عبقات.. من الأنوار الرضويّة (3)

عبقات.. من الأنوار الرضويّة (3)

قال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: « إستعمالُ العدلِ والإحسان مُؤْذِنٌ بدوام النعمة » ( عيون أخبار الرضا عليه السلام 24:2 / ح 52 ).
الأخلاق في الإسلام ليست حالاتٍ نفسيّة، أو عاداتٍ اجتماعيّة، فهي في مصدرها الإلهيّ أحكام دينيّة تمضي مع عناوين: الواجب والمحرّم، والمستحبّ والمكروه والمباح، تناسباً مع المبادئ والثوابت والحالات الثانويّة أو الاستثنائيّة.
وتدخل الأخلاق في مجالات الإيمان والتقوى، وتحصيل مرضاة الله تعالى ونوال النعيم الأبديّ، وتأخذ جانبَي لدنيا والآخرة في آثارها وعوائدها، فأهلُ الأخلاق الطيّبة محمودون هنا وهناك، ومرضيّون عند الله وعند عباد الله، ويعيشون راحة النفس والضمير والبدن والروح، بعيدين عن الخصومات والعداوات مع إخوانهم في الدين أو نُظرائهم في الخَلق.
والعدل أصلٌ أخلاقيّ متين، وأساس فرديّ وأُسريّ واجتماعيّ رصين، يجلب المحبّة والخير والسعادة والأطمئنان، ويُبعد عن البغض والخصام والانتقام، فإذا اقترن بالإحسان فقد حَقّ للناس أن ينتظروا وفور النعمة ودوامها، وذلك من أخلاق الله تبارك وتعالى؛ فهو جلّ وعلا عادل ومحسن، يُثيب المؤمن الخيّر ويضاعف له الأجر والحسنات، ويُعطي عباده بغير حساب، إذ عطاؤه غير مجذوذ ولا منقطع. والله جلّت رحمته يحبّ العدل والإحسان ويأمر بهما تحقيقاً لسعادة عباده في الأُولى والآخرة، وهو القائل عزّ مِن قائل: « إنّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى.. » [ سورة النحل:90 ].. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وآله كلمةٌ بيانيّة في ظلّ هذه الآية المباركة، حيث قال: جماعُ التقوى في قوله تعالى: إنّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسان ( مستدرك الوسائل 266:11 / ح 12959 )، كما كان لأمير المؤمنين عليه السلام كلمات في العدل، إحداهنّ قوله: « بالعدلِ تَتضاعفُ البركات » ( مستدرك الوسائل 320:11 / ح 13146 ).
وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام رُويَ قوله: « ما أفاد عبدٌ فائدةً خيراً مِن زوجةٍ صالحة، إذا رآها سَرَّته، وإذا غاب عنها حَفِظَته في نفسها وماله » ( الكافي 327:5 / ح 3 ).
إنّ المَهْنأ الذي تستقرّ فيه نفس الرجل وتنشط بعده للطاعات وأعمال الخير ومهامّ الحياة والمعيشة هو البيت، وحياة البيت مرهونة في جانبٍ كبير منها بالمرأة، فإن كانت صالحةً في دينها وأخلاقها خلقت داخل الأسرة جوّاً من السعادة والاطمئنان، ومهّدت لتربية نسلٍ طيّب نزيه، وجعلت الرجل يمضي في حيويّة وهناء، فتُثمر جهوده لنفس ولعائلته ولمجتمعه بالبركة والنماء.
وقد أكّدت روايات أهل البيت عليهم السلام على أنّ من أسباب السعادة: الزوجة الصالحة، وإنّما تكون صالحةً إذا أطاعت اللهَ تبارك وتعالى فكان منها حُسن التبعُّل، وإدخال السرور على زوجها، والإخلاص له، وحفظ الأمانة معه في نفسه بالصيانة، وفي ماله بالحفظ والتدبير. فإذا حصل ذلك فليعلم الرجل أنّ عليه شكراً للهِ ممتدّاً آناءَ الليل وأطراف النهار، وأن عليه إكرامَ زوجته وتقديرها وحفظ مودّتها، كما رَعَته وحَفِظَت أمانته ومودّته، وتلك سعادة دنيويّة، تفتح أُفقاً إلى سعادةٍ أُخرويّة.
