شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

إلى فاطمة ...

0 المشاركات 00.0 / 5

كانت النافذة مفتوحة .. مآذن مكّة ترحل للسماء معبّأةً بشوق الركوع والسجود .. وأروقة البيت العتيق تحنُّ للصلاة والدعاء .. وليالي الكدح تفترش الطريق الطويل .. هناك في البيوتات الصغيرة في أزقة مكّة يلعب العويل بالعويل .. وآلاف المشردين يمتطون صهوة السياط ..

مكّة في العشرين من جمادي الثانية، من السنة الخامسة من البعثة النبوية ..

تدفّق نبض الحياة في شريانها من جديد ، وأشرقت في مرابعها شمس ولادة طاهرة ، بدّدت تلك العتمة المثقلة بالجراح ..

أذّن فجر النّور يملأ أسوار مكّة بنداء الأمل .. لقد ولدت (فاطمة الزهراء ).. قوموا اطلبوا حاجاتكم، فعند هذا المطلع الكبير يستجاب الدّعاء ..

انتشر القوم يتحدّثون ، وعن السرّ يتساءلون ، قال قائلهم : إن نطفتها من ثمر الجنّة، أطعم الله نبيّه المختار ليلة المعراج ..

هذه هي الحقيقة التي يرحل إليها القوم بمراكبهم يبحثون عن المرفأ الذي سيجده أحدهم بعد بضع سنين .. وكلّهم بذلك يحلمون ..

قرب المروة في زقاق العطارين كانت ولادتها الطاهرة ، وهو اليوم مسجد أغلقه الوهابيون لسنوات عديدة بذريعة التعمير ..

منذ نعومة أظفارها ، لم يرحمها الزّمن ، وما غادرت عن بيتها المحن .. عاشت معاناة تبليغ رسالة السماء بكلّ مشاهدها المؤلمة ، فقد حوصرت مع أبيها وأمّها وسائر بني هاشم في الشّعب ولم تبلغ من العمر سوى سنتين .. لقد كان الحصار كافراُ ..

بعد فترة قصيرة من رفع الحصار ، كان على فاطمة المولودة الصغيرة أن تستعدّ لمصيبة عظيمة .. هي وفاة أمّها الحنون خديجة بنت خويلد في السنة العاشرة من البعثة .. إنّه عام الحزن ..

لكنها كانت سلوة أبيها في تخفيف جراحه وآلامه ، تؤنس وحدته ، وتؤازره في شدته ، وفي وجه الطغاة كانت معه بالمرصاد ..

أمُّ أبيها تزيلُ عن ظهره السّلا ، وتدفع عنه كيد الأعداء .. لقد كانت في حياته كلّ شي ، فما عاد من غزوة أو معركة إلاّ وبدأها بالمجيء ..

فاطمة .. كلّ شبرٍ في مكّة ينادي لبيّك يا فاطمة ..

في السنة الثامنة من عمرها ، هاجرت إلى المدينة المنوّرة برفقة الإمام علي ، وكان في الرّكب فاطمة بنت أسد ـ أمّ الإمام علي ، وفاطمة بنت الزبير ، وكان وصولهم يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول.

بدت فاطمة في هذا العمر فتاةً في غاية الجمال والعفاف ، يفيض وجهها بنور الإيمان والتقوى ، فتحرّكت نحوها مراكب الرجال ، وطمع فيها سادة القوم ، وكان ردّ رسول الله كلّما جاءها خاطب :( أمرها بيد الله سبحانه وتعالى).

احتار القوم فيما بينهم ، وتساءلوا عن الرجل العظيم ، الذي ستكون فاطمة من نصيبه .. وإذا بتلك الحيرة يبدّدها أمير المؤمنين علي فيتقدّم إلى رسول الله خاطباً منه فاطمة ، فيعرض رسول الله هذا الأمر على ابنته الزهراء ، فيعرف رضاها ويعلن زواجها المبارك من علي .

انتظر الرجال معرفة مهر فاطمة ، فقد جاءوا محمداً بجمال محمّلة بالذهب ، لكنه ما ضعف أمام ذلك .. وإذا بهم يصعقون بالخبر .. مهر فاطمة ثمن درعٍ كان لعلي قد غنمه في معركة بدر الكبرى ، وبلغ ذلك الثمن أربعمائة وثمانين أو خمسمائة درهم.

كان المسجد النبوي هو محلّ العقد الميمون ، حيث استقبل فيه رسول الله التهاني والتبريكات من المهاجرين والأنصار بمناسبة هذا الزواج المبارك ..

وبعد فترة من العقد ، جهّز النبي ابنته بأبسط المتاع ، لتبدأ مراسم الزفاف ، وتنتقل الزهراء إلى بيت علي في ظروف مادية بسيطة ، مقابل مكانة روحية ومعنوية في منتهى الكمال ..

هناك في دار الزوجية كان الاثنان يعيشان حياتهما بسعادةٍ ، فقد تقاسما الخدمة فيما بينهما فكان لفاطمة ما في الدار ، ولعلي ما وراء الباب. لكنّ علياً عندما كان يذهب لميادين الجهاد ، وتطول أيّامه ، تدعو له فاطمة بالسلامة والعودة ، وتضاعف عملها ، فكانت تستقي بالقربة ، وتعين على النفقة في غزل الصوف ، وتقوم بمهام في غاية التّعب ..

شعرت فاطمة بالإعياء الشديد من كثرة العمل ، فعلّمها أبوها رسول الله تسبيحاً يكون لها عزّاً في الدنيا ، وأجراً في الآخرة ، وهو ما نسمّيه اليوم ( بتسبيحة الزهراء ) ..

أنجبت فاطمة لعلي ولدين هما الحسن، والحسين ، وابنتين هما زينب، وأم كلثوم ، وأسقطت ولداً آخر في حادثة هجوم القوم على الدار في السنة الحادية عشرة للهجرة.

لقد كانت فاطمة محراب عبادة ، حتى تورّم قدماها لطول قيامها في الصلاة ، فقد قال عنها الحسن البصري : لم يكن في الأمّة أزهد ولا أعبد من فاطمة .

وكانت كعبة علم ، فهذه خادمتها فضة لم تتكلّم طيلة عشرين عام إلاّ بآيات القرآن الكريم ، كيف لا .. وفاطمة ربيبة العلم والتقى ، يشهد بذلك مصحفها الذي حوى الكثير من العلوم والمعارف ، عرف بمصحف فاطمة ..

ومن رأى فاطمة في معركة أحد وهي تداوي جرح أبيها رسول الله ، يعلم بأنّ القوم الذين فرّوا منهزمين لا يملكون من شجاعة فاطمة شيئاً ما ، وحين تشهد مصرع حمزة وهو ملطّخ بدمائه ، نعلم سرّ شجاعة ابنتها زينب يوم وقفت على مصرع الحسين يوم كربلاء .. شجاعة تنجب شجاعة .. فاطمة تأتي بكسرة خبز إلى النبي في غزوة الخندق ، وتحضر فتح مكّة ، وفي ميادين الجهاد كانت مواقفها تسطع بالنور والكبرياء ..

بكت فاطمة عندما رأت أباها على فراشه الأخير ، وارتفع صوتها بالبكاء ، فطلبها النبي فأسرّ إليها شيئاً ، قفلت بعده ضاحكةً ..

يا ترى ما الذي حوّل البكاء إلى ضحك في موقف خيّم الحزن فيه على الجميع ؟‍ وماذا قال الرسول لفاطمة حتى عادت مسرورة ؟

لقد كانت تبكي لأنها ستفارق أباها رسول الله ، لكنّه ما أن أسرّ إليها بأنها أوّل من تلحقه من أهل بيته ، حتى سرّت بذلك سروراً عظيماً ..

ما أعظم حبّكِ لرسول الله يا فاطمة ، وما أعظم حبّه إليكِ .. ( فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها أغضبني ).. هذا كلام رسول الله الذي ما حفظه القوم ، وردّوا عليه ردّ المرتدين ، حين اغتصبوا الخلافة ، وأحرقوا الدار والقرآن فيها ، واغتصبوا فدكاً، وما رعوا لكِ يا زهراء حرمة .. هكذا تشيعين إلى قبرك في خفاء ، ويكون الرحيل وأنت غاضبة ..

خذينا معكِ لنرحلَ غاضبين ..

 

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية