شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

نظرية السياسة والحكم في الإسلام

0 المشاركات 00.0 / 5

نظرية السياسة والحكم في الإسلام

 المصدر: تأليف: السيد محمد حسين الطباطبائي     الزيارات: 30794     التاريخ: 2011-09-15

(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)    سورة المائدة/50

تقديم

منذ أمد غير قصير – في غمرة الأحداث التي عشناها هنا وهناك كنت أحب أن انشر حديثاً عن(( نظرية الإسلام في السياسة والحكم)).

وكان يمنعني من خوض غمار هذا البحث- على ما فيه من متعة فكرية- أن الإسلام لم ينزل في العصر الحديث ساحة الصراع السياسية، ولم يقدر له أن يحدث تغييراً سياسياً فقهياً عاماً في أجواء الوطن الإسلامي.

ونتيجة لذلك يكون تصوير النظرية السياسية في الإسلام لهذا العصر أشبه بالتنظير منه إلى تصوير تجربة اجتماعية.

والجمهور من القراء، اليوم، لا يقنعون بالافتراضات ويطالبون بالأرقام والشواهد.

والتاريخ الإسلامي، طوال ثلاثة عشر قرناً، تجربة ضخمة ثرة... تفيض بالخير، وتشع بالنور، وتنوء بالأرقام الضخام... لولا أنها لا تمثل الحكم الإسلامي تمثيلاً كاملاً، ولا يمكن استخراج نظرية فقهية كاملة من هذه التجربة التاريخية.

والفترة التي تمثل الإسلام تمثيلاً صحيحاً، ولا يجد الإنسان حرجاً في نفسه أن يستعرضه كنموذج حي للحكم الإسلامي، هي فترة قصيرة فجر الإسلام.

ولا تكفي هذه التجربة لإعطاء صورة كاملة عن النظرية الإسلامية في السياسة والحكم- في جزئها المتغير، في مجال التطبيق.

فسيعرف القارئ، ضمن هذه الرسالة، أن المخطط السياسي في الإسلام يتكون من جزءين:

جزء ثابت لا يعرضها التغير والتبدل، مهما كانت نوعية الظروف التي يعيشها الحكم الإسلامي، ولا يجد الباحث صعوبة كبيرة في إعطاء صورة عن هذا الجزء من النظام.

وجزء أخر يتعرض للتغيير والتحويل بتأثير الظروف الخاصة، وتبدل البينات والأحوال الاجتماعية... وتدور، في نفس الوقت، في فلك الجزء الأول من النظام، من دون أن تتجاوزه بحال.

ولا يتمكن الباحث من إعطاء صورة عن هذا الجزء من النظام، ما لم ينزل النظام ميدان التنفيذ، وما لم يمارس الحكم والتنظيم.

والظروف السياسية، والمناسبات الاجتماعية والمصلحة الإسلامية، في كثير من الأحوال، هي التي تحدد وترسم خطوط هذا الجزء من النظام السياسي، في فلك الأحكام الثابتة في الشريعة.

-2-

وظهرت اخيراً رسالة صغيرة، للعلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي، في هذا الموضوع باللغة الفارسية، ورغب اليّ اخوان اعزاء: أن اقدم لهم هذه الرسالة باللغة العربية.. ليكون مدخلاً للبحث، فيما إذا وفق الله علماء المسلمين للقيام بهذه المهمة... فلم اتردد في الإجابة لهذه الرغبة بالاثبات.

والعلامة الكبير السيد محمد حسين الطلاطبائي، بعد، غني عن التعريف.

وفي غالب الظن، لا يجهل القاري الكريم تفسيره القيم(الميزان) الذي كان، بحق، فتحاً في عالم التفسير.

ومدرسة جديدة في التفسير، فتحها الله على يد هذا العبد الصالح والعلامة الطباطبائي.

فيلسوف إسلامي مجدد... عرف بابحاثه الفلسفية المعمقة والمجددة، وربما يظهر قريباً باللغة العربية ترجمة بعض كتبه الفلسفية، بقلم بعض تلاميذه... قمت بمراجعته قريباً.

وبحوث الأستاذ العلامة الإسلامية بحوث مجددة، وثيقة الصلة بالقران الكريم، مشبعة بالفكر، مطبوعة بطابع قراني.

النجف الأشرف  26/ 10/ 1384  محمد مهدي الآصفي

الولاية

نحن الذين نعيش على ظهر هذا الكوكب، حياة اجتماعية، لا يتاتى لنا أن نحيي هذه الحياة بيسر، إلا حينما يساهم كل واحد منا، بما أوتي من امكانات مادية وفكرية في إدارة شؤون هذه الحياة.

ولا تتم هذه المساهمة الاجتماعية في إدارة شؤون الحياة من غير أن بفقد الفرد استقلاله التام في الفكر وفي العمل.

فلا يتأتى للفرد الذي يريد أن يشترك مع المجموعة البشرية في القيام بشؤون الحياة المادية والفكرية أن يظل طليقاً مطلق العنان، في افكاره وأعماله واتجاهاته، وان يستقل برايه الخاص فيما يهم المجموعة البشرية من شان.

ولا بد، لكي يساهم الفرد مع المجموعة البشرية في تسيير شؤون الحياة، أن يذوب في الكيان الجمعي، ويتنازل عن بعض استقلاله وحريته لذلك.

ومع ذلك، فلا يفقد الفرد في الحياة الاجتماعية كل استقلاله وشخصيته الفردية، بشكل مطلق، وإنما يحتفظ لنفسه بجزء من شخصيته الفردية واستقلاله الشخصي.

ووجود المجتمع لا ينفك عن وجود الأفراد، ونسبة المجتمع إلى الأفراد نسبة الصورة إلى المادة، ولا يمكن أن تتحقق هذه الصورة الجمعية بطبيعة الحال، فيما لو زال اثر ((الفردية)) عن الوجود.

وكل فرد، مهما كانت صلاته بالمجموعة البشرية، يستقل بشؤونه الشخصية التي لا تتصل بمصالح الآخرين، ولا يحق لإحد أن يتدخل في شؤونه الخاصة التي تخصه في دائرته الشخصية.

ولكن قد يطرأ على الفرد بعض الحالات الاستثنائية كالجنون والاختلالات العصبية، التي يفقد معها الفرد رشده الفكري الخاص، فيحرم من حق التصرف في امواله الخاصة، والاستقلال في الفكر والعمل في شؤونه الشخصية، وتفرض عليه رقابة خاصة من قبل المجتمع.

وفوق ذلك كله، قد توجد في المجتمع مرافق اجتماعية عامة، لا تخص فرداً خاصاً، ولا يحق لشخص خاص أن يستقل بادارتها والقيام بشؤونها.

وأكثر من هذا إدارة المجتمع ذاته، بجميع قطاعاته وجوانبة، فلا يتاح للإنسان أن يعيش حياة اجتماعية في مجموعة بشرية، ما لم يلتزم بمقررات اجتماعية نافذة المفعول في الهيئة الاجتماعية على جميع الأفراد.

ولا يمكن أن تتم الحياة الاجتماعية في جانب من جوانبها من غير هذه المقررات والالتزامات، التي تحفظحقوق الأفراد عن تجاوز الآخرين، وتحفظ المصالح العامة من الاستغلال الفردي.

إلا أن المقررات الاجتماعية، وحدها، لا تكفي لادارة الحياة وتنظيم الشؤون الاجتماعية.

والإنسان، مهما كان اجتماعياً، ومهما كانت قدرته على تناسي تحكم النوازع الفردية في نفسه، فهو كائن من لحم ودم، تحكمه الدوافع والنوازع الفردية، ويختلف عن الآخرين في كثير من الشؤون الاجتماعية التي تتصل بمصالحه الشخصية، وتطغي كثيراً النزعة الفردية (الأنانية) في نفسه على النزعة الغيرية (الاجتماعية).

وهذا الاختلاف في الاذواق والمصالح يؤدي إلى الانشقاق والانشطار في الكيان الاجتماعي بين المجموعة البشرية، والاخلال بالنظام والأمن الاجتماعي.

والحياة الاجتماعية لا تصفو، ولا تاخذ مجراها الطبيعي، ما لم تكن هناك سلطة اجتماعية، فوق الميول الشخصية... يحفظ التعادل الاجتماعي، ويصون المجتمع من الفوضى والاختلال.

ولا تختلف المجموعات البشرية فيما ذكرنا من خصائص الحياة الفردية والاجتماعية، وتنفيذ القرارات الاجتماعية، وتوجيه النشاط الاجتماعي، وحفظ الحدود والحقوق.

ونحن نطلق على هذه المهمة الاجتماعية ((اسم الولاية))، وهي مسؤولية رعاية الشؤون الاجتماعية للناس.

منهج البحث

وسوف نحاول- فيما يأتي في حديث- أن نشرح ((الولاية)) وما يتصل بها من شؤون وأحكام في حدود نظرية الإسلام الاجتماعية.

ولا نريد أن ننهج في هذه الدراسة نهج الدراسات الفقهية.

والخبيرون في الفقه الإسلامي، والامامي خاصة، يعلمون أن النهج المتبع في هذه الدراسة يختلف كثيراً عن المناهج الفقهية في الاستنباط.

الولاية من شؤون الفطرة

فالولاية، إذن، من شؤون الفطرة، ولا تختص بامة دون أخرى، وناس دون آخرين.

ولا يجتمع نفر من الإنسان في قطعة من الأرض، حتى ينصبوا احدهم لهذه المهمة، ويعهدوا إليه القيام بهذه المهمة الاجتماعية.

ولا يخلو مجتمع على وجه الأرض من الحاجة إلى هذه المرافق العامة والشؤون التي لا يمكن أن يقوم بها الاشخاص بصورة انفرادية في المجتمع.

نظرية الإسلام في الولاية والحكم

والإسلام، دين الفطرة، لا يشذ  في شيء من مخططاته ونظمه، عن شريعة الفطرة، ويقر بصراحة ووضوح، وبصورة مؤكدة، حكم الفطرة الإنسانية، مهما كانت شكلها.

والولاية- كما ذكرنا– من شؤون الفطرة، لا يختلف فيها إنسان، مهما كانت بيئته الفقهية.

والى هذا المعنى يشير تعالى، حيث يقول:

((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))[1] .

إيضاح للآية الكريمة: الكون الذي نعيش فيه، يتكون من اجزاء صغيرة وكبيرة كثيرة.. من الذرة الكبيرة، إلى المجموعات الكوكبية الضخمة، التي تسير في الفضاء، غير المتناهي.

ويحكم هذا الكون، بجميع أطرافه، نظام كوني مدهش بالغ الدقة، يربط جميع أجزاء هذا الكون بعضها ببعض من حيث التأثير والانفعال.

ولذلك، فكل ظاهرة كونية... تحصل نتيجة للتفاعل الكوني الذي يحصل بين هذه الأجزاء، من دون أن يتخلف جزء من اجزاء الكون من هذا التأثير والتأثر والفعل والانفعال الكوني.

والإنسان ظاهرة كونية بين سائر الظواهر الكونية .. يتاثر بما في هذا الكون من فعاليات وحركات ... ويشبه قطرة من الماء تنجرف خلال تيار قوي من الماء.

ولا يثبت الكون على وضعية كونية واحدة .. فهو دائماً في حركة تكاملية متطورة.

وتتكامل الظواهر الكونية، خلال التطور الكوني، بصورة مستمرة وبنسبة ثابتة.

ولهذا السبب، فقد خلق الله لكل كائن في الطبيعة تكوينه الخاص الذي يساعده على بلوغ كماله الخاص ونضجه الطبيعي.

وفي الايتين الكريمتين، يجد القارئ توضيحاً وافياً لهذه النظرية:

((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))[2] .

((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى0 وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[3] .

ومن هنا يظهر لنا: أن الإنسان، لتكوينه الخاص، ولموقعه الخاص من الكون، يجب أن يأخذ من الكون وعي ذاته، وكماله الإنساني الخاص ، ونضجه الفكري الذي يخصه.

وبما أن الإنسان، في الطبيعة، يبلغ نضجه الفكري الخاص وكماله الإنساني عن طريق الوعي والإرادة ... كان لا بد أن يتحقق، بالنسبة إليه، الهداية التكوينية بالمعرفة والتفكير.

((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا0 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا0 قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا0وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا))[4] .