وجاء عن الإمام الرضا عليه السلام أيضاً قوله: « لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى تكون فيه ثلاثُ خصال: سُنّةٌ مِن ربّه، وسنّة من نبيّه صلّى الله عليه وآله، وسُنّةٌ من وليّه. فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ، وأمّا السنّة من نبيّه صلّى الله عليه وآله فمُداراة الناس، وأمّا السنّة من وليّه فالصبرُ في البأساء والضرّاء »( تحف العقول عن آل الرسول:329 ).
ثلاث خصال هنّ من ضرورات العيش مع الناس، فيها حفظ النفس والمال والأهل، وخلق أجواء المحبّة والمعاشرة الحسنة، وإلاّ اصطدم المرء في كلّ ساعة وفي كلّ معاملة ومواجهة بمشاكل عديدة تجرّه إلى الخصومات، وتتركه في إرهاق عصبي، وتشوّشٍ ذهني، فلا يهنأ بطعام ولا شراب، ولا يسعد سعادةً ولا يرتاح راحةً في نفسه وبين أهله وذويه، ولا يصفو له قلب أو عقل ليتوجّه إلى الله تعالى في عبادةٍ من العبادات، لأنّه:
ـ أفشى أسرار نفسه، ففتح على نفسه عيون الحاسدين والمبغضين، وأهلِ النميمة والغيبة والتهمة والشكوك! وأفشى أسرار الآخرين فخََسِرَهم بعد أن آذاهم، وربّما أصبحوا له أعداءً مُبغضين. وكم في هذا وذاك آثامٌ تُوقفه غداً في حساب طويلٍ عسير!
ـ ولأنّه تعامل مع الناس في مواجهةٍ حادّة، وخُرقٍ ليس فيه لين، وعُسرٍ ليس معه يُسر، وألفاظٍ شديدة، وعقوبةٍ بلا عفو، وغضبٍ وانتقام وخصومة، فلم يجد الناس منه رحمةً أو خُلقاً فاضلاً كي تُفتح بينهم أبواب تفاهمٍ أو صلحٍ وإصلاح!
ـ ولأنّه أيضاً لم يصبر على طاعة، ولا عن معصية، ولا في مصيبة.. والحياة تدور عليهنّ جميعاً، فإذا جزع اضطرب، وإذا اضطرب وارتبك وفَقَد اتّزانه كان منه ما يخالف الحكمة والعقل، وبذلك يتخبّط في الأخطاء والإساءات، وربّما فقَدَ ما لا يُعوَّض، وابتعد عن رحمة الله ومحبّة الآخرين!
وفضلاً عن أنّ هذه الخصال الطيّبة: الكتمان، والمُداراة، والصبر.. هنّ أخلاق كريمة، ومنافعُ عاجلةٌ وآجلة، وأسبابُ سعادةٍ وهناء.. هنّ كذلك علامات إيمان لها آثارها المباركة على المؤمن وعلى الناس، وآثارها الموفّقة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ويحسن بنا هنا أن نقف في هذه الخصال عند هذه الأحاديث الشريفة:
ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إنّا أُمِرنا ـ معاشرَ الأنبياء ـ بمداراة الناس كما أُمِرنا بأداء الفرائض » ( أمالي الطوسي 135:2 ـ عنه: بحار الأنوار 53:75 / ح 13 ).
ـ وقال الإمام عليّ عليه السلام: « الصبرُ في الأمور بمنزلةِ الرأس من الجسد، فإذا فارقَ الرأسُ الجسد.. فَسَد الجسد، وإذا فارق الصبرُ الأمور.. فسَدَتِ الأمور » ( الكافي 90:2 / ح 9 ـ باب الصبر ).
ـ وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام جاء قوله: « سِرُّك مِن دمك، فلا يَجرِيَنّ من غير أوداجك! » ( الدرّة الباهرة للشهيد الأوّل ـ عنه: بحار الأنوار 71:75 / ح 15 ).
وعن الإمام الرضا عليه السلام كذلك قال: « إيّاكم والبخل؛ فإنّه عاهةٌ لا يكون في حُرٍّ ولا مؤمن، إنّه خِلافُ الإيمان » ( فقه الرضا عليه السلام:338 ـ الباب 89، باب حقّ النفوس ).
كما رغّب النبيّ وآله صلوات الله عليه وعليهم في المُنجيات، حذّروا من المفسدات والمهلكات، وأحدُهنّ البخل؛ إذ فيه جوانب مشؤومة، أوّلها تؤشّر إلى خللٍ في الإيمان حيث يتصوّر البخيل أنّه هو الذي جمع ماله بعلمه وجهده مُغيِّباً عن عقله وقلبه حقيقةَ الكرم الإلهي والعطاء الربّاني الذي لم ينقطع عنه آناً من الدهر منذ خلق وإلى الأبد. ويتصوّر كذلك أنّه إذا أنفق افتقر، فيُبخّل اللهَ تعالى في عطائه وكرمه، وكأنّ الله تعالى لا يَقْدِر، أو لا يُريد أن يُقدِّر! وذلك مُخِلّ بالإيمان، فأمير المؤمنين عليه السلام يقول: « البخلُ بالموجود، سوءُ ظنٍّ بالمعبود » ( غرر الحكم للآمدي:27 ).
وللبخل مصاديقه، ولعلّ أبرزها الإمساك عن أداء الحقوق الشرعيّة وعدمُ إخراج المال المتعلق بالزكاة مثلاً والديون والخمس، فإذا أخرجها المسلم خرج من حالة البخل، وربّما ورد إلى حالة السخاء أو حَدِه، فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن حدّ السخاء فقال: « تُخرِجُ مِن مالك الحقَّ الذي أوجَبَه الله عليك، فتَضعُه في موضعه » ( معاني الأخبار للشيخ الصدوق:255 ـ 256 / ح 1 ـ باب معنى السخاء وحدّه ).. ومن هنا كان الإمام علي عليه السلام يقول: « البخلُ بإخراج ما افترضه اللهُ سبحانه من الأموال، أقبح البخل » ( غرر الحكم:52، وفي رواية: مِن أقبح البخل، أي أقبح البخل هو البخل الذي يصل حدَّ عدم إخراج الحقوق الشرعيّة الواجبة. بَخِل بالشيء: أمسك عن إعطائه ).
ورُوي أنّ الإمام الرضا عليه السلام فرّق بخراسان مالَه كُلَّه في يوم عرفة، فقال له أحدِهم: إنّ لهذا لَمَغرَم، فردّ عليه السلام عليه قائلاً: « بل هو المَغْنَم. لا تَعدّنّ مَغرماً ما ابتعتَ به أجراً وكرماً » ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 361:4 ).
شتّان بين توجّه الناس ـ وهو توجّه ضيّق ضحل، ماديّ دنيويّ ـ، وبين توجه الأولياء ـ وهو توجّه متّصل بالله وكرمه اللامتناهي، إذ هو روحيّ وأخرويّ وإيمانيّ وأخلاقيّ ـ. أين ذاك من ذلك ؟! فكرمُ أهل البيت عليهم السلام من كرم الباري تبارك وتعالى، وقد فاضت عزّوجلّ عطاياه على خلقه، كذلك فاضت عطايا الأئمّة على الناس في كلّ مجال، فسَعَد ونَعِم من وَفَد عليهم وطلب منهم واغترف من عطائهم وحمله إلى دنياه وآخرته، ففيه النور والبركة، والخير الكثير، والنماء الوفير.
وقد أعطَوا عن كرمٍ وحبٍّ للناس، وعن طِيبٍ نفس وخاطرٍ سخيّ، وأعطَوا عن ثقةٍ بالله تعالى واطمئنانٍ أنّ الله تعالى هو الرزّاق وهو المعطي، وهو المدعوّ: « يا مَن يُعطي مَن سأله، يا مَن يُعطي مَن لم يسألْه ومَن لم يَعرِفْه ». فَهُم سلام الله عليهم متخلّقون بأخلاق الله جلّ وعلا، فلا يَرَون في العطاء خسارة أو مغرماً، بل يجدونه مغنماً، فإنّ فيه مرضاة الله عزّوجلّ، وكفى، وفيه سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وكفى، وفيه شرف الدنيا والآخرة لأنّه إحسان إلى المحرومين، وتفريحٌ للفقراء والمساكين. ثمّ في العطاء زكاةٌ للأموال وتطهيرٌ لها، ونماءٌ بعد ذلك مبارك مبرور.
رُويَ أنّه قيل للإمام الحسن عليه السلام: لأيّ شيءٍ نراك لا تَردّ سائلاً وإن كنتَ على فاقة ؟ فقال: « إنّي لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأردَّ سائلاً، وإنّ الله تعالى عوّدني عادة أن يفيض نِعمَه علَيّ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعتُ العادة أن يمنعَني العادة ». ثمّ أنشد يقول:

إذا ما أتاني سائلٌ قلت: مرحبـاً

 

بِمَن فضلُه فرضٌ علَيّ مُعَجَّـلُ

ومن فضله فضلٌ على كلّ فاضلٍ

 

وأفضلُ أيّام الفتى حيـن يُسـألُ

( نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار، للشبلنجيّ الشافعي:247 ـ 248 ).
وهنا يحسن أن نرفع وهماً ربّما نقع فيه، وهو تصوّرنا أنّ السائل محتاجٌ إلى نفقتنا وعطائنا، ونحن مستغنون عن إعطائه، ومتفضّلون عليه لو أعطيناه أوأحسنّا إليه، وأنّه هو المحتاج إلينا ولسنا نحن! ولكي نقف علي بيّنةٍ من الأمر دَعُونا نتأمّل في هذه الروايات الشريفة:
ـ كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر حين ولاّه مصر في عهده الشريف: « إذا وجدتَ مِن أهل الفاقة مَن يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيُوافيك به غداً حيث تحتاج إليه، فاغتَنِمْه وحَمِّلْه إياه، وأكثِرْ من تزويده وأنت قادرٌ عليه، فلعلّك تطلبه فلا تَجِدُه! » ( نهج البلاغة: الكتاب 31 ).
ـ وقال عليه السلام: « أهلُ المعروف إلى اصطناعه أحوَجُ مِن أهل الحاجة إليه؛ لأنّ لهم أجرَه، وفخرَه وذِكرَه، فمهما اصطنع الرجل من معروفٍ فإنّما يبدأ فيه بنفسه، فلا يَطلبَنّ شكرَ ما صَنَع إلى نفسه مِن غيره » ( بحار الأنوار 79:78 / ح 60 ـ عن: كشف الغمّة للإربلّي 135:3 ).
ـ وكان الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهما السلام إذا أتاه سائل قال: « مرحباً بمَن يحمل زادي إلى الآخرة » ( تذكرة خواصّ الأمّة لسبط ابن الجوزي الحنفي:184 ).
ـ وفي الضيافة رُويَ أنّ رجلاً قال في محضر الإمام الصادق عليه السلام: واللهِ ما أتغدى ولا أتعشّى إلاّ ومعي منهم اثنان أو ثلاثة، أو أقلُّ أو أكثر، فقال له عليه السلام: « فضلُهم عليك أكثرُ مِن فضلك عليهم »، قال الرجل: جُعِلتُ فداك، كيف ذا وأنا أُطعمهم طعامي، وأُنفق عليهم مِن مالي، ويخدمهم خادمي ؟! فقال: « إذا دخلوا عليك دخلوا من الله بالرزق الكثير، وإذا خرجوا خرجوا بالمغفرة لك ». ( جامع السعادات، للشيخ محمّد مهدي النراقي 152:2 ـ باب الضيافة ).

نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام