقوم على اعتباره. ويقيم موقفه النافي لقدرة المخلوق على تعريفه للقدرة ذاتها، فهو يعتبرها من الكمالات الوجودية، التي لا تكون إلا في الفعل. أما المنفعل مهما ضعفت درجة انفعاليته تجاه غيره، فلا يعتبر، قادراً! هذا من ناحية عامة. لكنه يضيف بأن القدرة لا تطلق على الفعل إذا لم يكن لفاعله علم به. فالفعل الصادر عن الحركة الطبيعية الغير واعية بأغراض فعلها، لا يكون قدرة. ثم إن العلم وحده ـ مع ذلك ـ لا يكفي في هذا الاعتبار، بل يجب أن تنضاف إليه ضميمة البعث على الفعل، أي العلم بأنه خير له «من حيث أنه هذا الفاعل»، أي العلم الذي يلزم عنه كونه كمالاً وخيراً للفاعل، وينتهي إلى انبعاث الفاعل إليه بذاته دون مقتضي. فالعلم بالخير يعقبه شوق تعقبه إرادة ومع تحققها يتحقق الفعل! إذن القدرة تتحدد بهذه الاعتبارات التالية: مبدئية الفعل + علم الفاعل بخيرية الفعل + كونه مختاراً + الشوق + الإرادة والفعل له! وهذه الاعتبارات كلها كيفيات نفسانية تختلف عن بعضها. وما دام أنها كذلك ـ كيفيات نفسانية ـ فلا تجوز في حق الواجب تعالى لأنه منزه عن الإمكان. وعليه، وما دامت الإرادة لاحقة بهذه الكيفيات الملازمة للفقد والنقص، فإنها تبقى ماهية ممكنة لا يجوز نسبتها إلى الواجب تعالى. وهكذا يكون الواجب قادراً حقيقياً، وغيره ليس كذلك، أي مجبور! والقدرة المنسوبة إليه، هي القدرة المجردة عن «النواقص والإعدام»! وعلى هذا الأساس يكون العلامة طباطبائي قد أرسى مفهوماً فريداً للقدرة ووقف موقفاً آخر من الإرادة. لا نكاد نجد له مبرراً غير ذلك الإصرار على تقريب مطالب الحكمة من محددات الفقه، أي إيجاد نوع من الوفاق ـ أكثر من الذي ابتدأه الآخوند ـ بين مطالب الحكمة ومطال الشريعة! فالقدرة، أصبحت تعني مبدئية الفعل مع ضميمة الكيفيات النفسانية السابقة الذكر. وهو مخالفة صريحة لتفسير كل من الفلاسفة والمتكلمين. فلا هي تعني تساوي الطرفين في مورد صحة الفعل والترك. ولا هي كون الشيء بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل. فهذا التفسير فيه إثبات للإرادة وهو ما لم يوافقهم عليه، لأن إثباتها يلزم عنه ـ عند الفلاسفة في مقام التنزيه ـ القول باتحادها بالعلم. وهنا وقع الخلاف بين ما ذهب إليه الفلاسفة، وما يقره طباطبائي فـ «ما ذكروه في معنى القدرة يرجع إلى ما أوردناه في معناه المتضمن للقيود الثلاثة: المبدئية والعلم والاختيار. فما ذكروه في معنى قدرته تعالى حق. وإنما الشأن كل الشأن في أخذهم علمه تعالى مصداقاً للإرادة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك، فهو أشبه بالتسمية».
ويحتفظ سيد طباطبائي هنا بموقف الباحث الغير متسامح في قبول مسلمات الفلاسفة. خصوصاً ما تذرع به الفلاسفة في سبيل تنزيه واجب الوجود. حيث لم يفعلوا سوى أن جعلوا تلك الصفات تختلف بحسب ماهياتها. لكن سيد طباطبائي يعتبر ذلك غير مسلم، وأيضاً يجري ذلك على جعل الإرادة علمه، لأن ذلك من غير المسلم به أيضاً في نظر العلامة: «وبالجملة لا دليل على صدق مفهوم الإرادة على علم الواجب تعالى بالنظام الأصلح. فإن المراد بمفهومها إما هو الذي عندنا، فهو كيفية نفسانية مغايرة للعلم، وإما مفهوم آخر يقبل الصدق على العلم بأن الفعل خير، فلا نعرف للإرادة مفهوماً كذلك. ولذا قدمنا أن القول بأن علم الواجب تعالى بالنظام الأحسن إرادة منه أشبه بالتسمية».
وحتى يثبت الباحث نظريته في الإرادة، قام بدفع كل الاعتراضات الممكنة التي يظهر أنها تنطوي على شيء من الحجة. فالإرادة كيفية نفسانية كما يراها وهي غير علمه. لذا ما دامت لا تنطبق على ذات الواجب، فإنه من الطبيعي أن تكون غير العالم! ولكنه لا يرى أي مانع في أن تنتزع الإرادة من مقام الفعل، شأنها كباقي الصفات الفعلية. وهنا يقوم إشكال آخر، كان يقتضي من العلامة جواباً دقيقاً، يكاد يكون فريداً في المقام، وهو عدم جواز قياس الإرادة بالعلم. لسبب بسيط، هو أن الإرادة كيف نفساني، غير أن العلم، وإن كان بعض مصاديقه كيفية نفسانية، نظير العلم الحصولي، فإن بعضها الاخر، جوهر، كما هو الحال بالنسبة للعلم الحضوري وعلى هذا الأساس ينفي هذه المقارنة من حيث أن المفهوم الذي يصدق على أكثر من مقولة، يكون وصفاً وجودياً فلا يكون «مندرجاً» تحت مقولة منتزعة عن الوجود بما هو وجود. فللعلم معنى «جامع يهدي إليه التحليل وهو حضور شيء لشيء». من هنا يمكن أن يقوم اعتراض آخر، هو أنه، إذا كانت الإرادة ليست إلا كيفية نفسانية، فكيف يمكن انتزاعها من مقام الفعل، كما أكد طباطبائي. وإذا ما ثبت أن للإرادة مفهوماً أوسع من كونها كيفية نفسانية، فإن ذلك يؤكد كونها صفة وجودية كالعلم، وعليه، لا إشكال بعد ذلك في إثبات الاتحاد. لكن ردّ العلامة، كان من القوة أيضاً، حيث اعتبر إطلاق اللفظ يراد به معناه الحقيقي، وأيضاً لوازم المعنى وآثاره. ويضرب العلامة مثلاً لذلك بالرحمة، فهي فينا انفعال وتأثر، لذا هي من هذه الناحية لا تطلق على الذات الواجبة، لتنزهه عن الانفعال والتأثر، وعدم اتصافه بها يراد منه الاتصاف بالمعنى الحقيقي. لكن يمكن ذلك بعد تجريد مفهومها من لوازمه وآثاره. وهكذا تكون صفة فعل له تعالى.
أما فيما يتعلق بنسبة الأفعال إلى الخالق تعالى، والقول بالجبر، فإن سيد طباطبائي سلك فيها طريق الفلاسفة. وبالخصوص، ملا صدرا. ولا وجود لأي فرادة له هنا، غير ما أضافه من إمكانات استدلالية قد يفوق بعضها استدلال السابقين! فالعلامة، يقف موقفاً حرجاً بين تأكيد قدرة الله العامة وفاعليته المطلقة، بناء على مفهوم القدرة عند طباطبائي وبين تأكيد اختيارية الإنسان وحريته، بناء على مفهوم اختيارية المكلف. ولهذا فهو يرى أن افعال الانسان راجعة إلى الخالق، وفي الوقت نفسه هو مختار. والتكليف هنا ليس كما ذهب الآخوند ومَن سلك مذهبه راجع إلى الذكرى. بل كل ما في الأمر أن فاعلية الخالق هي في طول فاعلية المخلوق. فيرتفع بذلك أي شكل من أشكال التدافع أو الاجتماع. ذلك من جهة، لأن أفعال الانسان بما هي ممكنة، أي مستلزمة لعلة واجبة بالذات، تنتهي إلى واجب الوجود. فهي معلولة للإنسان من جهة العلة الأولى، ومعلومة للخالق من جهة العلة الثانية. وعلةُ علةِ الشيء علته. ومن جهة أخرى، لأن الله شاء أن يجعل فعل الانسان اختيارياً. أي أنه هو علة اختيارية الانسان.
ويظهر أن سيد طباطبائي لم يكن هنا يقصد إلى تأكيد الجبر، بل حاول دفع كل أدلتهم. إنه يؤكد كفقيه إمامي على اختيارية المكلف كشرط للتكليف. لكنه هو هنا يدافع عن اختيارية الإنسان التي لا تنتهي إلى التفويض، وهو ما يعني أن ثمة رغبة قوية، لإيجاد تفسير حقيقي لموقف الوسط، أي الأمر بين الأمرين. لهذا ردّ على شبهة أنصار الجبر، الذين لا يرون أي جامع بين ضرورة الوقوع في الفعل واختياريته. وذلك في صوغه استدلال، يجعل جبرهم هذا لا يؤدي إلى سلب اختيارية الفعل عن المكلف. يقول: «واستدل بعضهم على الجبر في الأفعال، بأن فعل المعصية معلوم للواجب تعالى فهو واجب التحقق ضروري الوقوع، إذ لو لم يقع كان علمه جهلاً وهو محال. فالفعل ضروري ولا يجامع ضرورة الوقوع اختيارية الفعل». ويرد العلامة على هذا الإشكال بكون العلم بفعل المعصية، معلوم لواجب الوجود بخصوصية وقوعه، أي صدوره اختيارياً من الإنسان، فـ «الفعل بما هو اختياري ضروري التحقق».
أما في مقام بحثه علاقة الفاعلية المطلقة للخالق ووجود الشرور في العالم، فالإشكال القائم هنا، إن كانت الشرور من فعله تعالى، فهذا يتنافى مع كماله وعظمة شأنه، وهو أمر مسلم عند الفلاسفة جميعاً. غير أن طباطبائي لم يكن رده من القوة بمكان، ذلك أنه لم يفعل سوى أن تذرع باستدلال لسلفه ملا صدرا، يقول: «فيدفعه ]أي الإشكال[ أن الشرور الموجودة في العالم على ما سيتضح ليست إلا أموراً فيها خير كثير وشر قليل ودخول شرها القليل في الوجود بتبع خيرها الكثير. فالشر مقصود بالقصد الثاني، ولم يتعلق القصد الأول إلا بالخير ]...[ إن الوجود من حيث أنه وجود خير لا غير، وإنما الشرور ملحقة ببعض الوجودات. فالذي يفيضه الواجب من الفعل، وجود الخير بذاته الطاهرة في نفسه، وما يلازمه من النقص والعدم لوازم تميزه في وجوده والتميزات الوجودية لولاها لفسد نظام الوجود فكان في ترك الشر القليل بطلان الخير الكثير الذي في أجزاء النظام».
وكان من الأجدى أن يسلك تفسير ذلك بنسبية الشرور وعدم وجود الشر على وجه الحقيقة كما سيقول به أحد تلامذته المتأخرين، «الأستاذ المطهري»، أو ما ذهب إليه عدد من فلاسفة الإمامية بالقول بالخير المحض، لأن الوجود هو خير، وليست الشرور سوى أعدام، أو كما يقول ابن أبي جمهور الإحسائي: «إذ الشر في الحقيقة عدم شيء أو عدم كمال شيء والأشياء الحاصلة من حيث هي كمالات ووجودات ليست بشر وإنما لزمها الشر باعتبار تلك الأعدام».