ومن ذلك كله، يظهر لنا: أن الإنسان مزود، عن طريق التكوين والفطرة، بالوعي، والإرادة والتفكير.

وعن طريق الوعي والإرادة والتفكير، يستطيع الإنسان أن يلائم بين نفسه والكون، ويمنع عن كل تقاطع بينه وبين الكون( الأم)، وعن طريق هذا الانسجام الكوني، يستطيع الإنسان أن يبلغ خلال التطور الكوني كماله التكويني الخاص، ورشده الإنساني الذي يخصه ... والى هذا المعنى تشير الآية الكريمة:

((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))[5] .

 

والآية الكريمة تشير إلى الجهات التالية:

بما أن حياة الإنسان وسعادته ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنواميس الكونية، وتنبع من الكون، ذاته، فلا يصلح لإدارة حياة الإنسان الاجتماعية نظام يشذ عن نظام الخلقة في وجه من وجوهه.

ولما كان النظام الكوني نظاماً ثابتاً يجب أن يخضع الإنسان، في حياته الاجتماعية، لنظام اجتماعي ثابت، نابع من اصول النظام التكويني، يعصمه عن الانحراف يمنة ويسرة في مجالات النشاط والفعاليات الفردية والاجتماعية، ويصونه عن الانجراف مع الرغبات والشهوات النفسية:

((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ))[6] .

والقران الكريم يشير في غير مورد واحد إلى لزوم أتباع سبيل الحق، والتحفظ من الانجراف مع الأهواء والرغبات:

((مَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ))[7] .

وإذا انحرف الإنسان عن الخط الكوني في حياته الاجتماعية، اصطدم بنظام الفطرة والطبيعة وجهاً لوجه، منجرفاً مع الرغبات والأهواء .. وعندئذ لابد أن يغلبه نظام الخلقة ويطرده عن مسيره التكويني الواسع .. وكان عليه أن يتقبل احد الامرين: أما أن يعود إلى مسايرة نظام الخلقة والفطرة ثانياً، بعد كل ما عانى من جهد في مغالبة الفطرة والطبيعة؛ وإما أن تقضي عليه الخلقة في مسيرتها التكوينية ... وكل ذلك يكلف الإنسان المنحرف جهداً كبيراً، كان في غنى عنه؛ ويجعل طعم الحياة في مذاقه مراً غير سائغ.

والى هذا المعنى تشير الآيات الكريمات التي تتلو الآية المتقدمة من سورة الروم.

ولذلك كله، نجد أن الإسلام يعتمد الفطرة اساساً لتشريعاته ونظمه، ويعتبر الانحراف عن الفطرة ضلالاً وشذوذاً.

 

*                       *                       *

ومن المسائل الفطرية التي يعتمدها الإسلام مسالة ((الولاية والحكم)).

ولأمر ما، لم يتعرض أحد من المسلمين صدر الإسلام للسؤال عن أصل مسالة الحكم والولاية، مع قيام النبيj بمهام الحكم والإدارة.. من الدفاع والأمن والإدارة ... ومن ابتلاء المسلمين، غالباً بشؤون الولاية والحكم. وذلك لبداهة المسالة، بذاتها، واطمئنان المسلمين إلى لزومها بالفطرة.

وقد كانوا يسالون النبيj عن مسائل لا تبلغ هذا الحد من الأهمية، كالحيض، والأهلة، والنفاق...ولا يعرضون لمثل هذا السؤال.

والدليل على بداهة لزوم الولاية والحكم لإدارة الحياة الاجتماعية في النظرية الإسلامية: أن المسلمين يوم اجتمعوا في((سقيفة بني ساعدة)) بعد وفاة النبي j واختلفوا في مسألة الخلافة فيما بينهم، حتى قال احدهم: (( منا أمير ومنكم أمير)) واقترح أخر أن تكون الإمارة في الأنصار، وآخر في عليa ... لم يخطر على بال احد من المسلمين، في مثل هذا الجو المشبع بالتشكيك والفوضى السياسية، أن ينفي لزوم الامارة والولاية؛ ويقترح الحياة بدون وجود هيئة حاكمة، وسلطة سياسية، وجهاز للتنفيذ.

دليل أخر على مسالة الولاية:

يقول تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ))[8] .

لا خلاف في أن الآية الكريمة نزلت في وقعة أُحد لما شاع بين المسلمين في ساحة الحرب- بعد نكسة أصابت المسلمين في هذه الوقعة- أن النبيj قد استشهد. فتذرع المسلمون بهذا النبأ للهزيمة والفرار عن ساحة الحرب، أمام المشركين المحاربين؛ لعدم وجود جدوى في الجهاد والمقاومة في ميدان الحرب، بعد وفاة النبيj.

والآية الكريمة تؤنّب هذه الطائفة من المسلمين على هذه البادرة ، التي ظهرت منهم في الميدان أمام صفوف العدو.

فليس محمدj -كما يقول القران الكريم- إلا رسول خلت من قبله رسل من قبل الله عز وجل- لتبليغ شرائع السماء إلى الناس.

ولا تنتهي مهمة هذه الرسالة السماوية بانتهاء أيام حياة رسول الله j. فهل يصح أن يهمل أمر هذا الدين ويترك الجهاد لمجرد وفاة النبي j، وهل هذا سوى الانقلاب إلى الحياة الجاهلية مرة ثانية، بعد ما ألغى الإسلام هذه الحياة من الجذور؟؟

ومن الواضح أن المسلمين لم يرجعوا في هذه الواقعة، بعد ظهور النكسة في صفوفهم، إلى عبادة الأصنام، ولم يكن في نيتهم ترك الصلاة والصيام وما يتصل بذلك من العبادات.. وإنما بدا لهم أن يتركوا الجهاد، وينسحبوا من الميدان، ويهملوا هذا الشأن الحياتي من شؤون الدين الاجتماعية، الذي يحتاج إلى قيادة وإدارة وتنظيم وسلطة وولاية.

والتأنيب في الآية الكريمة ينصبّ على هذه النقطة بصورة خاصة.

وتصرح الآية الكريمة، بان الكيان الاجتماعي الذي أقامه النبيj على وجه الأرض لا يتزعزع بعد وفاته، ولا يحل محله كيان أخر، مهما كان شكله... فيجب على المسلمين الإبقاء على وضعية الحكم الإسلامي بعد وفاة النبيj، والعمل على استمرار وامتداد هذا الجهاز الإسلامي في الحكم والإدارة، مهما كلفهم ذلك، ومهما شق عليهم.

ومن ملاحظة ذلك، يتضح لنا: أن الآية الكريمة تعتبر المحافظة على شؤون الحكم والإدارة في المجتمع الإسلامي، ونصب جهاز سياسي وإداري خاص، من شؤون الشريعة التي يجب القيام بها، ويحرم الإخلال بشان من شؤونها.

شؤون السلطة والحكم في الإسلام

ولو أردنا أن نبحث عن مختصات الحكومة والولاية في الإسلام، نجد أن المقررات التي تجري بإشراف من الجهاز الحاكم والسلطة في الإسلام، على قسمين: فهناك مقررات شرعية ثابتة، لا يعرضها التغيير والاختلاف، ولا يمكن أن يتأثر باختلاف البيئة والمحيط، بشكل من الإشكال.

وهناك لون أخر من المقرّرات الاجتماعية التي تجري بقرار من هيئة الولاية العامة، تختلف باختلاف الظروف وتتأثر باختلاف البيئات والأزمنة.

ولتوضيح الأمر، نستعير شاهداً من الظواهر الاجتماعية التي نعيشها في حياتنا الخاصة.

لنفترض أن مواطناً يراس عائلة صغيرة، ويدير امور العائلة في حدود مقررات البلاد الداخلية... فيامر احد افراد العائلة بالقيام بهذا الشأن من شؤون البيت، ويامر آخرين منهم بشان أخر من شؤون العائلة، ويحدد اختيارات كل واحد منهم في البيت في حدود مصلحة العائلة، ويامر بالأنقطاع عن العمل يوماً أو يومين للاستجمام، ويامر بالاستمرار بالعمل، في حدود ما تقتضيه مصلحة العائلة، وحسب ظروف البيت الخاصة ... وفي الوقت الذي يملك هذا الشخص كل هذه الاختيارات الواسعة في الادارة والسلطة، لا يسمح له أن يخرج من دائرة مقررات العائلة العامة في شان من الشؤون، أو يتجاوز حدود النظام العام، بشكل من الإشكال.

ومما يتضح: أن المقررات المرعية في محيط هذه العائلة على نوعين:

نوع يتسم بطابع الثبات والبقاء.

ونوع يتعرض للاختلاف والتغيير، حسب ما تقتضيه مصلحة البيت.

والنسبة ذاتها قائمة بين الشريعة الإسلامية، التي يطبعها طابع الثبات والبقاء، وشؤون السلطة والولاية، التي تختلف باختلاف الظروف والمصالح الاجتماعية، والتي تدور في فلك الشريعة. من دون أن تتجاوزها بحال من الأحوال.

ومما تقدم من حديث، يتبين لنا عدة نقاط، أودّ أن أعيدها على القارئ، مرة أخرى، ليخرج بمحصل من هذا الحديث.

طابع الثبات والتبدل في الإسلام

اتضح لنا من الحديث المتقدم؛ أن مقررات النظام الإسلامي على نوعين:

1-مقررات ثابتة، تنبع من الكتاب والسنة، ولا يطرؤها التغيير والاختلاف، ولا يمكن أن تتاثر باختلاف البيئة والمحيط. وهي المخطط الفطري الذي جاء به رسول الله j من عند الله إلى الناس.

 ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ))[9] .

 ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)).

 وقد يخطر على البال، أن التبدل الحضاري السريع والهائل الذي طرأ المجتمع الإنساني المعاصر، والتبدلات التي كانت تتناوب المجتمعات الإنسانية منذ أن دخل الإنسان التاريخ من أبوابه الواسعة، وأرّخ حياته؛ لا يلائم طابع الجمود والثبات في القانون، ولا يمكن أن يساير هذا اللون من النظام، الذي جاء به التبيj من عند الله قبل اربعة عشر قرناً من الزمن، في بيئة بدائية معزولة عن الساحة الحضارية، ولا يتسع هذا الحديث لمناقشة هذه الفكرة ... إلا انني أحب أن اشير بصورة مجملة إلى أن أي نظام وضعي على وجه الأرض، لا بد أن يعتمد على اصول الخلقة والكينونة الإنسانية (الفطرة)، كمسالة الحياة الاجتماعية والسلطة والملكية والدفاع ... وما يتصل بذلك من المسائل القانونية والاجتماعية.

ولا يمكن أن تتاثر امثال هذه المسائل باختلاف الاوضاع الاجتماعية والظروف الحضارية في المجتمع.

وفي النظرية الإسلامية، تعتبر الشريعة مجموعة من النظم والقوانين التي تعتمد الحاجات الأولية والتكوينية في الإسلام.

2-قرارات نظامية أخرى، تنبع عن جهاز الولاية والسلطة في المجتمع الإسلامي، وتتأثر باختلاف البيئة والمحيط والظروف والمصالح الاجتماعية، وتدور، في الوقت ذاته، في فلك الشريعة، بدون أن تتجاوزها بحال.

بين الإسلام والديمقراطية

ومما يجب أن نشير إليه،هنا، في هذه النقطة من البحث: أن الحكم الإسلامي يشبه الديمقراطية الحديثة في هذه الجهة، بعض الشيء.

فان للديمقراطية الحديثة نوعين من القوانين:

قوانين ثابتة، لا يطرؤها التغيير والاختلاف: وهي ((الدستور الدائم)) أو ((القانون الدستوري)) .. ولا تملك أي جهة من الدولة، حتى مجلس الأمة والشيوخ. أحداث أي تغيير في محتويات  الدستور؛ إلا حينما تتفق أكثرية الأمة، بجميع قطاعاتها، على ذلك.

وأخرى قوانين خاضعة للتغيير والاختلاف، باجتماع أكثرية الأصوات في مجلس الأمة والشيوخ أو الهيئة الوزارية، أو غير ذلك من القطاعات الإدارية أو السياسية في البلاد.

ومهمة هذه الطائفة من القوانين لا تتجاوز إطار القانون الدستوري، ولا تخرج بحال من الأحوال منه. ومهما تعرضت للاختلاف والتغيير لا تخرج عن فلك القانون الدستوري.

ومع ذلك، يجب أن نفصل نظرية الحكم والقانون في الإسلام عن النظريات الديمقراطية والاشتراكية الحديثة ولا نخلط بينهما .. كما يصنع بعض الكتاب والباحثين الاسلاميين وغير الاسلاميين.

فمن ناحية ((الجزء الثابت من القانون))، يحكم الإسلام بأنّ الله تعالى وحده هو الذي يضع ويقرر ثوابت الشريعة، وليس لإحد أن يتدخل في شان من شؤون التشريع، في هذا الجزء من النظام .. حتى رسول الله j ذاته.

ومن الناحية الثابتة: ((الجزء الخاضع للتغيير من النظام)) يخضع، في النظم الديمقراطية الحديثة، لراي الاغلبية- ونعني بالاغلبية (نصف النواب زائد واحد) – وتضطر الأقلية (النصف ناقصاً واحد)، للخضوع لراي الأكثرية، مهما كان الرأي والقرار، ومهما بلغ التفاوت بين الأكثرية والاقلية في التصويت.

وفي النظرية السياسية الإسلامية، يختلف الأمر عما تقدم في النظم الديمقراطية الحديثة ... فليس المقياس في وضع القانون وتحويله أو أحداث أي تغيير في محتواه وشكله هو أكثرية الاصوت- وان كان الإسلام لا يهمل شان الشورى في الحكم والإدارة- وإنما هو أتباع الحق[10] .

كما لا يخضع هذا الجزء من النظام، في النظرية السياسية الإسلامية، للاهواء والرغبات؛ مهما توافرت على ذلك .. وإنما يخضع فقط للمصلحة الاجتماعية.

ولكن الذي يخفف من شان الفاصل النظري بين النظرية الإسلامية والديمقراطية الحديثة: أن أكثرية الأصوات في المجتمع الإسلامي، الذي يلتزم بالثوابت الشرعية ولا تتعدى حدود الحق والصالح الاجتماعي.

والقران الكريم يوجه المسلمين دائما إلى أتباع الحق والصالح الإنساني، مهما تظافرت الأصوات والأهواء والأكثرية على الجانب المقابل له.

((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ))[11] .

((أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى))[12] .

((... أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ))[13] .

((لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ))[14] .

((والعصر إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ0 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ))[15] .

وكانت هذه النظرية، بهذا الشكل، موضع انتقاد قديماً وحديثاً، من بعض علماء القانون.

فقد انتقدوا هذه النظرية بانها لا تحترم راي الأكثرية من الناس.. والنظام الذي لا يعتمد على أكثرية الناس لا يصلح للبقاء، ولا تطمئن إليه الأمة ذاتها...

ولذلك، فقد راينا أن النظام الإسلامي لم يُنفّذ على وجه عام، في مختلف جوانبه التشريعية، إلا برهة قصيرة من الزمان... (والكلام لازال لهم).

والنظم الديمقراطية، لما كانت تستوحي مقومات وجودها من آراء الناس وافكارهم، كانت أصلح للبقاء، وكانت أكثر ملائمة للاوضاع الحضارية المستحدثة.

وقد كان الإسلام، قبل اربعة عشر قرناً، حين كان الإنسان يعيش حياة شبه بدائية، صالحاً للتطبيق ... وأُتيح له أن يرفع بمستوى الإنسان، في ذلك الوقت، لله تخلف عن مسايرة الاوضاع الحضارية المستحدثة.

 

وللاجابة على أمثال هذه التسؤلات والمؤخذات، يجب أن نعرف:

أولاً: أن راي الأكثرية في الحكم والنظام وإن كان أقرب إلى القبول والتنفيذ في الحياة الاجتماعية؛ إلا أن راي الأكثرية يتبع دائماً نوع الثقافة والفكر والتربية التي نشات عليها الأكثرية.

وفي الوقت الحاضر، بعد تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية، لا يحتاج الإنسان إلى جهد كثير ليطمئن إلى تأثير التربية والثقافة والعادات الاجتماعية في تكوين الرأي العام شكلاً ومحتوى.

وفي المجتمع الإسلامي، حيث ينشا الناس على الفضيلة والتقوى، لا يمكن أن ينحرف الرأي العام عن الحق، كما لا يمكن أن ينحرف مع الأهواء والرغبات غير المشروعة.

ولا تختص هذه الخاصة بالمجتمع الإسلامي.. ففي أي مجتمع آخر، لا يمكن أن يتكون الرأي العام من دون أن يتأثر بالتربية الاخلاقية والعادات والثقافة العامة في المجتمع.

فالراي العام، إذن، في المجتمع الإسلامي، لا يمكن أن يتخلف عن الحق والصواب والصالح الاجتماعي.

ثانياً: أن التشريع الإسلامي، بشكله الصحيح الذي جاء به صاحب الرسالة j   بدأ رسالته لم يستنفذ عمره الطبيعي على امتداد التاريخ الإسلامي ... فقد انقلبت سنن الإسلام في الحكم والإدارة بعد مرور فترة قصيرة عن وفاة النبي j، وحل محله نمط آخر من الحكم، أشبه بالإمبراطوريات من جهاز الحكم الإسلامي.

وإذا صح أن نضع، على هذا اللون من التحولات الاجتماعية والتقلبات السياسية، اسم الموت، فهو أشبه بموت الفجأة والغيلة من الموت الطبيعي!

وبمقارنة الحكم الإسلامي بالشكل الذي يرسمه القران الكريم وسيرة النبي وسننه وسنة أهل بيته (ع) .. إلى الحكومات التي ظهرت على امتداد التاريخ الإسلامي، وحكمت باسم الإسلام؛ يتضح لنا؛ أن التاريخ الإسلامي–فيما عدا فترة قصيرة منه– لا يمثل الإسلام في جملة  من خطوطه.

وبعد هذه الملاحظة، لا يصح لأحد أن نقول: أن الإسلام فشل في إدارة الحياة الاجتماعية والسياسية.

فلم ينفذ الإسلام في وقت حتى يصيبه الفشل في التطبيق .. ولا يصح أن نحمل الإسلام تبعات أخطاء المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي.

ولا يختص هذا الأمر بالإسلام.. فقد مر علينا ما يزيد على نصف قرن، انتقلنا من دور الحكم الدكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي... وإذا استثنينا هذا الاسم الذي يستعذبه الناس، لم تعد علينا ((الديمقراطية)) بشيء جديد في حياتنا الاجتماعية، طيلة هذه الفترة.

فهل يصح أن نعتبر الديمقراطية مسؤولة عن تبعات أوضاعنا الاجتماعية الحاضرة؟

وذا كان لا يصح ذلك بالنسبة إلى الديمقراطية،ة فلماذا لا يجوز لنا أن نجيب بمثل ذلك عن صلة الإسلام بالتاريخ الإسلامي.

ثالثاً: إذا اعتبرنا الإسلام متخلفاً عن مسايرة الحضارة الإنسانية، واعتبرنا الديمقراطية مرحلة تكاملية لأنظمة الحكم والإدارة، فلا بد أن يجري هذا الحديث في الديمقراطية ذاتها...

فقد اقبل الناس بعد الحرب الكونية الأولى، بصورة هائلة، على الماركسية والأحزاب الماركسية. وأخذت الديمقراطية تخسر مواقعها الاستراتيجية واحد بعد الأخرى.

فهل تعتبر الماركسية مرحلة تكاملية للنظم المتقدمة عليها؟

تلك قضايا يستغرق الإجابة عليها بحثاً أوسع، لا يتسع له صدر هذه الرسالة.

ولكننا نرغب أن نلفت نظر القارئ إلى جوانب مهمة من البحث:

الدكتاتورية الجماعية:

الديمقراطية لم تغير شيئاً من الاساليب الدكتاتورية في الحكم- إذا تغاضينا عن بعض التغييرات الشكلية التي احدثتها الديمقراطية في الحكم.

فلا تزال الدكتاتورية هي الطابع العام للحكومات الديمقراطية. غير أنها حولت الدكتاتورية من القاعدة الفردية إلى دكتاتورية الفئاة والأحزاب والجماعات الحاكمة.

ونظرة واحدة إلى الأساليب الاستعمارية الحديثة، التي تمارسها الدول الديمقراطية القوية بالنسبة إلى الدول الضعيفة، تكفي لإثبات ذلك. ويميز الفتوحات العسكرية المسلحة الحديثة عنها فيما تقدم من عهود الحكم الدكتاتوري: أن الفتوحات العسكرية المسلحة قديماً، كانت سافرة، تبعث على اثارة الرأي العام في الأمم الضعيفة ضد الأمم القوية .. وفي الوقت الحاضر، يغطي هذه الحملات غطاء من الاساليب الدعائية والمفاهيم السياسية الحديثة: كالحماية، والاشراف والمسؤولية، والاستعمار .. وما يتصل بذلك من الكلمات البراقة، التي تخفي ورائها ابشع ألوان الظلم والاستبداد.

ولا يزال الإنسان المعاصر، الذي يعيش في ((ظلال)) من الحياة الديمقراطية، يعاني الامرين من طغيان الدول والحكومات القوية.

ولا يزال الإنسان المعاصر يلمس شواهد هذا الاستبداد والظلم في الكونغو وفيتنام وجنوب الجزيرة العربية، بشكل فضيع، لا يقل عما كان يرونه لنا المؤرخون من غارات وحروب جنكيز واسكندر.

وحتى الامس القريب، كانت فرنسا(حاملة مشعل الحرية في هيئة الأمم) تعتقد أن الجزائر جزء لا ينفصل من فرنسا!

وبصورة عامة، نجد أن الديمقراطية الحديثة أدت إلى تقسيم العالم، اليوم، إلى كتلتين:

كتلة تجمع الدول الكبرى في العالم، تجد من حقها أن تقرر مصير الإنسانية ومصير هذا الكوكب بشكل عام.

وكتلة أخرى تجمع الدول الضعيفة والشعوب المتاخرة التي تعيش تحت رحمة الدول الكبرى.

ويغطي العلاقة، اللا إنسانية، القائمة بين هاتين الكتلتين، غطاء من المفاهيم السياسية و الاساليب الاستعمارية المستحدثة.

فهل يمكن أن نعتبر أن هذا اللون من الحكم اللا إنساني مرحلة تكاملية للديمقراطية؟

والشيوعية لا تختلف في كثير عن الديمقراطية، وان كانت تختلف عنها اختلافاً في اساليب الغزو الاستعماري ولا يمكن أن تعتبر، بوجه من الوجوه، مرحلة تكاملية الديمقراطية.

فاننا نجد أن الدول المتاخرة، التي لم تتصل حياتها بالديمقراطية والحضارة الحديثة بسبب قريب أو بعيد، تحتضن الشيوعية احسن من غيرها .. بينما نجد أن الدول الرأسمالية الديمقراطية الكبرى- والتي قطعت مرحلة كبيرة من الحياة الرسمالية- لا تزال تمتنع من الانجراف مع الشيوعية.

فهل تعتبر مرحلة الحكم الشيوعي قفزة على امتداد التاريخ ام شيء أخر؟!

وفيما نعلم، لا يلائم المنطق الديالكتي المادي هذه القفزات البعيدة في التاريخ.

ومما تقدم يظهر لنا: أن الذين يدافعون عن الديمقراطية الغربية، ويتحاملون على الإسلام، لا يريدون من الحرية التي ينعونها على الإسلام، إلا هذا اللون من الابتذال والخلاعة الذي يشيع في الأجواء الغربية،  بصورة واسعة.

ولذلك، نجد أن مفاهيم الابتذال والخلاعة تتسرب إلى مجتمعاتنا قبل أي مفهوم أخر، وقبل أن نصحح الأخطاء الكبيرة في حياتنا، ونصلح الواقع الفاسد الذي نعيشه في حياتنا الاجتماعية .. في مختلف قطاعات الحياة.

والذين يعتنقون المبدأ الشيوعي، في الغالب، من الفئات المحرومة. والطبقات البائسة من المجتمع إلى تحمل حقداً على الفئات المترفهة، وتحاول أن تذيقها شر ما تذوقه: من جهد وعناء وفقر ...

ونحن، مهما حاولنا، لا نستطيع أن نطلق على هذا اللون من النظام اسم التقدمية والإصلاح.

وعند ذلك، فقط، يستطيع الإنسان أن يوفي دوره الإصلاحي من خلافة الأرض ووراثته من خلال التقوى والحق.

((إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[16] .

تشريع الحكومة والولاية

تقدم فيما سبق: أن الأحكام التي تصدر عن منصب الولاية والحكومة الشرعية قابلة للتغيير والتحول، حسب مقتضيات الظروف والاجواء الاجتماعية. ولذلك، فلا تحسب من احكام الشريعة.

أما مسالة الولاية والحكومة ذاتها، فهي غير قابلة للتغيير والاختلاف، ولا يمكن أن تتاثر بالظروف والبيئات مهما كان تأثيرها. وذلك أن مسالة الحكومة ترتبط بالفطرة والكينونة البشرية، ولا يختلف حكمها من محيط اجتماعي إلى محيط اجتماعي أخر، ومن وضعية حضارية إلى أخرى.

ولما كان الإسلام يعتمد في نظمه وتشريعاته الفطرة الإنسانية أكثر من أي شيء أخر، فلا يمكن أن يهمل مسالة حياتية كبيرة، كالحكومة والولاية، في طيات الفقه الإسلامي.

وبالإضافة إلى ما تقدم من دليل الفطرة، نجد في تاريخ الدعوة الإسلامية: أن النبيj كان لا يهمل شاناً من شؤون الولاية في حال من الحالات...

فكان يولي القضاة مهام القضاء، ويبعث الجباة لجمع المال إلى أطراف الجزيرة العربية، ويجهز الجيوش للدفاع عن كيان الوطن الإسلامي، ويعين عليها القواد والامراء.. وإذا كان يغيب عن المدينة لغرض عسكري أو غيره كان يترك وراءه في المدينة المنورة من يخلفه في شؤون الولاية والحكومة.

وكيف يمكن أن يهمل الإسلام شان الولاية، وهو من أهم المقومات الاجتماعية .. في الوقت الذي ينظم فيه جزئيات الحياة الفردية والاجتماعية بتفصيل ودقة، كالاكل والشرب والسكنى .. وغير ذلك من المسائل.

وفي القران الكريم، بعد، توجيهات صريحة بشان الحكومة والولاية، كقوله تعالى:

((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ))[17] .

وقوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ))[18] .

وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ))[19] .

وقوله تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ))[20] .

... وايات كريمة أخرى بهذا المضمون.

وصَرف لفظ ((الولاية))عن ظاهره إلى معنى الحب والصداقة، تكلف من غير موجب يقتضي ذلك.

الحكم في عصر الغيبة

وإذا كانت الحكومة والولاية من اوليات الشريعة التي لا يجوز للمسلمين اهمالها وإغفالها، فلا بد أن يكون المسلمون جميعاً مسؤولين عن اقامتها والاهتمام بشأنها.

والله- تعالى – قد حدّد سمات الاشخاص الذين يصلحون لولاية الامور العامة، كالولاية العامة (الامامة) والقضاء، والامارة، والقيادة، وإمامة الصلاة، والجباية... وغير ذلك، كما حمل المسلمين كافة مسؤولية الشؤون الاجتماعية عامة (( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).

وفيما يخص الولاية العامة (الامامة)، نعتقد، نحن الشيعة، أن الله – تعالى – قد نصب الإمام أمير المؤمنين علياً a خليفة على المسلمين بعد رسول الله j، ومن بعده الأحد عشر من أولاده.

وتحتج الشيعة لهذا المذهب بايات من القران الكريم وسنن مستفيضة ومتواترة عن النبيj، وليست غايتنا نحن الآن، في هذا الحديث، أن ندخل تفاصيل هذا البحث.

ولكن الذي يجب أنّ نعلمه، أنّ هذه العقيدة ليست بمعنى أنّ المسلمين مهملون في عصر الغيبة، لا تحكمهم حكومة، ولا تجمع شملهم سلطة إسلامية.

فنحن نملك ادلة خاصة على تشريع اصل مسالة الحكومة الحكومة والولاية، ونملك ادلة أخرى على تعيين الاشخاص الذين يقيمون بمهام هذا المنصب ...  وغياب الإمام الذي نصبه الله تعالى لهذا الأمر لا يسقط عنا حكم السلطة والحكومة راساً.

وفي الشريعة الإسلامية، بعد، جملة من الأحكام التي لايمكن تنفيذها بغير وجود سلطة قائمة وحكومة شرعية ولا تختص بزمان خاص: كالحدود، والتعزيزات، والانفال ... وغير ذلك. ولا بد، لاجراء هذه الأحكام، من وجود سلطة شرعية وحكومة تلي أمر المسلمين في البلاد.

ومن ذلك كله، يظهر لنا: إن مسالة الحكومة والسلطة لا تختص بزمان الحضور خاصة ... وإنما يشمل عهد الغيبة والحضور على السواء.

شخصية الحاكم الإسلامي

ومما يجب أن نشير إليه ضمن البحث عن نظرية الحكومة والسلطة في الإسلام، هو شخصية الحاكم الشرعي.

فهل المسلمون سواء في هذا الأمر، أو يختص بالعدول فقط، أو بالفقهاء منهم؟

وإذا كانت الولاية الشرعية تخص الفقهاء من المسلمين فماذا يكون شان الحكومة عند تعدد الفقهاء في عصر واحد؟ فهل تنفذ تصرفات كل واحد منهم أو يختص بافقههم؟

تلك مسائل يبحث عنها في الفقه، ولا تدخل في حديثنا هذا.

إلا أن الشيء الذي وددت أن اشير إليه: أن تشريع الحكومة لما كان في الإسلام لغرض المحافظة على المصالح الاجتماعية العليا وإدارة البلاد في مختلف جوانبه كان لابد، لايفاء هذا الغرض، من اختيار من يسبق الآخرين في مجال التقوى والثقافة والإدارة والكفاءة والفقاهة.

الوحدة والاتحاد في الحكم

وإذا توسع المجتمع الإسلامي، واشتمل اقطاراً واسعة فهل يجب تكوين حكومة إسلامية واحدة، أم يجوز إقامة حكومات متعددة، يحكم كل منها قطراً اسلامياً خاصاً، يمتاز عن الآخر بحدوده الجغرافية أو سماته القومية؟

هذه مسائل لا يستطيع الباحث أن يبت في جانب منه وليس في اصل الشريعة حكم ثابت لذلك، وإنما يتبع مصلحة الوقت ونمط الحكومة، ويرتبط بمقتضيات الظروف الاجتماعية[21] .

وما يمكن أن يقال بهذا الصدد: أن الشيء الذي يحدد نمط الحكم في الإسلام، في مختلف ظروفه واوضاعه، هو الامور التالية:

1-    يجب على المسلمين الإبقاء على وحدة المسلمين.

2-    تجب المحافظة على المصلحة الإسلامية الاجتماعية.

سيرة رسول الله حياة النبي تعتبر من أهم مصادر النظام السياسي والحكومي في الإسلام ... وقد ارتضى الله – تعالى – سيرة رسوله، ومنع عن العدول منها، مهما كانت الضرورة الداعية إلى ذلك، ومهما تغير نمط الحكم.

يقول تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))[22] .

ويقول رسول الله j: ((من رغب عن سنتي فليس مني)).

ولا يسعنا، في هذا العرض السريع للنظرية الإسلامية في الحكم، أن نستعرض حياة رسول الله j  ولكن الذي يسعنا أن نشير إليه هو:

أولاً: أن الإسلام قد الغى نهائياً الفوارق الطبقية وجعل المقياس لتقييم الأشخاص ((التقوى)) فقط.

وفي الوقت الذي ابقى على الطبقات الاجتماعية المختلفة من رئيس ومرؤوس، وخادم وسيد، وعامل وصاحب عمل، ورجل وامراة ... حاول أن نرفع الفوارق الطبقية من بينهم، ويشعرها، جميعاً، بالمساواة التامة أمام الله، وإزاء القانون، والعدالة التامة في التعامل معها.

((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))[23] .

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))[24] .

ثانياً: أن الناس متساوون أمام القانون. والقانون ينفذ في حق الكل على السواء.

((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ))[25] .

ثالثاً: أن الشورى مصدر اساسي في الحكم وركن من أركان الدولة الإسلامية ولا يصح الحكم إلا بعد الشورى، وبعد ملاحظة المصلحة الإسلامية العليا.

((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ))[26] .

والنظرية الإسلامية، بهذا الشكل، وكما ترسمها سيرة صاحب الرسالة j، لا يمكن أن تتنافى مع مصلحة الأمة في وقت من الأوقات، مهما تبدلت الظروف الاجتماعية[27] .

تلك لمحة سريعة عن نظرية الحكم والسياسة في الإسلام.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

ـــــــــــــــــــــــ

[1]   سورة الروم: 30.

[2]   سورة طه: 50.

[3]   سورة الاعلى: 2-3.

[4]   سورة الشمس: 7-10.

[5]   سورة الروم: 30.

[6]   الجاثية: 23.

[7]   سورة يونس: 32.

[8]  سورة ال عمران: 144.

[9]  سورة الروم: 30.

[10]   لما آمنا، نحن بوجود جزء ثابت في النظام الإسلامي لا يقبل التغيير والتبديل بحال من الأحوال، وحددنا مجال الاختلاف والتبدل في الجزء الآخر من النظام، في حدود الجزء الثابت من القانون، فلا نحتاج، بعد، فيما يبدو لي. إلى ميزان أخر غير ((الأكثرية)) في معرفة الرأي القابل للتنفيذ.

والايات الكريمة، التي تشير إلى اعتبار الحق والمصلحة الاجتماعية مقياساً للراي، دون الأكثرية .. لا تشير إلى شيء سوى الجزء الثابت من النظام الذي افترضنا وجوده سلفاً في الدولة الإسلامية، وحددنا حرية الرأي والاختلاف في الجزء الآخر من النظام، في فلكه.

وما يمكن أن تعتبر نقطة الخلاف والافتراق بين الإسلام والديمقراطية- أو أي مذهب سياسي أخر-، هو الاختلاف في محتوى  الدستور والجزء الثابت من النظام، والاختلاف في تحديد الحق والمصلحة الاجتماعية.  وهذا الاختلاف ينسحب على محتوى النظام والدستور، وقد اشار المؤلف (حفظه الله) إلى ذلك

[11]   سورة يونس: 32.

[12]   سورة يونس: 35.

[13]   سورة الصف: 9.

[14]   سورة الزخرف: 78.

[15]   سورة العصر: 2-3.

[16]   سورة الأعراف: 128.

[17]   سورة الاحزاب: 6.

[18]   سورة المائدة: 55.

[19]   سورة النساء: 55.

[20]   سورة التوبة: 71.

[21]   هذه المسالة ترتبط، بالجزء الثابت من النظام، وليس من الشطر المتغير النابع من الشريعة.

وفي ظلال الحكم الإسلامي، لا يجوز تفكيك الوطن الإسلامي إلى مقاطعات واجزاء مفصولة بعضها عن بعض بحدود جغرافية اقليمية أو قومية تاريخية.

ولا يكفي ايجاب الاتحاد والتكافل والمؤازرة بين أجزاء الوطن الإسلامي وبين مقاطعات البلاد من دون وجود وحدة إسلامية، سياسية وادارية، شاملة.

ووحدة الحكم، في النظرية الإسلامية، تعني وحدة الامامة والخلافة، وتمركز الحكم في مركز إسلامي، يشرف على سير السياسة والإدارة والمرافق الاجتماعية الأخرى في البلاد.

نعم النظام اللامركزي في الحكم أو نظام الولايات نظام مقبول ومشروع وله سابقة تاريخية في عهد الإمام علي a، وليس بمعنى التعددية السياسية وهذا بحث فقهي واسع ليس بمقدورنا أن ندخله الآن.

[22]   سورة الاحزاب: 21.

[23]   سورة ال عمران: 64.

[24]   سورة الحجرات: 13.

[25]   سورة النساء: 123.

[26]   سورة ال عمران: 159.

[27]    ولكن ليس معنى الزام الحاكم أو هيئة الدولة بالشورى الزامهم بالالتزام بمضمون الشورى، والدليل على ذلك قوله تعالى: ((وإذا عزمت فتوكل على الله))ولم نعرف دليلاً يوجب على الحاكم التقيد والتطابق مع الشورى، نعم تجب الشورى على الحاكم بصريح القرآن واعتقد أن راي المؤلف حفظ الله لا يختلف عن ذللك.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية